أولاً: مفهوم الهجاء:
1ـ المعـنى اللغوي:
لقد أثبتت المعاجم العربية لمادة (هَجَا) عدّة معانٍ لغوية مختلفة، فقد جاء في مختار الصحاح أن (الهجاء) ضد المدح وبابه عدا وهجاءً أيضاً و (تَهْجَاء) بفتح التاء فهو (مَهْجُوُّ) ولا تقل هجيته. و(هَجَوْتُ) الحروف (هجواً) و(هجاءً) و(هَجَّيْتُها تهجية) و (تَهجَّيتها) كله بمعنى(1).
والهجاء أيضاً (السّب وتعديد المعايب ويكون بالشعر غالباً وكذلك تقطيع اللفظة إلى حروفها والنطق بهذه الحروف مع حركاتها، وحروف الهجاء ما تتركب منها الألفاظ من الألف إلى الياء. والهجَّاء من يكثر سب غيره وتعديد معايبه)(2).
2ـ المعنى الاصطلاحي:
الهجاء: هو غرض من أغراض الشعر العربي الرئيسية، يهدف قائله إلى الطعن في خصمه والانتقاص منه من خلال نشر معايبه على الناس، أو من خلال العمل على اختلاق معايب يلصقها به للتقليل من قيمته.
والهجاء (فن قديم قدم عاطفة البغض والغضب والميل الفطري إلى نقد النقائض والمعايب، فهو من الفنون الأدبية الغنائية التي عرفتها الآداب العالمية، ووجدت في الأدب العربي منذ العصر الجاهلي وهذا الوجود أمر طبيعي، مرتبط بوجود أُناس يستحقون الهجاء. وهذا الفن ذو مجريين: شعري ونثري)(3).
والهجاء يكون على أنواع عدة، هي:
1ـ الهجاء الشخصي: ويتناول فيه الشاعر المهجو في عرضه وفي نسبه وخلقه وخلقته (العيوب الجسمية).
2ـ الهجاء السياسي: وهذا النوع من الهجاء ينال فيه الشاعر السلطة الحاكمة ويتعرض إلى ما فيها من عيوب من حيث عدم أهليتها للحكم.
3ـ الهجاء الديني: يتعرض فيه الشاعر للعقيدة والمذهب والدين.
4ـ الهجاء الاجتماعي: وهو الهجاء الذي يصف الأخلاق العامة وطبقات الأمة ويوضح ما يجري ويحدث فيها.
والشاعر الذي يكثر من قول الهجاء يطلق عليه كلمة (هجَّاء)، والهجَّاء: هو الشخص الذي يكثر من قول الهجــاء و (يتعاطى الهجاء و السّـب وتعديد المعايب ويكون بالشعر غالباً)(4).
والهجَّاء: (كما يعتقدون سابقاً أنه كالساحر يفعل فعله ويؤثر تأثيره، فهم يخافون منه لأنهم يعتقدون أنه يمتلك وسيلة سحرية يستخدمها لتعطيل نوى الخصم وإنزال اللعنات على المهجو)(5).
وعليه إن (الهجَّاء سلاّب لكثير من المثل والقيم الكريمة الفاضلة في مهجّوه، رامياً فريسته بعيوب الدنيا كلها يصدر في ذلك عن غضب وسخط وربما عن حقد، وهذا كله يدفعه إلى أن يغالي فيما يرمي به من رذائل ونقائص في شكلهم وباطنهم)(6).
ولقد أدت الدوافع الفردية والقبلية والسياسية والاقتصادية والدينية إلى نشوء الهجاء وتعدد ألوانه وأنواعه، ويعد الهجاء الشخصي من أقدم هذه الأنواع (فالمنازعات الفردية التي تثيرها العواطف والأهواء وتضارب المصالح بكل أشكالها تسبق زمن الخصومات القبلية والخلافات الجماعية والاضطرابات السياسية وتعارض المعتقدات الدينية)(7).
إن الهجاء كما مرّ سابقاً يعتبر واحداً من أهم الأغراض الشعرية، ليس في الشعر العربي فقط بل في الآداب العالمية الأخرى كافة، وقول أي شاعر في هذا الغرض يعد أمراً طبيعياً إذا لم يفرط فيه، أما إذا كان هذا الغرض هو الأكثر نصيباً مقارنة مع الأغراض الأخرى فإنَّ ذلك سوف يشكل ظاهرة ملفتة للانتباه لابد لها من أسباب..
وهذه الحالة لا تنطبق على الهجاء فقط بل تشمل الأغراض الشعرية الأخرى كافة.
والمطلع على ديوان دعبل بن علي الخزاعي يجد ذلك واضحاً وجلياً، إذْ إن غرض الهجاء يكون بارزاً ورئيسياً في شعره مما جعله يشكل ظاهرة واضحة للعيان فمنحهُ البعض لقب: (الهجَّاء).
وقد وصفه أبو الفرج الأصفهاني بذلك قائلاً: (هجَّاء، خبيث اللسان، لم يسلم منه أحد من الخلفاء ووزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن…)(8) وقال عنه الدكتور عبد الكريم الأشتر: (غضب دعبل وهجاؤه لا يقف في طريقهما شيء)(9).
وقد ذكره الدكتور شوقي ضيف قائلاً: (والحق أن الهجاء طبعاً ركب في نفسه…)(10).
وعلى هذا الأساس لابد من و جود أسباب أو دوافع تدفع دعبل إلى أن يكثر من قول الهجاء في شعره وجعلته كما يذكر أعداؤه من الكتّاب والباحثين بقولهم (هجاَّء، سليط اللسان، مولعاً بمثالب الناس)(11).
مرقد دعبل بن علي الخزاعي في مدينة خوزستان (إيران)
ثانياً: حياة دعبل بن علي الخزاعي:
نسبه وكنيته:
وهو دعبل بن علي بن رزين، وهو يماني من خزاعة أصلًا لا ولاءً وكنيته أبو علي(12) وذكره ابن قتيبة فقال فيه: (هو دعبل بن علي بن رزين من خزاعة ويكنى أبا علي)(13).
أما اسمه فقد اختلف المؤرخون فيه فذكروا له ثلاثة أسماء: الحسن، وعبد الرحمن، ومحمد(14). مع العلم أنه لم يعرف بهذه الأسماء وعرف بلقبه (دعبل). والدِعْبِل: كـ(زِبْرِج) – بيض الضفادع والناقة القوية والشارف.. وكذلك من معانيها الناقة المسنة والبعير المسن ويقال أيضاً للشيء القديم(15).
ولادتُهُ ونشأته:
ولد دعبل بن علي الخزاعي في سنة 148هـ، ومكان ولادته لم يحدد بالضبط لكنه كوفي في الأصل القريب، نشأ وتربى وترعرع في الكوفة، وفيها قضى أيامه وسني حياته،عاش دعبل حياته الطويلة في ظل الدولة العباسية، وحكم بني العباس حيث عاصر مجموعة من الخلفاء ابتداءً بهارون الرشيد: (170-193) وانتهاءً بجعفر المتوكل: (232-247)(16).
والجدير بالذكر أن دعبلاً كان كثير التنقل والسفر والترحال، فقد سافر من الكوفة إلى بغداد في أيام الرشيد بعد أن طلب الرشيد حضوره.. وتوارى دعبل عن المعتصم أكثر أيام حياته..وقد هجا دعبل الخلفاء الذين عاصرهم.
شاعريته:
كان دعبل بن علي شاعراً مُفلِقاً متقدماً ومن أسرة معروفة بالشعر وهي (آل رزين) وهم من بيوتات العرب المعروفة بالعلم والفضل والأدب..فقد كان أبوه شاعراً مقلاً وكذلك عمه عبد الله بن رزين، وأخوة دعبل كذلك من الشعراء(17).
(كان دعبل شديد العناية بصياغته ولا يزال يغوص على المعاني من حين إلى حين)(18) فقد احتوى شعره على عناصر القوة والإبداع والروعة.. فبرع دعبل في تصوير الأحداث التي عاشها والتي شاهدها، تصويراً رائعاً، فكانت مرآة تعكس حياة المجتمع وأفكاره.
في شعر دعبل صور حية عما كان يلاقيه من آلام ونكبات وكانت هذه الصور الناطقة من أكبر الأدلة على جرأته وشدته وصراحته..(وقال عنه المأمون: لله درّه ما أغوصه وأنصفه وأوصفه)(19).
واشتهر دعبل بقوة شاعريته وكثرة شعره وأسلوبه الجيد، وخاصة أبياته المعروفة (أين الشباب وَأيَّةٌ سلكا) التي أنشدها أحد المطربين (المغنين) في حضرة الرشيد وأثرت في نفسه ونالت إعجابه، وكانت السبب المباشر في اتصال دعبل بهارون الرشيد. حيث قال دعبل فيها:
أين الشبــاب وأيةٌ سلكا لا أين يُطلبُ ضلَّ بل هلـكا
لا تعجبي يا سلمُ من رجلٍ! ضحك المشيب برأسهِ فبكى
قد كان يضحـكُ في شبيبتهِ وأتى المشيب فقلمـا ضحكا
يا سُلمُ ما بالشيب منقصةٌ! لا سوقــةً يُبقي ولا ملِـكا
إلى نهاية الأبيات(20).
وكان لهذه الأبيات حظ كبير من الشهرة والتداول بين الأدباء والشعراء والملوك (في شعر دعبل من جزالة وقوة واضحتين، ونزعة إلى التقرير شاملة، ودقة في الصورة ووضوح في تناولها، ومظاهر خياله في شعره حسية أغلبها)(21).
أثر التشيع في هجائه:
دعبل هو أحد أبناء قبيلة خزاعة المعروفة بولائها لأهل البيت(عليهم السلام) ووقوفها إلى جانب الإمام علي (عليه السلام) في معاركه ضد أهل الشام، حتى قال عنها معاوية بن أبي سفيان: (خزاعة بلغوا في الولاء لعلي بن أبي طالب حداً لو أمكن لنسائهم محاربتنا لحاربتنا)(22).
ومن جانب آخر لا يمكن لأحد أن ينكر أن دعبل بن علي الخزاعي كان ذا عقيدة مشبعة روحه، وأنه شغل نفسه في الدفاع عنها حيث إن جل أشعاره تتصل بعقيدته وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً، فقد عاش دعبل حتى (ضحك المشيب برأسه) وبلغ من العمر ما يقارب مائة عام مؤمناً بهذه العقيدة مدافعاً عنها، كثير الاحتجاج لها، يكافح ويناضل من أجلها، يتحدى أشد الناس إذا استدعته عقيدته.
لذلك ساعده ما كان يتمتع به من جرأة وصدق وشجاعة إلى جانب قوة الإيمان التي كثيراً ما كان يذكرها وينوه بها في أشعاره وأقواله (التي كانت أغلب أغراضها تستغرقها حب آل البيت، واستحقاقهم للخلافة والإشادة بهم في صور محفوفة بالجلال والاحتجاج لهم والحملة على خصومهم حملات شعواء…
ودعوة ملحة إلى الثأر لشهدائهم الذين لا يكف عن بكائهم بكاءً حاراً يجعل شعره أشبه ما يكون ببكائيات خالصة مغرقة في اللوعة والحزن)(23).
يقول دعبل:
سأبكيهـمُ ما حــجَّ للهِ راكبٌ وما ناح قمـريٌ على الشجراتِ
وكذلك قوله:
سأبكيهم ما ذَّر في الأرض شارقٌ ونادى منادي الخير بالصلـوات
وما طلعت شمس وحان غروبها وبالليل أبكيهـم وبالغــدواتِ
والذي يقوم بتصفح ديوان دعبل يجد أن ديوانه ينقسم إلى قسمين.
القسم الأول ما قاله في أهل البيت (عليهم السلام)،
والقسم الثاني ما قاله في مختلف الأغراض الشعرية الأخرى.
إن دعبل كان ذا عقيدة إسلامية صادقة وينتحل مذهب التشيع..فهو كثير الولاء لأهل البيت (عليهم السلام).. إلا أن هناك من أنكر وطعن في إسلام دعبل وتشيعه واعتبره زنديقاً ليس فيه أي شيء من الإسلام. وهو أبو العلاء المعري الذي يقول: (وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب..)(24).
إن قول المعري لا يمكن الأخذ به والاعتماد عليه..لأن دعبل كان مسلماً وهذا ـ أي إسلامه ـ كان واضحاً لدى الناس الذين عاصروه..والمعروف عنه أنه ذلك الشاعر المتشيع الذي لا يخشى ولا يخاف من أحد مهما كانت منزلته وقوته ولا يخاف من الموت أيضاً فهو الذي يقول: (لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك)(25).
كل ذلك في سبيل عقيدته الراسخة ومذهبه الذي ينتمي إليه.. أترى هل هي الزندقة كما يزعم حاسدوه هي التي جعلته يحمل خشبته على كتفه؟ ويكون فقير الحال وهو من أشهر الشعراء وأنبغهم في تلك الفترة (وهل هناك زهد أبلغ من عزوف دعبل عن لذات الحياة وطيباتها في قصور الخلفاء العامرة بالترف والقصف ليعرض حياته للمخاطر ويهيم على وجهه يدور في الدنيا كما تدور الدنيا فيه)(26).
فلو أراد دعبل لكان من أقرب الشعراء للخلفاء والوزراء والقادة وأصبح بذلك أغنى الناس، لأن بأيدي الخلفاء أسباب الرزق والغنى والمال، إلا أنه رفض كل ذلك في سبيل عقيدته ومذهبه وضحى بحياته من أجل ذلك.
يقول الأستاذ عبد الصاحب الدجيلي: (ولا أعلم حجة للمعري في ذلك إنما الذي أعلمه أنه من غير المعقول أبداً أن يتظاهر إنسان بالتشيع في دولة تحارب التشيع فضلاً عن أنه يتخذه ذريعة للتكسب، ودعبل الذي حاج الناس وأثارهم دفاعاً عن التشيع والتفافًا حوله … واشتهر بعدائه للشعراء المتكسبين الضارعين، فيجيء المعري فيصفه بما هو بعيد عنه دون أن يشك أو يرتاب)(27).
نصل إلى نتيجة تقودنا إلى أن التشيع قد أثر في نفسية دعبل وشعره.. حيث كان يرى أن أهل البيت (عليهم السلام) هم أولى من الآخرين بالخلافة، لأنهم أصحابها الحقيقيون، وأنها قد غصبت منهم، الأمر الذي جعله (يتلقى كل خليفة جديد بهجاء أشد إقذاعاً مما هجا به الخليفة السابق غير هياب من قول)(28).
إن أغلب وأكثر الهجاء الذي قاله دعبل في الخلفاء والأمراء الذين عاصرهم، كان بتأثير نزعته الدينية ورؤيته بمظلومية أهل البيت(عليهم السلام) وكذلك عدم أهلية هؤلاء الخلفاء لهذه المناصب واعتقاده أن أهل البيت هم أحق من الآخرين بذلك.
لقد كان يدافع عن عقيدته بكل ما استطاع من شاعرية، وكان دفاعه عن الحق الديني وكذلك عن الحق السياسي المسلوب في نظرة دعبـل و(ربما كان الشاعر الإماميّ الوحيد الذي جاهر بنحلته دعبلاً)(29).