أ. م. د. عامر عمران الخفاجي
كلية التربية/ جامعة بابل
إن البيان الإعجازي للقرآن الكريم المستولي على النفوس في سماعه وقراءته نرى التعبير يضيق عن الإفصاح عن إدراك كنهه، ولا غرو في ذلك فهو المعجز الخالد الذي تحدى البشر أن يأتوا بمثله فكل ما قيل فيه من ألفاظ فإنها معانٍ نفسية يريد الإنسان إظهارها بهذه العبارات بعد ضيق التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية. فالقافية، والموسيقى، والتناغم، وغير ذلك من الألفاظ إنما هي ألفاظ مجازية تعبر عما في نفس الكاتب وليست ألفاظ يقصد منها المعنى الحقيقي.
لقد فطن القدماء إلى أهمية مجال السجع وموسيقاه، وكذلك فطنوا إلى دور القافية، حيث قال ابن رشيق: (القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر، ولا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية)(1).
أما (الفاصلة) فقد بكر النقد إلى تفضيلها على (القافية) وفي هذا قال الرماني: (وإنما حسن في الفواصل الحروف المتقاربة (كالميم والنون) لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع لما فيه من البلاغة وحسن العبارة، وأما القوافي فلا تحتمل ذلك لأنها ليست في الطبقة العليا من البلاغة، وإنما حسن الكلام فيها إقامة الوزن ومجانسة القوافي… والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع)(2).
ولقد عرفها الرماني بقوله: (الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني)(3).
ويرى ابن منظور بأن (أواخر الآيات في كتاب الله فواصل بمنزلة قوافي الشعر)(4).
وقال الزركشي: (الفاصلة هي كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع)(5).
وتقع (عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام)(6). وغالباً ما نجد العلماء والباحثين يذهبون إلى القول بأن (موسيقى الفواصل القرآنية أشبه بموسيقى القوافي في الشعر. وبناء القرآن الكريم على الفواصل تأكيد لقيمتها الموسيقية في الكلام. إذ تتوقع الأذن ـ مع توالي الآيات ـ تكرير صوت أو عدة أصوات متشابهة)(7).
ومن هنا يمكننا أن نقول بأن إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل ـ حيث تطرد ـ متأكد جداً، ومؤثر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيراً عظيماً(8). وهي ـ إذا صح التعبير ـ صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها أجمل الموسيقى، فهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه. بما ليس وراءه في العجب مذهب.
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يخاطب به كل نفس تفهمه وكل نفس لا تفهمه(9).
وتأتي الفاصلة في القرآن الكريم (مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها غير نافرة ولا قلقة يتعلق معناها بمعنى الآية كلها تعلقاً تاماً، بحيث لو طرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم، فهي تؤدي في مكانها جزءاً من معنى الآية، ينقص ويختل بنقصانها)(10).
انحراف الفاصلة في سورة مريم
إن الناظر في سورة مريم يجد زخماً موسيقياً كبيراً، تمثل في تلك النغمة اللطيفة التي انسابت مع صوت حرفي المد (الياء والألف) اللذين لازما رؤوس الآيات الكريمة، ومعلوم لنا أن لا المد في حقيقته نوع من الإشباع الموسيقي الذي تطرب له الأذن وينشط به العقل)(11).
فأما صوت المد (الياء) فقد كانت له دلالات واسعة وعميقة في هذه السورة ونجد الأهمية قد انصبت عليه من أول وهلة وذلك في جعله أوسط الحروف التي ابتدأت بها السورة في قوله تعالى: (كهيعص)(12).
ويأتي جعل (الياء) هنا في مفتتح السورة من كون المفتتحات (أول ما يقرع السمع)(13).
نستطيع القول إن هناك تمهيداً موسيقياً ناشئاً من العلاقة الموسيقية بين أحد حروف الافتتاح وبين فواصل الآيات التي تليه، ومن هنا فإن صوت الياء كانت له دلالات ذات إيحاءات واسعة قريبة وبعيدة شاركت في التمهيد الموسيقي المنسق مع ما بعدها.
هذا ويمثل صوت (الياء) مع صوت (الألف) محوراً مشتركاً في أسماء الشخصيات الإحدى عشرة (زكريا، يحيى، مريم، عيسى، إبراهيم، إسحق، يعقوب، موسى، هارون، إسماعيل، إدريس) التي اعتمدت السورة محل الاعتماد على تجسيد صور من واقعهم خصوصاً ما عبرت به عن معجزتي الله سبحانه المتمثلتين بولادة (يحيى وعيسى) عليهما السلام.