عبد الواحد الشيخ محمود
المغزى الأخلاقي واحد عند كل الشعوب ،
قال تعالى في سورة الأعراف/189:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).
هذه الحكايات الخرافية ذات المغزى الأخلاقي هي ملك الشعوب أينما كانت، ولها مشتركات أساسية يعجز المرء أن يقدمها بشكل مباشر إلى الصغار، فاخترع حيلة لغرض توصيل مضمونها إلينا عن طريق ألسنة الحيوان والنبات والطيور، إذ إن الخرافات من صنع خيال الإنسان مضافاً إليها بعض التجارب وما يمر به من حياته اليومية عبر الخيال الجمعي على مر العصور،
إن مسار الحكايات تهدف إلى تعزيز المغزى الأخلاقي، وهو ما اجتمعت عليه كل الشعوب التي خلقها الله تعالى من نفس واحدة كما في الآية القرآنية الكريمة. وجعل الرابطة الأسرية فيها مرتبطة بالمودة والجانب الأخلاقي الإيجابي.
المشتركات الأساسية:
الخوف من الحيوانات مستقر في عقلنا الباطن منذ زمن الحضارة المبكرة، حيث يجري التلويح بها عندما يراد السيطرة على تحركاتنا. ولأن مملكة الحيوان بقيت ملاصقة لمملكة الإنسان.
وبالرغم من هذا الخوف الطفولي المدهش فقد نمت حوارات ساخنة أجراها إيسوب عبر حكاياته الخرافية التي جاءت على لسان الحيوان، وأغلبها عند إيسوب تكون هادئة هادفة لها مغزى تتجاوز بلغة الإنسان إذ تجد قبولاً لها في المخيلة وكأنها أمر واقع، وأعتقد أن مثل هذه الحوارات هي التي أوصلت خرافات إيسوب إلى أذهان الناس ليلتمسوا من ورائها ما تهدف إليه بعد أن عجزت الوسائل المباشرة عن تقديم المغزى الأخلاقي، وفشلها بصورة كبيرة لكونها مباشرة لدرجة الملل والتذمر، وخاصة أن الإنسان ميال بطبيعته إلى التذمر من النصيحة.
وبالرغم من وجود الأسد والذئب والثعلب والغراب والحمامة وبقية الحيوانات، إلا أننا لا نرتاب منها عند إيسوب، فليست خرافات إيسوب مخصصة لوصف القوة الجسمانية (الفتاكة أحياناً) فهو لم يستعرض ملفاتها الشخصية ولم يصور مخالب الأسد وأنيابه ومنقار الطير الحاد الذي يستعمله للهجوم، فقد استبعد هذا الوصف واتجه إلى الحكايات والحوار المباشر دون الالتفات إلى الصفات الجسمانية، لأنها وضعت لغايات نبيلة ذات مغزى، فهي متحاورة منذ بداية الحكاية، وكأنها قد ارتقت بهذا التطور اللغوي الذي يرغمنا فيه إيسوب على القبول به وكأنه قد حدث فعلاً بسبب إكساء الحكايات ثوباً أدبياً، وهي بمثابة المخرجات الحية من الخيال كما يقول كوليرج، وأنها مخلوقة بفعل قدرة التأمل،
ولربما إيسوب نفسه لا يقوى على الصراخ بوجه السلطة أو المجتمع، فاخترع هذه الكائنات المتحدثة بلغة طليقة، وهي مكونة صالحة ومقبولة من جميع اللغات أين ما ترجمت، فيتصورها المتلقي وبقليل من الخيال كأنها حيواناته التي تعيش معه، ولأن تلك الحيوانات مألوفة لدى المتلقي فلا يحتاج إلى كثير من المعاناة لتخيل صورة الكلب والقطة أو الذئب أو الحمام، فكلها صور قريبة منه يجعلها إيسوب تتحدث منذ بداية الحكاية دون استفزاز للآخر.
لابد أن نعرف أن الحكايات الخرافية ذات المغزى الأخلاقي هي تراكمات خبرات المجتمع، ولن تتوقف بموت إيسوب، فهي شاهد على حكمة عميقة وعلى إدراك خفي لجوهر الحياة كما يقول ديرلاين، وغاية إيسوب تحقيق الدائرة الكلامية التي تقتضي وجود الفعل، أي وجود شخصين على الأقل يتحدث أحدهما للآخر لتحقيق الحوار، ويشرح (فردينان دي سوسر) في كتابه (علم اللغة العام) عن العلاقة الفسيولوجية والنفسية بين السمع والصوت وصندوق الحنجرة ومركز الدماغ، وهي امتدادات مؤثرة في ما بينها،
وإذا عرفنا أن هذه اللغة هي هدف نفسي نفعي يتعدى إلى إشباع الرغبة ونقل الخبرة والاتصال بالآخرين والترابط بين أعضاء المجتمع، نعرف أهمية تحويل حيوانات إيسوب إلى كائنات متكلمة ناطقة مجتمعة تتوحد في لغة التفاهم دون اللجوء إلى الإشارة، كما يجب أن نعترف أن إيسوب قد تمكن بعصاه السحرية من تحويل الحيوانات لأهداف اجتماعية نبيلة، ويقول (فون ويرلاين) في كتابه الحكاية الخرافية:
(بأن الحيوانات تقدم عوناً يفوق طاقة الإنسان، فهي مبجلة) وخاصة إذا علمنا أن حيوانات إيسوب لم تكن ممسوخة مثل حيوانات كلكامش وألف ليلة وليلة التي يتحول فيها الرجل إلى نسر والفتاة إلى حمامة والعاهرة إلى كلبة، فأبطال إيسوب هي حيوانات بلحمها ودمها لا تثير الرعب إذ لم تحمل أرواحًا ثنائية ممسوخة، فنحن نقترب منها باطمئنان لأنهم غير ممسوخة من عوالم أخرى إلا أنها امتلكت اللغة المشتركة، إننا نستطيع أن نسمع لغة أجنبية ولكن لا نستطيع أن ندركها، فهي مشوشة، فكيف بنا ونحن أمام مجموعة مختلفة من المظاهر الجسمية يتحدث بلسان مفهوم بعضها مع البعض الآخر،
وهذا هو سر نجاح إيسوب كما هو سر نجاح الحكايات التي تواصلت منذ أزمان سحيقة وفي مختلف أنحاء العالم، إذ إن الألفة هي المشترك الذي يحركها، فلا يعانون من عقدة نفسية واضطرابات سلوكية لغوية تمنع عنهم فصاحة اللسان، هكذا حرك إيسوب الأحداث وفق خياله الجامح،
ولكن دعونا ننظر إلى اللغة من ناحية تشريحية عند د. جمعة سيد يوسف في كتابه (سيكولوجية اللغة والمرض العقلي)، فهو يقسم المخ إلى شقين، الشق الأيسر والشق الأيمن، أما الشق الأيمن فيحتوي على بعض الوظائف البصرية والموسيقية، والشق الأيسر يحتوي على مناطق اللغة وإنتاج اللغة، يعني تعلم مفردات اللغة وتم ربط الكلمات حيث توجد التركيبات الترابطية المتخصصة التي تقوم بالتحويل الضروري للإشارات السمعية والبصرية إلى تكوينات لفظية، وفشل الكائنات الأخرى في اكتساب المهارة اللغوية، وحتى المراحل البدائية للغة البشرية فالفرد الذي دُرَّبَ على الكلام قد اكتسب مهارات لغوية قليلة لا تتعدى كلمات (ماما، بابا، كوب)، فالجهاز النطقي البارع للإنسان يعطيه قدرة فريدة على إنتاج الأصوات الكلامية.
لقد نجح إيسوب في اختراق مشاعرنا فجعلنا نشترك في التحاور، فلا حاجز لغويًا هنا فالفأرة تكلم الأسد، والثعلب يكلم الحمامة، وربما كل واحد يستطيع أن يتكلم مع الآخرين حيث لا مشكلة ولا حاجز لغويًّا، وقد تجعلنا نتقبلها قبولاً حسناً دون اعتراض، بل جعلنا نتذكر في قراءتها دون تذمر، لأن كل واحد منا يشعر بالذنب من تقصير ما رافقه صعوداً منذ وعيه الأول.
حكايات إيسوب:
لقد قدم إيسوب نموذجاً للحكاية الخرافية التي كتب عنها الكثير، وترجمت إلى لغات عدة مثل كليلة ودمنة وغيرها، فأبطالها الأسد والحمار والقرد والأرنب والضفدع والبوم والنملة والذئب والديك والإنسان.
عاش إيسوب في القرن السادس قبل الميلاد في بلاد اليونان، وله حكايات كثيرة تستعرض فضائل الاعتدال والحكمة، وتعطي رسالة مفادها بأن على المرء ألا يصاب بالإحباط وخيبة الأمل عندما يفشل في نيل ما يتمناه، وأن لا يتذمر من افتقاره للأشياء التي في وسعه الحصول عليها.