Take a fresh look at your lifestyle.

قراءة في خطبة الإمام الحسن بن علي(ع) في ليلة دفن والده أمير المؤمنين(ع)

0 1٬250

                     قال الإمام الحسن(عليه السلام) ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله)ـ: (لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الألوف بعمل ولا يدركه الآخرون ولقد كان يجاهد مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجهه برآيته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفي فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.

ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه، ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا الحسن بن محمد(صلى الله عليه وآله) أنا ابن البشير أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عز وجل بأذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت)(1).

تعرف الخطابة بأنها فن قولي يعتمد الإقناع، ولها سمات عامة وأخرى فنية عرفت بها منها الاستهلال والاقتباس من القرآن والسنة النبوية المطهرة والشعر العربي وكلامهم. وتعتمد على الإيجاز والوضوح والجزالة والرصانة والتلطف والمتانة والانسجام وقليلة السجع غير المتكلف ومعتدلة المحسنات البديعية،

تجري على اللسان من دون تصنع ولا تكلف، مترابطة بين فقراتها فضلا عن شخصية الخطيب ومكانته وبيانه وفصاحته وإقناعه وصحته، ومدى ترابط الخطبة بالواقع الذي يحيط به وأفكاره وهو بذلك لا يخرج عما سنه المتقدمون من سنن نهج عليها المتأخرون ولسنا بصدد بيان هذه الخصائص بقدر ما يتعلق الموضوع بخطبة الإمام الحسن(عليه السلام) وقد نشأ الإمام الحسن بن علي(عليه السلام) في بيت النبوة وتغذى من ثدي الإسلام، فأخذ عن جده ووالديه مفاهيم الدين القويم وكان لهذه النشأة اثر كبير في بناء وتكوين شخصية الإمام الحسنِ(عليه السلام) القوية، التي التزمت بآراء الإسلام واستقامت على تعاليمه فجعلته نادر الوجود،

مما يجعله سيداً بما تعني هذه الكلمات من معنى، وقد اجتمع للحسن بن علي من أصالة النسب والتربية الأسرية مالم يجتمع لغيره من الناس كما لا نغفل الواقع الاجتماعي المحيط بشخصية الإمام الحسن(عليه السلام)

فله اثر مهم وفعال في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم فالحسن(عليه السلام) عاش في زمن ساد فيه الصحابة الأوائل الذين تربوا على يدي رسول الإنسانية محمد(صلى الله عليه وآله) فهيمنت الفضيلة والتقوى والصلاح على ذلك المجتمع الفريد، وعندما نقف على حياته(عليه السلام) والقضايا التي جرت له وحدثنا بها التاريخ نجد حجم المأساة الإنسانية الكبرى والممارسات الضبابية التي لعبها الحزب الأموي واستطاع بواسطتها تشويه صورة الإمام الحسن(عليه السلام) وأهل البيت جميعاً،

فمنذ أن ضرب الإمام علي(عليه السلام) وأعقل أمر الإمام الحسن(عليه السلام) أن يصلي بالناس وأوصى إليه بتولي أمور المسلمين من بعده وأشهد على ذلك جمعاً من أصحابه فضلاً عن أبنائه وإذا كان لنا أن نفهم توجهات الإمام الحسنِ(عليه السلام) فإن علينا أن نفهمها من هذه الخطبة المقتضبة انه متوجه إلى المعالي السامية التي لا يلحق بها أحد ولم يسبقها أحد، وهذه تستوجب عنده صدقها أن تكون الملائكة في خدمة صاحبها وتستحق بل تستلزم النصر الإلهي والتكريم الرباني يوضع صاحبها في عداد أولي العزم من الأنبياء ومقارنته مع كتاب الله، آية ذلك زهده في الدنيا وحطامها.

لقد كان الإمام الحسن(عليه السلام) يحس بحس الإمام علي(عليه السلام) ويألم بألمه. وهو على صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بابيه من قومه ومن رعيته، ومن أعدائه، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها، وكان ينطوي مما يدور حوله من الشجى المكتوم هو الشيء الظاهر مما خلفه به هؤلاء المسلمون ـ يومئذ ـ نبيهم في عترته جواباً على قوله(صلى الله عليه وآله) لهم (فأنظروا كيف تخلفوني فيهما)؟ فكان الإمام الحسن لا يلبث أن يستروح الأمل ـ أحيانا بما يجده من أصحاب أبيه البهاليل من النجدة والحيوية المناداة وشمائل الإخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في الدنيا ولا هوى في سياسته.

ولقد كان الإمام الحسن بن علي(عليه السلام) أشبه الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً وهيأة، وسؤدداً، وانه كان عليه سيماء الأنبياء، وبهاء الملوك، وقد عرف مقامة، وسموه ومميزاته وشخصيته تعتبر شخصية قيادية فذة وانه اتصف بصفات القائد الرباني ومن جملة صفاته(عليه السلام) بعد النظر، واستيعابه للأحداث الجارية حوله، وقدرته على قيادة الجماهير، وعزيمة قوية في تنفيذ الأهداف المرسومة، وقد اتضحت هذه الصفات عند حديثنا عن مشروعه الإصلاحي العظيم بالإضافة إلى بعض الصفات الأخرى كالعلم بالكتاب والسنة النبوية والعبادة والزهد الكبير في السلطة والدنيا، وجوده وكرمه، وحلمه وتواضعه، وسيادته.

وتأبين الحسن(عليه السلام) ـ هذا بأسلوبه الخطابي ـ فريد لا عهد للمسلمين بمثله، لأنه، كما ترى ـ لم يعرض إلى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم ـ كما جرت العادة في تأبين العظماء في أمثال هذه المواقف ـ ولاسيما أصحاب الفضائل والمكارم فهم في القمة فكيف والحديث عن علي بن أبي طالب(عليه السلام). فلماذا لم يذكر الإمام الحسن(عليه السلام) أوصاف الإمام الراحل ومزاياه التي عرف بها: الشجاعة، والحلم، والكرم والزهد… واقتصر الإمام الحسن على هذه الخطبة المقتضبة. فهل هذا الترك جاء أثراً للصدمة حول الفاجعة بفقدان أمير المؤمنين(عليه السلام) أم انه عمد إلى هذا الأسلوب الخطابي الجديد قاصداً؟!.
لقد كان خطابه(عليه السلام) ابلغ وابرع في إصابة الحال مع هذا الإيجاز البليغ. فأصاب عيون الحاضرين وقلوبهم وكل جوارحهم بمقتل.

لقد كان الإمام الحسن(عليه السلام) من ابرع الخطباء بعد أبيه وابلغهم، ولطالما قدمه الإمام ليخطب في المحافل ولقد كان بإمكان الإمام(عليه السلام) أن يؤبن بما لا يسع المقام حمله وذكره، وكل تأبين على غير هذا الأسلوب كان بالإمكان أن يؤبن على غراره غيره من عامة الناس. أما الأوصاف الفريدة التي ذكرها الإمام الحسن لأبيه(عليه السلام)

في خطبته كانت من الأوصاف العلوية التي لا تصح إلا لعلي بن أبي طالب(عليه السلام) ولا يشاركه فيها غيره، لقد نظر الإمام الحسن إلى الراحل من زاويته الربانية ـ نظر إمام إلى إمام ـ فهو الذي لا يقارنه أو يقاربه راحل ولا مقيم ولا يضاهيه ملك ولا زعيم، رجل لم يسبقه الأول ولا يدركه الآخرون بعمل أو مقام أو نسب أو…وهذا الراحل يكتنفه جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. فقد أوقع الإمام الحسن(عليه السلام) الناس في حيرة من هذا الوصف الملائكي الرباني، ثم أبان الإمام(عليه السلام) في خطابة الرائع قدسية هذه الليلة التي رحل فيها أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى جنات الخلد، فلقد عرج فيها عيسى المسيح(عليه السلام)

ومات يوم مات يوشع بن نون وصي موسى(عليه السلام)
ونزل في قبره يوم نزول القرآن إلى الأرض فما شأن أوصاف الدنيا ومدائحها أمام أوصاف الآخرة الرائعة. فليس في جميع فترات التأريخ ومراحله قديماً وحديثاً أحد فاق الإمام أو يفوقه في مثله وأعماله وجهاده وصفاته وذبّه عن حضيرة الإسلام وحرمته وقد أبان الإمام الحسن(عليه السلام) لهم زهد أبيه(عليه السلام) وعدم اغتنائه بدنياه، فلقد رحل عنها ولم يخلف عن حطامها شيئا،

وقد كان باستطاعة المولى أن يسكن القصور ويلبس افخر الثياب ويأكل ما تلذ النفس به ويتخذ الجواري والعبيد والإماء ولكنه ترك كل ذلك رغبة فيما عند الله من الثواب الجميل الذي وعد الله به أمثاله من الصلحاء من النعيم الأبدي والكرامة والسعادة، ولذا سمعنا(عليه السلام) يذكر المال المتبقي وهو قليل ولذا تراه ينوه بسبب ذخره لهذا المال بعد ذلك. ثم يتذكر أباه(عليه السلام) فتسيل دموعه ودموع أصحابه وتأخذه الأنات إلى صورة أبيه. ليعود بعدها معرفاً الناس بشخصيته وهذا القطع كي يتواصل الناس معه فلقد رحل الإمام بهم بهذه الأسطر أكثر من (60) سنة في عمر الإسلام فأبان عن ملامح شخصيته،

فهو ابن النبي وابن الوصي وقد ورث شمائلها، ونهض بخصائصها وهذه التزكية لازمة للأمر الإلهي بالمودة وليست من باب الرياء والعظمة فهو ابن البشير النذير الداعي إلى الله بإذنه، والسراج المنير، وهو على هذا النهج وفي أعماقه وعلى السبيل ذاته، فهو الوريث الشرعي لكل خصائص البيت النبوي المطهر وبذكر (الوصي) يؤكد الإمام(عليه السلام) أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قد أوصي إليه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) فان حقه وإن هدر لكن لابد من التذكير بان خلافته لم تكن شورى،

أو تداولاً أو تفضلاً ومن هذا المنطلق عرف عن نفسه ليقطع ذرائع الموتورين فهو من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعل الله فرض مودتهم على كل مسلم، وما هذا التعريف إلا للحاضر والمستقبل فهو من الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، واعداؤه من الشجرة الخبيثة والملعونة في القرآن.

فلا يتصور بعض الناس أن الإمام يفخر بهذه القرابة لكنه(عليه السلام) كان يقدم الأدلة الاحترازية لأنه كان يقرأ المستقبل جيداً، فبهذا الخطاب أراد أن تخشع قلوبهم وتتغير نفوسهم ويشحذ هممهم للمرحلة القادمة في تاريخ الدولة الإسلامية ثم دعا(عليه السلام) الناس إلى مبايعته وهي دعوى إلى الإسلام وليست دعوى شخصية. وهل هناك أحد أحق بالخلافة من شخص التقت به هذه الكمالات العلوية المقدسة واجتمعت فيه هذه الفضائل، فقد أكد الإمام الحسنُ(عليه السلام) بأنه معصوم فإنها دعوة غير مباشرة إلى البيعة. ومن مودتهم عليهم السلام تسليم الأمر إليهم صلوات الله عليهم. ومما تقدم نجد أن هذا الأسلوب الفريد كان أبلغ وانجح في تأبين الإمام(عليه السلام)

وهو مناسب للفقيد. وهذا يدل على موهبة الإمام الحسن(عليه السلام) الخطابية وكيف لا وهو سليل العترة المحمدية الطاهرة.

نشرت في العدد 20


(1) مستدرك الحاكم: 3/172ـ مع اختلاف يسير، تاريخ الطبري: 6/91، الكامل ـ ابن الأثير: 3/173. خصائص النسائي: 6، طبقات ابن سعد 3/38. مقاتل الطالبيين: 51، العقد الفريد: 4/36. الإخبار الطوال: 199، وغيرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.