Take a fresh look at your lifestyle.

مع العلامة الطباطبائي ومقدمته في تفسير الميزان

0 749

                لم يكن الاختلاف في فهم كتاب الله مسوغاًَ عند المفسرين، واعني بالاختلاف هنا تناقض المفهوم مع المصداق، أما الاختلاف من جهة أن القرآن حمال وجوه وأن للقرآن باطناً ولباطنه باطن إلى سبعة أو سبعين بطناً فهذا أمر آخر يتعلق بقدرة المفسر وآليته في استنباط الدلالات والمعاني القرآنية. وبقدر ماله من موهبة وهي عطاء إلهي خاص كل بحسب ماله من مقام عند الله تبارك اسمه يستحصل من خلالها المفسر المعاني ويكشف عن المراد بقدره.

لقد وقف العلامة(رحمه الله) عند ظاهرة اختلاف التفسير ومسالكه بنظر ناقد موضوعي متضلع، وعزا الاختلاف إلى جهات أربع فقال: (ثم استوجب شيوع البحث الكلامي بعد النبي(صلى الله عليه وآله) في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الأديان والمذاهب المتفرقة من جهة.

ونقل فلسفة يونان إلى العربية في السلطنة الأموية أواخر القرن الأول من الهجرة، ثم في عهد العباسيين، وانتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين من المسلمين من جهة أخرى ثانية.

وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية دون البحث اللفظي والعقلي من جهة أخرى ثالثة.

وبقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبد المحض بالظواهر الدينية من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الأدبية من جهة أخرى رابعة)(1).

ثم يزيد السيد الطباطبائي عاملاً خاصاً يشمل الجميع، ولا تخفى وسماته عن خبير وهو تفرق المسلمين إلى مذاهب وفرق مختلفة.
ولا يتصور أحد أن اختلاف فهم المذاهب الإسلامية في النص القرآني اختلاف الشكل دون الجوهر أو اختلاف الألفاظ دون المعاني بل شمل كل نواحي النص شكلاً ومضموناً يقول رحمه الله (ولم يبق بينهم ـ أي المسلمين ـ جامع في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله(صلى الله عليه وآله) واختلفوا في معنى الأسماء والصفات والأفعال والسموات وما فيها، والأرض وما عليها والقضاء والقدر، والجبر والتفويض، والثواب والعقاب، و في الموت وفي البرزخ، والبعث والجنة، والنار، وبالجملة في جميع ما تمسه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المس، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، وكل يتحفظ على متن ما أتخذ من المذهب والطريق)(2).

فأنت تلحظ في أوجه هذا الاختلاف أفقاً واسعاً شمل جواهر النص ومتعلقاته فيما يخص الخالق تبارك اسمه من جهة، وفيما يخص المخلوق من جهة أخرى، أو بما يتعلق بالموضوعات التي هي مدار العلاقة بين الخالق والمخلوق من جهة ثالثة، كل ذلك أدى بالمفسر(قدس سره) إلى أن يقول: ولم يبق بينهم في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
وأحسب أن لفظ التوحيد والشهادة بالنبوة مدعاة إلى الوحدة وجمع الأمر، ونقض الفرقة، بشرط أن يكون لفظ الشعار يوصل إلى المضامين القرآنية الحقة، وإذا كان لفظ شعار التوحيد تكريساً لمقولات الفرق والمذاهب فما واقع الحال في فهم النص إلا الاختلاف في الفهم وفي المسلك الذي يقود المفسر إلى الدلالات القرآنية.

وعلى أية حال لم يخف العلامة(قدس سره) أن الاختلاف كان في القضايا الدينية سواء ما تعلق منها بالغيب، أو بعالم الشهادة، وسواء ما تعلق منها بالإنسان قبل الخلق أو إلى موته وعالم البرزخ كل ذلك مختلف فيه، وأصل منبع الاختلاف أن كل مفسر يتحفظ على متن ما صدر عنه، واتخذه من المذهب والطريقة في الاعتقاد.

ولم يترك الطباطبائي(قدس سره) أركان الاختلاف في المسالك التفسيرية دون بيان أوجه القصور أو أسباب كونهم جزءاً من عملية الافتراق في التفسير فتحدث عنهم بالتفصيل والتدقيق.

فالمحدثون كانوا جزءاً من ذلك لأنهم اقتصروا في التفسير على الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وراء ذلك فأينما سار بهم المأثور ساروا، ووقفوا فيما لم يؤثر شيء عنه، أو أن المعنى غير واضح الظهور فلابد من الوقوف عنده(3) أخذاً بقوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (سورة آل عمران،الآية: 7).

فقصور المحدثين يكمن في روايتهم عن الصحابة والتابعين وسيرهم خلفهم من جهة ووقوفهم عند كل أمر لم يرد فيه شيء عن الصحابة والتابعين من جهة ثانية وكلا الأمرين باطل واضح البطلان فإن فهم كتاب الله تعالى غير متوقف على قول الصحابي أو التابعي فإن الله سبحانه لم يجعل حجة في أقوال الصحابة أو التابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش، وندب إلى التدبر في آياته وجعل القرآن هدىً ونوراً وتبياناً لكل شيء، فما بال النور يستتر بنور غيره، وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه(4) فالقرآن نور يستضاء به وهو تبيان لكل شيء فكيف تكون أقوال الصحابة والتابعين المختلفة المتناقضة بمنزلة البيان والكشف، على أنها تفتقد كل حجية فلم ينص عليها كتاب ولا سنة.

ويأتي الركن الثاني من أركان اختلاف المسالك التفسيرية وهم المتكلمون الذين تقولبوا على وفق عقائدهم المذهبية على الرغم من اختلافها إلى حد التناقض والإنكار، فساروا في التفسير حيثما وافق ذلك مذاهبهم واخذوا بتأويل ما خالفهم(5).

بمعنى أن فهم كتاب الله تعال يتطلب من الباحث فيه ألا يصدر عن غيره، أن يقيم فهمه على أسس تنبع من آي القرآن نفسه لا عن رؤية مذهبه ومعتقده الخاص أو فرقته المعينة، وعليه فقد فرق العلامة الطباطبائي بين نوعين من المقولات الأولى مقولة القرآن، وهي جواب لمن يسأل ماذا يقول القرآن، والمقولة الثانية مقولة (غير القرآن) على إطلاق الوصف وهو جواب لمن يسأل ماذا يجب أن نحمل عليه الآية ونلوي عنق دلالة النص لكي ينسجم مع متطلب المفسر بما يوافق مذهبه واعتقاده.

ومن خلال المقولتين والتفريق بينهما يؤسس السيد الطباطبائي(رحمه الله) نظرية تفسيرية أو قاعدة تفسيرية أطلق عليها (التفسر والتطبيق) وسأعرض لها في مرحلة مقبلة. ومهما يكن من أمر فلابد من تشخيص الفارق بين المقولتين، مقولة الآية، ومقولة ما يجب أن تحمل عليه الآية من وضع نظريات معينة والتسليم بها وبناء دلالة الآيات عليها وهذا النوع من البحث ليس بحثاً عن معناه في نفسه.

ألخص مما سبق أن المحدثين والمتكلمين قد أسهموا في اختلاف مسالك التفسير بما كان لديهم من قصور في أنهم تعاملوا مع القرآن من وجهة تنسجم مع بيئاتهم أكثر مما تنسجم مع خصوصيات كتاب الله بل في كثير من الأحيان تتعارض مع كتاب الله تعالى. وإذا كان للمحدثين والمتكلمين شأن في نقد العلامة(قدس سره)

فإن للفلاسفة والمتصوفة شأن آخر من نقده فضلاً عن أصحاب العلوم الجديدة أو ما سماه رحمه الله المسلك الجديد في التفسير وسوف تكون لنا وقفة أخرى معهما إن شاء الله تعالى.

نشرت في العدد 19


(1) الميزان 1/8.
(2) الميزان 1/8.
(3) ظ، الميزان 1/9.
(4) ظ، م، ن 1/9.
(5) ظ، م، ن 1/9.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.