Take a fresh look at your lifestyle.

في ذكرى المائتين لرحيله قراءة في سيرة الشيخ كاشف الغطاء ودوره في الدفاع عن النجف الأشرف

0 1٬070

                  على مدى الفترة الزمنية الشاسعة الممتدة بين بداية عصر الغيبة الكبرى، عصر انتظار المصلح الأعظم الذي ترتجي العباد ظهوره ـ وحتى يومنا هذا، ظلت المرجعية الدينية حصناً منيعاً يلتجأ إليه الناس خصوصاً عند اشتداد الأزمات حيث تظهر الحاجة الفعلية لصوت العقل الراجح والكلمة الراشدة والتي تنعكس على الدور الحقيقي للمرجعية، الذي لا يقوم به سواها من حيث الإرشاد والإعداد الفكري والتعبئة الشاملة والدعم المادي والمعنوي حسب متطلبات المرحلة الآنية باختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وبناء على ذلك فقد ظهر على امتداد هذه الفترة قادة من الطراز الأول، استوعبت حياتهم جميع آمال الأمة وآلامها فكانت دراسة سيرتهم الطاهرة تعني دراسة لواقع الأمة المتزامن مع تواجدهم.

ومن بينهم ظهر الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء(قدس سره)، فقيهاً متضلعاً ومتكلماً بارعاً وأديباً واعياً وقيادياً محنكاً، كل هذه المواهب التي حباه الله بها أهلته كي يمارس دوره القيادي ليس على مستوى إدارة العملية التدريسية في حوزة النجف العلمية بل راح يمارس نفس الدور على مستويات الانتصار للإسلام من المشككين، والمناظرة مع النواصب والمبغضين إضافة للدفاع عن دوحة العلم والعلماء النجف الأشرف ضد الوهابيين فكرياً وحربياً.

واليوم تمر علينا الذكرى المائتين لرحيله(قدس سره)، والتي لابد من اتخاذها مناسبة يحتفى بها، فكاشف الغطاء ليس شخصية عابرة، ولا اسم في قواميس الرجال ومعاجم التراجم بل هو فكر متجدد ومعين لا ينضب حوى من الصفات الحميدة ما جعلته ـ الشيخ الأكبر على الإطلاق ـ في خضم بحرٍ من الرجال الذين لديهم ما لديهم من الانجازات الفكرية العملاقة.

لقد كان(قدس سره) علماً عالياً بين الأعلام وجعفراً طافح الضفاف، نمير الزلال، خرجت مدرسته عشرات الفقهاء الذين اثروا الحركة العلمية بنتاجهم الثر، فضلاً عن أولاده الذين لم يكتفوا بأخذ العلم عن جدهم الأكبر بل حازوا لقبه ونسبوا إلى كتابه الخالد (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء).

أولاً: سيرة الشيخ كاشف الغطاء.
انحدر الشيخ جعفر من أسرة عربية معروفة، تتصل في كاهل ذروتها بمالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) فهو ابن الشيخ خضر بن الشيخ يحيى بن مطر بن سيف الدين المالكي بن هديب بن حرمد بن علي بن صقر بن ورام بن أبي فراس بن عبس بن أبي النجم بن ورام بن حمدان بن خولان بن إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي(1).

كان أبوه الشيخ خضر من العلماء الزاهدين، انتقل من قرية جناجة (قاعدة بني مالك في العراق، تقع بين كربلاء والحلة بالقرب من قضاء الهندية) إلى النجف وعنه يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: (على أن أباه ـ أي الشيخ يحيى ـ كان في بلدهم بدر فلكها، وواسطة القلادة في سلكها وصدر المجلس من ملكها، تحل في حرم بيته نجائب الرجاء حملها وتضع في رحب فنائه مطلقات الآمال حملها، فقذف الله نور المعرفة بقلبه، حتى تغرب عن قشيب ربعه وشعبه، وعاف العز والشرف، وألقى عصا التسيار في بعض زوايا النجف، واشتغل في تحصيل العلوم اشتغال من أنهكته علّة التقى، وأهلكته الرغبة في الفناء والزهادة في البقاء)(2).

وفي النجف ولد الشيخ جعفر كاشف الغطاء سنة 1154هـ /1735م أو 1156هـ(3) وكان رابع أخوته الشيخ حسين، والشيخ محسن، والشيخ محمد، اخذوا عن أبيهم العلم والتقوى والزهد، إلا أن جعفراً كان بينهم كالقمر بين النجوم، توسم فيه أبوه النبوغ والذكاء منذ نعومة أظفاره فكان الولد عند حسن ظن الوالد وهكذا تدرج في الدرس والبحث حتى قيض الله له مكاناً جديداً حط فيه رحله، ففي كربلاء حيث الملاذ الاعظم لقبة سيد الشهداء(عليه السلام) واصل درسه هناك بصحبة السيد محمد مهدي بحر العلوم

(ت1212هـ) عند أستاذ الكل الشيخ محمد باقر بن أكمل الملقب بـ(الوحيد البهبهاني) الذي دافع أشد الدفاع عن الطائفة المحقة ضد المد الإخباري الذي تزايد وانتشر حينها، وعن أساتذته يذكر السيد الخوانساري (كان غالب تلمذته على الشيخ محمد مهدي الفتوني العاملي الفقيه العلم، وعلى السيد صادق الفحام، والشيخ محمد تقي الدورقي من فقهاء النجف على مشرفها السلام ثم على شيخ مشايخنا المروج الأغا محمد باقر في ارض الحائر الطاهر، وله الرواية أيضاً عنهم، كذا عن بحر العلوم سيدنا المهدي صاحب الدرة)(4).

من النص نستنتج أن الشيخ الأكبر كان زميلاً للسيد بحر العلوم في حضور درس الوحيد البهبهاني وفي نفس الوقت تتلمذ على يديه فهو تلميذه وزميله في آن واحد.

إلا أن كتب التاريخ لم تذكر لنا متى كان التحاق الشيخ الأكبر بحوزة كربلاء العلمية ولماذا اختار بحث الشيخ الوحيد البهبهاني بالذات والظاهر هناك احتمالان والله العالم، أما كون الحوزة العلمية النجفية في العهد الذي سبق ظهور الشيخ الأكبر قد شهدت فتوراً نسبياً في حين كانت حوزة كربلاء المقدسة في قمة أوجها العلمي والفكري، أو أن الشيخ توارد إلى مسامعه أخبار حلقة الشيخ البهبهاني الدراسية وما فيها من طروحات علمية عالية جديرة بالحضور فقرر الشيخ الأكبر الالتحاق بها خصوصاً وقد تزامن هذا الالتحاق مع الصراع الفكري بين الأصوليين والإخباريين وكان أستاذ الحلقة القيادي الأول في جبهة الدفاع عن الأصوليين وتفنيد دعاوى الإخباريين.

وهكذا سار الشيخ جعفر في نهجه العلمي يتابع المرحلة تلو الأخرى
وكأنه(قدس سره) آلى على نفسه أن لا يفوت فترة من الوقت إلا ويغتنمها في تحصيل علم أو عبادة أو صلة رحم (وكانت مدينة النجف الأشرف في عهد الشيخ جعفر الكبير، مركز المرجعية العليا وقد احتضنت عدداً كبيراً من الفقهاء، فقد تولى التدريس الإمام السيد بحر العلوم، وأمر الفتوى الإمام الشيخ جعفر الكبير، وأمر الصلاة العلامة الكبير الشيخ حسين نجف، إذ أنه لم يكن سواه أماماً في مدينة النجف، وكانت العلماء تقتدي به حتى السيد بحر العلوم، والشيخ جعفر الكبير، فيصليان خلفه في اغلب الأوقات)(5).

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار التفاهم الكبير بين أساطين العلم والفقه حيث وزعت الأدوار بينهم بطريقة تنبئ عن المستوى الخلقي الرفيع الذي وصلوا إليه (قدس الله أسرارهم).

بعد وفاة السيد محمد مهدي بحر العلوم استقل الشيخ جعفر الأكبر بالمرجعية ونهض بأعباء القيادة (ومنذ هذا التاريخ انتهى إلى الشيخ جعفر أمر الفقاهة في الدين، ورئاسة سلسلة العلماء والمجتهدين)(قدس سره).

وعندما وصل الشيخ جعفر إلى ما وصل إليه عبر عن التطور الذي شهدته حياته الطاهرة بقوله (كنت جعيفراً، ثم صرت جعفراً، ثم الشيخ جعفر، ثم شيخ العراق، ثم شيخ مشايخ المسلمين على الإطلاق)(7).

وقد أشار التنكابني في قصص العلماء إلى علم الشيخ قائلاً (ومجملاً إن الشيخ جعفر النجفي في (التفريع) و (الفقاهة) وتطبيق فهم ألفاظ الكتاب والسنة على طريقة الفهم العربي المستقيم كان بلا نظير وهو من الأئمة ما بين فقهائنا كما يستنبط من كتبهم، وانه إلى الآن لم يأت فقيه (مثله) ومثل الشيخ أو الشهيد الأول)(8).

لقد اعتبر جملة من الباحثين الشيخ جعفر الأكبر من المجددين في الحوزة العلمية حيث قال (وقد قام الشيخ كاشف الغطاء بمحاربة الجمود الفكري الفقهي علماً وعملاً، وقضى بجهوده الجبارة على الدعوة للبقاء على تقليد الأموات ونقل الدراسة الدينية (من الحلة) إلى النجف، واستدعى العلماء في العلوم الإسلامية، حتى الطب والفلك والحساب)(9)

وعن صفاته الأخرى ينقل الشيخ جعفر محبوبه (كان(رحمه الله) شديد التواضع والخفض واللين وفاقد التجبر والتكبر على المؤمنين مع ما فيه من الصولة والوقار والهيبة والاقتدار فلم يكن يمتاز في ظاهر هيئة عن واحد من الأعراب… كان كثير المناجات في الأسحار مواظباً على السنن والآداب ومن المجتهدين في العبادات يأكل الجشب ويلبس الخشن) ثم يضيف: (..يقف الكاتب أمام هيبته خاضعاً خاشعاً ويتلعثم المفوه اللسن فيعود تمتاماً واجماً تجاه ما يذكر له من غرر الخصال وسامي الخلال فيرجع عن نعته خاسئاً حاسراً)(10).

وأما عن تلامذته فقد عدّ الدكتور حسن الحكيم للشيخ أربعاً وعشرين تلميذاً(11)، أصبحوا فيما بعد من وجوه العلماء والفقهاء أما تأليفاته فقد تنوعت بين الفقه والأصول والفلسفة وعلم الكلام وقد بلغت ستة وعشرين مؤلفاً أهمها كشف الغطاء عن خفيات مبهمات الشريعة الغراء ومنهاج الرشاد لمن أراد السداد واثبات الفرقة الناجية من بين الفرقة الإسلامية وفوز العباد في المبدأ والمعاد.

وبعد عمر ناهز الاثنين والسبعين، الذي كانت جل أيامه تقضى في طاعة الله بين إغاثة ملهوف أو بث علم أو قيام ليل أو صيام نهار التحقت روح الشيخ الأكبر ببارئها حيث (توفي يوم الأربعاء قبل الظهر في أواخر شهر رجب سنة1228هـ(12) ودفن في مقبرة أعدها لنفسه وهي قطعة من ساحة كبيرة أوقفها عليه (أمان الله خان السنوي) المتوفى سنة 1241هـ واجرى صيغة الوقف عليها في اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1228هـ (كما يحكيه صك الوقف) وقد عمر منها مقبرة ومسجداً محاذياً لها، والمدرسة المعروفة بمدرسة المعتمد، أعقب ثمانية أولاد وست بنات أشهر أولاده الأعلام الأربعة وهم الشيخ موسى

والشيخ علي والشيخ حسن والشيخ محمد وقد أرخ بعض الشعراء عام وفاته بقوله:
ومذ ذقت طعم الموت قلت مؤرخاً
لعل حيــــــاتي بعد جعـــــــفر علقم
كما رثاه تلميذه السيد علي الأمين بقصيدة منها:
ولما مضى للخلد جعفر قاضياً
أفاض من العلم الإلهي أبحرا
وموسى هو البحر المحيط بعلمه
فيالك بحراً في العلوم وجعفرا
سقى الله قبراً ضم أعظم جعفر
وأهداه كافوراً ومسكاً وعنبرا

ثانياً: دور الشيخ جعفر في الدفاع عن النجف ضد الوهابيين.
تنوعت الأدوار التي قام فيها الشيخ الأكبر بتنوع الظروف التي مر بها العراق وهو يرزح حينئذ تحت نير الاستعمار العثماني الذي أوصل المجتمع إلى حالة متردية من الفقر والعوز، فكانت البلاد عرضة للهجمات ومطمع للغرباء حيث لا رادع ولا دافع، فكان الأمر يتطلب من الحوزة العلمية المتمثلة بزعيمها الشيخ الأكبر حزماً تجاه المعتدين وتعبئة تجاه أبناء البلد ولم تكن هجمات الوهابيين على المدن المقدسة الحوادث الوحيدة التي شهدتها فترة تولي الشيخ كاشف الغطاء زمام الحل والعقد،

بل كانت هناك جملة من الحوادث التي أطفأ الله نائرتها بحنكة وحكمة الشيخ الأكبر، منها ما ذكره الدكتور حسن الحكيم نقلاً عن الشيخ محمد رضا المظفر بقوله: (إن الشيخ الكبير قد سافر إلى إيران بقصد إطلاق سراح أسرى جيوش الحكومة العثمانية بعد موقعة حربية عام 1221هـ، توغلت فيها إلى حدود إيران ففشل الجيش العثماني وأسر أكثره، فاستطاع الشيخ جعفر أن يقنع شاه إيران فتح علي وابنه ميرزا محمد علي بالعفو عن الأسرى وإرجاعهم إلى حكومتهم بعد أن فشلت كل الوسائط التي استعملتها الحكومة العثمانية)(13).

من النص السابق يمكن معرفة المنزلة العالية والمكانة التي حصل عليها الشيخ الأكبر عند الشاه حتى استطاع أن يتدخل(قدس سره) ويعيد للدولة العثمانية رجالها الذين لم تستطع إرجاعهم بسياستها. ونحن إذ نذكر الدور الدفاعي للشيخ الأكبر فلابد لنا من معرفة المهاجم الخصم الذي يقف على أسوار النجف في كل غزوة من غزواته ثم يعود أدراجه يجر أذيال الخيبة والخذلان.

ولد محمد بن عبد الوهاب ـ مؤسس الوهابية ـ في منطقة العينية في نجد نحو عام 1702 أو 1703(14) ميلادية أو عام (1111هـ/1699م)(15) نشأ وترعرع في بيت والده الذي كان قاضياً للمدينة، (وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه انه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدون من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه فحقق الله فراستهم فيه لما ابتدع ما ابتدعه من الزيغ والضلال الذي أغوى به الجاهلين، وخالف فيه أئمة الدين وتوصل بذلك إلى تكفير المؤمنين).

كان ابتداء ظهور أمره سنة 1143هـ، وابتداء انتشاره من بعد 1150، وألف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتى أخوه سليمان ـ الذي عارض دعوته وكتب رداً عليه بعنوان (الرد على من كفر المسلمين بسبب النذر لغير الله) و (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ـ وكان ممن قام بنصرته ونشر دعوته أمراء المشرق محمد بن سعود أمير (الدرعية) (1178هـ/1765م) ولما مات قام بها ولده عبد العزيز (1218هـ/1803م) ثم ولده سعود بن عبد العزيز(1228هـ/1814م)(16).

وقد عاصر شيخنا الأكبر ظهور الدعوة الوهابية، بل راح بعض المؤرخين إلى ابعد من ذلك حين ذكروا (وقد حضر محمد بن عبد الوهاب بحث الشيخ جعفر الكبير، وكانت معه مكاتبات ومطارحات)(17)، ولم يؤيد الدكتور حسن الحكيم ذلك فيقول: (ولكني لم أجد في المصادر التي ترجمت للشيخ جعفر أو للشيخ عبد الوهاب إلى دراسة الأخير في مدينة النجف الأشرف، ولا يبعد أن يكون بين الاثنين مكاتبات أو مطارحات، لأن بين الاثنين مفارقات في العقيدة والفكر، فكان الشيخ جعفر الكبير مجتهداً مجدداً وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب سلفياً محافظاً)(18).

أما الباحث رسول محمد رسول فيقول: (تتميز تجربة الشيخ جعفر كاشف الغطاء مع الوهابية بأكثر من خصوصية فلو سلمنا بوجود علاقة بين الشيخين، الغطاء والوهابي وهذا مؤكد عندما كان الأخير مقيماً في بغداد أو في الموصل أو في العينية أو الدرعية، فذلك يعني أن الشيخ الغطاء كان يعلم يقيناً مقت الوهابية للروافض (الشيعة)،

مقتهم لسلوكات ومقدسات الشيعة في العراق، فضلاً عن سلوكات الصوفية وأهل الطرائق واغلبهم من أهل السنة بالعراق وإذ سلمنا بان للشيخ جعفر تأثيراً محايثاً في قناعات الشيخ الوهابي بعدم التعرض للمقدسات الشيعية في العراق، طالما كان الأخير على ذمة الحياة، فأن ذلك لم يحد من غلو الوهابية في عدائها المبدئي للشيعة وعملها على إرجاء النيل منهم بعمليات غزو سافرة تحرق الدنيا على رؤوسهم في أعقار ديارهم بالعراق، وهذا ما كان الشيخ جعفر يدركه جيداً، بل وهو ما حدث بالفعل لاحقاً، لذلك آثر التهدئة مع الشيخ الوهابي حتى رحيل الأخير نحو عام 1792م عسى أن تتغير النوايا، لكن أنجال الشيخ الوهابي وتلاميذه من أهل السيف، وأولهم الأمير عبد العزيز بن سعود، ما كانت تروق لهم سياسة التروي والاحتواء التي كرسها الشيخ كاشف الغطاء قبل رحيل محمد بن عبد الوهاب إلى الدار الآخرة)(20).

وبناء على ما تقدم فأن فكرة غزو العتبات المقدسة لدى الوهابيين كانت لا تغادر عقولهم لان فيها ثلاث أهداف، قتل الرافضة وهدم قبور أئمتهم (إكمالاً لما بدؤا فيه من تهديم قبور البقيع وغيرها في الحجاز)، ثم تحقيق ما يصبو إليه البدوي من نهب وسلب والذي جبلت عليه النفوس من السلف إلى الخلف وقد حصلوا على ذلك في حادثة غزوهم كربلاء المقدسة حيث سالت الدماء أي مسيل عند قبر الإمام الحسين وانتهبت الخزانة الحسينية وحل دمار في الحائر ما حدث مثله من قبل.

لقد رتب الباحث رسول محمد رسول تجربة الشيخ جعفر كاشف الغطاء مع الخطاب الوهابي على ثلاث مراحل، حدد المرحلة الأولى بافتراض وجود مكاتبات ومراسلات بين الشيخ نفسه من جهة ومنظر الفكر الوهابي من جهة أخرى وكانت السمة السائدة في هذه المرحلة سمة تغليب الحوار السلمي والمناظرة الهادئة، أما المرحلة الثانية فهي التي نشأت بعد رحيل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغي الفترة التي شهدت مراسلات بين الشيخ جعفر والأمير عبد العزيز بن سعود تمخض عنها رسالة مطولة بعنوان (منهج الرشاد لمن أراد السداد) كشف فيها الشيخ كاشف الغطاء عن عقائد الشيعة عموماً عن سؤال الأمير عبد العزيز عما يخص زيارة العتبات المقدسة.

أما المرحلة الثالثة

فهي التي نزل فيها الشيخ جعفر إلى ميدان المواجهة ضد غزوات الوهابيين التي توالت على مدن الشيعة المقدسة منذ مطلع القرن التاسع عشر حيث غزا الأمير عبد العزيز وأنجاله كربلاء أولاً والنجف الأشرف ثانياً وفي تلك المرحلة (بدأ الشيخ كاشف الغطاء فقهياً محارباً يذب عن الدين والمجتمع معاً بعد أن لم يجد الحوار نفعاً مع من مزج العقيدة بالسيف)(20).

لقد شهدت الفترة الواقعة بين عام 1214هـ/1799م-1221هـ/1806م خمس غارات شنها الوهابيون على مدينة النجف وكان باستطاعتهم في كل مرة الانتصار لما كانوا يتمتعون به من تجهيزات عسكرية مقارنة بتدني الوضع الدفاعي للنجف مع غياب كامل لدور الحكومة العثمانية التي كان من المفترض أن تقوم بدور المدافع عن أهل النجف الذين هم من رعاياها، ولكن بركة الإمام الهمام أبي الحسن علي بن أبي طالب(عليه السلام) والمرجعية العليا المتمثلة بالشيخ جعفر(قدس سره) كان لهما الدور الأعظم في شحذ الهمم (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله).

وقد أورد الأستاذ محمد كاظم الطريحي بحثاً مطولاً عن الغزو الوهابي وبداياته ونقل عن كتاب غرائب الأثر ما نصه (في سنة 1215هـ/1800م) أرسل الوهابي سرية إلى العراق لنهب مشهد الإمام علي(عليه السلام)، وهدم قبته واخذ ما فيها من الأموال فالتقى بها أعراب البصرة، وقاتلوها وكسروها اشد كسرة، وقتل من عرب الوهابي جماعة واخذ منهم ستمائة جمل وقيل: ألف وستمائة جمل(21).

كانت أول حادثة غزو للوهابيين ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة1216هـ وهي سنة هجومهم على كربلاء وقتلهم أهلها، فتوجهوا بعدها إلى النجف ونزلوها وقد باءت بالفشل، أما الحادثة الثانية فكانت سنة 1217هـ/1802م حيث أغار عبد العزيز الوهابي على الحرمين النجف وكربلاء وجاء لإطراف العراق في عيد الغدير في آخر تلك السنة وقتل جماعة من العلماء والمجاورين وامتنعت عليه النجف ثم عاد الوهابيون في غزوة ثالثة عام 1218هـ/1803م(22)،

حيث دافع النجفيون دفاعاً عنيفاً، وقد أوشك الوهابيون أن ينجحوا بغاراتهم المفاجئة للنجف غير أن النجفيين تصدوا لهم من السور وكسروهم، ولم تستطع القوة الغازية من اقتحام المدينة أما الغارة الرابعة فقد وقعت سنة 1220هـ/1806م حيث سار سعود بجيوشه ونازل النجف، وفرق جيشه عليه من كل جهة وأمرهم أن يتسوروا الجدار على أهله، فلما قربوا منه فإذا دونه خندق عريض عميق فلم يقدروا على الوصول وجرى بينه وبين النجفيين مناوشة وقتال ورمي جيشه من السور فقتل منه عدة قتلى فرجعوا عن النجف(23).

وأخيراً كانت الحملة الوهابية الشرسة ففي سنة 1221هـ/1806م بلغ أهالي النجف توجه الوهابيين إليهم، وإنهم قاصدون مهاجمة المدينة المقدسة، فأول ما فعلوه ـ النجفيون ـ أنهم نقلوا خزانة أمير المؤمنين إلى بغداد خوفاً عليها من النهب كما نهبت خزانة الحرم النبوي وبعدها أخذوا الاستعداد لهم(24).

وقبيل هذه الغارات الخمس برز الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فقد (أدرك(قدس سره) أن فاعلية الكتاب الذي أرسله إلى أمير الوهابيين (منهج الرشاد لمن أراد السداد) في إعادة صوغ الأسس من جديد لدى الوهابيين لم تجد نفعاً بعد السنوات القليلة التي مرت، وعلى نحو استشرافي، أدرك الشيخ أن النجف الأشرف هي المدينة المقدسة التالية ـ بعد كربلاء ـ في خطط الغزو الوهابية فاستعد لهذا الاحتمال، وأيقن بأن أمر الجهاد قد حان بعد أن قدم الوهابيون، غريزة العنف والغزو والنهب وانتهاك المقدسات على العقل والحوار والتقارب المذهبي،

فراح يشرع لحماية مدينة النجف الأشرف، وهيأ لهذا الغرض مراكز تدريب قتالية خارج المدينة يشرف عليها بنفسه، وعين عدداً من المقاتلين للحراسة، ونظم مجموعات غيرها للتصدي الميداني، وانتدب الصدر الأعظم محمد حسين خان (وزير فتح الله علي شاه) لبناء سور محصن للمدينة، وفعلاً بدأ العمل سنة 1803م، واستمر العمل به لسنوات، وأصبحت النجف الأشرف بسببه مدينة محصنة يصعب اقتحامها حيث تضمن البناء خندقاً عميقاً وأبراجاً ومراصد ومخافر وجعلت في طبقاته منافذ لوضع المدافع، لقد أخذ الشيخ يستعد بتهيئة السلاح، وجمع الدروع، وجلب (التفك) إلى النجف الأشرف، فما كانت إلا أيام حتى أتى الوهابيون مجندين، ونزلوا المدينة ليلاً من دون جدوى فأمسوا تلك الليلة على أن يفتحوا النجف الأشرف في الصباح التالي قتلاً ونهباً)(25) وعن الاستعدادات الأخرى التي قام بها الشيخ جعفر لدرء العدوان الوهابي القادم يصورها لنا ذلك حفيده الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (كان الشيخ جعفر قد غلق أبواب المدينة، وجعل خلفها أحجاراً،

لأنها كانت محفرة وعين لكل واحدة عدة من المقاتلين المسلحين، وأحاط باقي الناس بسور المدينة من داخلها ووظف في كل غرفة جماعة من المؤمنين المسلحين، ولكن كان جميع من في البلد من المقاتلين لا يزيد عددهم على المائتين، لان اغلب أهل النجف الأشرف خرجوا منها، واستجاروا بأعراب العراق لما سمعوا من سيرة الوهابي بالقتل والنهب والسبي، فلم يبق مع الشيخ إلا الصفوة من العلماء المجاهدين كالشيخ حسين نجف والسيد جواد العاملي والشيخ خضر شلال والشيخ مهدي ملا كتاب وغيرهم من الشيبة الاطياب وبعض من عامة الناس)(26).

كما نقل لنا السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة ما جرى فقال: (أحاطت الأعراب من عنزة القائلين بمقالة الوهابي الخارجي بالنجف الأشرف، ومشهد الحسين، وقد قطعوا الطريق ونهبوا زوار الحسين بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان، وقتلوا منهم جمعاً غفيراً وأكثر القتلى من العجم، وربما قيل أنهم مائة وخمسون، وقيل اقل وبقي جملة من زوار العرب في الحلة ما قدروا على أن يأتوا النجف الأشرف فبعضهم صام في الحلة وبعضهم مشى إلى الحسكة…)(27).

أما مسألة البقاء في النجف والخروج منها فقد وقع فيها الاختلاف فمن العلماء من رأى الخروج اوجب تقديماً لحفظ النفس فخرجوا ومن اتبعهم والبعض كالشيخ الأكبر والسيد جواد العاملي وباقي العلماء أوجبوا الجهاد لحفظ بيضة الإسلام.

لنقف عند النص الذي أورده الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ثم أن الشيخ وأصحابه وطنوا أنفسهم على الموت لقلتهم، وكثرة عدد عدوهم وكان الشيخ قبل مجيء هذا الخبيث حفر في داره الكبيرة (سرداباً) ينزل في الأرض مقدار أربعين درجاً، وهو من العجائب لأن الشيخ صنعه بهندسته ليخفي فيه أولاده وعياله خوفاً من السبي فجعله بحيث لا يهتدي إليه أحد إلا من علم بكيفية طريقه، وسلك فيه مراراً، وهو موجود إلى الآن، ويعرف بسرداب الوهابي،

ثم أن الشيخ أخفى أولاده ونساءه في (السرداب) وجعل معهم من الطعام ما يكفيهم مقدار شهر كامل وودعهم وداع مفارق وقال: إن هذا الملعون سيأتي النجف، فان أظفرنا الله فبها وإلا فسيقتلنا ويدخل النجف فلا يرى شيئاً بها مما يريد من مال أو رجال فسيتركها ويرتحل، وأما انتم فاخرجوا بعد شهر وكاتبوا الأطراف، ومن خرج فليعد، ولا تقصروا في السعي لتعميرها أبداً، ولا تخرجوا منها ولو بقيت خالية إلى غير ذلك من الوصايا.

أما ابن سعود فإنه بات بجنده تلك الليلة خارج البلد، وما جنح الصباح إلا وهم قد انجلوا عن تلك البقعة ولم يبق بها أحد.
ثم توجه إلى كربلاء فقتل أهلها قتلاً ذريعاً حتى فاض الدم من الحرم الحسيني كالميازيب ولم ينج إلا من لاذ بالحرم العباسي حيث قال الملعون عبد الله (خلوا حرم العباس فإنه ابن اختنا) ودق القهوة على ضريح أبي عبد الله(عليه السلام) وأحرق قبر حبيب بن مظاهر، إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة…)(28).
من النص أعلاه نستنتج:
أن الشيخ آثر البقاء في النجف رغم احتمال انتصار العدو، فالذي وقع في كربلاء قد يقع في النجف أيضاً وهذا يدل على رباطة جأشه(قدس سره).
وأن إعداد الشيخ خطة دفاعية باهرة نمت عن تفكيره الراقي في وضعها واستعداده لملاقاة الأعداء وما سيتمخض عن هذا اللقاء سواء أكان سلباً أو إيجاباً.
أما قول عبد الله (خلوا حرم العباس فإنه ابن اختنا) يذكرنا بقول شمر بن
ذي الجوشن عندما جاء ينادي أين العباس وأخوته أين بنو اختنا والظاهر أن القوم هم أبناء القوم.
هذه هي المرجعية وهذه مواقفها، صمام الأمان كما وضعت والحصن المنيع الذائد عمن لجأ إليه، خط متصل كلما خبا نجم أشرق آخر وعندما يخبو يبقى نوره أزلياً وإشعاعه مخلداً لننهي بحثنا بقول الأستاذ إسحاق نقاش الذي يصف موقف شيخنا الأكبر حيث يقول: (أول مجتهد قاد بنفسه جهاداً دفاعياً وقام بدور القائد المجاهد ضد الوهابيين الذين حاصروا النجف يتبع قراره الشرعي بنفسه بإذن المجتهد بوصفه ممثل الإمام الغائب، يستطيع أن يقود الجهاد ضد أعداء الإسلام)(29).

نشرت في العدد 19


(1) الدجيلي، الدرة البهية، 1/19.
(2) كاشف الغطاء، العبقات العنبرية، ص23.
(3) محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، 3/132.
(4) الخوانساري، روضات الجنات، 2/201.
(5) الحكيم، المفصل في تاريخ النجف الأشرف، 5/88.
(6) الخوانساري، روضات الجنات، 2/306.
(7) محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، 3/133.
(8) كاشف الغطاء، العبقات العنبرية، ص56.
(9) البهادلي، الحوزة العلمية في النجف، ص18.
(10) محبوبة،ماضي النجف وحاضرها، 3/133.
(11)المفصل في تاريخ النجف، 5/94.
(12) محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، 3/140.
(13) المفصل في تاريخ النجف، 5/91.
(14) رسول، الوهابيون والعراق، ص26.
(15) الطريحي، النجف الأشرف مدينة العلم والعمران، ص264.
(16) كاشف الغطاء، العبقات العنبرية، ص109.
(17) كاشف الغطاء، كتاب ادوار علم الفقه، ص242.
(18) المفصل في تاريخ النجف، 5/89.
(19) الوهابيون والعراق، ص116.
(20) الوهابيون والعراق، ص116.
(21) العمري، ص56.
(22) لونكريك، تاريخ العراق الحديث، 3/247.
(23) الحيدري، عنوان المجد في تاريخ نجد، 1/136.
(24) الطريحي، النجف الأشرف مدينة العلم والعمران، 267.
(25) رسول، الوهابيون والعراق، ص126.
(26) العبقات العنبرية، ص115.
(27) الطريحي، النجف الأشرف مدينة العلم والعمران، ص268.
(28) العبقات العنبرية، ص116.
(29) شيعة العراق، ص107.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.