ا ستاذ مساعد
ربما كان الزعم بأن فكرة الالتزام في الأدب فكرة حديثة، وهي وليدة عصرنا ولم يعرفها النظر النقدي القديم في العصور الماضية، ولكن هذا الزعم يفتقر إلى الدقة، فالنظر إلى الفن كتابع من توابع الأنظمة الاجتماعية أو الدينية ليست نظرة جديدة، لأن تاريخ الأدب يستطيع أن ينبئنا أن كلمة الفن الهادف لم تولد مع الماركسية أو الوجودية التي نادى بهما كل من ماركس وسارتر، بل ترجع جذورها إلى إفلاطون وأرسطو، لأن الأدب معرض شامل للصراع بين الفن والأبنية الاجتماعية والدينية(1).
ويرجح بعض الدارسين أن الفن نشأ في أحضان العقيدة الدينية، وليس هناك فنان معروف لم يصدر عن عقيدة، والعقيدة هي التعبير القديم عما نسميه اليوم بالأيدلوجية فالأيدلوجية عقيدة، وكل ما في الأمر أن كلمة عقيدة ارتبطت في أذهاننا خلال التاريخ بالعقيدة الدينية(2)، والالتزام في مفهومه الحديث (هو اتخاذ موقف في النزعات السياسية والاجتماعية معبراً عن أيدلوجية طبقة ما أو حزب أو نزعة) أي: (عقيدة تلك الطبقة أو الحزب أو النزعة)(3) وهدف الالتزام (إسهام الأديب في حل مشاكل
المجتمع)(4).
والدين الإسلامي عقيدة راسخة هدفها سعادة الناس في الدارين، وحل مشاكلهم وتوجيههم لكل خير، وإذا كان شأن الأديب الملتزم (أن يكشف كل هذه الخيرات وينقلها إلى الآخرين)(5) فإنه ينطلق من عقيدته، وإذا كانت عقيدة الأديب إسلامية، فإن الإسلام سوف يدفعه من الصميم نحو محاربة الواقع الفاسد ويحمله التبعات إذا قصر عن ذلك.
إذن الإسلام عقيدة تحتوي على التزام تعاليم دينية هدفها الخير، فالإسلام يلتقي مع الالتزام في خدمة المجتمع، ولكن بأسس سليمة حين يحتوي الأدب الإسلامي (طريقة التصوير والتغيير تلذ له الغريزة الجمالية في الإنسان إذا كانت مقيدة في الحدود العامة لتعاليم الإسلام بمعنى كونه متماشياً، لما نهى الإسلام عن نشره في المجتمع من أفكار فاسدة منحرفة وعقائد إلحادية ومثيرات للفتنة بين المسلمين أو للشهوات المحرمة في النفس)(6).
فالمفروض على كل مسلم سواء كان أديباً أم لم يكن، أن يعيش الإسلام في كل دقيقة من حياته، لأن الله سبحانه وتعالى خلقنا للعبادة لا للهو يقول عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (سورة الذاريات/ الآية:56)، فالآية الكريمة تعني أن غاية الوجود البشري محصورة في عبادة الله، والعبادة غير مقتصرة بالشعائر والطقوس المتعارف عليها في الفروض، بل مقرونة بالأفعال والأقوال من سعي للرزق الحلال ودعوة للخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، كما نصت آيات الذكر الحكيم بذلك، في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (سورة آل عمران/ الآية:104).
وفي القرآن الكريم نجد ـ أيضا ـ مسوغات أخرى للالتزام الإسلامي في الأدب منها، الآية التي نزلت حين اندفع شعراء قريش (المشركين) يهجون النبي(صلى الله عليه وآله) ويذمون الإسلام ويقولون أن محمداً شاعراً تنزل عليه الشياطين(7). فنزلت الآيات القرآنية قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (سورة الشعراء/ الآية:224ـ227).
فالآيات الكريمة تنص على أن الشعراء يكونون دائماً عرضة للغواية والإغواء… والغوي: هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الحق، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) (سورة القصص/ الآية:18)، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخيل الزائف وتصوير الباطل بصورة الحق، لذا لا يهتم بالغواية إلا المشغوف بتزين الباطل…(8) لكن الآيات الكريمة أخرجت بعض الشعراء (الملتزمين بالصفات الآتية)(9):
أولاً: أن يكونوا مؤمنين حقاً (إلا الذين آمنوا).
ثانياً: أن يكون إيمانهم مقروناً بالعمل الصالح (وعملوا الصالحات).
ثالثاً: أن يكونوا ذاكرين لله كثيراً (وذكروا الله كثيراً).
رابعاً: أن يكون شعرهم لنصرهم ممن ظلمهم (وانتصروا من بعد ما ظلموا).
فهذه الصفات الأربع هي التي تميز الشاعر المؤمن الملتزم عن سواه من الشعراء فضلاً عن ذلك، فإن الالتزام الإسلامي فطري عفوي ليس فيه إكراه على فعل إذ يقول سبحانه وتعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ…) (سورة البقرة/ الآية:256).
قيل إنه حين نزلت الآيات المباركات، جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله لقد نزل الله هذه الآية، وهو يعلم إنا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فدعاهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) فتلاها عليهم(10).
وقيل: إن كعباً بن مالك سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن الشاعر المؤمن الذي كان ينشد قصائده في تقوية الإسلام في حين أن الآيات قد نزلت في ذم الشعراء، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه)(11).
هذا بالنسبة لموقف القرآن من الشعر الملتزم، أما موقف الرسول(صلى الله عليه وآله) فهو موقف مكمل لما جاء به القرآن كما رأينا في الفقرتين السابقتين، فقد جاءت أغلب الروايات والأحاديث لدعم موقف الشاعر الملتزم، فحين بالغ شعراء قريش في هجاء الإسلام عز على النبي(صلى الله عليه وآله) ذلك، لما لهذا الشعر من تأثير على نفسية الإنسان الجاهلي، إذ أنه كان يصده عن الهداية، ويبعده عن الدين الصحيح، فجمع النبي(صلى الله عليه وآله) أصحابه وقال لهم: (ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقام حسان بن ثابت وقال: إنا لهم يا رسول الله، وأخرج لسانه وضرب به أرنبة أنفه فقال له رسول الله: هاجمهم ومعك روح القدس)(12).
كما روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقول(صلى الله عليه وآله): (إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر أو ينافح عن رسول الله(صلى الله عليه وآله))(13).
وما جاء عن أنس أن النبي(صلى الله عليه وآله) دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلو بني الكفار عن سبيله
اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزل الهام عن قعيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وفي حرم الله تقول الشعر فقال النبي(صلى الله عليه وآله): خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النيل(14).
فهذه الروايات تأكد على حث النبي(صلى الله عليه وآله) شعراء المسلمين على الالتزام تجاه عقيدتهم الإسلامية، وفي المقابل حثهم أيضاً على عدم رواية الشعر السيء من ذلك ما جاء عن أبي هريرة أنه قال: (قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً)(15).
وهكذا كان لموقف النبي(صلى الله عليه وآله) الأثر الكبير في توجيه شعراء المسلمين على التزام تجاه العقيدة الدينية فبرز كل من حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة للتصدي للشعراء المشركين أمثال عبد الله بن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص فكان شعرهم وكما قال الرسول(صلى الله عليه وآله) جاهداً باللسان يضاهي جاهد السيف.
أما في زمن الأئمة أولاد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقد كان لهم دور كبير في حث شعراء المسلمين على تبني مواقف أئمتهم، لهم في جدهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة، فمن ذلك ما روي عن الكميت أنه دخل على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) أيام التشريق وهي أيام عظام، فلما استأذنه الإنشاد استكبر ذلك، ولما قال له أنها فيكم أذن له فأنشد:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
فكثر البكاء وعندما انتهى رفع أبو عبد الله يديه، وقال: الله اغفر للكميت ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن وأعطيه حتى يرضى، ثم روي أنه دخل على أبي جعفر محمد بن علي(عليه السلام) فأنشده قصيدته التي أولها:
من لقب متيم مستهام
فقال(عليه السلام): اللهم اغفر للكميت اللهم اغفر للكميت(16)
فمن ذلك يتضح لنا حث الأئمة(عليهم السلام) الشعراء وتشجيعهم على الالتزام في رثاء الحسين(عليه السلام) وأن أجرهم الجنة، فالشاعر الذي يقول فيهم ولو بيت واحد كان له بيت في الجنة كما في الرواية عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) إذ قال: (ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى إلا وجب الله له الجنة وغفر له)(17).
فكان الشعراء يتسابقون في رثاء الحسين(عليه السلام) حتى أصبح رثاء الحسين(عليه السلام) عن الشعراء المتأخرين (شعراء القرن التاسع عشر) مهمة من مهام الشعراء لا يحيدون عنها وامتد هذا الفرض الجليل حتى وقتنا الحاضر فأتيح له من الشعراء الذين امتازوا بمواهبهم وتضحيتهم فأتوا بالروائع التي لا تبارى قوة ودقة في الأسلوب والخيال(18).
وبذلك يكون الالتزام الإسلامي (محاولة بناء من الإسلام في الرقي بالأدب نحو الأفضل وتنزيهه عن المفاسد والأدران ويكون الأديب بعد ذلك حراً في أن يتناول أي موضوع يشاء وبأي أسلوب يريد وبأي مستوى يهديه فكرة ويعود إليه ذوقه)(19).
فإذا صح لدينا ذلك عرفنا بوضوح الأديب الإسلامي من الأدب الملتزم، فإن هذا الأديب بصفته مسلماً يعتنق الإسلام عقيدة ونظاماً قد انصهر كيانه النفسي ببوتقته المقدسة وتكون لديه ضمير إسلامي مرهف، فهو يدافع عن تلك العقيدة بإيمان مطلق ويساهم في حل مشاكل المجتمع بالتزام أشد و(بهذا تعرف بوضوح كيف أن الإسلام بسيطرته الروحية العقائدية الفعالة ضع أديباً إسلامياً ملتزماً ينطلق بعواطفه وأحاسيسه مع ما يتطلبه الإسلام من تعاليم وما يتجه إليه من أهداف)(20) >
———————————————————————————————-