Take a fresh look at your lifestyle.

مع العلامة الطباطبائي ومقدمته في تفسير الميزان

0 863

              التفسير علم متخصص بالنبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، وهم متخصصون به، ومن فسر القرآن فبما أخذ منهم وحمل عنهم، فالقواعد الكلية في التفسير والخطوط الكبرى قد أرساها النبي وأهل بيته(صلى الله عليه وآله) فهم ميزان بيان القرآن وهم عدل القرآن والاعتقاد بهذا القول ينهض شرطاً أساسياً في الفكر التفسيري.

ولقد اعتاد المفسرون أن يحددوا مقاصدهم التفسيرية في مقدماتهم التي كانت ولازالت مادة جيدة للدراسة والبحث.
ومن بين أفضل ما كتب من مقدمات تفسيرية مقدمة تفسير الميزان للعلامة محمد حسين الطباطبائي القاضي حيث توجب معايير البحث العلمي تقديمها لما فيها من تأصيل للفكر التفسيري على اختلاف مراحله، وبيان علل اختلاف المسالك التفسيرية عند المسلمين، والتي قامت أصلاً على اختلاف الأفكار والعقائد، وإيضاح ما يليق منها بالنص القرآني عن غيره وتأكيد القاعدة التي يجب الاستناد إليها والاتكاء عليها في الكشف عن المراد الإلهي من القرآن العظيم.

وبعبارة أخرى: أزعم أن هذه المقدمة كتبت بعد أن اطلع المفسر الطباطبائي(قدس سره)
على كم وافر من التراث التفسيري على تنوعه في معالجته للنص والكشف عن الدلالات الإلهية، وتوافر المفسر(قدس سره) كذلك على دراسة خصوصيات المراحل التفسيرية على اختلاف أزمانها وأماكنها واستخلاص قيمتها، وتقييم أثرها في الاستدلال واستنباط المعاني المطلوبة، فضلاً عن ذلك فإنك تلحظ بوضوح الدقة في الرواية التفسيرية التي سعى إليها المفسر(قدس سره) وجسدها بالقواعد التفسيرية من جهة، وبيان نظرية الفكر التفسيري التي يؤدي تحققها العلمي من أي مفسر المقاربة الدالة في الكشف عن المراد الإلهي من النص المجيد، وأعني بذلك نظرية التفسير والتطبيق.

ومن الواجب ذكره أن الوقوف مع مقدمة العلامة(قدس سره) تقتضي مقاماً وزماناً يتناسب مع ما فيها من مفاصل حيوية متفرعة، وفروعها متشعبة وعليه فإن من الفائدة الإيجاز مراعاة للمقام.

المقـدمة
تبدأ بالحمد والثناء والصلاة على النبي وآله، وهي سنة المفسرين في ابتداء مصنفاتهم ثم بيّن(قدس سره) أن هذه المقدمة الغرض منها التعريف بمنهج البحث في معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار وعقب رحمه الله على ذلك بتعريف التفسير فقال: (هو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها)(1) ففي هذا التعريف يقف العلامة(قدس سره) مؤكداً معنى البيان والكشف عن المقاصد والدلالات على إطلاق الألفاظ من دون تقييدها باتجاه معين فكل ما يكشف به عن دلالات النص هو الغاية التي يسعى إليها، ولو قارنا هذا التعريف والبيان الاصطلاحي للفظ التفسير لوجدناه متميزاً من بين اصطلاحات المفسرين من عدة جهات أهمها:

الإيجاز في التعريف فضلاً عن أن التفسير عنده بيان من جهة وكشف من جهة أخرى، والبيان مرحلة قد تتصل بالمعاني الظاهرة أو المألوفة، والكشف ما يحتاج فيه إلى التأمل والتفكير وربط الظاهر بالباطن وماعدا ذلك من إقامة الفكر والاحتجاج له بالدليل.

ويعقب السيد(قدس سره) على التعريف بتأصيل التفسير، ويظهر أنه من أقدم الاشتغالات العلمية التي تنقل عن المسلمين من عصر نزول القرآن، وألمح(قدس سره) إلى أن الرسول(صلى الله عليه وآله) كان المفسر الأول للنص القرآني، وفي ذلك لطيفة فيما ألمح إليه وهي أن العلامة(قدس سره) يقرر في مقدمته أن ينهج منهج تفسير القرآن بالقرآن وعندما أشار إلى المفسر الأول للنص لم يأتنا برواية تؤكد هذا المعنى على الرغم من كثرة الروايات في ذلك بل جاءنا بآية وترك الرواية فنهج نهج تفسير القرآن بالقرآن من أول صفحة في تفسيره. قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(2).

ثم يقف الطباطبائي(قدس سره) عند التفسير بعد النبي(صلى الله عليه وآله) فيقول: (وقد كانت الطبقة الأولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة ـ والمراد بهم غير علي(عليه السلام) فإن له وللأئمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له ـ كابن عباس وعبد الله بن عمر وأبي وغيرهم)(3).

وهنا يبرز تساؤل القارئ لم أخرج المفسرون علياً(عليه السلام) من طبقة الصحابة، أوليس هو أبرز الصحابة وأحقهم بالتقديم في التفسير وغيره، وتأتي الإجابة من خلال سير المقدمة حيث تلحظ، أن الطباطبائي يشير ويلمح إلى وجود واقعي لمنظومتين في التفسير:
المنظومة الأولى: منظومة النبي وأهل بيته(صلى الله عليه وآله)، ومن سار على نهجهم.
المنظومة الثانية: منظومة الصحابة والتابعين، ومن اتبع مسالكهم.

المنظومة الأولى حجيتها نص القرآن، وسنة النبي(صلى الله عليه وآله)، والمنظومة الثانية لا حجة لها مطلقاً إلا بمقدار السير على ميزان وقواعد سنة النبي وأهل بيته، ولأجل هذا جعل الطباطبائي(قدس سره) أهل البيت(عليهم السلام) مع النبي(صلى الله عليه وآله) في مقام واحد، وإن كان فيهم من هو صحابي أو تابعي أو هو شاهد العصر إمامنا الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) وبعبارة أخرى:

يعتقد جميع المهتمين بالنص القرآني بأن له خصائص مميزات يمتاز بها وأهمها أنه نص إلهي غير متناه في دلالته وغير محدود بزمان أو مكان فهو سرمدي البقاء حتى يوم القيامة وهو يحتاج إلى المبين الموضح الذي يتصف بصفات إلهية، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(4) وذلك لأجل أن يكون هناك تلاؤم وتناسب بين النص ومفسره، وإذا قلنا إن الصحابة أو التابعين أو عامة الناس أمثالهم على اختلاف أزمانهم وأماكنهم ومقاماتهم هم المفسرون، لتفاوت الحال بين المفسر المحدود في العلم والامكانيات والزمان والمكان إلى غير ذلك مع النص غير المحدد والمتناهي في الدلالة.

وإذا قلنا بوجود من يتصف بالخصوصيات الإلهية التي تقابل مميزات النص القرآني، لوجدنا ذلك التقابل والانسجام والتواشج بين النص ومفسره ولذا فأهل البيت صلوات الله عليهم هم المفسرون الذين ينهلون العلم الوهبي اللدني منه تعالى، فهم في علومهم غير محدودين، وفي أعمارهم كذلك حيث أن من يمثل هذه المنظومة من أهل البيت حي حتى ما شاء الله تعالى، إذاً هم شفعاء القرآن، وعدل القرآن، بل هم القرآن الناطق كما قال إمام الموحدين(عليه السلام): (أنا القرآن الناطق).

ومن خلال هذه الرؤية تجد إقامة لفكر تفسيري ينقض الكثير مما يشاع خطأ أو يعرف غلطاً على صعيد تفسير النص ومناهجه ورجاله، وأهم ذلك أن هذه الاطروحة تلغي وتنقض بقوة ما يزعم بوجود مدارس تفسيرية على أساس الأماكن والرجال، فقد ذهب الكثير إلى وجود مدارس تفسيرية متعددة منها بالكوفة وعلى رأسها ابن مسعود وفي مكة وكان على رأسها ابن عباس، وبالشام وعلى رأسها أبو الدرداء ومنها بالمدينة وتصدرها ثلاثة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) السجاد والباقر والصادق إلى غير ذلك من الكلام الذي نشر على صفحات هذه المجلة الغراء في عدد سابق، والحق والله العالم أن ذلك مردود وإنكاره واجب فيما أزعم من جهات عديدة مختلفة أهمها:

1ـ من غير الصحيح واللائق والموضوعي أن نجعل ثلاثة من أئمة أهل البيت عليهم السلام مقابل غيرهم مطلقاً فأهل البيت(عليهم السلام) لا يعدلون بغيرهم، ثم متى كان هناك أدنى تناسب فيما بينهم وبين غيرهم في نص أو بيان أو مقام لكي نجعلهم في حلبة واحدة.

2ـ لم يكن في الأمصار التي ذكرت سوى درس تفسيري لم يرقَ لأن يكون مدرسة تحظى بالاختلاف في المادة والموضوع والأستاذ والطالب.

3ـ إن هذا الأمر من التقسيم والتبويب لم ينقل عن القدامى أو المشتغلين بشؤون النص القرآني وإنما بدت بوادره عند المستشرقين ولاسيما المستشرق (جولد زيهر) في كتابه (مذاهب التفسير القرآني).

ومهما يكن من أمر فالتفسير قد اعتنى به مجموعة من الصحابة بعد النبي(صلى الله عليه وآله) ـ غير علي والأئمة(عليهم السلام) من بعده فإن لهم مقاماً آخر سيشير إليه العلامة لاحقاً ـ وكان من خصوصيات التفسير عند الصحابة:

1ـ أن البحث فيه يومئذ لا يتجاوز ما يرتبط من الآيات بجهاتها الأدبية.
2ـ وشأن النزول.
3ـ وقليل من الاستدلال بآية على أخرى.
4ـ وكذلك قليل من التفسير بالمأثور عن النبي(صلى الله عليه وآله) في القصص ومعارف المبدأ والمصادر وغيرها.

هذه هي خصائص مرحلة الصحابة في التفسير والخطى نفسها سار تابعيهم عليها طوال قرنين من الزمان (فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئاً غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات (وبينها روايات دسها اليهود أو غيرهم فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى الخلقة كابتداء السموات وتكوين الأرض والبحار أرم شداد وعثرات الأنبياء وتحريف الكتاب وأشياء أخر من هذا النوع، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث)(5).

فبعد أن انتهى(قدس سره) من الحديث الموجز عن مرحلة الصحابة أعقبه بالحديث عن التابعين رغبة منه(قدس سره) في تأصيل مراحل التفسير مع بيان خصائص كل مرحلة ويستوقف ذهن القارئ هنا المطابقة التفسيرية بين المرحلتين في الخصوصيات إلا أن التابعين تبنوا المنهج الأثري بشكل أكبر وأشمل وهذه الشمولية لم تخل من الأثر السلبي على التفسير شكلاً ومضموناً، فإن في اعتمادهم على الروايات التي دسها اليهود نقصاً في ثقافتهم التفسيرية، وإلا ما معنى أن يتجه المفسر المسلم لموارد تفسيرية غير إسلامية فلا يكون ذلك إلا لحاجة سببها انعدام الرؤية التفسيرية عندهم، ثم تستوقفك عبارة الطباطبائي(قدس سره) (دسها اليهود أو غيرهم) فغيرهم كلمة عامة في دلالتها أرادها المؤلف فجاءت في مكانها بمعنى أن الذين دسوا الروايات غير الصحيحة والذين حرفوا وزيفوا كانوا ينسبون إلى الإسلام أيضاً، وأعمال التشويه والتضليل خير شاهد ودليل.

فضلاً عن ذلك فإنك ترى أن هذه الروايات كانت في موضوعات يغلب عليها الطابع الغيبي من قصص الأنبياء مع أقوامهم ومعارف المبدأ والمعاد.

ويؤكد العلامة(قدس سره) بعد ذلك أن هذا النوع من الروايات قد وجد عند الصحابة أيضاً، بمعنى أنه يسجل خصوصية جديدة للتفسير في مرحلة الصحابة أنهم رووا بعض الروايات التي لا صحة لها وهي مما يعرف بالإسرائيليات.

هذا هو المفصل الأول الذي تعرض له العلامة(قدس سره) في مقدمته فقد أراد أن يقدم فهماً للتفسير ويشير إلى قواعده ثم يوصل ذلك بمراحل التفسير بعد النبي(صلى الله عليه وآله) ويحدد ملامحها الموضوعية والعلمية من خلال نظر مفسر مفكر نقاد.

نشرت في العدد 18


(1) تفسير الميزان 1/ 4.
(2) سورة البقرة، الآية: 151.
(3) تفسير الميزان 1/ 4.
(4) سورة النحل، الآية: 44.
(5) تفسير الميزان 1/ 4.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.