القرآن المجيد دستور أمتنا الإسلامية الخالد، فهو مصدر شريعتها، وراسم خطوط منهج حياتها، وأهم مصدر من مصادر لغتها، ويرجع إليه اللغويون في قياساتهم والنحويون في تقعيد قواعدهم والبلاغيون في رسم حدود البلاغة والفصاحة والبيان، فهو في كل ذلك قمة تنحط دونها القمم، عجز البلغاء عن مجاراته، وفصحاء العرب أن يأتوا بشيء من مثله، ولا عجب فهو كلام الله العزيز نزل على رسوله العربي الأمين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(1).
فلغة القرآن إذن هي اللسان العربي المبين الذي اختاره الله وعاءً لمعجزة رسوله الخالدة فما طبيعة هذا اللسان؟ ولأي أصل ينتمي؟
أهو لهجة مكة المجرد من الإعراب، أي عاميتها؟ أم هو لغة قريش المحسنة لاتصالها بلغات القبائل الأخرى؟ أم هو لغة الحجاز دون غيرها من مناطق الجزيرة العربية؟ أم هو لسان العرب جميعاً في لغتهم الأدبية المشتركة؟
فإذا رسا مركبنا عند واحد من هذه التساؤلات، انطلقنا ـ بعدئذ ـ لنسأل ما موقع لغة تميم في هذا اللسان العربي المبين.
وفي جواب التساؤل الأول يطالعنا رأي بعض المستشرقين المرتبطين بالاستعمار الغربي الذين وجدوا في القرآن مركز الهدف الذي لو استطاعوا إصابته لأصابوا الإسلام ـ عدوهم ـ بالصميم، لأن القرآن يعد (أقوى الأدلة على صدق نبوة محمد(صلى الله عليه وآله) لما فيه من مفاهيم وأفكار وتشريعات وأخبار لا يمكن أن تكون وليدة عصر البعثة، أو من صنع شخص الرسول(صلى الله عليه وآله))(2).
يقول المستشرق الألماني (فولرز): (إن القرآن نزل أول مرة بلغة مكة المجردة من ظاهرة الإعراب، ثم نقحه العلماء على ما ارتضوه من قواعد ومقاييس حتى أضحى يقرأ بهذا البيان العذب الصافي، وغدا في الفصاحة مضرب الأمثال)(3).
هذه الدعوى السيئة الصيت سرعان ما نقضها مستشرق ألماني آخر هو (نولدكة) الذي بنى رأيه على أساس من المقارنات اللغوية بين اللغات السامية، وأثبت أن الإعراب من خصائص العربية(4).
أما القول بأن لغة القرآن هي لغة قريش المحسنة، نتيجة اتصالها بلغات العرب الأخرى فهو ما اتفق عليه اللغويون الأقدمون جميعاً قال به الفراء، وابن فارس، وابن جني، وابن منظور، والسيوطي وغيرهم كثيرون، وجاء المتأخرون من اللغويين، فساروا على الرأي نفسه، كالرافعي، ووافي، وطه حسين، وعبد العال مكرم، وعبد الرحمن السيد وآخرون(5).
(مدعين أن العرب أخذوا هذه اللغة الفصيحة عن تلك القبيلة العظيمة وهم يبنون الدعوى على أسس من التاريخ الاجتماعي للقبائل العربية، إذ يقولون: إن قريشاً كانت لها من الأهمية في الجاهلية ما أغرى القبائل العربية الأخرى باتخاذ لهجتها لغة مشتركة للعرب جميعاً، فهم جيران الكعبة وسدنتها، وبقرب بلدهم ـ مكة ـ كانت سوق عكاظ أشهر أسواق الجاهلية، وأحفلها بالنشاط الأدبي، ولهم رحلتا الشتاء والصيف… ويقولون غير ذلك من الأسباب التي تبدو مقبولة لأول وهلة)(6).
غير أن المحققين من اللغويين المحدثين ـ عرباً ومستشرقين ـ يذهبون إلى أن في الجزيرة العربية عشية نزول القرآن بيئتين لغويتين هما:
أولاً: بيئة لغوية عامة مشتركة يصطنعها الشعراء والخطباء والناثرون وهي اللغة الأدبية الفصحى (وتتمثل لنا واضحة المعالم في هذه النصوص الكثيرة التي تنتظم فيما تنتظم شعراً تعارفوا على تسميته بالشعر الجاهلي، وأرخوا له بقرن ونصف قبل البعثة المحمدية، وتنتظم أيضاً نثراً في خطب وأمثال)(7).
ثانياً: وبجانب هذه البيئة اللغوية الموحدة العامة هناك بيئات لغوية خاصة هي لغات القبائل التي يصطنعها أفراد كل قبيلة لأداء أغراضهم اليومية والتخاطب فيما بينهم، (وهي تختلف فيما بينها اختلافاً يكبر أو يصغر حسبما يكون بينها من تقارب)(8). ألا أن هذه الاختلافات بين لغات القبائل أو بينها وبين اللغة الموحدة (لا تمس جوهر اللغة الواحدة من حيث البنية، ومن حيث الجذور ومن حيث الاشتقاق هي اختلافات يسيرة)(9).
فالعربية على هذا (شفعية التعبير منذ أن كانت، ذلك بأن فيها لغة فصيحة يتوخاها الكاتب في كتابته، وهي ملتزمة بضوابط الإعراب، ولغة أخرى يقولها الناس ويستعملونها دون أن يلزموا أنفسهم بعناء هذه الضوابط)(10).
أما ما طبيعة هذه اللغة وما مكوناتها الأساسية؟ ومن أي لغة أخذت؟
فـ(اللغة العربية الفصحى ليست لغة قريش ولا لغة غيرهم من القبائل العربية وإنما هي اختيار لا شعوري من لغة هؤلاء وهؤلاء حدث من احتكاك كثير من أفراد هذه القبائل في مواسم الحج والتجارة والأسواق الأدبية المختلفة فنتج عن هذا الاحتكاك الكبير بين القبائل ذلك الكيان اللغوي الذي عرفناه باللغة الفصحى)(11).
فإذا كانت الفصيحة تنتسب إلى لغات العرب جميعاً ومنها تألفت وكان القرآن الكريم يمثل النموذج الأفضل لهذه اللغة التي عبر عنها القرآن بأنها اللسان العربي المبين. فلا عجب أن يكون في القرآن ما يقرب من خمسين لغة من هذه اللغات(12) في القراءات القرآنية المختلفة، لكننا نحن الذين لم يثبت لدينا أن القرآن نزل على سبعة أحرف سواء أكانت هذه الأحرف هي القراءات السبع أم لغات قبائل سبع، وإنما نزل على حرف واحد، وإننا نؤمن بهذه القراءة المتداولة بين الناس لأننا عبدنا بها لقولهم(عليهم السلام): (اقرأ كما يقرأ الناس) وقولهم (اقرأوا كما تعلمتم)(13).
ومعنى هذا إننا سنبحث آثار لغة تميم في هذا القرآن بقراءته المتداولة، ونعني به رواية حفص بن عاصم بن أبي النجود الكوفي عن أبي عبد الرحمن عبد الله السلمي التابعي عن عثمان وعلي وزيد وابن مسعود وأبي بن كعب عن النبي(صلى الله عليه وآله).
ولقد خلا القرآن الكريم الذي نقرأه من كثير من الخصائص التميمية مثل:
الكشكشة، والعنعنة وكسر حرف المضارعة ـ عدا الياء ـ التي شاركهم فيه كل القبائل العربية، عدا قريش وأسد(14). كما خلا من بعض الظواهر التي كانت عند بعض بني تميم، كما خلت قراءتنا من الإمالة التي يتبعها كثير من العرب في قراءاتهم وفي مقدمتهم بنو تميم. يستثنى من ذلك إمالة الفتحة إلى الكسرة وإمالة الألف إلى الياء في قوله تعالى (بِاِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)(15).
ويعلل بعض اللغويين خلو اللغة العربية الفصحى والقرآن الكريم من هذه الخصائص بقوله: (كان ينبغي لها [أي الفصحى] أن تخلو من هذه الظواهر المحلية… وأن يكون المثل العربي المنشود في لغة القرآن بعيداً عن المحلية في الخصائص اللغوية بمثل ما هو بعيد عن المحلية في المضمون الفكري)(16).
أما الخصائص اللغوية التميمية التي نجدها في القرآن الكريم الذي بين أيدينا فهي:
1ـ تحقيق الهمز: أو ما يسمى بالنبر: وهو النطق بالهمزة نطقاً متميزاً وهو أن تنطق الهمزة نتيجة التقاء تام يحدث إغلاقاً لحظياً في أقصى الحنجرة يتبعه انفراج مفاجئ ليصدر هذا الصوت الذي نعرفه بالهمزة)(17).
(والكتب العربية تتحدث دائماً عن تحقيق الهمز وتنسبه إلى لهجة تميم، وعن تخفيف الهمز [أو تسهيله] أو نطق الهمزة بين بين [أو حذفها أحياناً] وتنسبه إلى لهجة الحجاز، وجاء التنزيل موافقاً للهجة تميم) لأن (أهل الحجاز وهذيل لا يهمزون)(18).
2ـ ظاهرة الإتباع: والتي ترجمها الدكتور حجازي عن الإنكليزية (Vowel-Harmony) بالتوافق الحركي وترجمها (الدكتور إبراهيم أنيس) بالانسجام بين أصوات اللين. والذي يهمنا هنا هو ضمير الغائب (فقد اعتبر سيبويه أن الأصل في ضمير الغائب أن تعقبه ضمة طويلة وحدد سيبويه المواضع التي كسرت فيها هذه الهاء، فالهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، فهذه الظاهرة إذن من ظواهر المماثلة ولكنها طويلة أتت بكسرة بعد الهاء، وهذا طرف من التوافق الحركي، ويبدو أن التوافق الحركي كان من خصائص لهجة تميم، وهو ما نجده في الفصحى بينما لهجة الحجاز بعيدة عن التوافق الحركي)(19).
فنحن نقرأ مثلاً: (وخسفنا به وبداره الأرض) يقرأها أهل الحجاز (وخسفنا بهو وبدارهو الأرض) وجاء التنزيل في هذا الجانب موافقاً للغة تميم، إلا في آية واحدة هي قوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله)(20).
3ـ وهناك كلمات قرآنية كثيرة جاءت موافقة للغة تميم من حيث اللفظ ومن حيث الضبط الصرفي أو من حيث الصوت أو الدلالة أو التذكير والتأنيث نستطيع أن نجد منها في القرآن الكريم ما يأتي(21):
1ـ اتخذت: أهل تميم تقول: اتخذت، وأهل الحجاز يقولون: تخذت ووخذت. وجاء في القرآن موافقاً للغة تميم فيها كقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا)(22). وجاءت في القرآن الكريم هي ومشتقاتها وتصريفاتها (124) مرة.
2ـ بئس: أهل الحجاز يقولون: بئس أو بيس: فعل للذم أخذ من البؤس. وتميم تقول: بئس بكسر الباء وإسكان الهمزة ثم أخذت العرب عامة عن تميم. قال تعالى: (وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(23)، وجاءت في القرآن (42) مرة ويقرأ أهل الحجاز: (ولبيس المهاد)(24).
3ـ البخل: أهل الحجاز يقولونها بضمتين (البُخُل) ولغة تميم: (البُخْل) بإسكان الخاء، وقد جاء بها التنزيل: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)(25).
4ـ برئ: أهل الحجاز يقولون برئت من المرض بَرءاً بالفتح وأنا منه براء بفتح الباء وتميم ونجد وسائر العرب يقولون برئت من المرض بُرءاً بضم الباء وأنا منه بريء.
وجاءت اللغتان في القرآن الكريم، جاءت لغة تميم (بريء) (12) مرة. ومنها قوله تعالى: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(26) وجاءت لغة الحجاز مرة واحدة في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)(27).
5ـ بشَّرَ: تميم تقول: بشَّر يبشَّر بالتشديد، وكنانة تقول: بشَر يبشر من غير تشديد وجاء التنزيل موافقاً لتميم كقوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ)(28) وجاءت هي ومشتقاتها (30) مرة.
6ـ أسوة: تميم وبعض قيس يقولون: أُسوة بضم الألف وأهل الحجاز وأسد يقولون إِسوة بكسر الألف (لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(29).
7ـ جنبني ـ أجنُبني: أهل الحجاز يقولون: جنبني، وأهل نجد: أجنُبني، وبه جاء التنزيل (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)(30).
8ـ الحصاد: مصدر حصد وهو بفتح الحاء في لغة نجد وتميم وبكسرها لغة أهل الحجاز وجاء القرآن متفقاً مع تميم، قال تعالى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)(31).
9ـ يستحي: أهل الحجاز يقولونها بيائين وعامة العرب وبنو تميم يقولونها بياء واحدة وعليه جاء التنزيل: (إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)(32).
10ـ الدنيا: قال أبو بكر السراج في المقصور والممدود: الدنيا مؤنثة مقصورة وتكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو فيقولون دنوى مثل شروى، وعلى ما يوافق لغة تميم جاء التنزيل كقوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(33).
11ـ صعَّر: مشددة العين هي لغة بني تميم وبها جاء القرآن الكريم: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ)(34). أما لغة أهل الحجاز فهي (صاعر).
12ـ الضعف: بفتح الضاد لغة تميم وبها جاء التنزيل (الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)(35)، وقريش ينطقونها بالضم (ضُعف).
13ـ العُذْر: لغة تميم بإسكان الذال على التخفيف وبها جاء التنزيل، قال تعالى: (فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا)(36).
14ـ نعم: أصله نَعِم وبه تقول قريش وهو فعل للمدح، وتميم تقول: نِعْمَ بكسر الفاء وإسكان العين وعنهم أخذته العرب. جاء في القرآن (18) مرة على لغة تميم منها: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)(37).
15ـ ميسَرة: أهل الحجاز يقولون (ميسُرة) بضم السين، وتميم وأهل نجد يقولون (ميسَرة) بفتح السين وبها جاء التنزيل: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)(38).
16ـ أهل الحجاز يجمعون (أسير) على أسارى وتميم تجمعه على أسرى وكلا اللغتين جاءت في القرآن الكريم فلغة قريش جاءت في قوله تعالى: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ…)(39)، ولغة تميم جاءت مرتين أحداهما (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى)(40) والثانية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى)(41).
17ـ بقَر: أهل الحجاز يؤنثون فيقولون هذه بقر وكذلك كل جمع كان واحده الهاء وجمعه بطرح الهاء من نحو: نخل، ونحل، ونمل. أما تميم وأهل نجد فيذكرون، قال تعالى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا)(42).
18ـ النخل: جاء في القرآن مذكراً على لغة تميم في قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)(43). وجاء مؤنثاً على لغة أهل الحجاز في قوله تعالى: (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَام)(44).
19ـ وكذلك الطريق، وجاء في التنزيل أيضاً موافقاً لتميم في قوله تعالى: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(45).
20ـ وتميم وسائر العرب يقولون هو الذهب فيذكرون وأهل الحجاز يقولون هي الذهب فيؤنثون، قال تعالى: (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ)(46).
21ـ أما تحقيق الهمز فسنأخذ له الأمثلة الآتية:
رأس: تميم تقول بالهمز وأهل الحجاز يخففون، فيقون راس، (قَالَ يَا ابْن أُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي)(47).
22ـ مستهزئون: ترك الهمزة لغة قريش وعامة غطفان وكنانة بعضهم يجعلها بمنزلة يستقصون ويستعدون بحذفها. والقرآن بإثباتها على لغة تميم (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)(48).
23ـ سأل: سال ـ يسال ـ سل بغير همزة لغة قريش وأهل الحجاز، وبنو تميم: سأل ـ يسأل ـ اسأل، وجاءت على لغة قريش مرتين (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ…)(49)، و(سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ)(50).
وجاءت هي ومشتقاتها على لغة تميم (132) مرة منها: (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)(51).
24ـ الصراط: أهل الحجاز يقولون: السراط بالسين ويؤنثون وبنو تميم يقولون صراط بالصاد ويذكرون وبها جاء التنزيل: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(52).
25ـ سرابيل: القمص بلغة تميم وبلغة كنانة الدروع وجاءت اللغتان في آية واحدة وهي قوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)(53)، الأولى بلغة تميم، وسرابيل الثانية بلغة كنانة.
26ـ خرص: يخرص: كذِب بلغة تميم قال تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(54) جاءت أربع مرات.
27ـ خشع: في لغة تميم اقشعر، قال تعالى: (أَلَمْ يَئْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله)(55).
28ـ الأمة: النسيان بلغة تميم وقيس عيلان (وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)(56).
29ـ آسن: نتن بلغة تميم قال تعالى: (مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ)(57).
30ـ البغي: الحسد بلغة تميم ومنه قوله تعالى: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)(58).
31ـ يحسَب: بفتح السين عند تميم وعند غيرهم بالكسر (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)(60).
32ـ جنح: يجنح من باب فتح عند تميم، وعند قريش بضم النون في المضارع، وجاء القرآن على لغة تميم: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)(60).
33ـ تميم تقول: عرض: من باب ضرب، وبها جاء القرآن: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ)(61)، وقريش تقول: عرِض من باب عِلم.
34ـ الصدفين: قال أبو عبيدة الجبلين بلغة تميم(62) قال تعالى: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ…)(63).
35ـ أهل الحجاز يقولون: لات الشيء يَلِيته إذا أنقصه حقه، وتميم الاته يليته، واللغتان في القرآن، فمن الأولى قوله تعالى: (لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا)(64)، وفي الثانية قوله تعالى: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)(65).
36ـ الحجاز: أيهات، وتميم هيهات، وجاءت في القرآن على لغة تميم في قوله تعالى (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)(66).
وهناك ثلاث كلمات وإن لم أجد من نسبها إلى تميم، لكن أغلب الظن أنها من لغتهم لأنها من لغة البصرة، ومنطقة البصرة تقع ضمن الرقعة الجغرافية التي تفترشها مضارب تميم والتي تمتد من نجد إلى الغري في بلاد الكوفة والى البصرة واليمامة فقطر فعمان، وهذه الكلمات(67):
أ ـ أهل مكة يسمون القدر برمة، وأهل البصرة يسمونها قدراً وهي موافقة للغة القرآن، قال تعالى: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)(68).
ب ـ أهل مكة يسمون البيت إذا كان فوق البيت عليّة، على حين يسميها أهل البصرة غرفة، وهي توافق ما في القرآن: (غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ)(69).
ج ـ يسمي أهل مكة الطلع الكافور والاغريض ويسميه أهل البصرة (الطلع) وجاءت لغة القرآن موافقة للغة أهل البصرة: (وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ)(70).
أما في القواعد النحوية فلغة القرآن تميل إلى لغة الحجاز، فالفروق النحوية القليلة بين اللغتين لم يظهر من لغة تميم في القرآن الكريم منها شيء، وأخذ القرآن بلغة الحجاز في (ما) النافية وعاملها معاملة (ليس) في نصب الخبر، ولهذا سميت (ما) الحجازية وجاء ذلك واضحاً في ثلاث آيات في قوله تعالى: (مَا هَذَا بَشَرًا)(71) و(مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)(72) و(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(73).
أما تميم فيعاملونها معاملة (هل) غير العاملة.
وكذلك أخذ بلغة الحجاز في (هلمّ) الذي (أجراه الحجازيون مجرى: صه، ومه، ورويد،… وتميم يلحقونها علم التثنية والتأنيث والجمع)(74). وجاء القرآن على لغة الحجاز، قال تعالى: (…وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا)(75).
وأخذ القرآن أيضاً بلغة الحجاز وغيرهم في الاستثناء المنقطع (فإنه عند جميع العرب بالنصب إلا عند بني تميم فإنه يتبعون في المنقطع المنفي)، قال شاعرهم:
وبلدة ليـــــــس بهــــا أنيس
إلا اليعـــافير وإلا العيس
فقد جاء في القرآن: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)(76).
الآن وقد شارف البحث إلى نهايته فقد اتضحت لنا الحقائق الآتية:
1ـ القول بأن القرآن نزل بلهجة مكة المجردة من الإعراب كان قولاً استعمارياً بغيضاً هدفه النيل من معجزة الإسلام الخالد (القرآن الكريم) وقد قبر في مهده والحمد لله.
2ـ القول بأن القرآن نزل بلغة الحجاز أو لغة قريش وحدها أصبح رأياً تجاوزه الدرس اللغوي المعاصر على الرغم من كثرة القائلين به.
3ـ إن ما توصل إليه المحققون من الباحثين في اللغة العربية هو أن لغة القرآن لا تعكس لغة بعينها وإنما تعكس اللغة العربية الفصيحة المشتركة بين القبائل والتي هي مزيج من لغات القبائل العربية المختلفة والتي تعكس خصائص تلك اللغات.
4ـ أن لغة تميم احتلت من القرآن مكاناً بارزاً يأتي بعد قريش مباشرة.
5ـ أن النحو القرآني يميل إلى الأخذ بالقواعد النحوية الحجازية ويبتعد عن قواعد تميم النحوية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نشرت في العدد 18
(1) سورة الشعراء، الآية: 93ـ95.
(2) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، محمد باقر الحكيم، ص48.
(3) دراسات في فقه اللغة العربية، د. صبحي الصالح، ص113.
(4) يلاحظ رأيه ورأي فولرز أيضاً في (علم اللغة العربية)، د. محمود فهمي الحجازي، ص237.
(5) ذكر د. إبراهيم السامرائي في اللغة بين أمسها وحاضرها آراء عدد كبير من الأقدمين وما شايعهم من المحدثين، ص53ـ54.
(6) الأصول، د. تمام حسان، ص74، ويناقش بأدلة موضوعية هذا الإدعاء ويفنده.
(7) اللهجات العربية في القراءات القرآنية، د. عبده الدراجي.
(8) نفس المصدر والصفحة.
(9) ظواهر لغوية في المسيرة التاريخية للغة العربية، د. عبد العال سالم مكرم، ص45.
(10) التطور اللغوي التاريخي، إبراهيم السامرائي، ص62.
(11) ملامح من تاريخ اللغة العربية، د. أحمد نصيف الجنابي، ص23ـ24.
(12) البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، ص130.
(13) المصدر نفسه، ص118.
(14) الدراسات اللهجية والصوتية، د. حسام سعيد النعيمي، ص218.
(15) سورة هود، الآية: 41.
(16) علم اللغة العربية، د. محمود حجازي، ص236ـ237، دراسات في فقه اللغة العربية، د. صبحي الصالح، ص72.
(17) اللغة عبر العصور، حجازي، ص35.
(18) لهجة تميم وأثرها في اللغة الموحدة، غالب فاضل المطلبي، ص48.
(19) اللغة العربية عبر العصور، د. محمود حجازي.
(20) سورة الفتح، الآية: 10.
(21) أكثر هذه الألفاظ أخذتها من بحث للأستاذ غالب فاضل المطلبي نشره في مجلة المورد التراثية، المجلد السابع، العدد الثالث، 1978م، بعنوان (معجم لهجة تميم).
(22) سورة البقرة، الآية: 116.
(23) سورة النور، الآية: 57.
(24) سورة البقرة، الآية: 206.
(25) سورة النساء، الآية: 37.
(26) سورة الأنعام، الآية: 78.
(27) سورة الأنعام، الآية: 6.
(28) سورة الصافات، الآية: 101.
(29) سورة الأحزاب، الآية: 33.
(30) سورة إبراهيم، الآية: 35.
(31) سورة الأنعام، الآية: 141.
(32) سورة البقرة، الآية: 26.
(33) سورة آل عمران، الآية: 185.
(34) سورة لقمان، الآية: 48.
(35) سورة الروم، الآية: 54.
(36) سورة الكهف، الآية: 76.
(37) سورة الصافات، الآية: 75.
(38) سورة البقرة، الآية: 280.
(39) سورة البقرة، الآية: 85.
(40) سورة الأنفال، الآية: 67.
(41) سورة الأنفال، الآية: 70.
(42) سورة البقرة، الآية: 70.
(43) سورة القمر، الآية: 20.
(44) سورة الرحمن، الآية: 11.
(45) سورة الأحقاف، الآية: 30.
(46) سورة آل عمران، الآية: 19.
(47) سورة طه، الآية: 94.
(48) سورة البقرة، الآية: 14.
(49) سورة البقرة، الآية: 211.
(50) سورة القلم، الآية: 40.
(51) سورة يوسف، الآية: 82.
(52) سورة الفاتحة، الآية: 6.
(53) سورة النحل، الآية: 81.
(54) سورة الأنعام، الآية: 116.
(55) سورة الحديد، الآية: 16.
(56) سورة يوسف، الآية: 45، هذه وما بعدها من كتاب (لهجة تميم وأثرها في العربية الموحدة)، غالب فاضل المطلبي.
(57) سورة محمد، الآية: 15.
(58) سورة البقرة، الآية: 213.
(59) سورة الهمزة، الآية: 3.
(60) سورة الأنفال، الآية: 61.
(61) سورة البقرة، الآية: 31.
(62) ظواهر لغوية من المسيرة التاريخية للغة العربية قبل الإسلام، د. عبد العال سالم مكرم، ص74.
(63) سورة الكهف، الآية: 96.
(64) سورة الحجرات، الآية: 14.
(65) سورة الطور الآية: 21، دراسات في فقه اللغة، د. صبحي الصالح، ص83.
(66) سورة المؤمنون، الآية: 36، المصدر نفسه، ص84.
(67) البيان والتبيين، الجاحظ، 1/17، طبعة دار الفكر للجميع.
(68) سورة سبأ، الآية: 13.
(69) سورة الزمر، الآية: 20.
(70) سورة الشعراء، الآية: 148.
(71) سورة يوسف، الآية: 31.
(72) سورة المجادلة، الآية: 2.
(73) سورة الحاقة، الآية: 49.
(74) الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني، د. حسام سعيد النعيمي، ص143.
(75) سورة الأنعام، الآية: 15.
(76) سورة النساء، الآية: 157، دراسات في قواعد اللغة العربية، الشيخ عبد المهدي مطر، 2/60.