بعد أن تطرقت في العدد (14) من مجلة (ينابيع) إلى فكرة إعجاز القرآن، وتناولت فيها جذور نشأتها منذ أن كانت في مهدها ثم نمت وتطورت بجهود المخلصين من علماء الإسلام ممن عرف عنهم رعايته لعلوم القرآن، وهاأنذا اليوم أواصل الحديث عن تأصيل هذه الفكرة إتماماً للفائدة.
لقد بدأت مرحلة التأصيل هذه عند ظهور أول كتاب يتناول هذه المسألة على وجه الإفراد، مع بزوغ فجر القرن الرابع الهجري.
ولعل أول من تصدى لشرح الإعجاز وبسط القول فيه هو أبو عبد الله بن يزيد الواسطي (ت306هـ) في كتابه (إعجاز القرآن) بيد أنه فقد ولم يصل إلينا(1)، وقد شرحه عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) شرحاً كبيراً سماه (المعتضد) وآخر أصغر منه(2)، ولا يبعد أن يكون الواسطي قد استفاد من كتاب الجاحظ (ت 255هـ) (نظم القرآن) ونبّه عليه حين صنف كتابه هذا.
ثم تصدى لهذه المسألة علماء آخرون منهم أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت386هـ)، فألف رسالته (النكت في إعجاز القرآن)، ففصل القول في الإعجاز وجعل وجوهه تظهر في سبع جهات: ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقلة، ونقض العادة، وقياسه بكل معجزة.
بيد أنه أكد مسألة البلاغة في إعجاز القرآن وجعلها في ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة، فأعلاها طبقة في الحسن، بلاغة القرآن، وفصل فيها وأجاد، فيما اختصر الرماني في الوجوه الأخرى في الإعجاز(3)، وكأنه يريد أن يقول بأن نظم القرآن وبلاغته أجلى الوجوه وأنصعها في بيان إعجاز القرآن وتحديه للعرب، أي أن التحدي يكون من جنس ما اشتهروا به، وهو البيان.
فيما عرض أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي (ت388هـ) مسألة إعجاز القرآن هذه، وكان متردداً في وجه الإعجاز وذلك لأنه لم يصدر بعد، إذ قال: (قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم بعد صدروا عن رأي، وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن)(4).