إن المطّلع على التاريخ الإسلامي منذ بدء نشوئه بعد الدعوة الإسلامية ونجاحها وقيام أول دولة إسلامية على يدي الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، وما تبع ذلك بعد وفاته وحتى قيام الإمام الحسين (عليه السلام) بنهضته المباركة، يرى أن مشاركة المرأة في الدعوة والجهاد تعد مشاركة متواضعة وبسيطة ما عدا المشاركة العظيمة والفعالة في مساهمة السيدة خديجة (عليها السلام) في دعم وإسناد الرسالة والرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بمالها، والذي كان له الأثر الكبير في دعم الرسالة وإسنادها وإنجاحها أيضاً.
حيث يصرح بذلك الرسول(صلى الله عليه وآله):
(ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب(عليه السلام))(1)، وبناء عليه نرى أن السيدة زينب (عليها السلام) بموقفها من واقعة الطف وما بعدها تعد الرائدة في هذا المجال، خصوصاً بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأخذها لدورها الكامل بإكمال الصفحة الثانية،
أو البدء بها في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن ضحى بدمه الطاهر هو ومن معه معلناً نهاية الصفحة أو المرحلة الأولى من المعركة وليس نهاية المعركة كما كان يظن وكما كان معروفاً ومشهوراً في المعارك التي سبقت معركة كربلاء المقدسة وهي عندما تحط الحرب أوزارها. ينتهي كل شيء وتعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل وقوع تلك المعركة.
الأهداف:
لقد رسم الإمام الحسين (عليه السلام) لنهضته الخالدة مساراً واضحاً من البداية حين خروجه من داره في المدينة، ولم ينتهِ هذا المخطط في كربلاء بعد استشهاده، والذي كان عليماً كما كان به عارفاً بمصيره بل إن المسار كان سيستمر والأهداف ـ وإن تأخر قطاف ثمارها ـ، فإنها سوف تتحقق على يدي من يأتي بعده من غير أي تأخير فإن الدم سيكون النهاية والبداية وذلك باستلام السيدة زينب (عليها السلام) زمام المرحلة القادمة.
بدأت السيدة زينب(عليها السلام) بلملمة جراحها وآلامها بصبر وجَلَد لا نظير لهما، حيث فقدت ثلة من الأهل والأخوة ثم ثكل المصاب باستشهاد الحسين (عليه السلام)، ذلك الصبر والجلد ورباطة الجأش التي لم يسبق أن اتصفت بها امرأة أو تصدرت لها في الماضي، بل يصعب حتى على الرجال ذلك لأن المصاب كبير وخسارة الأهل فادحة.
ما إن بدأ المسير بركب السبايا من كربلاء إلى الكوفة، وهو المحطة الأولى حتى بدأت السيدة زينب (عليها السلام) بفضح الطغمة الأموية الفاسدة، وكذلك أصابع النار التي قتل بها يزيد اللعين الإمام الحسين (عليه السلام) عمر بن سعد وعبيد الله بن زياد وجنودهما لعنهم الله وأخزاهم، حيث تحدثت السيدة الجريحة المكلومة إلى الناس (أهل الكوفة)
وذكرتهم إلى ما وصلوا إليه من خلافهم للوعود التي قطعوها للإمام الحسين (عليه السلام) من خلال رسائلهم الكثيرة له (عليه السلام) أن أقدم علينا، تجدنا جنوداً مجنّدة من أجل حرب يزيد والقضاء على الحكم الأموي الفاسد. وهي حديثة عهد بفراق الكوفيين، فأبوها الإمام علي (عليه السلام) كان قبل وقت قصير خليفتهم وقائدهم،
رأوا فيه الصدق والعدالة التي لم يروها في خليفة سابق أو لاحق، وبعد رحيل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الرفيق الأعلى بعد قتله غدراً بسيف المرادي. وكيف أنهم خذلوا الحسين(عليه السلام) بمجرد أن جاء سفيره مسلم بن عقيل(عليه السلام) وكيف أنهم تحولوا من أتباع إلى أعداء يطاردون مسلمًا من زقاق إلى زقاق ومن دار إلى دار ليسلموه بيد الطغمة الفاسدة الحاكمة.
وهكذا فضحت زينب (عليها السلام) أهل الكوفة من الذين خذلوا الحسين (عليه السلام) والذين كان من المفروض أن يكونوا أقرب الناس إلى أهل البيت(عليهم السلام) للأسباب التي ذكرناها وإذا بهم هم الغادرون وهم الجاهلون وهم الذين ردّوا ما أحسن به عليهم الإمام علي (عليه السلام) بأن غدروا بابنه الإمام الحسين (عليه السلام) فأي وضع بلغوه وأي فساد وصلوا إليه وأي دين بقي لهم وهم الساكتون والخائنون عن نصرة الحسين (عليه السلام)؟ وتداعيهم وتسابقهم للوقوف في معسكر الطغاة والفاسقين حتى وصل الجهل والسفه والكفر ببعضهم بأن يرموا السهام على معسكر الحسين (عليه السلام) ويطلبوا الشهادة لدى أميرهم بأنهم أول من رمى الحسين (عليه السلام) بالسهام، أو أن يحمل بعضهم ممثلاً لنفسه أو عشيرته رأساً من رؤوس الآل والأصحاب ليتقرب بها إلى يزيد (لعنه الله).
فأين وصل حب الدنيا بهؤلاء.. وأين وصايا الرسول(صلى الله عليه وآله) بمودة العترة من أهل بيته(عليهم السلام) وحب الناس لهم؟.
القطاف:
حين توجه جيش الطاغية يزيد (لعنه الله) نحو الشام يحدو بركب النساء الثكالى والأيتام من الأطفال والإمام زين العابدين (عليه السلام) وكذلك السيدة زينب(عليها السلام) وكذلك الرؤوس، من بلد إلى بلد، بدأت السيدة زينب(عليها السلام) مرحلة جديدة من كشف زيف السلطة الغاشمة المتمثلة بيزيد وأتباعه (لعنهم الله) عبر طريق طويل شاق وصعب،
وكذلك الكشف عن جريمة تخلّف الأمة عن نصرة الإمام الحسين(عليه السلام) وإشعارهم بالذنب، الشعور الذي فجّر في ما بعد الثورات العديدة الآخذة بثأر الحسين(عليه السلام) كثورة التوابين وثورة المختار وثورة زيد الشهيد وغيرها، والتي كانت لزينب(عليها السلام) الفضل في خلق الشرارة الأولى (الإحساس بالذنب).
حيث إن جريمة التخلّف عن النصرة ما هو إلا تحصيل حاصل مما ابتليت به الأمة من فساد وجهل وانحراف، كانت نتيجته أن يضحي الإمام الحسين(عليه السلام) بدمه الشريف كي تصحو هذه الأمة من غفلتها وسباتها لكي تعيد وضع أقدامها من جديد على الطريق الذي خطه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) والذي ابتعد عنه من جاء بعده من الحكام الذين انحرفوا بالدين ومنهجه القويم وعادوا به إلى الجاهلية الأولى حتى وصل إلى ما وصل إليه في زمن الإمام الحسين(عليه السلام).
وحين وصل الركب العلوي أخيراً إلى الشام استمرت السيدة زينب (عليها السلام) بالتعريف بالثورة وأهدافها وكذلك بالأسرى من سبايا أهل البيت(عليهم السلام) حيث إن الإعلام الأموي الضال والمضلِّل، قد أوهم الشاميين بأن الثائرين كانوا من الخوارج ولا علاقة لهم بالإسلام. وبهذا فضحت هذه الكذبة الكبيرة وانقلب السحر على الساحر واستطاعت تعبئة أهل الشام وإسقاط شرعية يزيد المفتلعة وغير الشرعية أصلاً.
حينها حان وقت القطاف، فوقفت في قصر يزيد وخطبت خطبة رائعة لا مجال لذكرها في هذه السطور.
وبهذه الخطبة أسقطت يزيد بشر أعماله وفضحته أيما فضيحة، وكشفت كل أركان كيانه الفاسد والممتد عبر السلسلة السوداء التي أوصلته إلى السلطة وهو المعاقر للخمر اللاعب بالكلاب والقردة المملوء قصره بالراقصات والمغنيات.
لقد كانت السيدة زينب سفيرة فوق العادة (إن صح التعبير)، استطاعت أن تحمل النهضة الحسينية وتوصلها إلى شوطها الأخير حسب ما كان مخططًا لها.. قارعت الظلم والظلمة ووضعت الأمة أمام خيارها الصعب العودة إلى دين محمد(صلى الله عليه وآله) ولو بالتضحيات الجسام كما فعل أخوها الحسين(عليه السلام)، وهو استحقاق ما كان ليدفعه الحسين لولا فساد الأمة وتركها لدينها الصحيح واللهاث وراء الدينار والدرهم .
———————————————————
(1) شجرة طوبى/الشيخ محمد مهدي الحائري/ج2ص233.