خليل إبراهيم المشايخي
قسم الشؤون الفكرية والثقافية
الروضة الحيدرية المقدسة
هو أبو المهدي صالح بن حمزة الشهير الكوّاز، عربي المحتد يرجع أصله إلى قبيلة (الخضيرات) إحدى عشائر شمر المعروفة في نجد والعراق(1).
ولادته ونشأته
ولد في مدينة الحلة الفيحاء سنة 1233هـ/1817م، في إحدى محلاتها القديمة العريقة وهي محلة (التعيس) التي مازالت عامرة بأهلها، وكان الشيخ رحمه الله يقيم الجماعة في واحد من مساجد محلة (الجباويين) بالقرب من مرقد العلامة طيب الله ثراه (أبي الفضائل ابن طاووس) وكان موضع احترام الناس وثقتهم(2).
كان والده الشيخ حمزة يبيع أباريق الفخار والجرار وغيرها من الأواني الفخارية والخزفية، فأخذ هذه
المهنة عن والده هو وأخوه الأصغر منه الشيخ (حمادي)(3)، وراحت هذه العائلة تتناقل هذه المهنة حتى نهاية القرن الماضي.
وكان أخوه (الشيخ) حمادي شاعراً فذاً على الرغم من كونه أمياً، فكان ينظم الشعر نحتاً من قلبه(4)، فجاء شعره متميزاً برقته وانسجام تراكيبه وبحلته البديعية النفسية(5)، قال في طفل له توفي ودفن في (مشهد الشمس) مقام الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) الذي ردت له فيه الشمس بعد رجوعه من احدى معاركه مع جيشه(6):
ليهن محاني مشهد الشمس أنه
ثوى بدر أنسي عنده بثرى القبر
وكان قديماً مشهد الشمس وحدها
فأضحى حديثاً مشهد الشمس والبدر(7)
ويختلف الشيخ صالح عن أخيه في كونه لم يكن أمياً فقد درس النحو والصرف وعلم المعاني والبيان والمنطق على جماعة من أفاضل أهل الحلة(8).
ولد الشيخ فقيراً وعاش ومات فقيراً على الرغم من أنه كان من خيرة شعراء العراق البارزين في القرن
التاسع عشر، لأنه لم يتكسب بشعره، ولم يجعله وسيلة للارتزاق لأنه (يأنف
من التكسب بالشعر كل الأنفة ويترفع عنه كل الترفع فلا يمدح إلا تقديراً للعلم وتكريماً للفضل والأدب وتوثيقاً لعرى الولاء والصداقة)(9).
ويمكن أن نستدل على ذلك مما رواه عنه الشيخ علي عوض الأديب والشاعر الذي عاصره وكتب سيرة حياته وأرسلها إلى الشيخ علي كاشف الغطاء ليجعلها ضمن كتابه الشهير (الحصون المنيعة)(10).
وملخص الحكاية: أنه طلب إليه واحد من ذوي الجاه والسلطة الرسمية في الحلة أن ينظم له أبياتاً في رثاء أبيه، يؤرخ فيها عام وفاته لتنقش على صخرة تبنى على ضريحه في مقبرة (مشهد الشمس) وبذل له على ذلك بتوسط أحد أصدقائه ما يقارب (40) ليرة عثمانية (وكان مبلغاً لا يستهان به يوم ذاك)، فامتنع وأبى مع شدة حاجته وعظيم فاقته)(11).
لم يثنه كبر سنه عن مواصلة تعليمه والتزود بالعلم والمعرفة، فكان يظهر ذلك في بعض أشعاره من ذلك قوله في النحو:
شاركتها بعموم الجنس وافترقت
عنهن فيما يخص النوع من نسب
من نوادر ما يحكى عن ثقافته النحوية وشاعريته:
1ـ خطأه أحد النحاة ذات يوم في شيء مما قاله في شعره، فقال له الشيخ: لا أستطيع أن أناقشك فيما تقول، ولكن ارجع إلى كتابك ستجد أنك على خطأ وإني على صواب، وبعدها تأكد للنحوي صحة رأي الشيخ صالح عند مراجعته إلى مصادره المعتمدة واعترف بصحة ما قاله الشيخ(13).
2ـ ومن نوادره: أنه كان جالساً في نادي أحد زعماء (الشمرت) من الذين نفتهم الحكومة التركية من النجف إلى الحلة في سنة (1285هـ) بعد مقتل (السيد رضا الرفيعي)(14)، واتفق قدوم الشاعر عبد الغفار الأخرس البغدادي إلى الحلة وحضوره إلى النادي، وما أن دخل حتى قال لصاحب النادي: أرني كوازكم الذي يقول:
أخرست أخرس بغداد وناطقها
وما تركت (لباقي) الشعر من باقي
(وهنا تعرض للأخرس وللشاعر عبد الباقي العمري…).
فقال له صاحبه ها هو ذا جليسك، فلما رأى هيأته أصغره وأعرض عنه، فقال له صاحبه: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه!… فانبرى الشيخ صالح قائلاً:
فلو أن لبسي قدر نفسي لأصبحت
تحاك ثيابي من جناح الملائك
ولو كان فيما أستحق مجالسي
نصبن على هام السماك أرائكي
3ـ ومن نوادره أيضاً: أنه ذهب إلى بغداد وقصد دار عبد الباقي العمري الشاعر المعروف صاحب القصائد الخالدات في حق أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلم يجده في داره وإنما وجده في مكان آخر مشرف على نهر دجلة ولم يكن برفقته إلا شاب وسيم ساق اسمه (مالك)، فلم يرحب به العمري الترحيب اللائق لأنه كان رث الثياب غير معتن بمظهره كما هو معروف عنه كما أنه لا يعرفه مسبقاً… ثم طلب عبد الباقي ماءً فأتاه (مالك) بإناء من بلور فيه ماء دجلة، فقال العمري ارتجالاً:
ونديم قلت ما الاســ
ــــــم؟ اجبني قال: مالك
وراح العمري يردده حتى ظهر عجزه عن اكماله، فبادر الشيخ صالح قائلاً وعلى الروي نفسه:
قلت صف لي حسنك الزا
هي وصف لي اعتدالك
قال كالبدر وكالغصـــ
ــن ومــــــــا أشبــــــــــه ذلك
فقام إليه العمري وعانقه وقال له أشهد أنك الكواز ورحب به واعتذر منه(16).
ديوانـه
جمع الشيخ صالح المختار من شعره وشعر أخيه الشيخ حمادي في ديوان سماه (الفرقدان) لكنه فقد بعد وفاته، وقيل أن ولده عبد الله جمع مختارات من شعر والده في ديوان، وفقد أيضاً…
وقد استطاع الأديب الباحث الشيخ محمد علي اليعقوبي رحمه الله جمع ما تيسر جمعه من بقية شعر صالح الكواز من المصادر والمجاميع المخطوطة، فأصبح ما جمعه من ذلك ديواناً لا يقل عن ألفي بيت…(17).
ما قيل فيه وفي شعره
1ـ قال الشاعر السيد حيدر الحلي: كان الشيخ صالح الكواز (أطول الشعراء باعاً في الشعر وأثقبهم فكراً في انتقاد لآلي النظم والنثر…)(18). ونستشف من هذا القول أن الشيخ لم يكن شاعراً فحسب بل كان معروفاً بحسه النقدي وآرائه النقدية المتميزة، حتى عد من نقاد عصره في مجال الأدب والشعر.
2ـ وقال عنه شاعر كربلاء الحاج (جواد بذقت) وكان معاصراً له حينما سئل عن أشعر من رثى الحسين عليه السلام فقال أشعرهم من شبه الحسين عليه السلام بنبيين من أولي العزم في بيت واحد، فقال:
كأن جسمك موسى مذ هوى صعقاً
وأن رأسك روح الله مذ رفعا(19)
3ـ وقال عنه الدكتور (محمد مهدي البصير): (أنه جمع نفاذ البصيرة إلى جودة السليقة، وعمق التفكير إلى صفاء الفطرة)(20).
وقال في موضع آخر: (يمتاز الشيخ صالح بدقة التفكير وطرافة النكتة وحسن التلميح إلى الوقائع التاريخية في شعره. أما أسلوبه فعلى جانب كبير من البراعة لفظ مختار وسبك محكم وتسلسل دقيق في المقاصد والأفكار)(21).
4ـ وقال عنه الشيخ محمد علي اليعقوبي: (يكاد يكون أمة وحده في الشعر القصصي ـ كل ذلك مع رصانة في التركيب ورقة في الألفاظ ودقة في المعاني وإبداع في التصوير… ولو أن قصائده في أهل البيت خاصة [كذا] شرحت شرحاً وجيزاً غير مطول لكانت وحدها مجلداً ضخماً من أنفس كتب الأدب وأوعى كتب التاريخ…)(22).
5ـ وقال الشيخ يوسف كركوش في شعره: (يتسم شعره برصانة التركيب وعذوبة الألفاظ، ودقة المعاني، والإبداع في التصوير هذا إلى جانب تلويحه أو تصريحه إلى عبر تاريخية أو قصص نبوية أو أمثال سائرة أو اصطلاحات علمية يربطها بالغرض المقصود له ربطاً محكماً يدل على قوة ملاحظة وسعة خيال…)(23).
نماذج من شعره
مما قاله في رثاء سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام):
باسم الحسين دعا نعاء نعاء
فنعى الحياة لسائر الأحياء
وقضى الهلاك على النفوس وإنما
بقيت ليبقى الحزن في الأحشاء
يوماً به الأحزان مازجت الحشى
مثل امتزاج الماء بالصهواء
لم أنس إذ ترك المدينة وارداً
لا ماء مدين بل نجيع دماء
قد كان موسى والمنية إذ دنت
جاءته ماشيةً على استحياء
وله تجلى الله جل جلاله
من طور وادي الطف لا سيناء(24)
وله في مدح آل البيت(عليهم السلام) قصيدة بديعة منها قوله:
نبذتهم الهيجاء فوق تلاعها
كالنون ينبذ في العرا (ذا النون)
فتخال كلاً ثم (يونس) فوقه
شجر القنا بدلاً عن (اليقطين)(26)
ومن فصاحته وجودة تركيبه قوله:
حباني بأنواع الشراب تكرماً
فوالله ما أثرت خمراً على اللمى
وما الخمر إلا مقلتاه وريقه
أعند وجود الماء أبغي التيمما(27)
ومن براعة تصويره قوله:
وربت ظبية من آل موسى
أرتنا باللحاظ عصا أبيها
وغرتها تفوق سنا الدراري
كأن يمينه البيضاء فيها(28)
وفـــاته
وافاه الأجل سنة (1290هـ/1873م)، وحمل جثمانه إلى النجف الأشرف، ودفن في وادي السلام.
رثاه زميله الشاعر السيد حيدر الحلي بقصيدة مطلعها:
كل يوم يسومني الدهر ثكلا
ويريني الخطوب شكلاً فشكلا
ومنها:
قد لعمري أفنيت عمرك نسكا
وشحنت الزمان فرضاً ونفلا
وطويت الزمان صبراً عليها
فتساوت عليك حزناً وسهلا(29)
ورثاه أيضاً الشاعر محمد الملا بقصيدة منها:
قالوا: تعز، فقلت: أين عزائي
والبين أصمى سهمه أحشائي؟!
أودى أبو المهدي فانبعثت به
منا الدمـوع مشوبة بدماء(30).
نشرت في العدد 17
(1) البابليات، محمد علي اليعقوبي، 1/87.
(2) المصدر نفسه.
(3) نهضة العراق الأدبية، د. محمد مهدي البصير، ص393.
(4) البابليات، 1/87.
(5) سوانح، د. محمد مهدي البصير، 1/46.
(6) فقهاء الفيحاء، السيد هادي كمال الدين، صفحات متفرقة.
(7) تاريخ الحلة، الشيخ يوسف كركوش، 2/167.
(8) تاريخ الحلة، 2/167.
(9) نهضة العراق الأدبية، ص393.
(10) شعراء الحلة السيفية، عبد الرضا عوض، ص58.
(10) البابليات، ص90.
(11) المصدر نفسه، ص91.
(12) تاريخ الحلة، 2/168.
(13) البابليات، 1/91.
(14) المصدر نفسه.
(15) تاريخ الحلة، 2/169.
(16) البابليات، 1/92.
(17) دمية القصر، السيد حيدر الحلي، ص140.
(18) البابليات: 1/92.
(19) السوانح، 1/44.
(20) نهضة العراق الأدبية، ص395.
(21) البابليات، 1/91.
(22) تاريخ الحلة، 2/169.
(23) ديوان الشيخ صالح الكواز، تحقيق محمد علي اليعقوبي.
(24) المصدر نفسه.
(25) المصدر نفسه.
(26) سوانح، 1/45.
(27) تاريخ الحلة، 2/169.
(28) البابليات، 1/92.
(29) تاريخ الحلة، 2/170.
(30) المصدر نفسه.