Take a fresh look at your lifestyle.

حركية ألفاظ العقل في القرآن الكريم

0 2٬000

        أما بعد….

              للعقل في دين الإسلام منزلة سامقة لن تبلغها أية موهبة أخرى من مواهب الإنسان.

            فالعقل هو المفزع في تمييز الخير والشر، وتبيين الحق من الباطل. والعقل هو سر التفاضل في درجات بني البشر، فهو الملاك في استيجاب المنزلة والكرامة في الدنيا، وهو المدار في استحقاق المثوبة أو العقوبة في الأخرة.

            وإن القارئ للقرآن الكريم يجد أن لفظ (عقل) لم يرد فيه اسم ولا مصدر ولا مشتق ولا فعل أمر، ويلحظ أن مشتقات لفظ (عقل) وردت في القرآن الكريم بصيغة الفعل الماضي (عقل) والفعل المضارع (يعقل) بصيغتي المفرد والجمع، فورد الفعل الماضي (عقل) في آية واحدة في قوله تعالى: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(1)،

             وورد الفعل المضارع (يعقل) في ثمانٍ وأربعين آية، منها آية واحدة ذُكر فيها (نَعقِل)، في قوله تعالى:

            (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)(2)، وآية أخرى ذكرت فيها كلمة (يعقلها) وهي في قوله تعالى:
           (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(3)، واثنتان وعشرون آية ذُكرت فيها كلمة (يعقلون) وهي في قوله تعالى:

             (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ)(4)، وأربع وعشرون آية ذُكرت فيها كلمة (تعقلون) كما في قوله تعالى:
               (.. وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(5).

              واللافت للنظر أن هذه الألفاظ بعضها ورد مسبوقاً بالحث على العقل، أو الاستفهام أو الاستنكار أو النفي، هذا من جهة، كما نلحظ أيضاً أن القرآن الكريم لم يستعمل لفظ (العقل) بلفظه الاسمي المصدري، وإنما استعمل الفعل منه (يعقل)، وهو أمر يسترعي النظر والتفكير ويدل على أن القرآن لم يقصد مجرد العقل، بل المراد منه إعمال هذا العقل،

           يقول أستاذنا الدكتور رؤوف احمد الشمري: (وفي ذلك تنبيه إلهي بل تأكيد على أن للنفس الإنسانية قوى عديدة حرصت الآيات الكريمة على ذكر أهمها، وهي العاقلة التي بها تكتسب المعارف والعلوم وتُدرك الحقائق الكلية)(6)، وما يكون من ثمرات إعمال هذا العقل ومن أهمها الإيمان.

            أما الألفاظ الأخرى الدالة على العقل فهي: اللب، والحجى، والحجر، والنهى(7).. وغيرها. وسوف نتناولها تباعاً وعلى النحو التالي:

 

   أولاً: اللُب

أ:أولو الألباب: الألباب أي العقول، وهي جمع (لب)، وهو ما يقابل القشر فكأن القرآن يشير إلى أن الإنسان قسمان: قشر ولب، فالجسم هو القشر، والعقل هو: اللب.

           واللُبُ: هو العقل الخالص من الشوائب، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه، كاللباب، واللُبُ من الشيء وقيل هو ما زكى من العقل، فكل لُب عقلٌ وليس كل عقل لباً(9)،

             ونلحظ أن القرآن الكريم أشار إلى الأحكام التي لا يُدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب، نحو قوله تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ)(10)،

            يقول السيد الطباطبائي: (اللب هو العقل لأنه في الإنسان بمنزلة اللب من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن)(11).

             وقال محمد علي الحوزو بعد استعراضه الآيات التي وردت فيها مشتقات كلمة اللب ومعانيها: (إذا كان اللب في اللغة خالص كل شيء فيمكننا القول إنه في القرآن ذروة التفكير، ومناط الحكمة وأساس التمييز، وينبوع الإيمان والعلم واليقين، هو عقل متميز إذن، وليس عقلاً عادياً، بل هو عقل الصفوة من الناس، والنخبة من المفكرين، والذين وهبوا الحكمة)(12)، ثم يصف أولي الألباب بأنهم (أصحاب العقول الذكية من العلماء المؤمنين…)(13).

             وقد وردت كلمة (الألباب) – جمع لُب- في القرآن الكريم ست عشرة مرة، ومن أمثلته:

   أ . قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ..)(14).

            إن هذه القصص مرآة يستطيع من خلالها أن يُرى عوامل النصر والهزيمة، الهناء والحرمان، والسعادة والشقاء، العِز والذلة، والخلاصة كل ماله قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة، وهي مرآة لكل تجارب المجتمعات السابقة والرجال العظام، ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كل البشر،

            ولكن أُولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم أن يشاهدوا تلك العبر في صفحة المرآة العجيبة فما كان القرآن (حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ)(15).

              إذ إن الأمر محصور بطبيعة الحال بأصحاب العقول فمن (أسماء العقل اللب لأنه صفوة اللب وخلاصته)(16).

   ب. قال تعالى: (.. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ)(17).

             نلحظ أن الآية انتهت بالقول: إن أولي الألباب هم وحدهم من يدرك الفرق بين الجاهل والعالم، لأن الجاهل لا يدرك قيمة العلم! وفي الحقيقة إن كل مرحلة من مراحل العلم هي مقدمة لمرحلة أخرى.

            وقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع،أو مستمع واع)(18).

             ومن الملاحظ أن الآية المتقدمة تتحدث عن ثلاث مجموعات، هم العلماء والجهلة وأولو الألباب، وقد شخصهم الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) في حديث له، عندما قال(عليه السلام): (نحن الذين يعلمون، وعدّونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولو الألباب)(19).

   ج. قوله تعالى: (.. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الألْبَابِ)(20).

             نلحظ أن الرسوخ في العلم يكون سبباً في أن يزداد الإنسان معرفة بأسرار القرآن، ولاشك أن الذين رسخوا في العلم أكثر من غيرهم – كالنبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهُدى (عليهم السلام)- يعلمون جميع أسرار القرآن، بينما الآخرون يعلمون منها كل بقدر سعة علمه، وهذه الحقيقة هي التي تدفع الناس ـ وحتى العلماء منهم ـ ليتعلموا من المعلمين الإلهيين أسرار القرآن.

           وبهذا كانت إشارة الآية في ختامها إلى أن هذه الحقائق يعرفها المفكرون وحدهم. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي:

            (الألباب جمع لب، وهو العقل الزكي الخالص من الشوائب، وقد مدحهم الله تعالى مدحاً جميلاً في موارد من كلامه، وعرفهم بأنهم أهل الإيمان بالله والإنابة إليه واتباع أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائماً فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل وأهل الحكمة والمعرفة)(21).

   د. قال تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوْ الأَلْبَابِ)(22).

           إن أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكرونها، رغم أن جميع الناس ذوو عقول ـ عدا المجانين ـ فلا يوصفون جميعاً بأولي الألباب، بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقون طريقهم على ضوء نورها الساطع.

            يقول ابن عاشور: (من شاء الله إيتاءه الحكمة هو ذو اللب، وإن تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللب وقوته، واللب في الأصل خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنه أنفع شيء فيه)(23).

 

   ثانياً: النهي

             النهي ضد الأمر و(نهاه) عن كذا ينهاه (نهياً)، والنُهية بالضم واحدة (النُهى) وهي العقول لأنها تنهى عن القبيح(24).

          وقال أبو البقاء: (ومن أسماء العقل… النهى: لانتهاء الذكاء والمعرفة والنظر إليه وهو نهاية مايمنح العبد من الخير المؤدي إلى صلاح الدنيا والآخرة)(25).

             وقد وردت لفظة (النُهى) في القرآن الكريم مرتين، كلتاهما في سورة طه.

   أ. قال تعالى: (.. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى)(26).

            يقول السيد الطباطبائي: (النهى جمع نهية بالضم فالسكون: وهو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى)(27)، فهو سبب انتهاء المتحلي به عن كثير من الأعمال المفسدة.

            وفي الآية إشارة إلى أن كل تدبر وتفكر من أجل فهم أهمية هذه الآيات ليس كافياً، بل إن العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطلع على هذه الحقيقة وهي الانتفاع بالنعم التي أنعم الله بها على الإنسان.

   ب. قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى)(28).

              إن موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الأمور التي يؤكد عليها القرآن والأحاديث، لكن ما أكثر أولئك الذين لا يتأثرون بأية موعظة ولا يعتبرون بها، إلا أن رؤية أولي النهى هم أكثر الناس عبرة وعظة بالسابقين.

 

   ثالثاً: القلب

            ومن إطلاقات القلب العقل، وجمعه قلوب(29)، فيعبر به عن العقل(30)،

          قال ابن فارس: قلب: القاف واللام والباء أصلان صحيحان أحدهما يدل على خالص شيء وشريفه، والآخر على رد شيء من جهة إلى جهة، فالأول القلب: قلب الإنسان وغيره، سمي به لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه(31).

   ـ فالمعنى الأول للقلب: هو اللحم الصنوبري الذي يقوم بضخ الدم وجريانه في العروق وبتوقفه تتوقف الحياة، ولا علاقة واضحة لهذا القلب بالعواطف والأفكار والعقائد المتعلقة بالمعنى الثاني للقلب، وهذا القلب يشترك فيه الأموات والأحياء. حتى الدواب لها قلوب(32).

   ـ المعنى الثاني: الجوهر المجرد الذي ترتبط به إنسانية الإنسان، فهو عبارة أخرى عن النفس الإنسانية، ولذا تنسب إليه الأعمال النفسية من قبيل التعقل والإيمان والكفر والنفاق والهداية والرحمة والغفلة وغيرها من الحالات التي وردت في القرآن الكريم)(33) فهو مركز اتخاذ القرار وإدراك الأمور وهو مكان العقل في الإنسان، إذ أسند فعل العقل الى القلب ليدل على أنه محله(34)،

               ويبدو أن الطب الحديث يؤيد هذه الحقيقة عندما قال إن العقل ليس من وظائف الدماغ قطعاً(35).

              ولفظ القلب في القرآن الكريم ورد في مائة وأربعة وعشرين آية بصيغه المختلفة، وذلك لأهمية القلب، وقد استعمل القرآن لفظ القلب بمعنى (العقل) في الكثير منها، ومن ذلك:

   أ. قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(36). نلحظ في هذه الآية المباركة أنها نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب والعقل والأذنين، إشارة إلى أنه لا سبيل ثالثًا لأدراك الأشياء والحقائق.

             يقول السيد الطباطبائي: (لما كان المعنيان جميعاً ـ التعقل والسمع ـ في الحقيقة من شأن القلب أي النفس المدركة، فهو الذي بعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق عد إدراك القلب لذلك رؤية له ومشاهدة منه، ولذلك عد من لا يعقل ولا يسمع أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين..)(37).

   ب. قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(38).

               يقول السيد الطباطبائي: (القلب ما يعقل به الإنسان فيميز الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار، وإذا لم يعقل ولم يميز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده وعدمه سواء..)(39).

              وذكر الدامغاني: (إن القلب في القرآن يأتي على ثلاثة أوجه: العقل، والرأي، والقلب بعينه الذي في الصدر، فأحد هذه الوجوه القلب، يعني العقل..)(40).

            على أن كثيراً من المفسرين قد فسر القلب بالعقل، ومنهم ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لب يَعي به، وقال مجاهد: عقل(41). ومن العلماء من عرّف العقل بأنه نور في القلب يعرف الحق والباطل(ْ42).

           ويعلل الدكتور أحمد الوائلي(ت1424هـ) سبب استعمال لفظ القلب بمعنى العقل، بأنَّ العرب استعملت هذا اللفظ لهذا المسمى في كلامهم حيث قال: (إن القرآن الكريم أن يعبر بالقلب عن العقل لأنه يخاطب العرب حيث نزل بلغتهم وهم يعبرون عن العقل بالقلب)(43).

 

   رابعاً: الفؤاد

             في اللغة: هو القلب، وقيل غشاء القلب، والقلب حبته وسويداؤه، والجمع أفئدة(44).

            وورد لفظ الفؤاد مرادفاً للفظ القلب في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعاً(45)، وهو لا يقل في أهميته عن القلب في تعبيره عن العقل الواعي المدرك.

            والقرآن الكريم يتناول الفؤاد على أنه موئل الفكر، وجهاز الإدراك أيضاً، فيقول سبحانه: (.. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(46)،

               وقوله تعالى أيضاً: (.. كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)(47).

            فالقرآن الكريم حث على استخدام الفؤاد ـ بمعنى العقل ـ في مجال المعرفة وتحمل المسؤولية، ولهذا نجد الفؤاد مقروناً بالسمع والبصر في ستة مواطن من القرآن الكريم، وذلك لأن الدور الأساسي في المعرفة هو للعقل، ولا قيمة للتجربة الحسية بدونه ولهذا لا قيمة لقلب الحيوان لأنه بدون فقه وعقل ولأنه ليس فؤاداً.

            فالعقل هو الذي يقف وراء هذه الحواس ويجعل إحساساتها إدراكات ومعارف حقيقة و ينقلها من الغرائز والانعكاسات التي يشترك فيها سائر الحيوانات الأخرى التي زودت بمثل تلك الحواس)(48)، ينقلها إلى دائرة الإدراك، ويوجه القرآن الكريم الفؤاد ومعه الحواس كيلا تخوض في ما لا علم لها به، وذلك لأنها تتحمل المسؤولية الكاملة عن كل ما يصدر عنها.

 

    خامساً: الحِجر

             الحِجر بالكسر العقل في اللغة(49)، لأنه يحجر صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي، حيث يتصور من الحجر معنى العقل(50).

              جاءت في القرآن الكريم كلمة الحجر بمعنى العقل، وهو موضع واحد في القرآن الكريم، قال تعالى: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ)(51).

                قال الشيخ الطوسي في المبسوط: (أي لذي عقل، وسمي العقل حجراً لأنه يمنع من فعل ما لا يجوز فعله)(52).

 

   سادساً: الحلم

             الحلم: هو(الأناة، والعقل وجمعه أحلام وحلوم.. وهو حليم وجمعها حلماء وأحلام)(53)، وهو أيضاً: (ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب.. وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل)(54).

               وقد ورد الحلم في القرآن الكريم كصفة من صفات الله تعالى في أحد عشر موضعاً، كما أنه جاء صفة لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل(عليه السلام) في موضعين، هما في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ)(55)،

  وقوله تعالى:

               (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)(56)، وورد صفة لإسماعيل(عليه السلام): (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)(57).

             وجاء الحلم بمعنى العقل في آية واحدة وهي قوله تعالى: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)(58)،

           وذلك عندما تعذر المشركون بأعذار متصورة لهم لرد دعوته (صلى الله عليه وآله) وكانت مانعاً للاتباع وقبول قوله لكونه كاهناً أو مجنونًا أو شاعرًا أو متقولًا على الله سبحانه، وهذا بطبيعة الحال أمر غير واقع، وهو غير نابع من عقولهم بل من استكبارهم وقولهم غير الحق، فأي عقل يدفع الحق بمثل هذه الأباطيل؟

              يقول السيد الطباطبائي: (إن عقولهم لم تأمرهم بهذا بل هم طاغون حملهم على هذا طغيانهم)(59).

 

   سابعاً: الأبصار

              ورد لفظ (الأبصار) في القرآن الكريم في أربعة مواضع(60)، وقد عدهم القرآن من أصحاب العقول الذين نظروا في دلالات الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها، فكانت نظرتهم نظرة فكر واعتبار وموعظة…،

  قال تعالى:

               (.. فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(61).

              والآية هنا تتحدث عن بني النضير وكيف أجلاهم النبي(صلى الله عليه وآله)، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.

              يقول العلامة الطبرسي: (أي فأتَّعضوا يا أولي العقول والبصائر)(62)، (النافذة، والعقول الكاملة فإن في هذا معتبراً يعرف به صنع الله ـ تعالى ـ في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تدفعهم عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حّضنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله)(63).

            وبهذا نلحظ أن الله سبحانه طلب من أولي الأبصار الاعتبار، يدل على أن المطلوب من الإنسان أن يبصر بعينه وعقله معاً.

             من خلال ما تقدم يتبين أن القرآن الكريم قد وجّه خطابه إلى العقلاء من بني البشر الذين لهم نصيب من الفهم والوعي والإدراك، بما يُفهم أن عدم ورود كلمة (عقل) في القرآن الكريم دليل على أن المنظور القرآني لم يحصر (العقل) بمعناه الذي يحبس صاحبه عن السوء، ولا يرتقي به إلى الرسوخ في العلم، والتمييز، بل أراد الإعمال له بكل ما أوتيت هذه المسميات (اللب، النهى، القلب، الفؤاد، الحجر، الأبصار،..) من معانٍ حركية،

           إذ كل كلمة وضعت في القرآن الكريم يراد بها معنى مقصود وإشارة إلى ذلك السلوك الذهني والحركي للإنسان المرافق للأنساق المتغيرة في العلاقات بين الإنسان والكون، والإنسان والله سبحانه، لتحقيق علة الوجود. …

                    والحمد لله رب العالمين…

———————————————————————–

الهوامش:
(1) سورة البقرة، الآية 75.
(2) سورة الملك، الآية 10.
(3) سورة العنكبوت، الآية 43.
(4) سورة المائدة، الآية 58، و ظ: على سبيل المثال: سورة البقرة، الآية 164، الأنفال، الآية 22، يونس، الآية 42،…
(5) سورة الأعراف، الآية 169، وظ: على سبيل المثال: سورة يونس، 16، الأنبياء، 10، سورة هود، 6،…
(6) التأويل: العقل. النقل. إشكالية التوفيق، مجلة كلية الدراسات الإسلامية (كلية الفقه)، جامعة الكوفة، السنة2، العدد3، 2006م، ص235.
(7) ظ: الكفوي ، الكليات، معجم في المصطلحات والفروق الفردية، مؤسسة الرسالة، ط2، 1993م، ص619.
(8) ظ: د. يوسف القرضاوي، العقل والعلم في القرآن الكريم، مكتبة وهبة، 1996م، ص21.
(9) ظ: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص733.
(10) سورة البقرة، الآية 269.
(11) الميزان في تفسير القرآن، دار الكتاب العربي، بغداد، 2009م، 2/331.
(12) مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة، دار العلم للملايين، بيروت، 1983م، ص108.
(13) نفس المصدر، ص109.
(14) سورة يوسف، الآية 111.
(15) سورة يوسف، الآية111.
(16) ظ: ابو البقاء، الكليات، ص619.
(17) سورة الزمر، الآية 9.
(18) الكليني (ت329هـ)، الكافي، تحقيق: الشيخ علي اكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363هـ ش، 1/33.
(19) الكليني، الكافي، 1/212.
(20) سورة آل عمران، الآية 7.
(21) الميزان في تفسير القرآن، 3/27.
(22) سورة البقرة، الآية 269.
(23) تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ، بيروت، 2/535.
(24) ظ: الرازي(ت666هـ)، مختار الصحاح، دار الرسالة، الكويت، 1983، ص683.
(25) الكليات، ص620.
(26) سورة طه، الآية 54.
(27) الميزان في تفسير القرآن، 14/146.
(28) سورة طه، الآية 128.
(29) ظ: الفيومي، المصباح المنير، ص332.
(30) ظ: الرازي، مختار الصحاح، ص547.
(31) ظ: ابن فارس بن زكريا أبو الحسين، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 5/17.
(32) ظ: محمد علي البار، بين القلب العضلي والمعنوي، مجلة الإعجاز العلمي، جدة – هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامي، العدد 5، 2000م، ص55.
(33) معهد الإمام الخميني للدراسات الإسلامية، القلب في القرآن، كربلاء المقدسة، (دت)، ص1.
(34) ظ: د. سعيد عبد خضر الجوعاني، الشخصية الإنسانية في القرآن الكريم- دراسة موضوعية، ديوان الوقف السني، بغداد، 2009، ص51.
(35) ظ: روبرت. م. اغروس. وآخر، العلم في منظوره الجديد، ترجمة: د. كمال خلايلي، عالم المعرفة، الكويت، العدد، 134، 1989، ص41.
(36) سورة الحج، الآية 46.
(37) الميزان في تفسير القرآن، 14/334.
(38) سورة ق، الآية 37
(39) الميزان في تفسير القرآن، 18/308.
(40) ظ: الدامغاني، الوجوه والنظائر لألفاظ كتاب الله العزيز، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003، ص385.
(41) ظ: تفسير القرآن العظيم، المكتب الثقافي، الأزهر، القاهرة، 2001م، 4/228.
(42) ظ: الجرجاني، علي بن محمد السيد الشريف، معجم التعريفات، تحقيق: محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، ص120.
(43) نحو تفسير علمي للقرآن، مطبعة الآداب في النجف الاشرف، من هدي النجف، 1391هـ، ص52.
(44) ظ: ابن منظور، لسان العرب، 1/166.
(45) ظ: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر، بيروت، 1986، 510.
(46) سورة الإسراء، الآية 36.
(47) سورة الفرقان، الآية 32.
(48) ظ: عدنان زرزور، مقدمة لدراسات العقيدة الإسلامية ، مكتبة دار الفتح، دمشق، (دت)،ص82.
(49) ظ: الفيومي، المصباح المنير، ص81.
(50) ظ: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص220.
(51) سورة الفجر، الآية 5.
(52) المبسوط، الشيخ الطوسي، ج2 ص281.
(53) ظ: الرازي، مختار الصحاح، 152.
(54) الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص253.
(55) سورة التوبة، الآية 114.
(56) سورة هود، الآية 75.
(57) سورة الصافات، الآية 101.
(58) سورة الطور، الآية 32.
(59) الميزان في تفسير القرآن، 19/17.
(60) ظ: سورة آل عمران، 13، سورة النور، 44، سورة ص، 45.
(61) سورة الحشر، الآية 2.
(62) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379هـ، 5/258.
(63) السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص546.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.