Take a fresh look at your lifestyle.

الأسرار الغيبية وأثرها في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)

0 1٬071

                 إن قضية الإمام الحسين(عليه السلام) ونهضته ووجوده في هذه الحياة وعبر هذا التاريخ الطويل إنما هي حلقة وصل في الحلقات التي ارتضاها الله جل وعلا في سبيل رفعة البشرية في تحقيق التكامل والإصلاح الإنساني الذي أرسل لأجله ـ سبحانه وتعالى ـ الأنبياء والرسل وأنزل الكتب السماوية، هذه الثورة والنهضة أراد لها بارؤها ـ سبحانه وتعالى ـ أن تكون مناراً تربوياً وتشريعياً للبشرية جمعاء ينهلوا من فيض فكرها آفاق المستقبل نحو تحقيق الأهداف الإسلامية العليا في الدين والدنيا،

وسُلّماً يرتقيه بنو البشر على طوال التاريخ ـ وهذه غاية الإسلام المثلى ـ ليكون العبد قريباً إلى ربه جل وعلا أقرب من أي مخلوق نحو قوله تعالى في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون) فشهادة الإمام الحسين(عليه السلام) لم تكن من صنع البشر على الرغم من تلاقح السيوف إنما هي مسيرة خطط لها الله ـ عز وجل ـ ورسمها في طريق البشرية من أجل أن تتواصل الأمم إلى صروح الكمال في دروب السلوك إلى الله عز وجل.

فالحسين(عليه السلام) من القادة الربانيين من قبل أن يخلق الله أولئك القادة إلى الدنيا، فهو(عليه السلام) ثقافة الإسلام الحقيقية التي تغذى بها الرسل والأنبياء والأوصياء، وعلينا أن نفهمها ونعيها ونوضحها ونبلورها للأجيال القادمة خدمة للبشرية.

والغيب لغة (كل ما أخفي واستتر يقال له غيب، سواءً كان ذلك الاستتار مادياً أم حسياً، والغيب بمعناه المعنوي هو ما يستتر على الإنسان مما بينهم وبينه، أو ما كان في علم الله لم يحصل أو لم يحدث بعد.

ولست هنا في صدد تتبع المعنى اللغوي أو الاصطلاحي وأقسامه لمدلول لفظة الغيب بقدر ما يمس هذه الدلالة بمحاور المقال.
والغيب لله سبحانه وتعالى وهو على درجات ـ فمنها ما أطلعه رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله) إذ يقول: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)، ومن يكون أكثر ارتضاء منه لذلك لم يخف الغيب عن حبيبه المصطفى(صلى الله عليه وآله)، وقد أخبره به علام الغيوب فأورد لنا الرسول(صلى الله عليه وآله)

كثيراً من الأحاديث التي تنجي الأمة من الفتن والتناحر والاختلاف، ولاسيما ما روي عنه في خلافة الإمام علي(عليه السلام) واستشهاده واستشهاد عمار بن ياسر(رضي الله عنه) وغيرها من الأخبار الكثيرة التي يطول يذكرها المقام. فضلاً عن كثير من المغيبات التي رويت عن الأنبياء(عليهم السلام) وكذلك ما روي عن أم موسى بقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وما أريد قوله هنا إن هذا الغيب قد اطلع عليه الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، فجاءت الأخبار الكثيرة التي تؤكد على استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)
فضلاً عن كثير من المغيبات التي ذكرها الإمام الحسين(عليه السلام)
في طريقه إلى كربلاء الشهادة والسمو والمجد، وحياة الإمام الحسين(عليه السلام)
وشخصيته ونهضته ما هي إلا غيب في غيب، وإنما ظهرت إلى الحياة والعلن والوجود بوساطة الوحي وبوساطة الأنبياء والأوصياء، والنصوص الدينية على لسان الرسول(صلى الله عليه وآله)
والمعصومين(عليهم السلام) من أهل بيت الرحمة تؤكد على هذه الحقيقة التي تناقلها السلف الصالح، فهي أي استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) كانت ثقافة أهل البيت(عليهم السلام)
وتوارثها صالح بعد صالح.

ونحن إذ نعرض لهذه الواقعة المؤلمة بكل جوانبها فإننا نتحدث عن تحقق مغيباتها التي ذكرها أهل البيت(عليهم السلام) والتي ذكرها الإمام الحسين(عليه السلام) في مسيرة مجده إلى الخلود، والغاية هو إلقاء الحجة على هذه العصابة المجرمة التي اجترأت على الله ورسوله وعلى الإسلام، وهم يرون أمامهم تحققاً لتلك الروايات المتواترة والمسندة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فاعتزل القتال منهم جمع كثير، وتحول قوم بسيوفهم إلى نصرة الحسين(عليه السلام).
وهم يرون الحق أمامهم.

ومن هذه المغيبات قوله(عليه السلام) من كلامه يوم عاشوراء مع أصحاب عمر بن سعد: (أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس، حتى يدور بكم دور الرحى، ويقلق بكم خلق المحور عهد عهده إليّ أبي عن جدي)(1)، فلنحظ القسم هنا بـ أما وبعد بالاسم الصحيح (أما والله)، وجمال الصورة التي جاءت بعدها فهو(عليه السلام) يؤكد أن هؤلاء العصابة الضالة لهم مصير وهم ملاقوه ولو بعد حين، وسوف ينقلب هذا الأمر وبالاً عليهم، وأن هذا عهد معهود عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فهذا تأكيد على أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أخبر بما يلاقيه أبو الأحرار(عليه السلام)

في أرض كربلاء، وكيف حال القوم بعد هذه النكبة، فقضية كربلاء ليست آنية إنما هي قضية استثنائية تكويناً وتشريعياً، وقد أخرج أبو يعلى عن عائشة أنها قالت: (رأيت النبي(صلى الله عليه وآله) التزم علياً ويقول له: (يا أبا الوحيد الشهيد يا أبا الوحيد الشهيد)(2)، وعن ابن عباس أنه استيقظ مرة من نومه، فاسترجع وقال: قتل الحسين والله، وكان ذلك قبل مقتله فأنكره أصحابه فقال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومعه زجاجة من دم، فقال: ألا تعلم ما صنعت أمتي من بعدي؟ قتلوا ابني الحسين وهذا دمه ودم أصحابه أرفعها إلى الله تعالى)(3). فجاء الخبر بعد أربعة وعشرين يوماً بقتله في اليوم الذي رآه.

وروي عن الإمام علي(عليه السلام) أنه مر على أرض كربلاء لما سار بالجيش لملاقاة أهل الشام ـ فوقف عندها وبكى وهو يقول للجيش: هذا موطنهم، هذا مقتلهم، هذا موطن قتالهم، هذا موطن قتلهم، هذا موطن سباياهم، حتى أبكى الجيش، وكان يشير إلى مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) وآل البيت الأطهار، وكأنه يرى ذلك المشهد بعينه.

فقضية كربلاء نسجت خيوطها الإرادة الإلهية التي أرادت من الحسين(عليه السلام) أن يكون نبض الإسلام الدافق في كل عصر وجيل، وأن تكون حروفه ودماؤه رسالة خالدة إلى كل شعوب العالم، وقد أكد ذلك مراراً أبو الأحرار(عليه السلام) ولاسيما حينما سأله أخوه محمد بن الحنفية عن علة أخذه العيال والنساء معه فجاء جوابه مدوياً مزلزلاً لكل من ظن أنه طالب للملك والسلطة فقال(عليه السلام): (شاء الله أن يراني قتيلاً) قالها قبل تحركه، فقال له: وهؤلاء النساء والأطفال؟، فقال(عليه السلام):
(شاء الله أن يراهن سبايا) وهذا تجلي واضح للمستقبل.

ونراه(عليه السلام) واقفاً على عرصات كربلاء مخاطباً جمع عمر بن سعد وفقاً لما نقله الطبري في تاريخه (5/452): (روى حميد بن مسلم عن الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عاشوراء، وهو يقاتل القوم ويشد عليهم: (أعلى قتلي تحاثون، أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله، أسخط عليكم لقتله مني، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما والله لو قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماؤكم، ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم)، نعم فالحسين(عليه السلام) خط الإسلام الثابت، والاعتداء عليه إنما هو اعتداء على الإسلام،

فهو الإرادة الإلهية متمثلة بصبره وجهاده، كيف لا وكربلاء محطة الإسلام الكبرى في تأكيد المسار التواصلي لمفهوم التضحية والفداء لذات الله ورسالته، ولا يفوتنا هنا أن ننقل مشهد اللقاء الذي جرى بين أبي الأحرار(عليه السلام) وقائد جيش الكوفة عمر بن سعد: فقال الإمام(عليه السلام)(4): (أين عمر بن سعد؟ ادعو لي عمر، فدعي له، وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه، فقال(عليه السلام): يا عمر أنت تقتلني، وتزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنأ بذلك أبداً، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة، تتراماه الصبيان، ويتخذونه غرضاً بينهم(5)… ذبحك الله من على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجو ألا تأكل من بر العراق إلا يسيرا)(6).

وقد تكرر ذلك العهد هنا مرة أخرى، وهذا استكشاف مستقبلي لواقع هذا المجرم الذي سعت به رغباته الدنيوية لارتكاب هذه الفاجعة التي يندى لها جبين الإنسانية، فطار بعارها وشنارها، وقد تحقق فعلاً ما ذكره الإمام
الحسين(عليه السلام) يوم العاشر في هذا اللقاء، فهذه الدلالات الغيبية كانت مطروحة أما هؤلاء النفر الضال، وأنى لهم الاعتبار، فقد ساروا في دروب الضلالة بعد أن ابتعدوا عن الصواب وجادة الإسلام الصحيح.

فقد ذكرت المصادر أن عمر بن سعد لم يلبث بعد استشهاد سيد الشهداء(عليه السلام) إلا قليلاً، وكان ملازماً بيته لا يجرؤ على الخروج منه، إذ كان أطفال الكوفة إذا رؤوه خارجاً من الدار يحوطونه وهو يرددون: هذا هو قاتل الحسين ، وإذا ذهب إلى المسجد يسارع الجميع إلى الابتعاد عنه، أو مغادرة المسجد، حتى قيل: إن نساء الكوفة خرجن في مظاهرة استنكرن فيها تعيين ابن زياد له كنائب لوالي الكوفة بعد أن قرر التوجه إلى البصرة، ولم يوله اللعين ولاية العهد المزعومة، ولما جاء المختار الثقفي أرسل من يأتيه برأسه، وهو على فراشه، وإذا بمصيره كما حدثه به سيد الأحرار أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).

وقد أنبأ الإمام الحسين(عليه السلام) بحوادث آنية وقعت يوم العاشر كان لوقوعها صدى بين جند الكوفة، فاعتزل القتال قسم منهم والقسم الآخر تحول إلى نصرة
الحسين(عليه السلام) ومن هذه المرويات أنه(عليه السلام) قد (احتفر حفيرة يوم العاشر فلما نظر ابن أبي جويرية إلى النار تتقد صفق بيديه ونادى يا حسين أبشر بالنار فقد تعجلتموها في الدنيا. فقال الحسين(عليه السلام): من الرجل؟ فقيل: ابن أبي جويرية المزني. فقال الحسين(عليه السلام): اللهم أذقه عذاب النار في الدنيا. فنفر فرسه وألقاه في تلك النار فاحترق)(7).

ولما نادى تميم بن حصين من جند ابن سعد بالحسين(عليه السلام) وأصحابه: (أما ترون إلى ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيات. والله لا ذقتم منه قطرة حتى تذوقوا الموت جزعاً، فقال الحسين: من الرجل؟ فقيل: تميم بن حصين، فقال الحسين(عليه السلام): هذا وأبوه من أهل النار اللهم اقتل هذا عطشاً ـ في هذا اليوم ـ فخنقه العطش حتى أسقط عن فرسه فوطئته الخيل بسنابكها فمات)(8).
ولما قتل علي الأكبر(عليه السلام) قال الإمام

الحسين(عليه السلام) مخاطباً ابن سعد: (قطع الله رحمك ـ ولا بارك الله لك في أمرك، وسلط عليك من يذبحك ـ بعدي ـ على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله)(9).

وقد قتل المختار عمر بن سعد وابنه، ولما ضعف الحسين(عليه السلام) عن القتال (جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن نسر، فضربه بالسيف على رأسه، وكان عليه برنس، فقطع البرنس، وامتلأ دماً، فقال له الحسين(عليه السلام): لا أكلت بيمينك ولا شربت بها، وحشرك الله مع الظالمين، وذكر أصحابه أنه يبست يداه، ولم يزل فقيراً بأسوأ حال إلى أن مات)(10). وروي (أن رجلاً من بني كلب رمى سيد الشهداء(عليه السلام) بسهم أصاب شدقه فقال الحسين(عليه السلام): لا أرواك الله، فقيل عطش الرجل حتى ألقى نفسه في الفرات وشرب حتى مات)(11).

وقيل: (إن رجلاً اسمه أبحر، أو بحر أو أبجر بن كعب، سلب الحسين(عليه السلام)، فكانت يداه يبسان ـ في الصيف ـ كأنهما عودان، وتترطبان ـ في الشتاء ـ فتنضحان دماً وقيحاً إلى أن أهلكه الله)(12). وغيرها كثير مما تناقلته المصادر عن مغيبات كربلاء، ولأن الإمام(عليه السلام) هو نهج الإسلام الصحيح وهو السائر على خطاه، فكان دعاؤه متحققاً، كيف لا وهو الذي ضحى بكل غال ونفيس لقاء رفعة الإسلام وتصحيح المسار، فجاء دعاؤه مصداقاً لعمله، مما أوقع الحيرة في قلوب كثير من المشككين.

إن قضية الإمام الحسين(عليه السلام) قضية أزلية تمت إلى ما قبل خلق سيدنا آدم(عليه السلام) فهو امتداد لما قبل التاريخ، (ولكن بوجوده المثالي الذي نؤمن به نحن الشيعة خاصة، لأننا نؤمن بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آل بيت محمد صلوات الله عليهم من أنوار قبل أن يخلق الخلق).

وقد وردت بهذا المعنى روايات متواترة كثيرة في كتب العلماء الأفذاذ كالكليني في أصوله وكتب من أمثال من لا يحضره الفقيه والإرشاد والأمالي وغيرها.

ومن تلك الروايات الكثيرة ما رواه الكليني في أصوله بسنده عن محمد بن يحيى المتصل بالإمام الصادق(عليه السلام): أن جبرائيل نزل على محمد(صلى الله عليه وآله)

فقال له يا محمد إن الله يبشرك بمولود يولد من فاطمة تقتله أمتك من بعدك، فقال النبي(صلى الله عليه وآله) يا جبرائيل وعلى ربي السلام: لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة تقتله أمتي من بعدي، فعرج جبرائيل ثم هبط وقال له مثل قوله، فأجابه النبي ـ صلوات الله عليه ـ بمثل ما أجابه أول مرة، فعرج جبرائيل في المرة الثالثة إلى السماء ثم هبط فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك أنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية).

فشهادة الإمام الحسين(عليه السلام) خطط لها في السماء وإنما كانت الغاية منها هذا الأثر الإلهي الذي صنعه الله بعينه، فجعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية.
ويذكر الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام الرضا(عليه السلام)
(لما وضع الحسين(عليه السلام) في حجر النبي(صلى الله عليه وآله) بكى فقالت له أسماء(رضي الله عنهم) مما بكاؤك؟ فقال(صلى الله عليه وآله): على ابني هذا، فقالت: إنه ولد الساعة يا رسول الله، فقال: تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي)، وقد كرر الرسول(صلى الله عليه وآله) هذا الموقف ولمرات، وغايته ترسيخ هذه الثقافة الإلهية في عقول أبناء هذه الأمة وتأكيده على أهمية هذا المولود، وأثره المستقبلي في تصحيح مسار الأمة، وحثهم على الوقوف إلى جانبه ونصرته، وإن الحق معه أينما حل.

فقضية كربلاء لم تكن لحينها بل جاءت وفقاً لعهد معهود بعين الله تعالى، من أجل أن يؤدي هذا القتل المتتابع أثره في تصحيح مسار الأمة التي ابتعدت عن مسار الإسلام ولاسيما بعد أن تربع بنو أمية على رقاب المسلمين وانحرفوا بتوجهات الأمة وتطلعاتها عن الخط الرسالي المرسوم لها بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ…)، فكانت قضية كربلاء سلاحاً معنوياً يوجه الأحرار لنيل الحرية والكرامة والوقوف بوجه الطغاة والظلمة الذين يريدون النيل من الإسلام والمسلمين، وتغيير مسار هذه الأمة نحو التكامل والإصلاح، فأصبح الحسين(عليه السلام) مدرسة لكل الأجيال ينهلون من ثقافته ليكونوا في حياتهم أنصاراً للحسين(عليه السلام).

فهذه القضية مفصلاً تاريخياً جوهرياً سوف يكون في حياة الأمة وعلى الأمة أن تتحمل مسؤولياتها (ولذلك نجد أن الغيب في التاريخ البشري كان المشكلة أمام الناس بأن الله سبحانه وتعالى عندما يذكر الغيب يقرن بالتقوى والإيمان واللطف الإلهي بالإذعان للغيب والإيمان بالغيب مثلاً في أول سورة البقرة: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) جعل الإيمان بالغيب أولى خصال التقوى والإيمان والتقوى في الحقيقة هي أعمق من الإيمان وأعلى رتبة من الإيمان فلذلك فإن مشكلة الجماعات التي انحرفت عن طريق الله عن خط الله هو موضوع الغيب).

والغيب مراتب فهناك غيب يعلمه الأنبياء وغيب تعلمه الملائكة وغيب يعلمه عامة الناس وهناك كما ذكرت سلفاً أخبار النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) عن واقعة كربلاء ومنها ما نقل عن الإمام الحسن(عليه السلام) دخل عليه الحسين في علته التي استشهد فيها فلما رآه الحسين(عليه السلام) بكى، فقال له(عليه السلام): ما يبكيك يا أبا عبد الله، فقال: أبكي لما صنع بك، فقال الحسن(عليه السلام): إن الذي يؤتي إليّ سم أقتل به ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد أزدلف إليك ثلاثون ألفاً يدعون إنهم من أمة جدنا محمد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وسبي ذراريك ونساءك وانتهاك حرمتك)(13)

وهذا قيل قبل وقعة كربلاء بـ(10) سنوات. فهذا يعني أن كربلاء كانت ثقافة خاصة لبني هاشم وعامة للأمة وهذا من الغيب الذي أطلعه الله الأنبياء.
ولعل رسالة الإمام الحسين(عليه السلام) إلى بني هاشم ـ قبل أن يخرج إلى أرض كربلاء ـ من سطر واحد.
(بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بين أبي طالب إلى بني هاشم أما بعد فإن من لحق بي استشهد ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح والسلام)(14).

وهذا تأكيد غيبي على أن الحسين(عليه السلام) كان يعلم إلى أين يسير وغاية مسيره، ومصيره ومصير بني عمومته وأرومته.
فقد استكشف المستقبل وكشف سبر أغواره قبل تحركه وبعد تحركه وكأنه يبصر المستقبل والأجيال التي تلته فهو إمام معصوم كان يعلم مصيره لأن ثقافة كربلاء كانت غذاء روحياً وفكرياً ربى عليه بنو هاشم وآل بيت النبي(صلى الله عليه وآله).

ولنستمع إليه(عليه السلام) يخاطب رسل أهل الكوفة: (إن رسول الله أمرني بأمر وأنا ماض له) فما هذا الأمر سوى كربلاء وعاشوراء بعد أن خرج من مكة وفي ومعه أهل بيته وصحبه: (وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، لا محيص عن يوم خط بالقلم…) وهذا جانب غيبي.

وفي مسيره إلى العراق قيل أن إعرابياً في الطريق اعترضه قائلاً: (ماذا تفعل في العراق أنسيت أباك وأخاك) قال له(عليه السلام): (يا عبد الله، ليس يخفى عليّ الرأي، ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره ثم قال(عليه السلام): والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي)(15).

فهذه الأخبار الغيبية ـ وهي جزء صغير مما استقصيته تؤكد توكيداً لا يدخله الشك عن أن كربلاء واستشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) تفويضاً إلهياً، ولم يكن قتلاً آنيّاً، وإنما هو قتل استتبع أشكالاً من القتل على مر العصور غايته بما حواه من مغيبات أن يهدي الأمة إلى الحق ويبعدهم عن الضلالة، وفقاً لهدي الإسلام المحمدي، فجاءت هذه الأحاديث والأسرار الإلهية لتكون حلقة الوصل بين عقول البشر لتؤكد قدسية الرسالة الحسينية، فهي ثقافة الإسلام الخالد التي ينبغي لنا أن نهضمها فكراً ونوضحها عقيدة للأجيال القادمة.

فقضية الإمام
الحسين(عليه السلام) أمل الأمة وكل الأحرار في هذا العالم للنهوض بواقع أممهم نحو التغيير والإصلاح والوقوف بوجه كل الطغاة الذين يريدون النيل من كرامة بني البشر التي كرمهم بها الله. فالسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

نشرت في العدد 34


(1) مقتل الحسين، الخوارزمي، 2/7، بحار الأنوار، 45/9، الملهوف، ص157، تحف العقول، 2/24.
(2) ينابيع المودة، القندوزي 2/ 397.
(3) ترجمة الإمام الحسين، ابن عساكر ص387، بتصرف.
(4) الخوارزمي، 2/7، الفتوح، 5/100، مثير الأحزان، ص56.
(5) بحار الأنوار 45/ 10.
(6) بحار الأنوار 44/ 389.
(7) الأمالي، الصدوق، ص221، روضة الواعظين، ص185.
(8) الأمالي، الصدوق، ص221، روضة الواعظين، ص185، الثاقب في المناقب، ص340، ص341.
(9) مقتل الحسين، الخوارزمي، 2/30، الملهوف، ص166، البحار، 45/42ـ43.
(10) الإرشاد، 2/110، مقتل الحسين، الخوارزمي، 2/35، البحار، 45/53.
(11) المناقب، 4/56، إحقاق الحق، 11/529.
(12) أعلام الورى، 12/246، الإرشاد، 2/11، المناقب، 4/57.
(13) أمالي الصدوق ص171.
(14) دلائل الإمامة، الطبري ص188.
(15) الإرشاد، الشيخ المفيد 2/ 76.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.