Take a fresh look at your lifestyle.

الأداء البياني في خطبة فاطمة الصغرى(عليها السلام)

0 1٬359

                   تعد الخطابة فن من الفنون النثرية، عرفها المجتمع البشري على مر العصور، لأنها تلبي متطلبات الإنسان في مواقف مختلفة، كأن يحث قومه على أمر، أو يردّ على خصومه، أو أعداء قومه. ولا تكتمل صورة هذا الفن إلا بحضور جمهور من الناس قلّ أو كثر، وشرائط شكلية وأخرى مضمونية إلى أن يستوي بصورته الفنية المميزة. وقد مرت الخطابة عند العرب بمراحل متعددة منذ العصر الجاهلي والعصور اللاحقة شهدت خلالها تطورات ملحوظة في البنية والمضمون، وبرز خلالها خطباء مشهورون يلكون أروع الخطب وأجلّها قوة وفخامة من الناحية الفكرية والفنية وعلى رأس هؤلاء الخطباء الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) والإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)،

لا يقصر فيهم النساء دون الرجال، فهن لم يكن أقل شأناً من الرجال، إذ برز منهن الخطيبات المفوهات، ومن أمثلتهن فاطمة الصغرى(عليها السلام) وفي الصفحات القادمة سنحاول أن نسلط الضوء على خطبة فاطمة الصغرى(عليها السلام) مبرزين الجوانب الفنية البيانية فيها.
نص الخطبة: ينظر: الاحتجاج: 2/27ـ 29

التحليل البياني
التشبيه:
يعد التشبيه من أيسر أساليب البيان، حتى قيل أنه أكثر كلام العرب(1) وذلك لأن التشبيه من أقدم صور البيان، ووسائل الخيال، وأقربها للفهم والإيضاح والإبانة، وأفضل أداة لتقريب البعيد(2) (إذ يزداد به المعنى وضوحاً، ويكتسب تأكيداً)(3) وقد ورد التشبيه في الخطبة في موارد منها، قولها(عليها السلام): (فانظروا اللعنة والعذاب، فكأنها حلّت بكم)(4). فهنا شبهت(عليها السلام) اللعنة والعذاب شيء معنوي مدرك وهو الحلول والوقوع، فهي تقول لأهل الكوفة بأن لعنة الله وعذابه واقع عليكم لا محالة جزاء ما فعلتموه بأهل البيت(عليهم السلام).

ومن التشبيه قولها(عليها السلام): (ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً كأنا أولاد الترك أو كابل)(5) هنا شبهت(عليها السلام) أهل البيت(عليهم السلام) بأولاد الترك أو كابل لعلاقة المشابهة بينهما، فهي استعملت (كأن) التي أفادت الشك، ووجهه الشبه هنا الذلة والعبودية، فأهل الكوفة يقارنون أهل البيت وأولادهم بأولاد الترك، وأفغانستان، لأنهم عبيد ويعيشون حياة ضنك وشظف يسودها الفقر المدقع والأمراض والفوضى العارمة، فهي أرادت أن تبين سوء معاملة أهل الكوفة لأهل البيت(عليهم السلام).

الاستعارة:
تعد الاستعارة من وسائل بناء الصورة البيانية، وقد عرف السكاكي (ت626هـ) الاستعارة بقوله: (هي أن يذكر أحد طرفي التشبيه وتريد منه الآخر مدعياً دخول المشبه في جنس المشبه به، دالاً على ذلك بإثباتك للمشبه بما يخص المشبه به)(6).
ومن خلال هذا القول ندرك بوضوح تام الصلة القوية القائمة بين الاستعارة والتشبيه، ولكن التشبيه على الرغم من ذلك يبقى قاصراً عن تحقيق القيمة الفنية التي تحققها الاستعارة لما فيها من تداخل في الدلالة، على نحو لا يحدث بنفس الثراء في التشبيه(7).

فهي تخرج الألفاظ من دلالاتها الوصفية إلى دلالات إيحائية جديدة، فضلاً عن أنها تقوم بتنشيط الخيال من خلال قدرة الشاعر على تنويع المفردات لهذه الدلالات الجديدة التي تتسم بالإبداع.

ومن الموارد التي وردت فيها الاستعارة في الخطبة، قولها(عليها السلام): (تعساً لرؤوسهم! ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته)(8) فهنا استعارة، لأن الضم لا يدفع، إذ حسدت الضيم بشيء أمكن دفعه، وهنا استعمل هذا التركيب في غير ما وضع له من حيث المعنى المنقول له والمعنى المستعمل فيه.

ومنها قولها(عليها السلام): (وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وجعل على أبصاركم غشاوة)(9).
فهنا استعارات متداخلة المعنى فالطبع على الأفئدة والختم على الأسماع والغشاوة على الأبصار كلها موارد تمنع الاتصال والتواصل بين الأشياء، فأهل الكوفة لا يميزون بين الحق والباطل وحالهم يشبه الطبع على الأفئدة و…الخ وهذا كله استعارة تمثيلية بارزة المعالم.

ومنها قولها(عليها السلام): (فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته)(10) فالاستعارة هنا تمثيلية، فاستعملت الالفاظ هنا في غير ما وضعت لها في أصل اللغة لعلاقة المشابهة بين المعنى المنقول له والمعنى المستعمل فيه، فأهل البيت(عليهم السلام) عيبة علم الله سبحانه وتعالى ووعاء فهمه وحكمته جلّ وعلا، فهم كالثياب النفسية المودعة في العيبة لعمله سبحانه وتعالى والوعاء الذي يحفظ فهمه وحكمته.

الكناية:
استند الشعراء والكتاب في تشكيل ملامح صورهم إلى ما في الكناية من قدرة على خلق صور تمتع الذوق والنفس، إذ أن الشاعر يعبر بها عن كل ما يجول في خاطرة بعيداً عن المباشرة، والتصريح في الكلام اللذين يفقدان النص الأدبي الروح والحياة، ويحرمان المتلقي من لذة التمتع بما فيه من صور وخيال.

والكناية، هي (ما يتكلم به الإنسان ويريد به غيره، وهي لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع قرينة لا تمنع من إرادة المعنى الأصلي)(11).

ومن موارد الكناية في الخطبة، قولها(عليها السلام): (وهديته إلى صراط مستقيم)(12) فقولها (صراط مستقيم) كناية عن طريق الحق والصلاح فعدلت عن التصريح، لأنها لم تشأ أن تعبر عن فكرتها تلك بصورة مباشرة ليس فيها أي تأثير في نفس المتلقي، بل عبرت عن ذلك تعبيراً غير مباشر، وبالتلميح دون التصريح المباشر، وهي أبلغ من الحقيقة.

ومنها قولها(عليها السلام): (بفيك أيها القائل الكثكث)(13) فقولها: (القائل الكثكث) كناية عن التصغير والاحتقار والاستهزاء، لأن الكثكث في اللغة هو فتات الحجارة، ودلالة الفتات بينه للمتلقي، وهي هنا لم تلجأ إلى الحديث المباشر غير المؤثر في نفس المتلقي، وإنما عبرت عن ذلك بتعبير غير مباشر ألقى الفزع والروع في نفس العدد وبالتلميح والإشارة دون التصريح.

ومنها قولها(عليها السلام): (وبها معشر مسلمة بألسنتهم)(14) فقولها(عليها السلام): (مسلمة بألسنتهم) كناية عن النفاق، إلا أنها هنا لم تشأ أن تعبر عن فكرتها بصورة مباشرة، ليس فيها أي تأثير في نفس السامع، بل عبرت عن ذلك تعبيراً غير مباشر.

المجاز:
المجاز هو (اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة دالة على عدم إرادة المعنى الأصلي، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي قد تكون المشابهة وقد تكون غيرها)(15).

وقد ورد المجاز في خطبة فاطمة الصغرى(عليها السلام) في قولها: (ويل لكم أتدرون أيّة يد طاعنتنا منكم)(16) فقولها(عليها السلام): (يد طاعنتنا) صورة قائمة على مجاز مرسل، والعلاقة حلية فهي(عليها السلام) استعملت محل اليد، لأن اليد لا تطعن بذاتها، وإنما هي محل الطعن، وهذه الصورة المجازية تجسد البراعة والإتقان، لأنها(عليها السلام) أرادت محل اليد، الذي يكون أداة لحمل الشيء الطاعن، فالعلاقة هنا أصبحت محلية، ولم تقصد اليد لذاتها، وإنما محلها .

نشرت في العدد 34


(1) ينظر: الكامل في اللغة والأدب: 3/818.
(2) ينظر: فنون بلاغية: 27.
(3) كتاب الصناعيتين: 249.
(4) ، (5) الخطبة.
(6) مفتاح العلوم: 174.
(7) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: 247.
(8) ، (9) ، (10) الخطبة.
(11) جواهر البلاغة:208.
(12) ، (13) ، (14) الخطبة.
(15) جواهر البلاغة:179.
(16) الخطبة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.