يمثل الإمام الحسين عليه السلام وقيامه المقدس ركناً عقائدياً مهماً في منظومة العقائد الشيعية، ومن يدقق في الأحاديث المأثورة عن أهل البيت(عليهم السلام) يجد كماً هائلاً من النصوص العقائدية والنصوص العبادية التي تناولت قضية الإمام الحسين(عليه السلام) وكشفت للجمهور الشيعي أن هذه القضية كانت نقطة تحول إستراتيجية في مسيرة الإمامة وقد أراد لها الله سبحانه وتعالى أن لا تكون انعطافة آنية ذات مفاعيل وقتية تتأثر بالتحولات التاريخية والتبدلات البشرية بل هي محور السياسة الإلهية في رسم الخارطة التاريخية المستقبلية التي يقوم على أساسها مشروع وراثة الأرض وما وعد الله به عباده المستضعفين ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) القصص: من الآية 5.
إن الثقل العقائدي والفكري الذي مثلته عاشوراء جعل منها ميداناً واسعاً للبحث والتنظير عقائدياً وسياسياً وفلسفياً، وقد تناولتها أقلام حملت خلفيات فكرية متباينة ونبع مدادها من مصادر شتى للمعرفة قد تلتقي أحياناً وتبتعد أحايين أخرى عن المصادر المعرفية التي أمرنا أهل البيت(عليهم السلام) بالأخذ منها وشددوا على التقيد بها.
إن البحث في الفلسفة العقدية لقيام الإمام الحسين(عليه السلام) يفتح أمامنا نافذة من الأسئلة الني تحدد الإطار العقائدي للقيام المقدس، أولها: ما شروط القيام والقعود عند أهل البيت(عليهم السلام)؟ ما التسمية الشرعية لما قام به الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء؟ وهل ثمة دليل على إطلاق اسم (الثورة) عليه؟ وهل يصح هذا المصطلح بحق هذا القيام المقدس؟ وما موقع عاشوراء في مشروع الإمامة ودورها الكوني في تحقيق هدف الأنبياء (ليقوم الناس بالقسط) الحديد: من الآية 24؟
شروط القيام عند أهل البيت(عليهم السلام)
أجمعت النصوص الشريفة من الذين فرض الله طاعتهم أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) هم (ولاة أمر الله) و(تراجمة وحيه) و(خزان علمه) و(القائمون بأمره) و(خلفاؤه في أرضه) و(نوره في السماوات والأرض)، ومن كانت هذه صفته فمن الطبيعي أن يكون فعله إنعكاساً لفعل الله تعالى وتكون إرادته نابعة من إرادة الله عز وجل، وهذا المعنى يتسع لكل عمل سواء كان عملاً لفظياً كالأقوال أو خارجياً كالأفعال والمواقف.
إن هذه القاعدة تؤسس لفهم واضح لجدلية القيام والقعود عند الأئمة(عليهم السلام)، فالإمام ليس قائداً سياسياً أو ميدانياً تقليدياً حتى يبني حكمه على تحليل البيانات أو مقاربة المواقف وفق حسابات الربح والخسارة كما يفعل القادة والزعماء التقليديون، وإنما ينطلق تحركه أو سكونه من تحقيق (أمر الله) وتنفيذ (حكم الله) ثم لا تأخذه في الله لومة لائم !
فقد روى الشيخ الكليني رحمه الله في الكافي 1\28: عن ضريس الكناسي (ولعله ابن عبد الملك أخي حمران وزرارة) ، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال له حمران: جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر علي والحسن والحسين(عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله عز وجل وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام): (يا حمران إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه، ثم أجراه فبتقدم علم ذلك إليهم من رسول الله قام علي والحسن والحسين، وبعلم صمت من صمت منا).
لقد استشعر رسول الله(صلى الله عليه وآله) خطورة ما سيكون الأمر في عصر الفتنة وقيام الجهاز الأموي والقوى الارستقراطية باللعب على منظومة الوعي الشيعي فأسس(صلى الله عليه وآله) قاعدة مهمة في ما يتصل بمسألة القيام والقعود وعلاقته بدور الإمام وحركته وشرعيته، فقال(صلى الله عليه وآله): (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)، وهو من الأحاديث المشهورة التي أجمع الثقات والأجلاء من العصابة الناجية على روايته جيلاً بعد جيل وأرسلوه إرسال المسلمات لاشتهاره بينهم ووضوح صحته عندهم،
فقد رواه المحدث الجليل ابن عقدة الكوفي (ت333) في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ص163، والشيخ الصدوق (ت381) في علل الشرائع 1\211، والخزاز القمي (ت400) في كفاية الأثر بسندين أحدهما عن أمير المؤمنين(عليه السلام) والآخر عن أبي ذر الغفاري(رضي الله عنه)، كما ذكره الشيخ المفيد (ت413) في الإرشاد 2\30، والفتال النيسابوري (ت508) في روضة الواعظين ص156، وابن شهرآشوب (ت588) في مناقب آل أبي طالب 1\143، و الشيخ الطبرسي (ت548) بإعلام الورى 1\407، وفي كشف الغمة لابن أبي الفتح الأربلي (ت693) 2\156، وغيرها الكثير من المصادر في مختلف الطبقات، ويقول السيد الميلاني في شرح منهاج الكرامة: 1 / 138:
(وممن رواه من أهل السنة: الصفوري في نزهة المجالس: 2 / 184، والصديق القنوجي في السراج الوهاج في شرح صحيح مسلم في باب المناقب).
وقد سلط هذا الحديث الشريف الأضواء في أكثر من مكان محاولاً في مكان أن يربط المجتمع الشيعي بالأئمة عليهم السلام سواء أكانوا قائمين في دولة الحق أو خائفين في دولة الباطل، ومؤكداً في مكان آخر على عدم انتقاض شرعية الإمام عندما تحكم الظروف بانعزاله عن المشهد السياسي وتغييبه عن موقعه الشرعي في قيادة الأمة.
لقد مرت القواعد الشيعية بمراحل اختبار مثلت فيها عقيدة الطاعة في القيام والقعود محور الاحتكاك مع مستوى الوعي لدى الأفراد والجماعات الشيعية، وكان الرصيد التراكمي لوعي النخبة في حالة ازدياد طردي مع كل مرحلة يكشف فيها الإمام جانباً من الغيب أو بعضاً من العلل التي تحمل شفرة الحل لكثير من العقد ذات البعد العقائدي والغيبي.
ولم تكن مهمة الأئمة(عليهم السلام) سهلة في تذويب هذه الأيديولوجيا داخل الذهنية الشيعية الفتية التي وجدت في تباين المواقف عند الأئمة حاجزاً ضبابياً أدى إلى تقليص مساحة الفرز العقائدي عند نسبة كبيرة من الطبقة الموالية لأهل البيت(عليهم السلام).
وانطلاقاً من فهمهم لطبيعة العقدة الفكرية والنفسية التي واجهتها القاعدة الشيعية فقد توسل الأئمة(عليهم السلام) بتوضيح (العلل الغيبية) و(السنن الإلهية) طريقاً لاخترق الحواجز التي أحاطت بالوعي الشيعي وكما يأتي:
أولاً: بين الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم أن من شروط القيام في علم الله تعالى توفر العدد المطلوب من المؤمنين المخلصين المطيعين المسَلِّمين لأئمتهم، فقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) لشيعته عقيب أحداث السقيفة (والله لو تم عددكم سبعة رجال لما وسعني القعود عنكم) الهداية الكبرى 193، ولم يكونوا يومئذٍ إلا أربعة !
وقال الإمام الصادق(عليه السلام) لسدير الصيرفي لما سأله القيام وانتهاز الفرصة بعد سقوط الدولة الأموية: (والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود) الكافي 2\243، وقد عدها سدير فوجدها سبعة عشر جدياً ! واختلاف العدد يمثل الجانب الغيبي في هذا الشرط بحيث لا يعلمه إلا الله والإمام.
ثانياً: بين الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم جانباً من الحكمة الغيبية التي خفيت عنهم كما خفيت على موسى(عليه السلام) حكمة خرق السفينة من قبل الخضر(عليه السلام)، فقد سأل أبو سعيد عقيصا الإمام الحسن(عليه السلام) عن علة مصالحته لمعاوية فقال: (يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟) فأجابه الإمام(عليه السلام) بقوله: (يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ألا ترى الخضر(عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى(عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل) علل الشرائع 1\211، وفي رواية أخرى قال لهم الإمام الحسن(عليه السلام): (والله الذي عملتُ خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت)، بحار الأنوار 44\19.
ثالثاً: بين الأئمة(عليهم السلام) لشيعتهم أن بيعة الإمام من أهل البيت(عليهم السلام) لطاغية زمانه تعد مانعاً شرعياً له من القيام، ولذلك فإن من جملة العلل المذكورة لغيبة الإمام المهدي(عليه السلام) أنه يخرج حين يخرج وليس لأحد من الطواغيت بيعة في عنقه، (راجع: كمال الدين ص485).
الإمام الحسين(عليه السلام) وفلسفة القيام لم تكن مسيرة الإمام الحسين(عليه السلام) في صراعه العقائدي مع الطواغيت مختلفة عن سيرة أبيه وأخيه، فقد جلس في بيته واعتزل الحياة السياسية طيلة السنوات العشر من حكم معاوية بن أبي سفيان بعد استشهاد أخيه أبي محمد(عليه السلام) سنة 49هـ، بل كان يأمر شيعته بأن يكونوا أحلاس بيوتهم حتى يهلك معاوية (الأخبار الطوال للدنيوري ص220)، وبالتأكيد فإن هذا الموقف كان نابعاً من القاعدة العقائدية التي أسسنا لها وهي أن الإمام إنما يقوم أو يقعد بأمر وعلم من الله تعالى دون الاعتماد على الحسابات الآنية أو النظرة السياسية الضيقة.
عندما هلك معاوية سنة 59هـ تغير التكليف الشرعي للإمام الحسين(عليه السلام) فقد كان الإمام(عليه السلام) مأموراً بالجهاد وتحمل مسؤولية القيام ضد حكومة يزيد وريثة الحكومات المغتصبة للإمامة، ويبدو من خلال الظاهر أن شروط القيام قد تحققت بأجمعها ؛ فالإمام لم يعط البيعة ليزيد لعنه الله، وقد توفر لديه العدد المطلوب من المؤمنين المخلصين الذين يستأنسون بالمنية دونه ويقدمونه على النفس والأهل والولد، ولذلك جاءه الأمر الإلهي (أن اخرج [بقومك] إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلا معك، واشتر نفسك لله عز وجل) و (إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة) علل الشرائع ص468، ص217، الكافي 1\280.
لقد أوضح الإمام الحسين(عليه السلام) أن خروجه كان بأمر وقضاء محتوم من الله عز وجل محاولاً توجيه الوسط الشيعي نحو ترسيخ المفهوم الولائي في تعاطيه مع الإمام عليه السلام، ويبدو من النصائح التي قدمتهما بعض الشخصيات الكبيرة في بني هاشم كابن الحنفية وابن عباس أن الوسط الشيعي حتى ذلك القريب نسباً من الإمام لم يكن ذائباً في الفهم القرآني الصحيح لطبيعة العلاقة بين المؤمن وإمامه، (فما كان لمؤمن ولامؤمنة) أن يقدم النصائح والتوجيهات لإمامه بل عليهم هم أن يتسلموا النصح والأوامر من الإمام وأن لا يُخضعوا تلك الأوامر لمجهر النقد والتمحيص بل أن يتقيدوا بها (ويسلموا تسليماً) كما يسلم العبيد لله تعالى دون تردد أو تأمل.
ويبدو أن الإمام الحسين(عليه السلام) قد استعمل مزيجاً من الشحن العقائدي والعاطفي في محاولة لتوجيه الرأي العام الشيعي نحو الحقوق السليبة لأهل البيت(عليهم السلام) وما يمكن أن يصدر من الأعداء من خروقات خطيرة لشريعة وسنن الله تعالى، فقد قال(عليه السلام) في وداعه الأخير لأم المؤمنين أم سلمة(رضي الله عنها) قبيل خروجه من المدينة: (يا أماه قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً) بحار الأنوار 44\332، وقال(عليه السلام) لأصحابه عندما صلى بهم الغداة صبيحة يوم عاشوراء: (اشهد أنه قد أذن في قتلكم فاتقوا الله واصبروا) كامل الزيارات 153.
لقد دأب كثير من الكتاب والمفكرين المعاصرين على استعمال مصطلح (ثورة الحسين) أو (الثورة الحسينية) في وصفه لقيام الإمام الحسين(عليه السلام)، وتكمن مشكلتنا في أن التقليد طغى على كثير من مساحات التفكير عندنا بحيث أصبح الخروج عن المألوف مساوياً للخروج عن الجادة وضرباً من خرق النواميس والثوابت! ونحن نحاول – في هذه القراءة النقدية – أن نناقش بهدوء صحة هذا الاصطلاح من عدمه وأين تكمن مواضع الاعتراض عليه ونجعل الكلام في مجموعة من النقاط:
أولاً: إن مصطلح (الثورة) لم يرد مطلقاً في أي نص من النصوص الشرعية للأئمة(عليهم السلام) عند حديثهم عن قيام الإمام الحسين(عليه السلام)، وكان مصطلح (القيام) هو الاصطلاح الشرعي والتوصيف العقائدي الوارد في النصوص والآثار الشريفة، فالحسن والحسين إمامان (قاما) أو قعدا، وسمعنا الإمام الباقر(عليه السلام) يقول بتقدم علم من رسول الله (قام) علي والحسن والحسين، على أن اصطلاح الثورة كان موجوداً في تلك الحقبة وهو ليس اصطلاحاً حداثوياً حتى يمكن القول بأن زمان الأئمة لم يكن مشتملاً على هذا المصطلح، يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في وصفه لبعض أحداث ظهور الإمام المهدي عليه السلام (ويثور الثائر، ويهلك الكافر) غيبة النعماني 283، أي أن اصطلاح (الثورة) ومشتقاته كان جارياً على لسان الأئمة ومع ذلك لم يستعملوه في توصيف حركة الإمام الحسين(عليه السلام).
ثانياً: إن مصطلح الثورة في الاشتقاق اللغوي تعني حالة من الهيجان والوثبة والغضب وما يتعلق بها من معان، (فالثائر: ساعة ما يخرج من التراب. والنافر: حين نفر، أي وثب. وثار به الناس، أي وثبوا عليه. يقال: انتظر حتى تسكن هذه الثورة. وهي الهيج.. وثار ثائرة، أي هاج غضبه) الصحاح للجوهري 2\606، و(ثار الشئ ثورا وثؤورا وثورانا وتثور: هاج… والثائر: الغضبان، ويقال للغضبان أهيج ما يكون: قد ثار ثائره وفار فائره إذا غضب وهاج غضبه ) لسان العرب 4\108، (والثور: المجنون، وفي بعض النسخ: الجنون) تاج العروس 6\154 .
ثالثاً: الثورة (Revolution) في الفقه السياسي والقانوني هي (قلب نظام حكم قائم) “المعجم القانوني لحارث الفاروقي ج ق2\612″، وقد راج هذا المفهوم في الأوساط السياسية إبان الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، ولعبت الماركسية والاشتراكية العالمية دوراً مهما في نشر الايديولوجيا الثورية بين أنصارها باعتبارها طريق التغيير المنشود وأداة الطبقة العاملة وطبقة البروليتاريا نحو اختراق المجتمعات البرجوازية، وقد آمن ماركس أن الانقلاب الثوري هو من أهم القوانين التي تسيطر على التاريخ البشري كله (اقتصادنا ص75).
إن التمعن في الجذر اللغوي أو المفهوم السياسي للثورة يجد أنها بعيدة كل البعد عن القيام المقدس للإمام الحسين(عليه السلام)، فلم يكن هدف الإمام الحسين(عليه السلام) قلب نظام حكم مستبد كما تفعل الثورات التقليدية، ولم يكن قيامه المقدس هيجاناً وغضباً آنياً كرد فعل لتصرفات حمقاء أو قوانين تعسفية أصدرتها حكومة يزيد بن معاوية، إن القضية أعمق من هذا بكثير، والهدف أعم وأكبر من الانقلاب السياسي الذي توحيه لفظة الثورة.