Take a fresh look at your lifestyle.

من أعلام قرّاء ومؤلفي المقتل الحسيني.. السيد محمد تقي بحر العلوم (1318 – 1394هـ)

0 866
            اعتادت مدينة النجف الأشرف شانها شان المدن الإسلامية الأخرى في كل عام على إحياء مراسيم عاشوراء حتى أصبح كل بيت عبارة عن مأتم ترتسم فيه صور الحزن وملامح الكآبة بحيث لا يستطيع الإنسان مهما كان صبوراً إلا أن يتفاعل معها فلا ينفك حتى يرسل الدموع.
           وقد مثلت المجالس الحسينية التي تقام خصوصاً في العشرة الأولى مدارساً سنوية كانت ولا تزال تشد الناس وتجعلهم يتفاعلون مع أحداث كربلاء وكأنها نصب أعينهم وليس بينها وبين الحاضرين ألف وأربعمائة ونيف من السنين ولا كونها تُعاد بصورة دورية كل عام فتولد الملل عند السامعين وما هذا إلا النصر الذي وُعِدَ به الإمام الحسين(عليه السلام) حيث الحراك والديمومة في الذكر والباعث المحفز الآني للتواصل مع نهضته(عليه السلام).
             وكانت لخطباء المنبر الحسيني حصة الأسد كما يقال من هذه المجالس فهم الدعاة الذين ضحوا بكل ما لديهم من أجل نشر الفكر الحسيني الأصيل وربط الجماهير عقائدياً وعاطفياً مع النهضة الحسينية لكي يبقى المجتمع يستلهم المواقف المشرفة فيبقى سامياً بين المجتمعات الأخرى، آخذاً بأسباب العيش الكريم، ومع وجود هؤلاء الخطباء فقد جرى التقليد أيضاً في إقامة مجالس علمائية سنوية تعقد خصيصاً في العشرة الأولى من المحرم لقراءة مقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، حيث يرتقي المنبر فقيه من الفقهاء، ويشرع بالقراءة في وريقاته الخاصة، مقسماً مجلسه على عدد أيام العشرة وربما يتعدى العشرة إلى الثلاثة عشر حيث دفن الأجساد الطاهرة في كربلاء،
            ومن هؤلاء النخبة الصالحة برز السيد محمد تقي بحر العلوم، قارئاً حافظاً مجيداً، متكئاً على خلفية علمية راسخة، متمعناً في تمحيص واختيار الروايات التاريخية، مع قابلية على إعطاء الحدث حقه من التوضيح والتبيين.
              لنسلط الضوء على حياته الكريمة ثم لنبين قصته مع المقتل من خلال ما كُتب عن ذلك.
           هو السيد محمد تقي بن السيد حسن بن السيد إبراهيم بن السيد حسين بن السيد رضا بن السيد محمد مهدي بحر العلوم الطباطبائي الحسني النجفي.
            ولد في النجف الأشرف سنة 1318 هـ في محلة المشراق حيث منازلهم المعروفة منذ عهد جدهم سيد الطائفة السيد بحر العلوم (ت1212هـ) ولحد الآن.
             نشأ على يد والده السيد حسن الذي كان شاعراً معروفاً كما كان جده السيد إبراهيم من شعراء النجف المشهورين، بل من شعراء العراق وديوانه الشعري المعروف بديوان السيد إبراهيم الطباطبائي يشهد بشاعريته وملكته العالية في صياغة قصائده وفق ذوق عربي رفيع.

 

   أســاتذته

              قرأ المقدمات الأولية الأدبية والشرعية على : الشيخ مهدي الظالمي، والشيخ قاسم محي الدين، والشيخ علي ثامر، والشيخ محمد تقي آل صادق، والسيد محسن القزويني، والشيخ رفيع الرشتي، والسيد هادي الصائغ، أما السطوح الفقهية والأصولية فقد حضر على السيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي، ثم حضر الأبحاث العالية عند: الميرزا محمد حسين النائيني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ محمد حسين الأصفهاني، والسيد عبد الهادي الشيرازي، ثم لازم الشيخ محمد رضا آل يس،
             بعدها استقل بالبحث والتدريس وتخرج عليه جمع من الأفاضل، كما حصل على إجازة بالرواية من آغا بزرك الطهراني، وكان من أئمة الجماعة حيث كان رحمه الله يقيمها في الأوقات الثلاثة في مسجد الطوسي الملاصق إلى دور أسرته ومقبرتها.
             وقد تتلمذ على يديه نخبة من العلماء منهم: الشيخ محمد تقي الجواهري والسيد موسى بحر العلوم والشيخ محمد تقي الأيرواني والشيخ عيسى الطرفي والسيد ضياء الدين بحر العلوم والشيخ هادي القرشي والشيخ يونس المظفر والشيخ محمد آل راضي والسيد محمد علي الحمامي والشيخ حسين زايردهام والسيد محمد الصافي البصري والشيخ جعفر الصائغ وولده السيد حسين بحر العلوم .
              كان ورعاً تقياً فهو اسم على مسمى كما يقال فقد نُقل لي: (أن أسرة السيد قدس سره كانت لا تجد من المال ما يسد الرمق حيث كان يأبى أن يأخذ من الحقوق الشرعية إلا النزر اليسير جداً مقارنة مع حالة أسرته الضعيفة)، كما كان قدس سره خفيف المؤنة كثير المعونة مع إباء حسني انتقل إليه من الأصلاب المطهرة والأرحام الطاهرة.

 

   مؤلفــاته

            مقتل الحسين(عليه السلام)،
            شرح كتاب بلغة الفقيه،
            رسالة الأحكام،
            تعليقة على مكاسب الأنصاري،
            تعليقة على رسالة أستاذه الشيرازي،
            تعليقة على وسيلة النجاة، تقريرات أساتيذه.
                توفي رحمه الله في النجف يوم الاثنين 22/ جمادى الآخرة/1394هـ ودفن بمقبرة أسرته في جامع الطوسي(1).

 

   مشروع كتابة المقتل

            لكل فكرة تبرز على أفق العقل الإنساني ترتسم معها طريقة للتنفيذ والإظهار من نطاق العقل المحدود إلى فضاء الفكر المفتوح حيث تسطرها الأقلام على الصفحات أو تعلنها الألسن، وهذا بعينه ما جرى للسيد التقي حيث لامست فكرة قراءة المقتل أولا خواطره ثم تحولت إلى كتابة مقتل كامل ثم أخرجها إلى الوجود نجله السيد حسين بحر العلوم(قد)، لنقرأ معاً ما كتبه السيد حسين من مذكرات حول المؤلف والكتاب:
             (قبل أكثر من أربعين عاماً-على ما أتذكر- وأنا يومئذ لم أتخط العقد الأول من العمر كنت أشاهد بعض العلماء والفضلاء المشار إليهم بالبنان –آنذاك- أنهم من علية الحوزة وطلائع المرجعية يجتمعون في بيت سيدنا الوالد(قد) عصر كل يوم من أيام عشرة المحرم للتداول أو التناوب في قراءة التعزية على صفحات كتب المقاتل المعدة لهذا الشأن كالإرشاد والإيقاد ومثير الأحزان ونحوها، وغالباً ما كان يقع الاختيار من أولئك الجماعة على ثلاثة أو أربعة أشخاص- كان من بينهم السيد الوالد- وربما كانت حصته من مجموع العشرة أيام أكثر من حصص الباقين، لبعض المؤهلات التي كان يمتاز بها طلاقة بيان وشجاوة أداء وحسن اختيار (الكتاب)، والموضوع الذي تفرضه المناسبة المألوفة من أيام العشرة.
             وهكذا ينصرم العام الأول بمنطلق الفكرة والتأسيس البدائي بذلك الشكل العفوي، والتباني المرصود من أولئك الجماعة على أن يعتبر هذا العام نواة تحضيرية للأعوام الآتية.
               ويجيء دور الذكرى الثانية من العام التالي، وإذا بسيدنا الوالد من أنشط الجماعة على استقبال شهر المحرم وتبني إقامة (المجلس) فيه.
            فما حان الموعد المرصود من عصر اليوم الأول من عشرة المحرم غلا واكتظ مجلس أولئك الجماعة وغيرهم من نظرائهم في غرفة متواضعة من بيتنا المتواضع أيضا، ينتظرون من سيكون الفاتح والبادي الأول لقراءة (المقتل) فلم تعدو آراء الجميع سيدنا الوالد واختيار أن يكون هو المضطلع ـ وحده ـ بقراءة التعزية واختيار الكتاب الذي يراه مناسباً في مختلف أيام العشرة.
             وفعلاً قام سيدنا المغفور له بذلك الدور المشرف بأحسن قيام، فلم يعين للقراءة وقتاً واحداً لجميع أيام العشرة، بل ربما كان يقرأ اليومين والثلاثة في كتاب، ويبدله بآخر، وثالث في بقية أيام العشرة، حتى انتهى العام الثاني من إقامة المجلس بهذا ونحوه، من غير تحضير مسبق لتعيين الكتاب الذي يقرأ فيه.
            ويقارب موعد المجلس من العام الثالث، وإذا بي أرى بين يدي سيدي الوالد دفتراً صغيراً وهو يكتب فيه ما يستخلصه من بطون كتب الأخبار والتاريخ والسير، ليعده رصيداً بدائياً لما سيقرءوه في مجلسه الحولي.
             ويطلع علينا هلال المحرم من هذا العام بأحزان عاشوراء وينتصب المجلس-بعد الغروب بساعتين- بدلاً من وقته العصري، في ساحة الدار الواسعة بدلاً من (الغرفة الصغيرة) كل ذلك لاتساع الأفق وزخم الحضور.
            وتكامل المجلس واكتظت ساحة الدار وغرفها، وقرب موعد القراءة، ونصب منبر متواضع في أحد الجوانب، وإذا بسيدنا الوالد رحمه الله يرقى ذلك المنبر وبيده (الدفتر الصغير) فيبدأ بالقراءة بشكل غير مألوف في الأعوام السابقة، إنه يبدأ بتلاوة بعض الآيات البينات من الذكر الحكيم، وثنى بعرض بعض الأحاديث النبوية وروايات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كل ذلك في نطاق الوعظ والإرشاد ومواضيع دينية، ومعارف إسلامية بناءة وبعد ذلك واصل قراءة الموضوع المناسب في التعزية على ضوء ما تقتضيه المناسبة الحاسمة لذلك اليوم، وختم المجلس بأبيات رثائية لبعض الشعراء المجيدين من قدماء أو معاصرين،
             وهكذا ينفض المجلس وينقلب الحاضرون عن عظة وبكاء وأجر وثواب، وبهذا ونحوه تواصلت حلقات المجلس الليلية حتى نهاية المطاف من نهاية العشرة من المحرم في ذلك العام.
            وظل سيدنا الوالد- بعد ذلك- يواصل التزامه الحثيث بإقامة (مجلسه الحولي) طيلة سنوات حياته، بدا بذلك المنطق البسيط –كما ذكرنا- حتى اتسع مجاله واستطالت ظلاله في السنوات الأخيرة من حياة الوالد-رحمه الله- فكان يعد من أروع وأضخم المجالس الحسينية المقامة في النجف الأشرف أيام عشرة المحرم لما كان يتمتع به من روحانية عالية وإخلاص وتوجه وواقعية واضحة، فكان مزدحما، بمختلف الطبقات الاجتماعية والعلمية وربما قصده الناس من خارج النجف وضواحيها للحضور والاستفادة، والتبرك والاستشفاء.
            وكنت ألمس من سيدنا الوالد- طوال تلكم السنين- مزيد العناية والاهتمام البالغ بإقامة (المجلس) ورعايته، حتى انه في بعض السنوات مرض مرضاً شديداً بالحمى العنيفة، وصادف ذلك قبيل شهر محرم، الأمر الذي اقتضى طبيبه المعالج أن يفرض عليه الراحة وعدم الكلام الكثير فتم البناء على ترك قراءته بنفسه في هذا العام وإناطة ذلك إلى بعض المتفوقين من خطباء المنبر الحسيني ـ كما هو المألوف في المجالس العامة ـ .
              وقبل حلول المحرم بليلة واحدة إذا بسيدنا الوالد ينشط ويعزم على تولي القراءة بنفسه- على عادته في كل عام- بالرغم من تفاقم مرضه وضعف مزاجه، فسُئل –وكنت من بين السائلين- عن السبب الذي حدا به أن يغير رأيه بهذه العجالة، ويخالف رأي طبيبه له بالراحة والاستجمام، فكر لنا ـ بعد الإلحاح عليه بالسؤال ـ بعض الأسرار العجيبة التي كان يلمسها ـ من خلال إقامته لهذا المجلس ـ ومن ذلك ما كان رآه قبل هذه الليلة في عالم التجلي والأحلام بهذ المضمون التالي:
             إنه رأى فيما يرى النائم وكأنه في الحرم العلوي المطهر، وكان الليلة هي الأولى من المحرم، وكان المكان الشريف قد اكتظ بالأشباح النورية والأرواح القدسية من أنبياء وأوصياء وعلماء وصلحاء، وفي وسط تلك الأشباح المقدسة من حيث يلي الرأس الشريف- أشباحاً خمسة تمثل أهل العباء(عليهم السلام) وهي أكثر سطوعاً من بقية الأشباح الأخر، وكأن عامة الحاضرين في حالة حزن وكآبة وانتظار من يعتلي منبراً منصوباً هناك ليفجر الدموع من ينابيع القلوب الحزينة، فبينما هم بهذا ونحوه إذا بالأمر النبوي يصدر من الجانب الأقدس مشيراً إلى سيدنا الوالد ـ وكان في ذلك المحضر المكرم ـ أن يعتلي المنبر المنصوب المتجلل بالسواد، ويقرأ التعزية بذلك الشكل المألوف الذي اعتاده كل عام في مجلسه البيتي، فلم يجد سيدنا الوالد بداً من الإطاعة، فقرأ التعزية المألوفة، فضج المحضر الشريف بالبكاء والعويل وسالت الدموع كل مسيل.
             وهكذا انتهت قصة الرؤيا التي هي أشبه بالإيحاء النفسي مما دعا سيدنا الوالد أن يواصل قراءة التعزية من أول ليلة من المحرم حتى أخر ليلة من ختام العشرة، لكنه شوفي من مرضه خلال أيام العشرة ببركة سيد الشهداء الحسين بن علي(عليهما السلام).
              ولم يزل رحمه الله مواظباً على إقامة المجلس وقراءة (المقتل) بنفسه، حتى في أخريات أعوامه التي لازمه فيها مرض الموت، فربما كان يقرأ بعض أيام العشرة وبصوت خافت، وكنت أنوب عنه في الأيام الأخر التي لا يستطيع القراءة فيها، وكثيراً ما كان يوصيني- في أيام صحته وأيام مرضه الأخير- بالمواظبة على إقامة المجلس بذلك الشكل المألوف).

 

   كتاب مقتل الحسين(عليه السلام)

               من يستعرض كتب المقاتل المكتوبة يجد اليوم عدداً كبيراً منها في المكتبات وعلى صفحات الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، ويجد بالذات مقتل السيد محمد تقي بحر العلوم بين تلك الكتب، لنمضي مع السيد حسين أيضاً في حديثه حول بداية هذا الكتاب حيث يقول: (إنه ذلك الدفتر الصغير الذي لا يتجاوز (150 صفحة) من القطع المتوسط ولقد اطلعت على ذلك المجموع أخيراً بعد وفاة سيدنا الوالد-رحمه الله- فوجدته بحاجة إلى تبويب وتنسيق وتخريج مصادر وبعض الإضافات في أصل المجالس حيناً ومثلها في ثناياها-أحياناً وغير ذلك من الملاحظات اللازمة لأي كتاب يمثل للطبع ولم يكن يدور في خلد مؤلفه أن يطبع.
             فعمدت ـ مستعيناً بالله ـ إلى توفير ما يحتاجه الموضوع ليتكامل بعض الشيء فجاء بحمد الله بعد تلك الجهود المتواصلة التي أخذت مني وقتاً غير قصير كتاباً قيماً لا ريب فيه، ويستحق أن يعيش العمر المديد على صفحات الأجيال الخالدة بحكم موضوعه وأسلوبه الواضح وجمعه المتكامل وخلوه إلى حد ما من سقطات التاريخ وهنات المؤرخين وسميناه (مقتل الحسين أو واقعة كربلاء) ورتبناه وإن كان في أصله غير خال من بعض الترتيب إلى مجالس عشرة بحكم اقتضاء الموضوع، انطلاقاً من المدينة طلائع الواقعة إلى كربلاء نهاية المطاف.
             وموجز محتويات مجالسه العشرة لو استثنينا مقدماتها من آيات وروايات كما يلي:
  المجلس الأول: في فضل البكاء والرثاء وعقد المجالس الحسينية.
  المجلس الثاني: في ذكر ما دار بين الحسين(عليه السلام) ومعاوية من مناقشات ورسائل حول اخذ البيعة ليزيد.
  المجلس الثالث: استدعاء الحسين(عليه السلام) لبيعة يزيد بعد موت معاوية وامتناعه من البيعة وخروجه من المدينة إلى مكة.
  المجلس الرابع: عرض خروجه من مكة ووصوله إلى كربلاء.
  المجلس الخامس: خروج مسلم بن عقيل في الكوفة ومقتله فيها.
  المجلس السادس: نزول الحسين وأهل بيته وأصحابه في كربلاء وعرض مواقفهم المشرفة.
  المجلس السابع: عرض مبارزات ومصارع العباس بن علي(عليهما السلام) وأشقاءه الثلاثة من أم البنين.
  المجلس الثامن: مبارزة علي الأكبر والقاسم وعموم بني هاشم من آل علي وجعفر وعقيل.
  المجلس التاسع: عرض مواقف الأنصار البطولية ومبارزاتهم ومصارعهم يوم الطف.
  المجلس العاشر: مبارزات الحسين(عليه السلام) ومصرعه في ميدان الحق(2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(1) الفتلاوي، المنتخب من رجال الفكر والأدب، ص409.
(2) بحر العلوم، مقدمة كتاب مقتل الحسين(عليه السلام).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.