تحديد المواقف بين الأيديولوجية والمعرفة بعد واقعة الطف
من الغريب أن يفعل بالإمام الحسين(عليه السلام) هذه الفعلة، ولو عرضت على النوع الإنساني منذ تكوينه إلى قيامه لا يرضى الفعل الصادر ممن يدعي الإنسانية بأدنى حدودها،
ومن الغريب والعجيب إغماض العين عن هذه الفعلة ـ من قبل بعض المعاصرين ـ التي شوهت الفكر الإنساني على مدى المسار التاريخي ولكنها أيقظت الضمير الحي برسوخ فكرها في المستوى الإنساني منذ وقوعها عام 61هـ إلى تجددها وانتشارها وديمومتها في الفكر العالمي برغم إغماض العين عنها عند بعض المسلمين محاولة لإرضاء حكام الظلم والجور في الماضي والحاضر، إذ رضي من هم خارج التاريخ فبرروا الأفعال وحكموا بصحة الفعل الصادر من القتلة مع المثلة بشخص لا نظير له يقف أمام الجيش له من الحصانة الشرعية والأخلاقية المادية والروحية مما لا ينكره المعادين له حتى المتجاسرين على شخصه بالنهب والسلب والقطع والتمثيل وحمل الرأس على الرمح للسير به أمام الناس وفي مناطق وقرى ليقدموا للناس صورة لأفعالهم من أجل السلطة وهي عملية ميدانية لمن يريد المعارضة أو الوقوف بوجه الدولة المتسلطة التي أصبحت شرعية بفضل سياسة الترهيب والترغيب والتزييف الأيديولوجي للحقائق وازدواجية المعايير وغياب الوعي المقصود زرعه في ثقافة الأمة.
إن غياب المنحى المعرفي في كشف الحقائق أدى لبروز ظاهرة النموذج الأسوأ وكأنه مصلح كابن تيمية عند أحمد أمين ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي من المفكرين المعاصرين فضلاً عن الفتاوى الفقهية عن اتباع ابن تيمية في مشروعية الحكم اليزيدي والترويج لذلك الخط المؤدلج كمنهج إسلامي يعتمد المصادر الإسلامية الأصيلة، مع أن هذه المصادر تنطق بصريح القول في بيان صورة ناصعة البياض للإمام الحسين(عليه السلام) ومن لا يعرف ذلك عليه أن يبحث بحثاً ابستمولوجياً ليجد الصورة الحقيقية ويصل إليها عن هذا الطريق ليكون أوقع في النفس من التلقي السريع من دون جهد.
هذا اليوم أضافت الشرعية السلطانية إلى من تلطخ بدماء أهل البيت(عليهم السلام) ورضي بفعالهم الحجة بالتخريج الأيديولوجي لمصلحة الأموية مقابل العلوية وهو التقسيم التاريخي الوحيد في الصراع السياسي، فإن الأمة قد انقسمت في فكرها إلى هذين الخطين، وقد تمظهر في موقف الإمام الحسين(عليه السلام) كموقف ميداني للإصلاح والنهضة، ولم يتغير الموقف العلوي ولا الأموي إلى هذه اللحظة بل إن شعار الإمام المهدي (عجل الله فرجه) القضاء على الأموية المعشعشة في الأفكار وتاريخها،
وإني لأستغرب من بعض المعاصرين إذ يصرح بصحة أعمال اليزيدية الأموية تجاه رحل النبي(صلى الله عليه وآله) وأسرته وقرة عينه الحسين(عليه السلام)، هذا الموقف وغيره من المواقف يجب أن يصدر بعد التشخيص وهو النظر في الحدود والموانع وإبراز الموضوع بشكله الجلي ثم إصدار الحكم النهائي فلا القياس الجلي ولا الخفي ولا الاستحسان ولا قول الصحابة وفعلهم نفعت في إصدار الحكم فأي دليل يعتمد إذاً وما هو فعل المقارنة يا ترى؟
والغريب إن الشيعة الإمامية لمّا تبكي الحسين(عليه السلام) تستنكر بعض الطوائف وتأول الشيعة أفعالها من الحزن وأشكاله حزناً وألماً على الأفعال التي صدرت من هؤلاء من قتل وتعذيب وقطع للرؤوس مع معرفة منازلهم ومراتبهم العالية في سماء الشريعة الإسلامية، فإذا أردت حب الحسين(عليه السلام) وأصحابه فالحسين(عليه السلام) أعلى مرتبة من الصحابة باعتراف جميع الصحابة لما له من منزلة رفيعة وقرب معنوي إلى روح النبي(صلى الله عليه وآله)،
فلعجزهم عن إدراك فضيلة الاستنكار قالوا إن شيعة الإمام علي(عليه السلام) وأولاده يسبون الصحابة فأيهما أكثر شناعة سب الصحابة أم قتلهم أو قتل من هو أعلى منهم منزلة؟ وصح الخبر المتواتر إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة باللفظ عن جدهم المصطفى(صلى الله عليه وآله)، ثم إذا عرضت هذه الأفعال على شخص الرسول(صلى الله عليه وآله) يا ترى ما هو رأيه؟ سؤال يحتاج إلى إجابة.
تعدد المواقف للفكر الأيديولوجي الأموي
قال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) هود/113،
هذا النص يؤكد منع الركون والسكون للظالم بل هي ثقافة وعي في الفكر الإسلامي منعها المتسلط من أن تمارس على مستوى الأمة مما نتج طغيان الظلم وامتداده وأثره في تاريخ الأمة وعدم تحولها إلى ثقافة الوعي الحقيقي بمرتكزاتها، ومن هذه الأيديولوجية إنهم ركزوا ثقافة عدم الخروج على الحكام وقتالهم حرام وإن كانوا فسقة ظالمين ودليلهم الإجماع ولكنهم في تنازع في هذا الإجماع لخروج الإمام الحسين(عليه السلام) على يزيد بن معاوية(1)،
ولذلك حاولوا تبرير فعل الحاكم والعجيب من بعض (أهل العلم كالكرامية ومن وافقهم في الجمود على أحاديث الباب حتى حكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه وأرضاه باغ على الخمير السكير الهاتك لحرم الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله فيا لله العجب من مقالات تقشعر منها الجلود ويتصدع من مسامعها كل جلمود)(2).
ينهى عبد الله بن عمر بن الخطاب خلع بيعة يزيد بن معاوية واعتبر ذلك غدرة(3)، وفي سنن الدارمي (ت255هـ) ينقل عن شخص قد سمع يوم تهنئة يزيد بالخلافة إن من اشتراط الساعة أن ترتفع الأشرار وتوضع الأخيار ثم يذكر قائل هذا القول وهو عبد الله بن عمر(4)،
وينقل البخاري (ت256هـ) إن مروان ذكر يزيداً يوماً فرده عبد الرحمن بن أبي بكر، ولكن البخاري لم يذكر الرد وعبر عنه (شيئاً) أي قال شيئاً فأمر مروان بأخذه إلا أنه دخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه(5)،
ثم ذكر البخاري حادثة عبد الله بن عمر بن الخطاب رفض خلع يزيد مصرحاً: (وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال… الخ)(6).
مرويات الطبري بعد الشهادة
قال الإمام الحسين(عليه السلام) عندما حيل بينه وبين رحله كما نقل ذلك الطبري (ت310هـ) في تاريخه:
(ويلكم! إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم)(7)،
والنص يشير إلى النزعة الإنسانية الأعم الجامعة بين الناس وحتى هذه قد نزعت فصدرت منهم الأفعال الخارجة عنها، ويبدو إن القتال كان مقابل مخيم النساء إذ يروي الطبري إن غلاماً قد اشتد في المجيء إلى الإمام(عليه السلام) فأخذته العقيلة(عليها السلام) لترده إلى الخيام وكانت تسمع قول الإمام الحسين(عليه السلام) احبسيه ولكن الغلام أبى وصاح بأبجر بن كعب لما رآه يريد ضرب الحسين(عليه السلام) (يا ابن الخبيثة أتقتل عمي)(8)، وقد لاقى هذا الغلام قسوة وظلم هؤلاء في قطع يده (فضمه ـ الحسين(ع) ـ إلى صدره وقال: يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين برسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وعلي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسين بن علي صلى الله عليهم أجمعين)،
ولما شعر الإمام الحسين(عليه السلام) بقرب الشهادة ولم يبق معه إلا ثلاثة أو أربعة دعا بسراويل محقق (أي محكمة النسيج) يلمع فيها البصر يماني محقق فغرزه ونكثه أي نقض نسجه لكيلا يسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تباناً وهي سراويل صغيرة مقدار شبر تستر العورة، قال: ذلك ثوب مذلة ومع هذا قد سلب، سلبه أبجر بن كعب وتركوه مجرداً(9).
كانت المعركة قبل نهايتها يمكن تصويرها كما وردت عند المؤرخين الكبار ممن ينتهي به السند إلى الرؤية البصرية أي عن حس ومشاهدة إما هو مشارك في المعركة أو غير مشارك من أطراف الصراع ويطلق عليهم في التاريخ شهود عيان للأحداث، كان الإمام الحسين(عليه السلام) يقاتل إلى آخر نفس في حياته وكانت الكثرة قد غلبته ولما اشتد الضرب عليه كان ينوء ويكبو وفي أثناء ذلك هجم عليه سنان بن أنس النخعي فطعنه بالرمح فوقع ثم أمر خولى بن يزيد الأصبحي أن يحتز رأسه فأراد أن يفعل فضعف فأرعد فجاءته السيوف قبل أن يقطع رأسه،
وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) طعن ثلاث وثلاثون وأربع وثلاثون ضربة، وسلب الحسين(عليه السلام) ما كان عليه، انظر وتأمل للفعل الصادر من هؤلاء وكيف انتزعت الروح الإنسانية منهم، وكان سلبهم ونهبهم كما يأتي كما ذكر ذلك الطبري في تاريخه:
1. السراويل لأبجر بن كعب.
2. القطيفة وكانت من خز لقيس بن الأشعث، ولقب بعد ذلك بقيس قطيفة.
3. نعليه لرجل من بني أود يقال له الأسود.
4. سيفه لرجل من بني نهشل بن دارم ومن بعده إلى أهل حبيب بن بديل.
5. الورس والحلل والإبل سلبها الناس.
6. نساء الحسين(عليه السلام) وثقله ومتاعه هجم عليها العسكر فأخذ ما أخذ من متاع دنيوي.
وكان آخر قتيل في المعركة سويد بن عمرو بن أبي مطاع كان قد صرع فأثخن فوقع بين القتلى مثخناً فسمع القوم يقولون: قتل الحسين فنهض ومعه سكين وقد أخذ سيفه فقاتلهم إلى أن قتل.
وفي رواية حميد بن مسلم إن عمراً أمر بعدم التعرض لحرم الإمام الحسين(عليه السلام) ومن أخذ شيء فعليه رده ولكن لم يرد شيئاً أخذه الناس (فوالله ما رد أحد شيئاً)(10)،
ولم يكتف القوم بقطع رأس الحسين(عليه السلام) إذ انتدب عمر بن سعد جماعته ونادى في أصحابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة:
1. إسحاق بن حيوة الحضرمي وهو الذي سلب قميص الحسين(عليه السلام).
2. أحبش بن مرثد بن علقمة بن سلامة الحضرمي.
ولم يذكر الطبري غير هؤلاء ولم يسم الثمانية ولكنه ذكر إنهم قاموا بالفعل المأمور به من قبل عمر بن سعد (فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره…)(11)،
ثم… أرسل رأس الحسين(عليه السلام) إلى الكوفة يسبق السبايا بيد خولى بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي…
ثم بعد ذلك قطعت رؤوس الباقين فيذكر الطبري إنها كانت اثنين وسبعين رأساً تحت حماية الشمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس.
وقد بالغ ابن زياد في النظر إلى رأس الحسين(عليه السلام) وهو ينكت بقضيب بين ثنيتيه فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب قال له: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين فوالله لا إله إلا غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما ثم انفضخ الشيخ يبكي فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، وهذه هي لغة القوم أمام الحق أصروا واستكبروا استكباراً فنهض زيد خارجاً وهو يتمتم بكلام سمعه الناس عند خروجه لذا قالوا: (والله لقد قال زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابن زياد لقتله)،
ثم ينقل الطبري ما قاله زيد بن أرقم وسمعه الناس قالوا مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبداً فاتخذهم تلداً، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فرضيتم بالذل فبعداً لمن رضي بالذل.
وكان لعبد بن الله بن عفيف الأزدي الغامدي ذات الموقف وبه نال الشهادة إذ أمر بصلبه في السبخة ثم إن الرأس طيف به في الكوفة ثم بعد ذلك أرسل الرأس مع الرؤوس إلى دمشق،
ولبيان هذا الموقف الشجاع منه يظهر المرتكز في وعي الأحرار لأثر هذه الأفعال مع عدم الرد بتركيز ثقافة الفكر الأيديولوجي وتسلط الحاكم الظالم وتحسين صورته حتى لو اعتدى على قيم التأسيس النصية النازلة والمفسرة، سنذكر ما نقله الطبري من كلام الأزدي لابن زياد، إن الأزدي كان من الشيعة عينه اليسرى قد ذهبت يوم الجمل وفي صفين ضرب على رأسه فذهبت عينه الأخرى،
وكان لا يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى صلاة الليل ثم ينصرف فلما سمع ما قاله ابن زياد في خطبته رده بقوله: (يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتكلمون بكلام الصديقين! فقال ابن زياد: عليّ به، قال: فوثبت عليه الجلاوزة فأخذوه، قال: فنادى بشعار الأزد: يا مبرور، قال وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس فقال: ويح غيرك! أهلكت نفسك وأهلكت قومك، قال: وحاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل، قال: فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه فأتوا به أهله فأرسل إليه من آتاه به فقتله وأمر بصلبه في السبخة فصلب هناك)(12).
ويرسم الطبري صورة أخرى من صور المواقف الفعلية لأحد الصحابة وهو أبو برزة الأسلمي له موقف مع يزيد الذي كان يشمت في قتل الإمام(عليه السلام) وينظر للرأس الشريف ويعيد نكته، إذ أعاد نكت ثغر الرأس فقام إليه أبو برزة قائلاً مستفهماً: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين إما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً ـ وهي إشارة إلى الشماتة والحقد ـ لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يرشفه أم إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد صلى الله عليه (وآله) وسلم شفيعه ثم قام فولى(13).
وليحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم كلام في ذلك: لما وضعت الرؤوس أمام يزيد وقد قال:
يفلقن هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما