أجمع علماء الاجتماع والسلالات البشرية على إن للإنسان ميلاً فطرياً طبيعياً يولد في فكره رغبة جامحة لاستمرار عقبه وذريته، فيرى من خلال ذلك امتداده عبر الأجيال وخلود ذكره المستمر مع تقادم الزمان وتغير المكان خصوصاً إذا كان ذلك الإنسان وجها من وجوه المجتمع الذي يعيش فيه.
ومع ذلك فالخلود الذي يبحث عنه الإنسان ليس دائما في امتداد النسل ، فقد يتحقق خلوده مع عوامل أخرى تكون باعثاً حقيقياً مستمراً في بقاء ذكره جيل بعد جيل والعمدة في ذلك العمل التقرب إلى الله تعالى وطلباً لرضاه وبذا تكون الباقيات الصالحات من أعمال الخير والبر هي الوسيلة المضمونة في الخلود بعد رحلة الموت.
تطابقت هذه الحالة مع كثير من المحسنين الذين أعرضوا عن الدنيا واتجهوا نحو الآخرة فنالوا الخير في الدارين، منهم الحاج محمد صالح الجوهرجي الذي حُرِمَ من نعمة الولد، ولكنه لم يحرم من صالح الذكر المتجدد الذي لم يفارقه حياً وميتاً وكأنه عرف إن سر البقاء متعلق بخلوص النية وحسن السيرة فأعد عدته متخذا مما وهبه الله من أموال طريقاً لنيل السعادة وأرتحل إلى الدار الآخرة تاركاً ورائه ذكراً حسناً وصدقة جارية تمثلت في المسجد والمشفى الذي أسسهما وكتاب ضياء الصالحين الذي لا يكاد بيت من بيوت المسلمين يخلو منه.
لنقف مع ما كتب عن الحاج محمد صالح الجوهرجي ونحاول أن نسلط الضوء على آثاره متخذين من سيرته الذاتية مدخلاً لذلك.
هو محمد صالح بن محمد سعيد بن عباس بن عبد الحسين بن إبراهيم بن مهدي حسن بن علي بن محمد أمين بن علي بن كاظم بن صادق بن باقر بن علي بن حسين بن حسن بن علي بن محمد أمين بن عبد الله الملقب بالهمدان اليماني(1)، القبيلة اليمانية العربية الأصيلة التي يعودون إليها وفيها قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام):
فلو كنت بواباً على بابِ جنة لقلت لهمدان: أدخلي بسلامِ
ولد محمد صالح سنة 1307 هـ في مدينة النجف الأشرف في بيت عريق وعائلة نجفية نزحت من الحجاز قبل أكثر من أربعمائة سنة وسكنت النجف الأشرف رغبة في مجاورة أمير المؤمنين(عليه السلام)(2)،
وذكرهم الشيخ جعفر محبوبة فقال: (الصياغ، طائفة معلومة وجلهم يتعاطى مهنة الصاغة وهم في محلة البراق يعرفون بـ(بيت محمد أمين)، رأيت فرماناً باللغة التركية مؤرخاً سنة 1168هـ باسمه يتعاطى راتباً شهرياً ببعض الحبوب والنقود من أراضي التاجية يقال سبب تسميتهم بالصياغ، كان احد أجدادهم يتولى الإشراف على الصاغة على عهد نادر شاه حين تذهيب القبة المنورة والإيوان والمأذنتين فعرف بالمتولي على الصاغة ثم خفف بالحذف فقيل: (الصائغ)(3).
والظاهر أن هذه الأسرة اشتهرت بالصياغة حتى عُرف أن أغلب الصاغة في النجف منها، كما أشتهر الحاج محمد صالح الجوهرجي إضافة لمهنته صائغاً كونه من خدمة الروضة الحيدرية المقدسة.
اشتهر الحاج محمد صالح بلقب الجوهرجي دون باقي الأسرة التي عرفت كما ذكرنا بـ آل الصائغ والظاهر انه امتهن تجارة المجوهرات والأحجار الكريمة.
إلى اليمين: الحاج الجوهرجي في أحد محافل النجف ويظهر في الصورة السيد حسين الكليدار
ولع رحمه الله بالأعمال الخيرية منذ أيام شبابه موقناً بأنها السبيل الوحيد لنيل رضا الله تعالى.
مسجد الجوهرجي بين الأمس واليوم
أصبح هذا المسجد من معالم مدينة النجف الأشرف البارزة والمعروفة، وقد باشر(4) رحمه الله بتشييده سنة 1358هـ/1939م واستمر العمل فيه زهاء ستة أعوام حيث تم بناؤه سنة 1364هـ، الموافق 1944م، فأرخ ذلك الشاعر المعروف الشيخ عبد الحسين الحويزي بقوله:
طوبى لمن عمرت يداه عناية بيتاً تقام
أما الشيخ محمد علي اليعقوبي فقد أرخ الانتهاء من بناء منارة المسجد عام 1377هـ/ 1957م بقوله:
بمسجده أرخو للإله بناها التقي الفتى (الصالح)
وذكر الأستاذ جعفر الخليلي(5):
أسس الحاج محمد صالح الجوهرجي في محلة المناخة في شارع المدينة مسجداً واسعاً وبجنبه حسينية ثم اخرج منها 12 دكاناً وبنى جوارها حماماً للرجال باسم (حمام الكوثر) وجعل هذه المنشآت كلها وقفاً للمسجد والحسينية غير أنه رأى أخيراً أن الأنفع والأصلح للوقف وإدامته ومنعاً لضرر المجاورين من وجود الحمام وتسرب مياهه إلى أسس دورهم أن يزيل الحمام ويضيف مساحته إلى الحسينية مع قسم من أرض ملكه المجاور وهكذا فعل،
وأعاد بناء المسجد بأقوى مما كان وجعله حرماً وجعل الساحة (حسينية)، وشيد على القسم الباقي المحيط بالمسجد والحسينية من الجهات الأربع خمسين حانوتاً وبني في الطابق العلوي فوق الحوانيت المذكورة مدرسة لطلاب العلوم الدينية تتألف من 52 غرفة وكلها اليوم مسكونة بالطلاب وقد بنى لهم حماماً عصرياً في الطابق الثالث ووقف جميع هذه المنشآت وقفاً خيرياً يصرف واردها على لوازم المسجد والحسينية والمدرسة والمكتبة وقد أرخ المسجد الشيخ محمد جواد مطر بأبيات مكتوبة بالكاشاني على جبهة باب المسجد وهي:
صالح ما أسس مسجداً هنا إلا وفي الجنة بيتاً أسساً
المسجد اليوم:
يحتل المسجد اليوم ركناً بارزاً يطل على شارع المدينة، احد شوارع مدينة النجف الأشرف حيث يكتظ هذا الشارع بالمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي.
تبلغ المساحة الكلية للمسجد حوالي 865 متر مربع، تقع الباب الرئيسة في الزاوية الشمالية الغربية وقد كتب على واجهتها العليا بالكاشي الكربلائي عبارة جامع الجوهرجي وتحتها كُتب:
( قال ابن مسعود عن رسول الله لما اسري بي إلى السماء رأيت مكتوب على باب الجنة لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله فمن أراد الدخول من هذه الأبواب الثمانية فليتمسك بأربعة خصال وهي الصدقة والسخاء وحسن الخلق وكف الأذى عن عباد الله، شيد هذا الجامع الشريف والحسينية والمكتبة والمقبرة على نفقة المحسن الموفق الحاج محمد صالح الجوهرجي بن محمد سعيد من خدمة الروضة الحيدرية، تأسس 1364هـ الموافق1944م)
كتب تحتها الآية: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ).
وعندما تدخل المسجد تواجهك باحة المسجد الواسعة يطل عليها حرم المسجد وقد تزين بحلة جديدة حيث تم تغليف سقفه القديم بالسقف الثانوي كما أن المسجد كله خضع لعمليات الترميم والتجديد وذلك بمساعي المتولين على الوقف الحاج محمود الحاج عبد الصاحب الصائغ والأستاذ المحامي منعم الصائغ، وقد فرش بالسجاد الكاشاني الفاخر موشحاً باسم الحاج محمد صالح الجوهرجي، كما تطل المكتبة على الباحة، وتجاور بنفس الوقت الحرم الداخلي حيث تطل عليه بواسطة شباكين خشبيين كبيرين، في حين تقع المقبرة داخل المكتبة.
تحتوي المكتبة على 4500 كتاب حالياً وهي مفتوحة عصراً طيلة أيام الأسبوع للباحثين والمطالعين، وفيها عدد من الكتب الحجرية والمطبوعة وقد توزعت الكتب على الرفوف مرتبة على جهة واحدة فيما يقابلها مكان معدٌ للمطالعة.
ترتفع فوق المسجد منارة مشيدة بالطابوق ومصممة وفق طراز العمارة الإسلامية حيث لا تخلو من جماليتها وقد نُقشت عليها خطوط كوفية جميلة زينتها أسماء الأئمة المعصومين(عليهم السلام)، كما ترتفع فوق المقبرة قبّة خضراء صغيرة مكسوة من الخارج بالكاشي الكربلائي.
تقع في الطابق العلوي المدرسة الدينية، حيث تحيط غرفها بباحة المسجد وتطل عليه عبر ممر مسقف تبدو عليه آثار التجديد واضحة كما تبدو على الغرف أيضاً، يشغلها عدد من الطلبة الهنود والباكستانيين ويقوم بالإشراف عليها الآن وعلى المسجد مؤدياً الصلاة في سماحة الشيخ مجيد الصائغ.
كتاب ضياء الصالحين: