لم تزل النجف الأشرف منذ أقدم العصور واهبة الفضائل ومعلمة الإنسانية في شتى الفنون والعلوم، حتى أطبق صيتها الدنيا بأسرها، فصارت لا تذكر في محفل من محافل العلم والمعرفة إلا أطربت مهتزة لذكرها الرؤوس، وخشعت القلوب وأذعنت النفوس، كيف لا وهي من عرفها المخالف والمؤالف، وذلك كله بفضل علمائها الذين عكفوا في حمى الوصي على نيل الأمجاد، وروَّوا بمعين علومهم ظمأ الوفّاد، فصارت تحج إليهم وفود العطاشا من كل فج عميق، فلله درهم وعليه أجرهم،
ولو حاولنا تعداد أولئك الأفذاذ لكُنّا عبثاً نحاول، تشهد بعجزنا المصنفات الجسام، ولكن يبقى واجب الوفاء يحدو بنا إلى الكشف عن أحوالهم وتشييد المندرس من ذكرهم بقدر ما اتسعت له أوعية قلوبنا، كل ذلك إيمانا منا بلزوم إيقاف طلائع الأمة الصاعدة على مقتنياتها المعرفية،
فجاء تقديم هذا الموضوع في حدود القصد المذكور لإبراز سيرة الفقيه المحقق والأصولي المدقق العالم الرباني الشيخ عبد الهادي شليلة البغدادي (قدس سرّه الشريف)، الذي يعد من حسنات هذا البلد العريق، وهذه ترجمته أقدمها مع الاعتراف بالقصور سلفا.
اسمه ونسبه:
هو أبو الحسن عبد الهادي ابن الحاج جواد ابن الشيخ كاظم ابن الشيخ علي ابن الشيخ كاظم الهمداني البغدادي المعروف بـ(عبد الهادي شليلة)، من أصل بغدادي، وأمه من أسرة بغدادية الأصل أيضا تعرف بـ(بيت شليلة) وقد لحقه لقبها، ذكر ذلك الشيخ الطهراني(رحمه الله)(1)، وذكر المعنى نفسه السيد الأمين(رحمه الله) فقال: (وآل شليلة أخواله نسب إليهم)(2)،
ومثل هذا قد يحصل للكثير ولا نطيل الكلام في ذكر شواهده، ولقب (البغدادي) لحقه للسبب نفسه، وأما لقب (الهمداني) فلا نعرف له وجهاً مع أنا تتبعنا أقوال معظم من ترجم له، نعم يمكن أن يكون هذا اللقب لحقه استناداً إلى وفاته في (همدان) على قول بعض من ذكر أنه توفي بها، كما يمكن أن يكون من جهة الإلحاق بخاله الحاج محمد سعيد شليلة الذي سكن همدان فلُقِّب بـ(الهمداني)، كما صرح الشيخ علي آل كاشف الغطاء(رحمه الله) في كتابه (الحصون المنيعة)(3).
ولادته ونشأته:
ولد شيخنا المترجم(رحمه الله) في النجف الأشرف سنة (1270هـ)، ذكر ذلك الشيخ أغا بزرك الطهراني(رحمه الله) في كتابه (نقباء البشر)(4) معتمداً في تعيينها على ما رآه في نسختين من كتاب (العقد الفريد) كتبهما المترجم بخطه على هذا الكتاب وهو من مؤلفاته(5)، وقد ذكر الرجاليون قولين آخرين؛ أحدهما أنه ولد سنة (1276هـ)(6)،
والآخر أنه ولد سنة (1277هـ)(7)، والقولان الأخيران كالقول الواحد نسبة إلى القول الأول الذي بينه وبينهما بون لا يغضى عنه، والقول الأول هو المعتمد لما عرف عن الشيخ الطهراني(رحمه الله) من شدة ضبطه وتضلعه في هذا المجال ولما رآه كما قدمنا، ويعضد هذا القول إن الشيخ علي آل كاشف الغطاء(رحمه الله) قرّب سنة الولادة إلى حدود السنة التي ذكرها الشيخ الطهراني(رحمه الله)(8).
ثم إن شيخنا المترجم(رحمه الله) نشأ مفعماً بحب العلم والأدب ميالاً إلى طلبهما وتعاطيهما محبا لأهلهما، كيف لا وقد اشتد عوده متقلباً في النجف الأشرف تلك البلدة الفيّاضة بما حوت من عظيم فضل قلّ في الدنيا نضيره، ومن الغريب أن الشيخ الطهراني(رحمه الله) قدم لفظة (الشيخ) أمام كل اسم حينما أورد سلسلة نسبه سوى أبيه (الحاج جواد) مع إنه صرح بأن المترجم لم يكن في أسرته أحد من أهل العلم قبله(9)، على الرغم من أن المتعارف أن هذه اللفظة تطلق على أهل العلم وهذا مما لا يخفى على مثل الشيخ الطهراني(رحمه الله)، مع ملاحظة أن بعضهم اسقط هذه اللفظة حين إيراد نسب المترجم(10).
دراسته وأساتذته:
لقد سلك شيخنا المترجم(رحمه الله) طريق العلم بخطى راسخة نحو حيازة الفضيلة وتحصيل الفقاهة، وقد قال عنه الشيخ الطهراني(رحمه الله): (تعلم القراءة والكتابة ثم أخذ الأوليات وقرأ العلوم العربية والمنطق على بعض الأساتذة فأتقنها وبرع فيها)(11)،
وحضر(رحمه الله) في الفقه والأصول على ثلة من أساطين الفقهاء وأعلام الفضلاء:
كالشيخ محمد حسين الكاظمي(رحمه الله) (ت 1308هـ)،
والميرزا حبيب الله الرشتي(رحمه الله) (ت1312هـ)،
والسيد محمد بحر العلوم(رحمه الله) (ت 1326هـ)،
والشيخ محمد طه نجف(رحمه الله) (ت 1323هـ)،
والشيخ الآخوند ملا كاظم الخراساني(رحمه الله) (ت 1329هـ)(12)،
والشيخ أغا رضا الهمداني(رحمه الله) (ت1322هـ)،
والشيخ شريعة الأصفهاني(رحمه الله) (ت1330هـ)،
والشيخ أحمد المشهدي(رحمه الله) (ت1310هـ)،
والسيد كاظم اليزدي(رحمه الله) (ت1337هـ)،
والشيخ عبد الله المازندراني(رحمه الله) (ت1330هـ)(13).
أما رواية الحديث فإنه يروي بالإجازة عن:
الشيخ محمد طه نجف(ره) (ت 1323هـ)،
والشيخ أغا رضا الهمداني(رحمه الله) (ت 1322هـ)،
وشيخ الشريعة الأصفهاني(رحمه الله) (ت1330هـ)،
والشيخ علي ابن الشيخ محمد ابن صاحب الجواهر(رحمه الله) (ت1340هـ)،
والشيخ أحمد المشهدي(رحمه الله) (ت1310هـ)،
والشيخ ملّا محمد كاظم الخراساني(رحمه الله)(ت1329هـ)،
والشيخ عباس ابن الشيخ علي آل كاشف الغطاء(رحمه الله) (ت1315هـ)،
والسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي(رحمه الله) (ت1337هـ)،
والشيخ حسين نجف الصغير(رحمه الله)، والشيخ عبد الله المازندراني(رحمه الله) (ت1330هـ)(14)،
والشيخ عبد الهادي المازندراني(رحمه الله) (ت1306هـ)(15).
تلامذته والراوون عنه:
وقد تصدى الشيخ البغدادي(رحمه الله) للتدريس فاستفاد من بحثه كثير من طلاب المعرفة ولاسيما في الفقه والكلام(16)، فتتلمذ عليه جمع من الجهابذة أشهرهم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء(رحمه الله) (ت 1373هـ)(17)،
ولم أكن قد وقفت من قبل على أسماء تلاميذه إلا اسم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء(رحمه الله) (ت 1373هـ) الذي أوقفني عليه حفيده الشيخ أمير آل كاشف الغطاء فلا زال موفقا،
وروى عنه جمع منهم السيد عبد الله البهبهاني(رحمه الله) نزيل بوشهر، والسيد مهدي بن علي النسابة البحراني النجفي(رحمه الله)(18).
صفاته وفضله وأدبه:
الشيخ البغدادي فقيه، أصولي، فرضي،منطقي، أديب، عارف بالرجال، مشارك في الفلسفة(19)،
قال السيد الأمين(رحمه الله): (عالم فاضل معاصر رأيناه في النجف وشاركنا في بعض الدروس)(20)،
وقال الشيخ أغا بزرك الطهراني(رحمه الله) مخبراً عن شيخنا المترجم(رحمه الله):
(كان ذكياً قوي الفطنة ساعده ذلك على بلوغ درجة الكمال… حتى بلغ درجة سامية في كثير من العلوم والفنون واشتهر بالبراعة والحذق في الأدب والشعر، وبالتبحر والخبرة في المنطق والحكمة، وبالتحقيق والتدقيق في الفقه والأصول، وسعة الاطلاع في غير ذلك، وقد ظهر فضله واشتهر علمه، وأصبح في مصاف أجلاء العلماء في النجف، كما اتجه إلى التأليف فأنتج مجموعة من الكتب الجليلة في مختلف المواضيع فقد ألّف في كل علم كتاباً أو أكثر)(21)،
وقال السيد محمد صادق آل بحر العلوم(رحمه الله):
(عالم فاضل محقق مدقق ثقة عدل)(22).
وقد ورد أن العلامة الشيخ عبد الحسين بن القاسم بن صالح الحلي(رحمه الله) (ت1377هـ) كان مع مجموعة من الشعراء في مقام الإمام زين العابدين(عليه السلام) في مسجد السهلة فأجاز أبياتاً للمترجم بعد أن عجز عنه الباقون، والأبيات هذه:
أيا زين العباد فدتك روحي وروح الأكرمين من العباد
مرادي أن تبلغني مرادي وليس سواك يا أملي مرادي
وعفوك ارتجيه من الخطايا من المنان في يوم المعاد
كفاني حبكم زاداً إذا ما (وفدت على الكريم بغير زاد)
إذا رمت الشفاعة من سواكم فقد أنزلت حاجاتي بوادي(23)
مؤلفاته:
زادت مؤلفاته على العشرين مؤلّفاً وهي آثار جليلة ومصنفات رائقة، منها:
1. (العقد الفريد في مقاصد المفيد والمستفيد): رأى الشيخ الطهراني(رحمه الله) منه نسختين؛ الأولى في مكتبة السيد ميرزا علي أغا الشيرازي(رحمه الله)، والأخرى في كتب السيد عبد الكريم السيد حيدر الكاظمي(24)، ذكر فيه أنه ألّفه سنة (1297هـ) وله سبع وعشرون سنة(25).
2. (لؤلؤة الميزان): أرجوزة في علم المنطق فرغ من نظمها سنة (1317هـ)، وقرضها الشيخ هادي آل كاشف الغطاء(رحمه الله) بأبيات ثمانية أولها:
منظومة الهادي بفن المنطق عن وصفها قد كل َّكل منطقي
تحيرت فيها العقول العشر فلم يصل كنه علاها فكر(26)
3. (منتقى الجمان): أرجوزة في المنطق لطيفة، أولها:
أبدأ باسم من له الحمد وجب مصلّياً على الرسول المنتخب(27)
وهو شرح لمنظومته لؤلؤة الميزان، ذكر في آخره: تمّ الشرح على يد مصنِّفه الأحقر أبي الحسن عبد الهادي في الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب سنة (1318هـ)(28)، وقد طبع سنة (1323هـ)(29)، وسماه عمر كحالة بـ(منتهى الميزان)(30)، ولعل اشتباه منه.
4. (أرجوزة في صلاة المسافر): أولها:
فرض لمن سافر أن يقصرا إن كان مختــاراً له ويفطـــرا
ولعله جزء من أرجوزة فقهية(31)، قال الشيخ الطهراني(رحمه الله):
(كأنها تكملة لدرة بحر العلوم، رأيتها وعليها تقريض الشيخ جواد الشبيبي عند السيد عبد الكريم السيد حيدر الكاظمي)(32).
5. (كتاب في الرجال): لم يتم(33).
6. غاية المأمول في الفقه والأصول جزءان(34).
7. رسالة في الاجتهاد والتقليد(35).
8. منتقى الشيعة في أحكام الشريعة(36).
9. (منظومة في الإرث): سمّاها (فرائض الفقيه)(37)، ولعلها نفس الرسالة التي ذكرها الشيخ حرز الدين باسم (البحر الفائض في أحكام الفرائض)(38).
10. (تعليقة على حاشية تهذيب المنطق لملّا عبد الله اليزدي): في المنطق(39).
11. (متن في المنطق)(40).
12. (متن في المنطق) آخر أيضا(41).
13. (منظومة في الكلام)(42).
14. (شرح لمنظومة الكلام السابقة): غير تام(43).
15. (تعليقة على الفصول)(44).
16. (تعليقة على كتاب القوانين للميرزا القمي)(45).
17. (شرح موصل الطلاب إلى أصول البناء والإعراب): مختصر(46).
18. (رسالة مختصرة في المشتق)(47).
19. (تعليقة مختصرة على رسائل الشيخ الأنصاري)(48).
20. (منظومة في الرضاع)(49).
21. (منظومة في النكاح)(50).
22. (المختصر الشافي في العروض والقوافي)(51).
23. كتاب في (صلاة المسـافر)(52)، غير الأرجوزة المذكورة، في آخـره قطعة من كتاب الزكاة بخطه كتب على ظهرها:
كتبت خطي بكفي ثم قلت له يا خط عما قليل سوف ارتحل
24. (الدرة المنتظمة): في أصول الفقه(53).
ومن الجدير بالملاحظة والذكر أن بعض مؤلفاته المذكورة موجود في خزانة مكتبة الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاءH العامة، وبعض آخر موجود في مكتبة الإمام الحكيم(رحمه الله) العامة حسب ما وقفنا عليه.