لقد قرئ القرآن قراءات مختلفة ومنوعة منذ نزوله حتى هذا العصر. فقد قرئ نحوياً في كتب إعراب القرآن وقرئ لغوياً في كتب مجاز القرآن وغريبه وقرئ دلالياً في كتب معاني القرآن وتأويله، وقرئ قراءة شاملة في كتب التفسير على اختلاف مذاهبها وأساليبها، وقرى صوتياً في كتب قراءات القرآن كما قرئ بلاغياً في دراسة أساليبه الفنية، ودراسة الفواصل هنا تتصل بظواهر نصه الإيقاعية والدلالية.
فالقرآن نص خالد والنص الخالد يكون مفتوحاً لقراءات منوعة إبداعية في العصر الواحد أو على مر العصور على أن تكون القراءة خلافية لا قراءة مضادة، وهو كما وصفه الإمام علي(عليه السلام) في قوله: (لا تفنى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد)(1).
القرآن يرتل ترتيلاً ويجود قارؤه ويترنم في قراءته و(الترتيل معرفة الوقوف وتجويد الحروف)(2) ففي قراءته قدرة على التأمل والتطريب لما في قراءته نظمه من الإيقاع والموازين التي تظهر للقارئ المتأمل في نظم حروفه وتركيب كلماته وفواصله التي هي أواخر آياته وهي موضع الوقف عند قراءته.
ما هي الفاصلة القرآنية؟ وما الفرق بينها وبين السجع في النثر والقافية في الشعر؟
عرف أبو الحسن الرماني(386هـ) الفاصلة قائلاً: (حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني… والفواصل بلاغة والأسجاع عيب)(3) فهو يرى أن السجع تتبعه المعاني فهو الذي يقصد في نفسه ثم يحمل المعنى عليه، والفواصل تتبع المعاني ولا تكون مقصودة في نفسها، وقد ذهب هذا المذهب أبو بكر الباقلاني وأصحابه (403هـ)(4) وعرف بدر الدين الزركشي (ت794هـ) الفاصلة: (هي كلمة آخر الآية، كقافية الشعر وقرينة السجع)(5).
والسجع في عرف ابن سنان الخفاجي (466هـ): (تماثل الحروف في مقاطع الفصول)(6) وعرفه ابن الأثير (637هـ) بأنه (تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد)(7).
فالتعريفات متقاربة والمفهوم مختلف بين أصحاب إعجاز القرآن وبين البلاغيين. فأصحاب الإعجاز أرادوا أن يخصصوا للقرآن الكريم مصطلح
الفواصل، ولما كان قسم من الفواصل القرآنية توافق السجع جعلها البلاغيون سجعاً، ويصر الباقلاني على نفي السجع في القرآن قائلاً : (ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز… والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وأن لم يكن سجعاً… لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع…)(8) وذلك ما سبق في كلام الرماني.
فالفواصل وتشاكل مقاطعها جزء من الإيقاع في النص القرآني والإيقاع من خصائص النثر الفني وهو يختلف عن الإيقاع في النص الشعري ففي النثر يكون إيقاعاً متوازياً متوازناً غير مطرد في المقاطع اللغوية. أما النص الشعري فيكون الإيقاع فيه متتابع المقاطع مطرد الإيقاع حتى يتألف الوزن الشعري ويختم البيت بكلمة القافية التي هي خاتمة للإيقاع الموزون في البيت، والحرف الملتزم المتكرر في قافية القصيدة يتوالى ويتكرر حتى نهاية أبيات القصيدة كالسجع الذي يتوالى في نهاية الجمل النثرية وكالفاصلة التي هي في نهاية الآية، لكن السجع والفاصلة قد يتكرر فيهما الحرف الملتزم وقد لا يتكرر فلكل نوع من هذه الأنواع مصطلح اختص به ولا يعدم التشابه بينهما في تشاكل المقاطع كما لا يعدم الخلاف في أشياء منها كما سيتضح(9).
والعرب قد عرفت الفصاحة والشعر والخطب كما عرفت السحر وسجع الكهان لكنها حين سمعت نصوصاً من القرآن يقرؤها الرسول(صلى الله عليه وآله) انجذبت إليها وذهلت بها غير أنها حارت بحكمها عليها فما كان يقرؤه الرسول وتسمعه ليس شعراً لكن فيه إيقاع الشعر وما يشبه القوافي ولجاذبية بيته لسامعه فيه تأثير السحر. وفواصله فيها شبه من سجع الكهان لكنها ليست إياها وليس فيها الغموض الذي في سجع الكهان، فمن آمن بالدعوة الجديدة آمن بأنه منزل من عند الله إلا أنّ مشركي قريش وهم أهل فصاحة وخَطابة كانوا يفزعون إلى شيوخهم في الفصاحة كما فزعوا إلى الوليد بن المغيرة فتداولوا معه في أمر النبي(صلى الله عليه وآله) قرب موسم الحج وكيف يفرقون الناس عنه ويقنعونهم لينفضّوا مِنْ حوله، فقالوا: نقول هو مجنون، فقال لهم: يأتونه فيكلمونه فيجدونه صحيحاً فصيحاً عادلاً فيكذبونكم. قالوا: نقول هو شاعر، قال: هم العرب، وقد رووا الشعر وفيهم الشعراء وقوله ليس يشبه الشعر فيكذبونكم. قالوا: نقول كاهن، قال: إنهم لقوا الكهان فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهنة فيكذبونكم ثم انصرف عنهم إلى منزله، فشكّوا به فقالوا: صبأ الوليد ـ أي أسلم ـ وهم يخشون أن يسلم كبير منهم فيتبعه الناس، فأتاه ابن أخيه أبو جهل بن هشام بن المغيرة فأخبره بشك قريش به فأتاهم الوليد يلومهم على شكهم به ويلومهم على اتهام محمد بما ليس فيه ولا يصدقهم الناس بتهمته بالجنون أو الكهانة أو الشعر، فقالوا: فكيف تقول يا أبا المغيرة؟ قال أقول هو ساحر. قالوا وأي شيء السحر؟ قال قد يكون ببابل من حذقه فرّق بين الرجل وامرأته والرجل وأخيه ـ وحديث آخر لعتبة بن ربيعة إذ جاء إلى النبي يعرض عليه أموراً ليختار منها: المال أو الرياسة أو الجمال… فلما انتهى من قوله قال له رسول الله: فاسمع (بسم الله الرحمن الرحيم. حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)، (سورة فصلت/ 1ـ4)، ثم مضى في قراءتها وأنصت عتبة له وهو باهت، فلما عاد إلى أصحابه أحسوا بتغيره فلما سألوه ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت بمثله قط وما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، خلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه(10)… فما كان جوابهم إلا أن قالوا: سحرك بلسانه.
لقد كان للسانه ولما قرأه تأثير في نفس سامعه دفعه إلى تصديق غرابة هذا القول حتى على فصحاء العرب ما جعل قومه يتصورونه سحرًا.
وحكاية أخرى في حديث أبي ذر الغفاري مع أخيه أنيس حين عاد من مكة وقد لقي النبي وسمع شيئاً من القرآن، وسمع الناس يصفون الرسول بالساحر، قال أنيس: تالله لقد وضعت قوله على أقراء(11) الشعر فلم يلتئم على لسان احد وقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم.
ورُوي عن الوليد بن عقبة اذ سمع الرسول يقرأ : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة النحل/9)، فقال: (والله إنّ له لحلاوة وانّ عليه لطلاوة وانّ أسفله لمعذق وانّ أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر)(12).
كان هذا الإحساس والتصور لما في بنية الجملة القرآنية من حلاوة النغمة في تجويده وترتيله في راءته(13)، ولما يظهر الترتيل إمكان إيحاءات أصواته وتأثيرها في نفس السامع جاءت الآية (ورتل القرآن ترتيلًا) (سورة المزمل/4)، وقول عبد الله بن مسعود: (جوّدوا القرآن وزيّنوه بأحسن الأصوات)(14) وأقوال أخرى في هذا المجال… تظهر الإبداع فيما امتازت عبارته بهذا الإيقاع الذي يتوازن في جمله ويختم في فواصل آياته، وفواصل الآيات هي موضع الوقف فيه أيضاً، ليتخذ صوت القارئ المجوّد مجاله في تلوين قراءته. فالفاصلة جزء من الإيقاع في الآية، ولّما كان النص القرآني احتوى كل ألوان الفصاحة لدى العرب ليتحداهم. فكل لون من ألوان الفصاحة والإبداع قد يجيده أديب واحد في الشعر أو النثر، فالشاعر قد يجيد القول في الوصف أو المديح أو الغزل أو الشكوى.. وكذا الخطيب أو الكاهن يجيد نوعاً من المعاني وأسلوباً من القول، فالخطيب في إجادة جمله وإيجازها والكاهن في تسجيعها وما يحيط بها من غموض… لكن القرآن الكريم احتوى كل هذه الإجادات في معانيه التي شملت الحياة وما بعدها، وفي أساليب تعبيره وألوان ما تحتويه من بعض صفات الشعر كالفواصل التي تشبه قوافيه وكالإيقاع المتوازن الذي له شبه بإيقاع الشعر الموزون أحياناً لكنها لا تطابق قوافي الشعر ثابتة في نهاية كل أبيات القصيدة وهي جزء مما سمي بعمود الشعر فإذا اختلف حرف الروي الملتزم عُدّ عيباً في القافية لكن الفواصل ليست كذلك ثم شبّه الفواصل بالسجع لكنها اختلفت عن سجع الكهان الغامض من جهة والمتكلف الممل في كثرة تكراره، وكأنه هو المقصود، أما السجع في الفواصل فقد جاء من دون تكلف لأنه تابع للمعنى مكمل له وتزيين لإيقاع عبارته أو هو لم يكن سجعاً لازماً بالمعنى البلاغي أي تكرار أصوات بعينها وإنما يكون سجعًا في إيقاعه وموازنته أي تكون الفاصلة في وزن سابقتها الصرفي، كما سيأتي بيانه في أنواع الفواصل.
هذا ما جعل العرب يواجهون الرسول في بداية دعوته واصفين إياه بالشاعر أو الكاهن أو الساحر فلما لم يجدوا صدقاً في وصفه بالشاعر والكاهن تمسكوا بوصفه بالساحر لما في القرآن الكريم من جاذبية في سماعه تسحر سامعه وتبهره فيروح متأملاً معانيه الجديدة وأساليبه الجديدة أيضاً، فهو قد تضّمن أنواع إبداع النصوص الفنية في نضجها .
لقد نفى القرآن الكريم السحر والشعر والكهانة عن الرسول، فنفى السحر بقوله تعالى: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (سورة المدثر/18ـ25)، ونفى صفة الشعر بقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (سورة الحاقة/41ـ42)، وقوله: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…) (سورة الشعراء/224ـ227).
ونفي عنه الكهانة في الآية السابقة وفي قوله: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) (سورة الطور/29).
إن أصحاب الإعجاز ميزوا مصطلح الفاصلة في القرآن الكريم عن السجع في النثر ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعاً رغبة في تنزيه القرآن الكريم عن الوصف اللاحق بغيره من كلام الكهنة وغيرهم، والحق أن لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره من الكلام في كونه مسجوعاً ولا فرق بين الفواصل التي تماثلت حروفها في المقاطع وبين السجع إذا لم يكن كله مسجوعاً.
فالقرآن الكريم نزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعاداتهم وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعاً لما في ذلك من التكلف والاستكراه والتصنّع ولاسيما فيما يطول من الكلام، كما ذهب ابن سنان(15).
وعلى عكس ذلك يقف الباقلاني في قوله: (والذي يقدرونه انه مسجّع فهو وَهْمٌ لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وان لم يكن سجعاً) وقد روى قول الرسول لمن خاطبه في شأن دية الجنين بكلام مسجوع: (أسجعاً كسجع الكهان؟) ثم قال: (وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات وليس كذلك الشعر)(16) لذلك جاء قول الرماني: (الفواصل بلاغة والسجع عيب).
لكننا نرى السجع جاء في القرآن الكريم حتى تأتي السورة كلها مسجوعة (كسورة الرحمن) و(سورة القمر)، وكذا جاء في كلام الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وكذا في كلام الصحابة وخطبهم.
أما قولي في الفواصل فهو أقرب إلى قول البلاغيين في أنّ قسماً منها كان سجعاً باعتبار أن السجع تماثل الحروف في مقاطع الفواصل، ولا أرى فائدة مما ذهب إليه الرماني والباقلاني وأضرابهما في إن السجع عيب، وهما يؤكدان أنّ قسماً من الفواصل سجع ولكنهما ينكران هذا المصطلح فيها تنزيهاً للقرآن الكريم. أليس القرآن الكريم نزل بلغة العرب وتحدى فصحاءهم أن يأتوا بمثله؟ (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (سورة الإسراء/88)، وقوله: (…فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ…) (سورة البقرة/23).
كان هذا التحدي بالإتيان بمثله في تراكيبه ونظمه ومعانيه وغاياته على الرغم من أنه نزل بلغتهم وبما ألفوه من الفصاحة والبلاغة غير أنه جاء على غير ما ألفوا من نظم وتركيب، لأنه احتوى على كل فنون الفصاحة والنظم والتركيب للتعبير. فلماذا ننكر السجع في قسم من فواصله؟ فالبلاغيون لا يجعلون الخلاف بين مصطلحي فواصل وأسجاع بل سجع بليغ وآخر متكلف. فالسجع البليغ ما يطلبه المعنى ويستدعيه ومنه فواصل القرآن(17) >