م.م مجيد حميد الحدراوي
يرى بعض الباحثين أن العوامل التي تصنع الرجال: وراثة، وبيئة، وأكبر منهما المجتمع أما فيما يتعلق بنسب السيد فيرقى بين الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهرة، حتى يتصل بصاحب الرسالة العظيم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم وهو منتهى الفخر.
أما بيئته جبل عامل فلها تاريخ مجيد في العلم وقدح معلى في حلبات الفضل وشأن في سماء العرفان وسلف صالح في عالم التصنيف والتأليف ومنبتاً للعلماء فقد نشأ فيها كبار علماء التشيع الإمامي.
وفيما يتعلق بمجتمع المترجم له ففيه من نماذج الحضارات وتلاقي الثقافات واشتباك تناقضات ما لا يتسع المجال لذكره في هذه المقدمة المختصرة.
ولادته ونشأته
ولد في قرية (حبوش) التابعة لمدينة النبطية في عام (1260هـ/1844م) العصامي الجليل السيد حسن بن السيد يوسف بن السيد إبراهيم المشتهر بالمكي الحسيني العاملي ينتهي نسبه الشريف إلى الإمام الشهيد
الحسين(عليه السلام).
نشأ في بلدته ولما بلغ سن التمييز انتقل إلى (جبع) حيث ازدهرت فيها الحركة العملية في عهد العلامة الشهير المرحوم الشيخ عبد الله نعمة (وهو من كبار علماء جبل عامل في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي المتوفي سنة 1885م)، وكان السيد حسن يوسف مكي يقيم في بيت العالم الشيخ محمد سلمان الزين (ت1903) وقد تلقى هناك علومه من نحو وصرف ومنطق ومعاني وبيان على يد العالم الشيخ مهدي شمس الدين (ت1915م)، وقد تفوق السيد المترجم له وبرع في النحو والصرف براعة فائقة.
سفره إلى العراق
تذكر المصادر التاريخية أن إسماعيل بن الحسن العودي الجزيني العاملي (ت1190م) يعد رائد الرحلة العلمية العاملة إلى العراق وقد اقتفى أثره في ذلك العلماء العامليين للهجرة العلمية إلى الحواضر العلمية المقصودة في العراق التي تعتمد فقه الإمامية وأصوله كلما سنحت لهم الفرص ليتخرجوا على أيدي أساطين الفقه الجعفري وأصوله ومازالت الهجرة حتى اليوم تتجدد في سبيل طلب العلم، وكان ممن وفق لذلك السيد حسن يوسف مكي في سنة (1287هـ/1870م) حيث شخص للعراق وأقام في النجف الأشرف موطن علماء الشيعة ومجمع طلبة العلم من جميع الأقطار فأخذ يدرس علم الأصول والفقه على فئة من أفاضل علماء الشيعة المجتهدين كالشيخ محمد حسين الكاظمي، والشيخ محمد طه نجف، والشيخ كاظم الخراساني، والفاضل الشربياني، وغيرهم، وقد أقام في النجف (23) عاماً نال في غضونها شهرة فائقة بين العراقيين والعامليين لما أوتي من كرم الأخلاق ورائع الصفات وعلو الهمة فكان بيته في النجف الأشرف مقصد العامليين فلم يذهب عاملي إلى العراق إلا لازمه وتولى خدمته بذاته حتى اجتذب قلوبهم إليه وجعل أفئدتهم وقفاً على حبه وولائه.
عودته إلى النبطية وتأسيسه المدرسة الحميدية
أحرز السيد من خلال دراسته في النجف الأشرف درجتاً عليا في الاجتهاد ولما كانت سنة (1891م) استدعاه أهل النبطية للإقامة عندهم كي يستفيدوا من علمه وإرشاده فلبى الطلب وعمل في بيت الوعظ والإرشاد في نفوس أبناء قومه وقد أدرك عظم المهمة الملقاة على عاتقه في إنقاذ أبناء مجتمعه من الجهل الذي كان يضرب أطنابه بين ظهرانيهم في وقت كانت تشهد بعض مناطق لبنان نهضة علمية حديثة خصوصاً في منطقة جبل لبنان لذلك كان لابد للشيعة من نهضة علمية تعاون على إيقاد جذوتها مع السيد حسن يوسف مكي نفر من أبناء النبطية فتأسست في العام (1892م) المدرسة الحميدية وينسب اسمها للسلطان عبد الحميد جرياً مع العادة المتبعة في ذلك العهد، وقد لمع اسمها وذاعت شهرتها فقصدها طالبوا العلم والثقافة من سائر البلدان وضمت ما يزيد على ثلاثمائة طالب كانوا يقيمون بها ليلهم ونهارهم منعكفين على الدرس والتدريس وكان المترجم له يدرس الفقه والأصول لكبار التلامذة وكان يعتني بالطلاب كثيراً ويسهر على دراستهم وتوجيههم ويعتني بملبسهم ومأكلهم ومنامهم ويقدم مساعدة مالية للفقراء منهم.
أثر المدرسة الحميدية في جبل عامل
إن الفوائد العلمية والثقافية، والمنزلة الأدبية المعنوية التي أحرزها أبناء الشيعة في جبل عامل وغيره من المدرسة الحميدية جزيلة وفيرة، فقد نبغ فيها الشاعر الأديب والمؤلف والخطيب وارتفع مستوى البلاد الأدبي وارتفعت منزلتها الاجتماعية، وأخرجت عدداً ليس بقليل من العلماء الأفاضل والشعراء الأفذاذ والأدباء والكتبة الكبار فمنهم من انتخب في المجمع العلمي العربي في دمشق فكان من أعضائه اللامعين ومنهم المؤلفون والمؤرخون ومحررو الصحف والمجلات ومنهم من تولى القضاء ومناصب الإفتاء.
وقد كان الأسى عاماً لانفراط عقد المدرسة بعد وفاة مؤسسها فأسرع إليها الخراب بعد أن كانت دار علم وفضل وروضة أدب وثقافة ست عشرة سنة.