Take a fresh look at your lifestyle.

من أساليب النص القرآني « إيجاز القصر »

0 2٬375
                 قيل لأبي عمرو بن العلاء (ت 154هـ): أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ. قيل: أفكانت توجز؟ قال: نعم، ليحفظ عنها. (الخصائص لابن جني 1/84).
الإيجاز في اللغة التقصير، من أوجزت الكلام أوجزه إيجازاً.
وفي المصطلح: هو التعبير عن الغرض بأقل ما يمكن من الألفاظ دون إخلال. ويكون إما بجعل العبارات قصيرة تتضمن معاني كثيرة من غير حذف وهو إيجاز القِصَر، وإما بحذف كلمة أو جملة من الكلام وهو إيجاز الحذف وقد يسمى إيجاز الإشارة.
لقد امتاز القرآن الكريم بسلامة أساليبه حد الإيجاز في نظمه وأدائه المعاني. وإذا كان القانون الأسلوبي الذي تردد على ألسن البلاغيين (لكل مقام مقال) هو أعظم قاعدة سياقية يمكن أن يحكم بها على الأسلوب فإن لهذا القانون قوة في مجال تطبيقه على النصوص وفي مقدمتها النص القرآني.
لقد اهتم نقاد الشعر بعبارته وصياغته لتأدية المعاني وقالوا أن أهم ما تمتاز به تراكيبه اللمحة الدالة، فالتركيب الشعري لا يهتم بالتفاصيل في عبارته غالباً إنما قدرة الشاعر تؤخذ بمدى تركيبه الألفاظ للدلالة على غرضه بالإيماء أو بالإيحاء دون التفصيل الذي يؤدي بالعبارة إلى البرود وعدم التأثير الفني. هذه قضية أسلوبية يلتقي كثير من أساليب الشعراء إذا كان مصدراً مهماً من مصادرهم حفظاً وإفادة من صور تعبيره وطرق أدائه.
فإيجاز القصر: هو الوصول إلى الغرض بأقل ما يمكن من الألفاظ دون أن يحدث خللاً أو لبساً في العبارة وهنا يكون التعبير يتسع لمعان كثيرة عن طريق الإيحاء أو الإشارة أو التلميح في استعمال الألفاظ استعمالاً فنياً عالياً. هذه ظاهرة أسلوبية في القرآن الكريم ففيه آيات كثيرة من هذا النوع وكثيراً ما تمثل هذا في القصص القرآني والتعبير عن الأحداث أو جاءت آيات أو أجزاء من آيات محفوظات.
من إيجاز القصر قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) (سورة الأعراف/الآية:54). ألفاظ هذه الآية خمس، ثلاثة منها حروف هي (ألا) التي للتنبيه والاستفتاح ولام الإضافة وواو العطف. تضم هذه الآية بتركيبها القصير عالماً من المعاني وآفاقاً من الصور على الرغم من استعمال الكناية في (له) إذ لا ينصرف ذهن المتلقي لغير الله تعالى، ثم ذكر (الخلق) وهو لفظ فيه شمولية واتساع للمعاني والصور للخلق. فهي تشمل خلق كل شيء عالم الإنسان وعوالم غير الإنسان العالم المرئي والعوالم غير المرئية. فما وقع عليه نظر الإنسان من سماء وأرض وزروع وحيوانات وحشرات… وما لم يقع عليه نظر الإنسان إنما يصل إليه بالتصور والحدس والتخمين أي ما يصل إليه خيال الإنسان من عوالم النجوم والأرضين وعوالم الحيوان وتنظيماته وأساليب حياته ثم ما لم يصل إليه حتى التصور والتخمين وهو العوالم المجهولة التي لم يصل إليها علم الإنسان فهي مجهولة يكشفها الإنسان على مر العصور. فيبقى المجهول إضعاف ما هو معلوم قال تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (سورة الإسراء/الآية:85) وهذه الآية من قبيل هذا النوع من الإيجاز أيضاً.
فكلمة (الخلق) مفردة في العد لكنها عوالم من المعاني والتصور والصور في التركيب بحيث تبقى مفتوحة للتعبير وموحية لمتلقي هذا النص يستطيع القلم أن يسافر إلى أكوان للكتابة فيها كل على حسب قدرته وثقافته وعلمه ثم كل على وفق عصره ومقدار تقدمه العلمي. هذه صفة من صفات النص الخالد فهو لا تستهلكه قراءة واحدة لمتلق في عصر إذ يبقى قابلاً لتعدد القراءة في العصر الواحد أو القراءات في عصور مختلفة. فكل قارئ يخرج بما يخرج به من فهم وتصور بحسب قدرته ومعرفته وهكذا على مر العصور.
ثم نأتي إلى واو العطف والتشريك إذا يعطف ما بعده على ما قبله الأمر وهذه الكلمة كسابقتها في العمق والاتساع والشمول فهي حين تكون مفردة معزولة عن التركيب نستطيع أن نستخرج دلالتها اللغوية من المعاجم مادة (أمر) فيكون معناها اللغوي محدداً على حسب اشتقاقها لكنها حين استعملت في هذا التركيب أعطاها السياق صورة ووضعاً آخر.
فكلمة مفردة غيرها مركبة فهي إذ تكون في ضمن سياق معين تدخل في المقام، على عبارة أهل البلاغة، وتنشحن بكل التجارب الاجتماعية والفكرية لعصور استعمالها إضافة إلى استعمالها في آنها وعصرها. وهكذا تكتسب الألفاظ تجارب عصورها في الاستعمال وبهذا تتسع اللغة في مجال المعاني وصور الاستعمال. فاللغة ظاهرة اجتماعية تتطور وتتجدد بتطور المجتمع وتجديده ألفاظاً وأساليب واستعمالات فكل عصر يترك تجاربه وصور أفكاره وتفكيره في لغته التي يسلمها للجيل بعده وهكذا حتى وصلت إلينا هذه اللغة العربية وعلينا أن نضيف إليها ما نضيفه ونقدم لها جهودنا في إصلاحها لنسلمها للجيل بعدنا وفيها آثار جهودنا وفكرنا وتصوراتنا.
وهذه آية أخرى ثار حديث وحوار في إيجازها إذ قورنت بعبارة عربية شاعت مثلاً والآية من قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة…) (سورة البقرة/الآية:179).
وعبارة المثل الشائع (القتل أنفى للقتل) لقد وازنوا بين العبارتين فكان نص الآية أكثر رجحاناً وإيجازاً وشمول معنى في هذا المجال. إن تركيبها ونظمها يتلخص في كلمتين: القصاص حياة و(لكم) للمخاطبين لم يخصص جماعة أو جنساً. في تركيب الآية قدم (لكم) خبراً مقدماً لبيان الاهتمام بالمخاطبين إذ هي تشريع لهم وذلك من صور التوكيد في الآية السابقة بتقديم (له) والقصاص مصدر الفعل(قاص) على وزن (فاعَلَ) وفيه معنى عاقب ولم يقل: عقاب، لأن في القصاص معنى آخر هو أنه عقاب فيه إنصاف يؤدي إلى الحياة. فالفعل قاصه أي اقتص منه واخذ حقه منه عدلاً دون ظلم أو تجاوز ثم أن القصاص معنى شامل يعني أي نوع من أنواع الاعتداء أو التجاوز بالفعل أو القول وهذا الشمول لا يوجد في المثل المذكور إنما المثل قد ذكر القتل وهو أقرب إلى الأخذ بالثأر المرتبط بالتقاليد والأعراف البدوية إذ قد يسبب القتل ثأراً قتولاً وقد تتسع الثارات أما القصاص في الآية فهو قانون متحضر واستعمال لفظة (حياة) نكرة تعطي شمولاً أيضاً. وتنكير الكلمة هنا أعطاها امتداداً وشمولاً أيضاً فهي تعني الاستقرار والعدل المرضي للطرفين والقبول المنطقي الذي لا يرفضه العرف الاجتماعي.
أما المثل فقد كرر كلمة القتل المعرفة مرتين بتوسط اسم التفضيل (أنفى) مما جعل المعنى منحصراً ضيقاً يقبل التصرف واختلاق الأعذار التي قد تكون لها مضاعفات اجتماعية. لقد كان فخر الدين بن الخطيب ممن وازن بين الآية والمثل فذكر سبعة أوجه في ترجيح الآية الكريمة على المثل (انظر نهاية الإيجاز في دراسة الإعجاز ص145، بديع القرآن لابن أبي أصيبعة 192).
ومن إيجاز القِصَر هذا أكثر قصص القرآن المجيد مثل قصة موسى في سورة طه والقصص وعرش بلقيس في سورة النمل وقصة يوسف وغيرها من القصص وقد جاء تفصيل ذلك في التفاسير المختلفة.
نذكر مثالين من ذلك هنا: أحدهما قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) (سورة القصص/الآية:7). نلاحظ أن الآية الكريمة اختصرت قصة موسى من الرضاعة حتى جعله رسولاً بكلمات قليلة معبرة تعبيراً واضحاً ومباشراً موجزاً.
المثال الثاني ما جاء في سورة يوسف قوله تعالى على لسان يوسف: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) (سورة يوسف/الآية:115) لقد اختصر القصة التي جاءت متسلسلة قبلاً في أوائل السورة بدءاً من قوله تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص) اختصرها بكلمات واضحات موجزة ذكر تأويل الرؤيا التي سببت حسد إخوته إياه فكان منهم الكيد له ثم جاء ذكر السجن وقد مكث فيه مدة وحصل بعده على الملك بعد حصوله على ثقة الملك بتفسيره الرؤيا وقبلها تفسير رؤيا من كان معه في السجن ثم ذكر مجيئهم من البدو بعدما وقع بينه وبين أخوته من نزغ الشيطان. هكذا كان إيجاز القصة بعد مجيئها متسلسلة
كما ذكرت.
نشرت في العدد 11

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.