Take a fresh look at your lifestyle.

قضية الصرفة في إعجاز القرآن بين التفسير والتأويل

0 2٬825
                     أخذت الدراسات الإسلامية والبحوث القرآنية امتداداتها الفكرية المتألقة ومجالاتها المعرفية المتطاولة بصدد موضوع (إعجاز القرآن) لما لهذا الموضوع من أهمية علمية خصبة، وبعد عقائدي متأصل، فضلاً عن هذا وتلك، تتجلى عندها صلته الوثيقة والعميقة بالتغبير القرآني وفرائده البيانية المبدعة.
وما أن تنوعت هذه الدراسات والبحوث حتى اختلف في توجه بعض منها ولاسيما التي خرجت عن التأمل العلمي الرصين، والبحث المعرفي المعهود، فمن هذه المقولات ـ وهي قضية بلا شك ـ حول قضية إعجاز القرآن.
القول بالصرفة وهي تعني (أن أمراً خارقاً أجراه الله على يد محمد(صلى الله عليه وآله) دليلاً على صدقه في دعوى النبوة وهو أن الله صرف العرب أن يأتوا ولو لم يصرفهم لجاءوا بمثله وهذا خارق)(1).
وقد تناول الخطابي فهم أهل العلم لهذا المذهب فعرضه عرضاً بيناً قال فيه: ولو كان الله عز وجل بعث نبياً في زمان النبوات وجعل معجزته في تحريك يده أو مد رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه ثم قيل له: ما آتيك…؟ فقال: آيتي أن أحرك يدي أو أمد رجلي ولا يمكن أحد أن يفعل مثل فعلي والقوم أصحاء الأبدان، لا آفة بشيء من جوارحهم فحرك يده أو مد رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه كان ذلك آية دالة على صدقه وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي ولا إلى فخامة منظره وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمراً خارقاً عن مجاري العادات ناقضاً لها(2).
وهذا التفسير الذي شاع بين أهل العلم يُفهم من كلام الجاحظ وهو تفسير قاطع في إثبات الآية وقيام الحجة بهذا الوجه وليس به من قدح في الدين، كما سنوضح ذلك.
إن أول من قال بالصرفة هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظار(ت 231هـ)، إذ لم يقف عندها فحسب بل قال إن في القرآن شيئاً لا تناله قدرات الناس وهو الإخبار بالغيب كما أنه لم يكن مقتنعاً بأن الصرفة وحدها هي وجه الإعجاز وجمعه بين الأمرين كاد أن يوقعه في تناقض.
بمعنى أن النظام عد القرآن معجزاً بتدخل الإرادة الإلهية التي منعت العرب عن الإتيان بشيء مثله، وهو الذي يُروى عنه قوله: (الآية والإعجوبة في القرآن ما فيه من الأخبار والغيوب أما التأليف والنظم فقد يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أن الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم)(3).
لقد أثار هذا التوجه في الكلام عن إعجاز القرآن ردود فعل من داخل الدائرة البيانية نفسها لأن القرآن قد عد من أيام النبوة معجز لا بمعانيه وحسب بل أيضاً ولربما بالدرجة الأولى بفصاحته وبلاغته أي بنظمه.
وهذه القضية قد ناقشها أولا ـ كما يقول الدكتور الجابري ـ المتكلمون والبلاغيون الذين خاضوها بعمق وتفصيل إذ كانت تستهوي المتكلمين المناقشات حول مقومات البلاغة والبيان أكثر من المسائل والمناقشات الميتافيزيقية، فتداخل البحث البلاغي والكلامي تداخلاً منهجياً يصب في منحى البيان والكشف اعتماداً على ثوابت الفكر الإسلامي، وعندها أصبح التحليل العقلي مهيمناً على البحوث البلاغية، كما أن المناقشات البلاغية والمواقف البيانية قد تداخلت في آراء المتكلمين وتوجهاتهم(4).
إذن فموقف المتكلمين والبلاغيين من هذه القضية موقف مدافع حام غيور عن حياض هذا الكتاب العظيم حتى لا يكون هناك زاوية لمتقول أو ناحية لمغرض من الطاعنين.
والمهم إن حصيلة ما قيل في عصر الجاحظ (ت 255هـ) النظم الذي قال به الجاحظ والصرفة والإخبار بالغيب الذين قال بهما النظام وظلت هذه الثلاثة تدور عند أهل العلم، فمثلاً لم يقف الرماني (ت 386هـ) وقفة طويلة عند قضية الصرفة لأنها لا تتضمن ما يحتاج إلى تفصيل وتدقيق فهي عنده قريبة ظاهرة وإنما يحتاج إلى إطالة الكلام فيها من يرفضها ولذلك بنى عبد القاهر الجرجاني رسالته الشافية عليها.
وبين الدكتور محمد محمد أبو موسى التناقض الواضح بين القول بالصرفة والبلاغة بقوله إن الصرفة تعني كما فسرها أبو إسحاق النظام إنهم لو لا هذا الصرف لجاءوا بمثله ولذلك يعني أنه ليس خارقاً ببلاغته وإنما هو خارق بهذا الصرف فلا يجوز لمن تسلم بمقالة النظام أن يتكلم عن بلاغة القرآن فوق طاقة البشر، وهذا كلام يطول لو أفضنا فيه وخاصة أننا وجدنا كثيراً من أهل العلم يذكرون الصرفة والبلاغة من وجوه الإعجاز القرآني وهؤلاء ليسوا من أهل الغفلة وهذا موضع اللبس الذي يحتاج إلى دراسة مفردة تحدد المقصود بالصرفة عند كل من قال بها، وهل بقي مفهومها كما حدده النظام أو طرأ عليه تغيير؟ وكيف علل الجاحظ أن هذا الإعجاز قد جاء بصرف العرب عن معارضته حتى لا يفتن بالمعارضة ـ لو حصلت ـ ذوو النفوس الضعيفة والقلوب المريضة.
لقد عرض عبد القاهر الجرجاني لموضوع الصرفة في كتابه (دلائل الإعجاز) عرضاً موجزاً وأفرد لها فصلاً في (الرسالة الشافية) وتدور هذه الرسالة حول بيان أن القرآن أعجز العرب وإن عجزهم ثابت بأفعالهم وأقوالهم أما الأفعال فهي أنهم حينما حملوا السيوف في مواجهته(صلى الله عليه وآله) كان ذلك إقراراً منهم بالعجز عن المعارضة ولو قدروا عليها لأبطلوا حجته(صلى الله عليه وآله).
وأما الأقوال فيما رُوي عنهم من تعظيم القرآن وأنهم ما سمعوا بمثله قط وأنه يعلو ولا يُعلى عليه.
والقول بالصرفة عند عبد القاهر قول قاله ضعيف مسرع أوقعته شهوة الإغراب فيما لا يعذر العاقل في اعتقاده ويبين هذا الحكم فيقول: (ولو كان الناس إذا عنّ لهم القول نظروا في مؤاداه وتبينوا عاقبته وتذكروا وصية الحكماء حين نهوا عن الورود حتى يعرف الصدر وحذروا أن تجئ إعجاز الأمور بغير ما أوهمت الصدور إذن لكفوا البلاء ولعد هذا وأشباهه من فاسد الآراء)(5)، وهذا الكلام ناظر إلى وصف الجاحظ لتولد آراء النظام وانبعاثها في نفسه وأنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه ويتبين أنه بدأ أمره وكان ظناً، وهذا معنى قول عبد القاهر إذا عنّ له القول لم ينظروا فيه إلى أخره.
وهذا الرأي قلّبه عبد القاهر على وجوه ليُبين فساده من كل وجه، فالقائلون بالصرفة إما أن يكونواً قد فهموا أن التحدي هو أن يعبروا عن معاني القرآن في مثل لفظه ونظمه وهذا ما يترجح عند عبد القاهر أو أن يكونوا قد فهموا أن التحدي كان أن يأتوا بمثل نظم القرآن في أي معنى شاءوا والوجه الأول لا يستقيم مع قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا إنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) (سورة هود، الآية:13،14). وذلك لأن قوله: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) لا يفهم منه فأتوا في هذه المعاني بعشر سور في اللفظ والنظم وحق هذا المعنى لو كان مراداً أن تكون العبارة عنه إن زعمتم أني افتريته فأتوا أنتم في معاني هذا المفتري بمثل ما ترون من اللفظ والنظم.
وقد رأينا أن النظام قد فطن إلى المعنى في هذه الآية الكريمة، وكان يدرك أن التعجيز إنما هو بالنظم لا بالمعنى وإن وجه الإعجاز في هذا النظم هو الصرف بدليل ذكره الإخبار بالغيب وجهاً من وجوه الإعجاز مضموماً إلى الصرفة وهو ما يتعلق بمعاني القرآن لا بنظمه وهذا يعني أن معاني القرآن عند النظام فيها ما يعجز البشر ولو لم يصرفوا.
أما الوجه الثاني فهو أن يكونوا قد فهموا أن التحدي إنما كان بنظم مثل نظمه في أي باب من أبواب المعاني شاءوا وهذا هو المدلول عليه في الآية وحينئذ يكون من حقهم معارضة القرآن بنظم مثل نظمه في النسيب والمديح والهجاء والفخر وغير ذلك مما لهجت ألسنتهم فيه وبلغت ما بلغت.
ثم إن القول بأن نظم القرآن في مثل طبقة نظومهم، ولكنهم لم يعارضوه لأنهم صرفوا عن ذلك ومنعوا بلزمه لا محالة أن تكون قواهم قد تراجعت وأن تكون قرائحهم قد ضعفت وأن يكون قد ضاق عليهم من مجالات الكلام ما كان متسعاً وأن يكون كلامهم الذي تكلموا به بعد الوحي قد هوى عن طبقة كلامهم قبله وهذا خطأ منكر كما يقول الدكتور أبو موسى لأن كلامهم الذي بين أيدينا والذي قالوه بعد الوحي في طبقة كلامهم الذي قالوه قبله سواء في ذلك الشعر والنثر، وهذا الغرض هو نقض للصرفة لأن الصرفة كما تقدم تعني أنهم منعوا أن يأتوا بمثله وذلك يقتضي أنهم قد خبروا القرآن وأدركوا أن له خصائص يتميز بها وهذه الخصائص لو توافرت في كلام يصير مثله وأنها في طوعتهم وتحت ألسنتهم وأنهم هموا بهذه المعارضة فمنعوا وصرفوا وهذا كله لا يتأسس إلا على قدرة تميز صنوف الكلام وتعرف
ضروبه ومراتبه وما يُرام منه وما لا يُرام، والقول بأنه حدث نقص في فصاحتهم ولم يشعروا به قاطع في استئصال هذه الحاسة والتي هي أساس الإعجاز.
وخلاصة ما تقدم: نجد أن تعدد الاحتمالات الدلالية للصرفة أدت إلى اختلاف الوجهات التحليلية وتفسيراتها، وهذا ما أورده الأمير يحيى بن حمزة العلوي (ت 749هـ) في تفسيرات ثلاثة:
الأول: أن يكون المراد أن الله سبحانه سلب دواعيهم إلى المعارضة مع توافر الأسباب وهذا أصلها عند النظام.
الثاني: أن يكون المراد أن الله سبحانه سلبهم العلوم التي لابد منها في الإتيان بمثله وهذا ما قاله القاضي عبد الجبار والمرتضي، ثم ذكر العلوي أن ذلك يحتمل أمرين:
أ ـ أن تكون هذه العلوم كانت حاصلة لهم فأزالها الله عن أفئدتهم ـ وهذا ما ذكره القاضي عبد الجبار والأسد آبادي ـ.
ب ـ إنها كانت غير حاصلة خلا أن الله تعالى صرف دواعيهم عن تجديدها مخافة أن تحصل المعارضة.
الثالث: أن يُراد بالصرفة المنع بالإلجاء والقسر عن المعارضة وهذا ليس بعيداً عن الأول الذي صرف الدواعي بل إنهما كانا شيئاً واحداً في كلام النظام صرف الدواعي عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام بها جبراً(6).
وقد تأتى بطلان هذه المقولة عند المفكرين المسلمين بعد أن اعتمدوا على الأصول الدلالية والأسلوبية المهمة في تحليلاتهم الدقيقة والبينة لما يحتمل وما لا يحتمل من الوجوه والآراء وذلك بدراستها دراسة عناية وتمحيص وتأمل.
نشرت في العدد 11

(1) الإعجاز البلاغي ص355.
(2) البيان في إعجاز القرآن ص22.
(3) مقالات الإسلاميين 1/296.
(4) ينظر: بنية العقل العربي ص75ـ77.
(5) الرسالة الشافية ص155.
(6) الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/391.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.