Take a fresh look at your lifestyle.

الشيخ الأميني سمو المعنى في سمو الذات

0 702

حسين جهاد الحساني
مركز الأمير لإحياء التراث الإسلامي
في مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامة

 

             إن حياة علماء الدين الحنيف، مدارس ومشاعل وهاجة تنير الدروب وتضيء الطرق، وتنجي البشرية من السقوط والانحراف والانحطاط…
حياتهم شموع وضاءة تحترق من أجل إنارة المجتمع، سنون حياتهم المباركة أشجار مثمرة تغذي الأجيال طعم الحياة السعيدة وحلاوة العيش الرغيد، وأيامهم ورود وأزهار فاح منها عبق الحياة…
العلماء الصلحاء حراس الشريعة السمحاء من الضياع والانحراف والاعوجاج، وهم حراس الإنسانية من الإنهيار والانحلال والسقوط في هاوية الفساد والإجرام والطغيان والاستكبار، وذلك ببصيرتهم النافذة وأنظارهم الثاقبة ونفوسهم العالية وإيمانهم الراسخ…
ولولا العلماء والمفكرون الأخيار لهوى المجتمع واندثرت آثار التقدم وذبلت زهور الازدهار، واضمحل كيان الحضارة، واندرست معالم التمدن وساد الخمول وخيم الجهل… وفقدان العلماء نقص في الأرض ونغص في الحياة، وكما أشار الله عز وجل في كتابه العزيز: (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) (الرعد/الآية:41)، وقول إمامنا الباقر(عليه السلام): (إنما نقص الأرض بموت العالم).
ومن أولئك العلماء والمفكرين والفقهاء يقف شيخنا العلامة الأميني(قدس سره) في الصف الأول من عطائه والشمولية العلمية في شتى الميادين.
فإذا خطت يد التاريخ سطور المجد على جبين الدهر جلائل الأعمال فستخط السطور الأولى لمؤسس مكتبة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) العامة الشيخ الأميني(قدس سره)، وإذا ما تقدم الناس يوم البعث إلى الباري عز وجل بفضائلهم وعظيم أعمالهم فسيكون في طليعة المعتزين بجهودهم هذا الشيخ الجليل، وإذا جاء المؤمنون يحمل كل منهم سجل خدماته فسيكون على رأس الموكب شيخنا الأميني، وإذا فاخر المسلمون برجالهم فسيفخرون بهذا الرجل الذي أدى رسالته العلمية والفكرية في جميع المجالات، وعلى الأخص المجال الكتبي…
قبس من حياته:
ولد فضيلة الشيخ عبد الحسين بن أحمد الأميني سنة (1320هـ) وترعرع في حب العلم، فشب منصرفاً للدرس والتدريب، فدرس على أيدي أساتذة فطاحل، منهم: (السيد محمد الشهير بمولانا، والشيخ حسين صاحب هداية الأنام، والسيد محمد الفيروزآبادي) وغيرهم فاغترف من العلم ما استطاع حتى فاق أقرانه آنذاك، وبان مكانه وعلا شأنه فأجيز من قبل السيد أبو الحسن الاصفهاني والميرزا علي أغا الشيرازي وميرزا محمد حسين النائيني والشيخ آغا بزرك الطهراني. فأدى واجبه العلمي من الدرس والتدريس وبث الأحكام الشرعية، فاتجه إلى تأليف الكتب القيمة، فكان نتاجه (موسوعة الغدير، وشهداء الفضيلة، وأدب الزائر، وتفسير الفاتحة)، وغيرها ممن لم تخرج إلى النور الطباعي حيث لا تزال مخطوطة إلى الآن…
قبس من مشاريعه الخيرية:
1ـ مكتبته العامرة:
لعل العراق من أسبق البلاد الإسلامية إلى إنشاء مخازن الكتب، فبديهي ما كان له منذ القدم من المكانة السامية والقدح المعلى في فنون العلم والأدب، فقد اهتمت الدولة العباسية بجمع الكتب في شتى الأمصار واقتنائها في مراكز السلطة والرئاسة واستمر ذلك حتى العهود الأخيرة، ونظراً لمكانة النجف العلمية العظمى وكونها مهبط العلماء ومهد العلم فقد ضاهت بغداد في جمع الكتب وتأسيس المكتبات وفاقت عليها بالكثرة والجودة، وكما أشار إلى ذلك جرجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية ج4)…
ولا يخفى أن دور المكتبات العامة في المجتمع له أهميته البالغة وطابعه الخاص، لا يتهاون به ولا يستهان، فالمكتبات هي: مجمع الأفكار والآراء وملتقى التاريخ البشري والعوامل والوسائل لتنمية وتطوير الطاقات في الأفراد الذين يبغون المعرفة ويبتغون المزيد من الثقافة ويبذلون الجهد ليحملوا أسرار مكنوناتهم إلى التصنيف والتأليف وإخراجه إلى عالم النور والنشر والتبليغ…
لذا فقد شاء الله عز وجل لهذا العالم الجليل (الأميني) أن يضيف إلى خدماته الدينية الكبرى مأثرة عظيمة لا تقل أهمية عن أعماله الأخرى تلك هي مكتبة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) العامة في النجف… فقد اهتم بهذا الموضوع بشكل غريب وسهر عليه سهراً متواصلاً بتيسر الوسائل واللوازم لمن يحتاج لمثل ذلك.
ولقد شعر المجاهد الأميني بضرورة هذا الموضوع منذ سنين طويلة وأيام كان يعد مسودة كتابه (الغدير) بأن النجف بحاجة ماسة إلى مثل هذا المشروع، وقد سأل يوماً في إحدى الجرائد العراقية عام (1967م) عن هذا الموضوع: هل تعتقدون بأن المكتبة تسد حاجة النجف؟ فأجاب: نعم، إنما هي تسد حاجتها من ناحية وإن كانت هي كبيرة جداً، وليست غايتنا هذه المتوخاة من هذه المكتبة سد حاجة النجف الأشرف فحسب وإنما الغاية الوحيدة سد النجف حاجة دنيا للعلم وعالم الثقافة الإسلامية…
وغايته الأخرى في هذه المكتبة أن تكون مؤسسة عالمية تلبي جميع رغبات الباحث والعالم، لذلك تسعى الجهة الإدارية الموجودة فيها الآن جاهدة في أن تلبي رغبة الشيخ(قدس سره) في هذا الأمر… لذلك فقد ترك شيخنا الأميني الدنيا وفي نفسه أن يرى الكتاب بيد أصحابه متيسر من كافة جوانبه، وتلك هي النفوس العالية التي تسمو نحو الذات المقدسة بهذه الأعمال المنتفع بها لتكون ذخيرة لها في الدنيا والآخرة…
2ـ قبس من موسوعته الغدير:
الغدير: هذا الكتاب هو كل حياة شيخنا الراحل وجل جهوده، وهو أنموذج طاقته ولم يبالغ في ذلك، فهو أشهر كتبه، وأعظمها موسوعية، كتاب قضى عليه ليله ونهاره، به بدأ الحياة، ومن ورائه تطلع إلى بحار العلوم الإسلامية التي لا نهاية لها. جمع هذا الكتاب كل شاردة وواردة تتعلق بحديث الغدير، جمع محقق ثبت، وخاض في سبيل انجازه الصعاب، فكان بحق رائد الغدير الأول، فيما أخرج وحقق وكتب…
تطلب منه تأليف الكتاب المرور بعشرات الألوف من الكتب المطبوعة والمخطوطة ومطالعة عشرات الآلاف من المجلدات بجميع صحائفها، مطالعة تمحيص وتدقيق، فأجاب الطلب ولبى النداء بكل عزم وصلادة، ووطد نفسه للصعاب، ورضخ أمام الواقع، وكابد الموانع والحواجز فاستسلمت له وانزاحت عن طريقه، وتركت له ميدان المعركة خلواً من كل شاغل ليصول بها ويجول ثم يدفع أشعة عينيه، وقواه الفكرية وطاقاته الجسمية ثمن ذلك، ويخرج من المعركة ظافراً، قد خلد في سجل التاريخ الحقيقة ناصعة وضاءة مشرقة كالشمس…
هكذا هو الأميني بقي مع كل صفحة من صفحات الغدير تفتح وتقرأ ليكون نبراساً حاضراً وباقياً من بقاء نفسه الخالدة…
قبس من أسفاره ورحلاته:
قد يشكل السفر والرحلات قسطاً من حياة الإنسان، ولكل مسافر أهدافه وغاياته وآماله من رحلته، وإنما يتغرب الإنسان عن وطنه ويبتعد عن مأمنه من أجل طلب العلى والارتقاء، لذا فإن العلماء وبغاة العلم ومنذ بداية حياتهم العلمية يخوضون مسالك الأسفار، متمسكين بعروتي الفقر والغربة…
ولهذا الأمر كان شيخنا الأميني من أولئك الذين تغربوا عن الوطن وطلبوا السمو في النفس من أجل نيل الدرجات العالية والكمالات النفسية والآداب الإسلامية… فقد أخذت الأسفار منه مأخذاً عظيماً، وقد سجل رحلاته في صحيفة المكتبة آنذاك، حيث كانت المدن الإيرانية القدح المعلى من أسفاره ثم المدن الهندية والشامية فضلاً عن العتبات المقدسة في العراق بحثاً عن الكمال في ذرى العلم والعلماء، ولم يجعل الهم في سفرياته هذه الدنيا بل مسافر عنها كما سافر إلى بلاد الغربة متخذاً همه الأول توفير المعلومة والكلمة لذوي الكلمة وليستكمل مراحله الدنيوية نحو العلو والكمال…
قبس من زهده وأخلاقه:
لا ريب أن العلماء ورثة الأنبياء في نشر الفضائل وحكمة المثل الأعلى بين الناس، فهم من بعد الأنبياء والأوصياء، القدوة الصالحة والأسوة الحسنة للمجتمع الإنساني، بهم يضرب المثل في الأخلاق الحسنة والصفات الحميدة والسجايا الطيبة…
لذا كان شيخنا الأميني(قدس سره) من هؤلاء، إذ تحدث عن أخلاقه وزهده الكثير من معاصريه والذين أتحفونا بتلك القصص والكلمات العالية في أخلاقه وتعامله مع الناس فضلاً عن زهده وابتعاده عن ملذات هذه الدنيا الدنيئة، ويكفينا شاهداً على ورعه وزهده ما جاء في قصته المشهورة في إحدى مكتبات الهند، حيث دخل في تلك المكتبة وصادف أن هذه المكتبة، لن تفتح إلا يوماً واحداً في الأسبوع، فعند انتهاء الدوام في ذلك اليوم غلقت المكتبة أبوابها ناسين داخلها الشيخ الأميني، فبقي في تلك المكتبة أسبوع، وعند مجيء مدير المكتبة في الأسبوع المقبل تفاجأ بوجود الشيخ كل هذه الفترة، فقال له: كيف عشت كل هذه الفترة، فأجابه الشيخ(قدس سره) بفضل بعض قرصات الخبز اليابسة التي عندي وماؤكم هذا…
إن لمثل هذا الزهد لهو دليل على سمو ذات هذا الرجل عن هذه الدنيا والارتفاع نحو المعرفة الخالصة والارتقاء بنفسه إلى علا الكمال والفضيلة…
قبس من كراماته:
لاشك أن لأولياء الله سبحانه وعباده الصالحين والمقربين المكرمين كرامات تظهر في حياتهم وبعد مماتهم، وهذه سنة من سنن الله في الأرض ليكون ولي الله ونجمه الساطع الذي يهتدى به في مدلهمات الدنيا، فيكون من خلال كراماته الهادي والمرشد إلى الخير والإحسان والسعادة.
وقد تحدث الكثير من العلماء وعامة الناس عن كرامات الشيخ الأميني(قدس سره)، وقد سمعت بها من أفواه الناس وقرأت عنها من بطون الكتب، ولضيق المجال لا أستطيع سرد جميعها، فقد كفانا ذلك الحاج حسين الشاكري في كتابه ربع قرن من حياة الشيخ الأميني، إلا أننا ننقل واحدة منها إذ لا يسقط الميسور بالمعسور ولتكون دليلاً وحجة لمريديه ومحبيه، حيث تقول القصة:
يقول القاص: رأيت فيما رأى النائم، كأن القيامة قد قامت، والناس في المحشر يموج بعضهم في بعض، وهم في هلع شديد، وفي هرج ومرج، كل واحد منهم مشغول بنفسه، ذاهل عن أهله وأولاده، ويصيح إلهي نفسي، نفسي النجاة، وهم في أشد حالات العطش، ورأيت جماعة من الناس يتدافعون على غدير كبير من الماء الزلال، تطفح ضفأه وكل واحد منهم يريد أن يسبق الآخر لينال شربة من الماء، كما رأيت رجلاً نوراني الطلعة، مهيب الجانب يشرف على الغدير، حينها علمت أن الواقف هو أمير المؤمنين(عليه السلام) فتقدمت وسلمت على الإمام واستأذنت منه لأشرب الماء فأذن، وبينما أنا كذلك إذ أقبل العلامة الأميني فاستقبله الإمام بكل حفاوة وتكريم معانقاً إياه، وأخذ كأساً مملوءاً بالماء وهم أن يسقيه بيده الشريفة فامتنع الشيخ بادئ الأمر تأدباً وهيبة، لكن الإمام أصر على أن يسقيه بيده الكريمة، فلما رأيت ذلك تعجبت وقلت يا سيدي أراك رحبت بالشيخ الأميني، وكرمته بما لم تفعله معنا، وقد أفنينا أعمارنا في خدمتكم وتعظيم شعائركم، وإتباع أوامركم ونواهيكم وبث علومكم؟!! فالتفت إليّ الإمام وقال: (الغدير غديره)…
هذا دليل واضح لما لهذا الشيخ الجليل من منزلة عظيمة عند أئمة الهدى عليهم السلام، ولو لم يكن قد أفنى عمره وزكى نفسه وارتقى بها لما حصل على هذه الكرامة وغيرها من الكرامات.
خاتمة: نصيحته ووصيته للشباب:
في لقاء له(قدس) مع إحدى الجرائد العراقية عام (1967م) سأله الصحفي: ما هي نصيحتكم للشباب؟
قال الشيخ: إنما أعظكم بواحدة، وأنا الناصح الأمين.
أوصيهم ـ يرعاهم الله ـ بعلاج النفس العزيزة النفيسة وتعقيمها من جراثيم الجهل وتنويرها بالعلم. إذ الجهل ـ قاتله الله ـ رأس الأدواء، وأصل كل خطيئة ومذلة وبذرة كل شر وجريمة، ومفتاح كل عبث وفساد للتسافل والإنحطاط إلى حضيض التعاسة.
والعلم قيمة الرجل وحرمته وكرامته وعزه ومنعته. وأكثر الناس قيمة في سوق الاعتبار أكثرهم علماً، وبالعلم تكتسب الحياة السعيدة الطيبة. وبه تنشط وتحيى روح الإنسانية السامية. وبه يصلح المجتمع البشري، وتتأتى للإنسان السعادة، وتدعم له أصول السيادة، وبه تنقصم وتتفكك قيود الأسارة والاستعباد. وينجو البشر عن كل منحسة ومتعسة. وبه تكسح العراقيل عن سعي الأمم وسيرها إلى الأمام والرقي والتقدم، وبه يعالج الخلاف والشقاق والنفاق وتتوحد الصفوف ويجتمع الشمل ويأتي الوئام والسلام. والسلام على من اتبع الهدى. (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)
نشرت في العدد 11

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.