Take a fresh look at your lifestyle.

المقتضى البياني.. للتكرار القرآني

0 1٬188
                 تعد فرائد القرآن الأسلوبية ومقتضياته البيانية من روائع الإعجاز، فقد أخذت فرادتها من خصوبة القرآن البنائية والموضوعية والهندسية، فكان لكل فريدة منه مغزى إيماني وعرفاني، وفحوى تشريعي وسلوكي، ومنحى بياني وجمالي… وغيرها، مما يوصل بين معابرها إلى مجالات النظامية والاتساق الشامل، إذا بانت بلاغة هذا النص في تطبيق الأحوال وتنزيلها على وفق مقتضيات المقامات والدواعي… ومن هنا، وعلى سبيل المثال، يكشف لنا التكرار القرآني كثيراً من أبعاد ذلك النظام اللغوي وخصائص تركيبة وهندسة محاوره، لذا فإن التأمل بهذه الخصائص والكيفيات لكفيل في رصد الإبانة الإسلوبية وبحث مقتضياتها المتطاولة في سياقها الفسيح.
وورد التكرار القرآني في الأمور المهمة والمعاني الجليلة مقتضى أسلوبي وبياني مقصود لأن فيه شيئاً واضحاً من الإضافة أو تأكيداً متصلاً بالمعنى السابق في سياق يكون التأكيد فيه ضرورة لأداء المعنى المطلوب، من هنا حرص القرآن ـ على أنماطه وأحواله ـ في سياقاته وتعبيراته، إذ بثها في القلوب وثبتها في الضمائر، كما أشار سبحانه وتعالى إلى الغرض من التكرار فقال: (ولقد وصلنا القول لعلهم يتذكرون) (سورة القصص/الآية:51)، وقال تعالى: (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً) (سورة طه/الآية:113) وهنا ذكر الخطابي في دراسته حول إعجاز القرآن أن قانون البلاغة يقتضي بأن يرخى عنان القول في سياق تربية المعاني في القلوب حتى تحيط بأقطار النفس وفضاءاتها فتنفذ إلى مواقع قياداتها والغلبة عليها متجهة إلى حيث يريد صاحب البيان بتوجيهه وبيانه، وهذا واضح بيّن في سياق التهذيب والتعهد بالنصح والإرشاد، وكذلك في الأحداث المهمة والأمور الجليلة التي يراد لها أن تمثل في النفوس وتحيا في الضمائر، وقد أدرك أهل صناعة الأدب هذه الخاصية البلاغية في رسائل الولاة والسلاطين، وأشاروا إلى أن ما كان صادراً في شأن تفخيم النعمة والترغيب والطاعة والنهي عن المعصية سبيلها أن تكون مشبعة مستقاة تملأ الصدور وتأخذ بمجامع القلوب ويقولون إن العرب كانت تبسط القول لكي يفهم عنها، وتوجزه ليحفظ عنه، وعلى هذا جاء القرآن الكريم نراه يشبع القول في بعض المواقف التي تحتاج إلى ذلك ويوجزه فيما لا يكون لهذه المواقف.
ويعتقد الدكتور محمد أبو موسى (أن التكرار في القرآن هو أحد عناصر بلاغته، وهذا الاعتقاد ليس بجديد، وإنما بنى الدكتور أبو موسى رؤية تحليلية أشارت أولاً إلى حاجة هذا الموضوع إلى دراسة مستقلة تتبين بدقة المعاني التي تكررت والمعاني التي لم تتكرر شارحة أحوال هذا وتلك وصلتها بالمقاصد الأساسية في هذا الكتاب الكريم، ثم بدا له بعد نظرته الأولى في المصحف أن هناك موضوعات لم تتكرر كالمواريث والدين والرهان وأحكام الظِهار والمحرمات من النساء وتخيير أزواج النبي(صلى الله عليه وآله) ـ وحادثة الافك وبعض ما عوتب فيه(صلى الله عليه وآله) ـ كحادثة عبد الله بن أم مكتوم في سورة (عبس) وتحريم ما أحل الله له يبتغي مرضاة أزواجه، وبعض القصص مثل قصة سيدنا يوسف(عليه السلام) وبعض الأحداث في
قصص الأنبياء كلقاء سيدنا موسى مع عبد الله الذي أتاه الله رحمة منه، وكذلك لقائه مع امرأتين تذودان وما شابه ذلك، ويورد بعض الباحثين تعليلات حسنة لعدم تكرار قصة سيدنا يوسف(عليه السلام) منها أن بها بعض الأحداث التي تقتضي الحساسية الأخلاقية في هذا الكتاب الكريم سترها وعدم شيوعها، فهي تبرز جانباً من سلوك المرأة غير القويم إبرازها فيه شيء من التفصيل، دعا إليه سياق تجلية الخلق العف النبيل، واقتداره على تجاوز مزالق الفتنة وإن عظم إغراؤها، ومنها أحداث القصة أحداث (شيقة) فهي في مجملها تروي الانتصار الظافر على السلوك غير القويم وطبائع الأنانية الجائرة إلى آخر هذه الأحداث المتجاوبة مع أشواق النفوس ورغباتها في رواية أمثالها.
ومن هذا اللون التحليلي يخلص الدكتور أبو موسى إلى ضرورة الدراسة المستقلة لهذا الباب تتناوله تناولاً شاملاً، تتحدد عندها أحواله بدقة، لأن الموضوعات التي وقع فيها التكرار لم تتكرر بدرجة واحدة وإنما كان يعضها أكثر تصرفاً وشيوعاً على وفق المقتضى، خذ موضوع (الوحدانية) وما يجري في إطارها ويتصل اتصالاً قريباً بمسألة إثارة الإحساس بالربانية وبث الإيمان بكينونة الإنسان في قبضتها، إذ تجد هذا يتكرر بكثرة تفوق غيره من الموضوعات الأخر، وهذا واضح، ومنه قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) (سورة طه/الآية:6). وقوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) (سورة الملك/الآية:1)، وقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) (سورة الحديد/الآية:3) وغيرها…
وكأن الكتاب الكريم إنما بنى على هذا، وتتصل به تلك الآيات الكثيرة التي تلفت عقل الإنسان وبصيرته إلى الإصغاء إلى آيات الله في الكون والنفس، فكثير من الآيات تلفت إلى السماء وما يجري فيها من كواكب مسخرة تمضي على أفلاكها بتقدير ونظام دقيق وثابت، وكثير من الآيات تتحدث عن خلق الإنسان والنعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى عليه، من التي تهتف حول الإنسان وفي دواخله بالربانية، ومع هذه الكثرة الهائلة التي نجدها في المصحف الشريف وهي تؤكد وتقرر هذا المعنى لا نستطيع أن نزعم أنها زائدة عن الغرض، لأن تنبيه الملكات وبعثها من الغفلة والجمود أمر صعب جداً، والنفوس في همودها وقرارها على الغفلة في هذا الجانب أمرها عجيب، والعجب منه لا ينقضي، وكأن تحريك الجبال الراسخة أيسر من توجيه الإدراك إلى هذه الناحية، والقرآن يومئ إلى هذا بقوله: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) (سورة الحشر/الآية:21) كما يذكر فريقاً من الناس ويصفهم بقوله تعالى: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا) (سورة لقمان/الآية:7).
إذن فهذه المعرفة المحيطة بفطرة الإنسان وملكاته وأحوال نفسه تؤكد لنا أن التكرار الذي يدور حول هذا المحور المهم هو إيقاظ الإحساس بالربانية والنظر في الآيات الهاتفة بوجودها ليس زائداً على أصل المعنى، ثم إنك تجد محاور أخرى تصرف القول حولها تصرفاً عجباً مثل الترغيب والترهيب الذي يدخل في دائرته تكرار الجنة والنار، والحاقة والقارعة، وقصص الأنبياء، وتجد معاني جزئية يختلف الحل بها في التكرار فنجد (التوبة) تذكر في خمس عشرة سورة من القرآن و(الزكاة) و(الصدقات) تذكر في ثمان وثلاثين، و(الصوم) يذكر في سورة واحدة، و(الوضوء) يذكر في ثلاث سور…(1).
وهذا المقتضى النظامي هو بلا شك مقتضى معرفي، يرجع إلى طبيعة الأقوام والأحوال والأزمات لتحقق انطباق هذه المحاور وغيرها على نحو من الدقة العجيبة، إذ أنها مثلاً في العبادات ترجع إلى طبيعة الفرائض، فالصوم الذي يجيء في العام مرة واحدة ذكر في القرآن مرة، والصلاة التي تتكرر في كل يوم تكررت، والزكاة التي هي مضنة ضن النفوس بها تكررت، وبذلك أخرج هذا التصرف التكرار عن طبيعته في كلام الناس وإعطائه طبيعة أخرى لأنه يورث الملل إذا لم تدره يد بصيرة بمتصرفات القول، إذ نرى الشاعر يصيب في مواقع منه ثم يفلت منه قيادة فيلقي ظلالاً باردة على كلامه وهذا بخلاف ما نرى في القرآن الكريم فنقرأ ـ مثلاً ـ سورة الرحمن التي بنيت على تكرار: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن/الآية:13) أو سورة القمر التي بنيت على تكرار (فهل من مدّكر) (سورة القمر/الآية:15) … وغيرها (فكيف كان عذابي ونذر) (سورة القمر/ الآية:16) وغيرها كذلك سورة المرسلات التي بنيت على تكرار (ويل يومئذ للمكذبين) (سورة المرسلات/الآية:15) وغيرها…
كذلك سورة الشعراء وغيرها مما ترى التكرار حسناً جداً قادراً متمكناً على استجاشة القلوب وفي ذلك مظهر دال من مظاهر الإعجاز العظيم. ويمكن أن نلحظ للتكرار عند التحقيق لونين من ألوان المعنى مستمدين ذلك من تحليل الزمخشري ـ رحمه الله ـ للفروق الدقيقة والجليلة في قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) (سورة التكاثر/الآية:3، 4) إذ يقول: (أن الثانية ليست تأكيد للأولى، لأن حرف التراخي (ثم) إذن بأنه يباين الأول في الرتبة ويختلف عنه اختلافاً بيناً، وبهذا صار كما يقول العلامة الزركشي تأسيساً لا تأكيداً، ومثله قوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين) (سورة الإنفطار/الآية:17 ،18)، فكلمة (ثم) أفادت أن الثاني مغاير للأول في الرتبة وكأنه أشد في التهويل والتعظيم منه وبذلك لا يكون هو، وهذا يجري في أساليب كثيرة وطرائق مختلفة.
ومن هذين اللونين المعنويين للتكرار ما يكون فيه التصرف منصباً في الصياغة والنظم كقوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصاً له ديني) (سورة الزمر/الآية:11ـ14) فقد أعاد قوله: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) (سورة الزمر/الآية:14).
وهو ليس في الحقيقة تكراراً للأول لأنه أحدث في الصياغة ضرباً من التصرف أعطاها لوناً من ألوان المعنى ليس في الأول لأنه قدم المفعول على عامله فأفاد الاختصاص وكأنه قال في الأول: إني أمرت أن أعبد الله، وفي الثاني: لا أعبد إلا الله، وبينهما فرق كبير في المعنى والمقتضى الأسلوبي، وقد يأخذ التكرار في تجليه مقتضياته في السورة الواحدة، إذ نلحظ مثلاً في سورة (المؤمنون) مجيء التكرار في اسم الإشارة للبعيد كقوله تعالى: (أولئك هم الوارثون… أولئك يسارعون في الخيرات. فأولئك هم المفلحون… فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أو اسم الإشارة الموضوع للبعيد كما في قوله تعالى: (ما هذا إلا بشر مثلكم… إن هذه أمتكم أمة واحدة… بل هم في غمرة من هذا… لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين)… إلى غيرها من المواضع السياقية، وهي لا يخفى عنها ما وراء التعبير بتلك الأسماء من تصوير للمعنى وتجسيده من جهة، ومزايا بلاغية وأسلوبية تضمنتها من جهة أخرى.
أو تكرار الاسم الموصول في أول السورة: (الذين هم في صلاتهم… الذين هم عن اللغو… الآيات، وفي أوسطها: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه… ولا تخاطبني في الذين ظلموا… وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا… إن الذين هم من خشية ربهم والذين هم… الآيات… وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة… وهو الذي أنشأ لكم السمع… وهو الذي ذرأكم وهو الذي يحيي ويميت… ادفع بالتي هي
أحسن).
ويقول الدكتور بسيوني عبد الفتاح: (كرر الاسم الموصول في تلك المواطن لإبراز المعاني التي تحملها جملة الصلة فهي تكشف عن صفات أولئك المؤمنين الذين استحقوا بها الفوز والفلاح، وتجلي صفات هؤلاء المعاندين من كفر وظلم وتكذيب وانتفاء الإيمان، فقد استحقوا من أجلها العقاب والتعذيب، وتظهر قدرة الله ـ عز وجل ـ أمام أولئك المعاندين لعلهم يتأملون ويتدبرون فيقلعون عما هم فيه من كفر وضلال وعناد ومكابرة، ويقبلون على تحقيق الإيمان وإعلان الطاعة لله ولرسوله(2). وكرر القرآن في سورة الرحمن نيفاً وثلاثين مرة قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) متسائلاً عما يستطيع أن ينكره الجن والإنس مما أولاهما الله من نعم، فلعل هذا السؤال المتكرر، ما يثير في نفس سامعيه اليقين بأنه ليس من الصواب نكران نعم تكررت
وآلاء توالت.
ويوحي التكرار في سورة (الكافرون) باليأس إلى قلوب من كفر من أن ينصرف الرسول عن دينه إلى ما كان يعبد هؤلاء الكفرة فليتدبروا أمرهم بينهم ملياً ليروا سرد هذا الإصرار من الرسول فعساهم يدركون أن هذا السر هو أن الرسول على حق فيما يدعو إليه، فلم ينصرف عنه إلى أديان لا سند لها من الصواب والحق(3).
وخلاصة ما تقدم:
فإن التكرار القرآني هو من الروافد البيانية المهمة لبث الفكرة في نفوس الناس وإقرارها في قلوبهم إقراراً لأن المكرر ينطبع في الملكات اللاشعورية التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان ـ كما يقول علماء السلوك ـ من هنا جاء في القرآن لتثبيت المعنى في نفوس قارئيه وسامعيه حتى يقر ويرسخ في أفئدتهم فيصبح عقيدة من عقائدهم لأن تكرار المعاني بأصوله وأنساقه وأعجازه من شأنه أن ينبثق عنه العمل الصالح المبني على أساس من الإيمان المكين.
والحمد لله أولاً وآخراً.
نشرت في العدد 12

(1) ظ: الإعجاز البلاغي، ص64ـ67.
(2) ظ: من هدي القرآن الكريم، ص167ـ168.
(3) ظ: من بلاغة القرآن، أحمد بدوي، ص153ـ155.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.