إمام الفصحاء
قال ابن ابي الحديد: أما الفصاحة فهو عليه السلام امام الفصحاء و سيد البلغاء و عن كلامه قيل: دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة قال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع فغاضت ثم فاضت و قال ابن نباتة حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة و كثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن ابي طالب و لما قال محفن بن ابي محفن لمعاوية جئتك من عند أعيا الناس قال له ويحك كيف يكون اعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره.
و يكفي نهج البلاغة دلالة على انه لا يجارى في الفصاحة و لا يبارى في البلاغة و حسبك انه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له و كفاك في هذا ما يقوله ابو عثمن الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه (ا ه) قال الجاحظ في الكتاب المذكور: قال علي بن ابي طالب : قيمة كل امرئ ما يحسن ثم قال: فلو لم نقف من هذا الكتاب الا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية و مجزية مغنية بل لوجدناها فاضلة على الكفاية و غير مقصرة عن الغاية (ا ه) و قال ابن عائشة: ما اعرف كلمة بعد كلام الله و رسوله اخصر لفظا و لا أعم نفعا من قول علي قيمة كل امرئ ما يحسن«ا ه»
و في البيان و التبيين قيل لعلي بن ابي طالب رضي الله تعالى عنه: كم بين السماء الى الارض قال دعوة مستجابة فقالوا كم بين المشرق الى المغرب قال مسيرة يوم للشمس و من قال غير هذا فقد كذب و يأتي عن المسعودي انه حفظ الناس عنه اربعمائة و نيف و ثمانون خطبة يوردها على البديهة و قال الشريف الرضي في خطبة نهج البلاغة : كان امير المؤمنين«ع» مشرع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها و منه ظهر مكنونها و عنه اخذت قوانينها و على أمثلته حذا كل قائل خطيب و بكلامه استعان كل واعظ بليغ و مع ذلك فقد سبق و قصروا و تقدم و تأخروا لان كلامه الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي و فيه عبقة من الكلام النبوي (الى ان قال) ان هذه الفضيلة انفرد ببلوغ غايتها من جميع السلف الاولين الذين انما يؤثر عنهم منها القليل النادر و الشاذ الشارد فاما كلامه عليه السلام فهو البحر الذي لا يساجل و الجم الذي لا يحافل (ا ه) و حسبك بنهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي الذي يعرف نفسه بنفسه و له منه عليه شواهد و الذي تداولته العلماء و الخطباء و البلغاء في كل عصر و زمان و بلغت الشروح عليه عددا وافرا لم يوجد مثله لكتاب و طبع مرات عديدة في بلاد ايران و طبع في الشام و مصر و بيروت و طبع شرح الشيخ ميثم البحراني عليه في ايران و هو قريب من شرح ابن ابي الحديد الذي طبع في ايران مرتين و في مصر. كل ذلك رغم ما يقوله من لا يوافق بعض ما فيه مشربهم تارة انه من كلام الشريف الرضي و تارة انه ادخل فيه ما ليس منه و تارة انه منقطع السند و تارة و تارة الى غير ذلك مما يعتاده امثال ضرائر الحسناء فلم يؤثر عليه ذلك و لو بمقدار شعرة و لم يزدد الا ظهورا و انتشارا و لم يزده تعاقب السنين و تطاول الدهور الا اعظاما و اكبارا و ما هو الا الذهب الا بريز يزداد حسنا بقدمه و يغلو ثمنه كلما تطاول به الامد.
و جمع الشيخ عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد الآمدي التميمي كتابا من حكمه عليه السلام القصيرة يقارب نهج البلاغة سماه غرر الحكم و درر الكلم و رتبه على حروف المعجم طبع في الهند و مصر و صيدا قال ان الذي دعاه الى جمعه ما تبجح به ابو عثمن الجاحظ من المائة الكلمة التي جمعها عن امير المؤمنين عليه السلام فقلت يا لله العجب من هذا الرجل و هو علامة زمانه مع تقدمه في العلم و قربه من الصدر الاول كيف رضي عن الكثير باليسير و هل ذلك الا بعض من كل و قل من جل و طل من وبل (الى ان قال) جمعت يسيرا من قصير حكمه يخرس البلغاء عن مساجلته و ما انا في ذلك علم الله لا كالمغترف من البحر بكفه كيف لا و هو عليه السلام الشارب من الينبوع النبوي و الحاوي بين جنبيه العلم اللاهوتي اذ يقول صلى الله عليه و قوله الحق و كلامه الصدق على ما أدته الينا أئمة النقل:ان بين جنبي لعلما لو اصبت له حملة (ا ه) .
و مما جمع من كلامه عليه السلام كتاب دستور معالم الحكم جمع القاضي القضاعي طبع في مصر و جمع الشيخ ابو علي الطبرسي صاحب مجمع البيان كتابا من حكمه«ع» القصيرة مرتبا على حروف المعجم سماه نثر اللآلئ ذكرناه في ضمن الجزء الاول من معادن الجواهر المطبوع .
و جمع الشيخ المفيد من كلامه و خطبه«ع» قدرا وافيا في كتاب الارشاد و احتوى كتاب صفين لنصر بن مزاحم جل خطبه التي خطبها في تلك الحرب او كلها و كتبه الى معوية و غيره.
و جمع ابو اسحق الوطواط الانصاري المتوفى سنة 578 كتابا من كلامه عليه السلام سماه مطلوب كل طالب من كلام علي بن ابي طالب جمع فيه مائة من الحكم المنسوبة اليه طبع في ليبسك و بولاق و ترجم الى الفارسية و الالمانية.
و ذكره صاحب كشف الظنون. و جمع القاضي الامام ابو يوسف يعقوب بن سليمان الاسفرائني كتابا من كلامه «ع» سماه قلائد الحكم و فرائد الكلم ذكره صاحب كشف الظنون و ألف بعضهم كتابا فارسيا أسماه معميات علي عليه السلام مذكور في كشف الظنون و كأن المراد بها الامور الغامضة في كلام عليه السلام و في فهرست دار الكتب المصرية ج 3 ص 24 أمثال الامام علي بن ابي طالب مرتبة على حروف المعجم طبع الجوائب.
في رحاب ائمة اهلالبيت(ع) ج 1 ص 53
السيد محسن الامين الحسيني العاملي
و اذا نظرنا الى فصاحته و بلاغته وجدناه امام الفصحاء و سيد البلغاء، و حسبك ان يقال في كلامه انه بعد كلام الرسول«ص» فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق.و قول عدوه معاوية : و الله ما سن الفصاحة لقريش غيره. و انه لم يدون لأحد من الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له. و يقبح بنا ان نقيم شيئا من الأدلة و الشواهد على ذلك فانه كاقامة الدليل على الشمس الضاحية
و ليس يصح في الاذهان شيء
متى احتاج النهار الى دليل
و لا أدل على ذلك مما أثر عنه و جمع من كلامه كنهج البلاغة و غيره و سنتكلم على نهج البلاغة مستقلا.
في رحاب ائمة اهلالبيت(ع) ج 1 ص 27
السيد محسن الامين الحسيني العاملي
و كان شديدا، قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل!
و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار!
من تتبع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقي منهم أو غربي، و لا قديم و محدث، أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف.
فهم بين منتج خلاق، و متذوق قريب التذوق من الإنتاج و الخلق. حتى لكأن الحسالأدبي، بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوانالنشاط العظيم!
فنظرة واحدة الى الأنبياء، مثلا، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان. فما داود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم.
و هذا نابوليون القائد، و أفلاطون الفيلسوف، و باسكال الرياضي، و باستور العالم الطبيعي، و الخيام الحسابي، و نهرو رجل الدولة، و ديغول السياسي، و ابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصاف ذوي الشأن من أهله. فلكل منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدده الطبع و الموهبة، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.
هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علم و هدى، و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي يقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس، و تتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر.
أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا، الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة و المنطق القوي اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، و من سحر البيان النبوي، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق» .
و لا عجب في ذلك، فقد تهيأت لعلي جميع الوسائل التي تعده لهذا المكان بين أهلالبلاغة . فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد الله، و تلقى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة.
أضف الى ذلك استعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئة جميعا!
أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من «نهج البلاغة»عملا عظيما.
و هو ذكاء حي، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل، و غاص عليه عمقا، و قلبه تقليبا، و عركه عركا، و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدقالنتائج المترتبة على تلك الأسباب : ما قرب منها أشد القرب، و ما بعد أقصى البعد.
و من شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أني اتجهت.
و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علة لما بعدها . ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. و هو، لاتساع مداه، لا يستخدم لفظا إلا و فيهذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل، و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقا وراءها آفاق .
فعن أي رحب وسيع من مسالك التأمل و النظر يكشف لك قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» أو قوله : «قيمة كل امرىء ما يحسنه». أو «الفجور دار حصن ذليل!». و أي إيجاز معجز هو هذا الايجاز : «من تخفف لحق!» و أي جليل من المعنى في العبارات الأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصلت تفصيلا، بل قل أنزلت تنزيلا!
ثم عن أي حدة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك، يشف هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله : «ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملك!» و يستمر تولد الأفكار في «نهج البلاغة» من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.
و هي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق و يترتب بعضها على بعض. و لا فرق في ذلك بين ما يكتبه علي و ما يلقيه ارتجالا. فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار.
ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم.
و إنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين، حين تعلم أن عليا لم يكن ليعد خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.
فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد، كالبرق إذ يلمع و لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيء نفسها لصعق أو زمجرة .
و كالريح إذ تهب فتلوي و تميل و تكسح و تنصب على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعها إلى أن تروح و تجيء إلا قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل و لا بعد !
و من مظاهر الذكاء الضابط القوي في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان علي يضبط بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان و الكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء، فإذا هو آمر مطاع .
و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوع البحث و الوصف فأحكم في كل موضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس، و طبائع الافراد و الجماعات. و هو يصف البرق و الرعد و الأرض و السماء. و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف خفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها. و يضع للمجتمع دساتير و للأخلاق قوانين.
و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود. و إنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطقالمحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.
أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفاق الجوانح في كل أفق. و بفضل هذا الخيال القوي الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم، كان علي يأخذ من ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعية الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون.
فالمعنى مهما كان عقليا جافا، لا يمر في مخيلة علي إلا و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمده بالحركة و الحياة.
فخيال علي نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع و يبرزه و يجليه، و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته، و يصبغه بألوان كثيرة من مادته و لونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا، و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه!
و قد تميز علي بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن و تتسع. و قد مر من أطوار حياته بعواطف جرها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين، و مر منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين. فتيسرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذي خياله المبدع . فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حية، شديدة الروعة و الحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتد لها فروع و أغصان، ذات أوراق و أثمار!
و من ثم يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحول عناصر الخيال القوي في نهج البلاغة الى رسوم مخطوطة باللون، لشدة واقعيتها و اتساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها. ألاما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلا:
«لتغرقن بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجة بحر (1) !» أو في مثل هذا التشبيه الساحر: «فتن كقطع الليل المظلم».
أو هذه الصورة المتحركة: «و إنما أنا كقطب الرحى: تدور علي و أنا بمكاني!» أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: «ويل لسكككم العامرة، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة!»
و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة. و إن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه من حال، و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر، فهو و إن أخاف بمركوبه إلا أنه يخشىأن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك الى علي كيف يمثل هذا المعنى يقول: «صاحب السلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، وهو أعلم بموضعه.»
و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثل حالة رجل رآه يسعى على عدو له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول : «إنما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه!» و الردف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: «إياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب: يقرب عليك البعيد و يبعد عنك القريب!»
أما النظرية الفنية القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن، فهي إن صحت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت و ما أبشع وجهه. و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا، و من الخيال الخصب نصيبا أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلا لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوروا الموت و هوله لونا و نغما و شعرا.
فبعد أن يذكر علي الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين: «فكأن كل امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، ومفرد غربة!» ثم يهزهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون، بعبارات متقطعة متلاحقة و كأن فيها دوي طبول تنذر تقول «ما أسرع الساعات في اليوم، و أسرع الأيام في الشهر، و أسرع الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر !» بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، و تشعلها العاطفة، و يجسم الخيال الوثاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئن، قائلا:
«و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم». ثم يعود فيطلق لعاطفته و خياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحي:
«و لكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا، و بالسمع صمما، و بالحركات سكونا.
فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات (2) !.
جيران لا يتآنسون، و أحباء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، و انقطعت منهم أسباب الإخاء . فكلهم وحيد وهم جميع، و بجانب الهجر وهم أخلاء، لا يتعارفون لليل صباحا، و لا لنهار مساء .أيالجديدين (3) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا (4) ».
ثم يقول هذا القول الرهيب :«لا يعرفون من أتاهم، و لا يحفلون من بكاهم، و لا يجيبون من دعاهم!»
فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكانه في قوله: «جيران لا يتآنسون و أحباء لا يتزاورون!» ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية علي: «أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا!»
و مثل هذه الروائع في«النهج»كثير.
هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماء سخية حارة. و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمده العاطفة بالدفء. و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في ميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك ان المركب الإنساني لا يرضيه، طبيعيا، إلا ما كان نتاجا لهذا المركب كله. و هذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. و إنك لتحس نفسك مندفعا في تيار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.
أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى علي يقول: «لو أحبني جبل لتهافت» أو «فقد الأحبة غربة!» أو «اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوارحمي و أكفأوا إنائي، و قالوا :«أ لا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسفا! فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلا أهل بيتي!» و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمه الرسول:
«السلام عليك يا رسول الله عني و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك!
قل، يا رسول الله، عن صفيتك صبري، و رق عنها تجلدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعز!» ومنه «أما حزني فسرمد، و أما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم!» ثم إليك هذا الخبر:
روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال:
خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام، و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، فقال عليه السلام، في جملة ما قال:
«ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا. و أزمع الترحال عباد الله الأخيار، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى! ما ضر إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، و يشربون الرنق؟! قد، و الله، لقوا الله فوفاهم أجورهم و أحلهم دار الأمن بعد خوفهم! أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟ أين عمار؟ و أين ابن التيهان؟ و أين ذو الشهادتين؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النية؟» قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء!
و أخبر ضرار بن حمزة الضابىء قال: فأشهد لقد رأيته ـ يقصد الإمام ـ في بعض مواقفه، و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاء الحزين و يقول: «يا دنيا يا دنيا،اليك عني! أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات! غري غيري،لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها!
فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير! آه من قلة الزاد و طول الطريق و بعدالسفر و عظيم المورد!»
هذه العاطفة الحارة التي عرفها الإمام في حياته، تواكبه أني اتجه في نهج البلاغة، و حيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط، كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا.
حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونه بالسلاح و بالأرواح، تألم و شكا، و وبخ و أنب، و كان شديدا قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل ! و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب الخ» ، لتدرك أية عاطفة متوجعة ثائرة هي تلك التي تمد هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها!
و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفق العاطفة الحية التي تبث الدفء في مآثر الإمام .
فهي في أعماله، و في خطبه و أقواله، مقياس من المقاييس الأسس. و ما عليك إلا أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة و العمق العميق!
تعليقات:
(1) الجؤجؤ:الصدر.
(2) ارتجال الصفة:وصف الحال بلا تأمل،فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعىمن السبات،أي النوم.
(3) الجديدان:الليل و النهار.
(4) سرمد:أبدي.
الامام علي روائع نهج البلاغة ص 9
جورج جرداق
2013-03-05