الخميس , 21 نوفمبر 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » النجف في كتابات الغربيين » النجف في المراجع الغربية القسم -4-

النجف في المراجع الغربية القسم -4-

النجف فيما كتبه توماس لايل

najef3

 

النجف فيما كتبه توماس لايل

لقد كتب عن النجف في هذه الفترة أناس آخرون من الإنكليز، وتطرقوا إلى شؤون الحياة الأخرى فيها غير الشؤون السياسية التي أتينا على شيء كثير منها حتى الآن. ومن هؤلاء رجل استعماري ينتمي إلى مدرسة (أرنولد ويلسن) وكيل الحاكم الملكي العام الذي أدت تصرفاته الطائشة إلى اندلاع نيران الثورة العراقية في 1920، وهو المستر (أو الكابتن) (توماس لايل) وكان (لايل) هذا قد جاء مع الحملة البريطانية من الهند وأشغل وظيفة معاون حاكم سياسي في قزلرباط (السعدية) والشامية والنجف منذ 1918 إلى 1921، ثم اشتغل معاوناً لمدير الطابو في بغداد وحاكماً في محاكمها المدنية بعد ذلك. وقد كتب كتاباً عن العراق باسم (دخائل العراق)(1)، لكنه يفرد فيه فصلا خاصاً للنجف والعتبات الشيعية المقدسة ويبحث في معظم صفحاته عن الشيعة ومعتقداتهم وأحوالهم الاجتماعية بوجه عام. ولم أجد بين الكتب الإنكليزية التي كتبت عن العراق كتاباً مثل هذا مشحوناً بالطعن والسب وإيراد المثالب، والمغالطات وسوء الفهم للكثير من أحوال العراق بوجه عام وأحوال الشيعة ومعتقداتهم بوجه خاص. ويستبان من تحامله الذي سأذكر شيئاً منه إنه رجل موتور من العراقيين، لا سيما وقد كتب كتابه في أعقاب الثورة العراقية التي اندلعت نيرانها من النجف وما يحيط بها من مناطق الفرات الأوسط فأربكت خطط الإنكليز

____________

1- Lyelle, Thomas – The lnns & Outs of Mesopotamia, A.M.Philpot Ltd. London 1923.

 الأميرالية وأسقطت ويلسن وجماعته المنتمين إلى “مدرسة الهند” الاستعمارية البريطانية.

ومما يدل على ما جاء في الكتاب قوله في المقدمة(1) “.. ولما كنت مقتنعاً اقتناعاً جازماً، من تتبعي الشخصي، ان العقيدة الإسلامية هي عقيدة غير تقدمية، مثبطة للهمم، ومدمرة لأية غريزة من غرائز المواطنة الحقة، والأماني الوطنية، فقد جهدت أن أبرهن في الكتاب على ان المسلمين والشيعة منهم غير صالحين بالكلية للحكم الذاتي ـ وسيبقون كذلك مدة من الزمن ـ الحكم الذاتي الذي لا يرغب فيه المسلم إلاّ لكونه وسيلة من وسائل التهرب من حكم النظام والقانون” ولا شك ان التطورات التي حصلت في البلاد الإسلامية كلها منذ ذلك التاريخ حتى اليوم تكفي للبرهنة على سخف هذا الرأي وهو يعتقد ان وجود عتبات الشيعة الأربع في العراق ـ أي النجف، وكربلاء، والكاظمية، وسامراء ـ يجعل من قسماته وأوصافه المميزة شيئاً فريداً في بابه، ويعتبر مفتاحاً لمعرفة أوجه الضعف والقوة في سكانه. ولذلك فهو يحصر مباحث كتابه معظمها في هذه العتبات وعقائد سكانها. لكنه مع جميع ما يحاول إيراده من مثالب لا يستطيع طمس الحقائق الناصعة في كثير من الأحيان والمناسبات.

____________

1-   تعمدنا أن نورد جانب السخط من أقوال الساخطين وما جرت به أقلامهم لكي نحافظ على أمانة النقل من جهة ولئلا نبقي شيئاً محجوباً التزاماً منا بمقتضيات الموسوعة التي تتطلب ثبت جميع النواحي وعرضها كما هي، على ان (لايل) هذا يعود بعد ذلك كما لو كان نادماً فيصف النجف وصفاً بشيء كثير من القدسية، أما صورة النجف الواقعية فسنأتي عليها في الأجزاء الأخرى من قسم النجف معروضة عرضاً تأريخياً سليماً بعد أن نكون قد أتينا على جميع الأقوال فيها.

 ويبدأ (لايل) بوصف النجف ومعالمها، فيذكر ان عدد نفوسها يقدر بخمسة وأربعين ألف نسمة، ولما كان محيط سورها الخارجي يقل عن ثلاثة أميال في

طوله فإن أحوال النفوس المحتشدة في داخله خير للمرء أن يتصورها من أن يحاول وصفها بالعيان. ويبلغ عدد الزوار الذين يمرون من أبوابها في بعض الأعياد الكبرى حوالي مئة وعشرين ألف شخص. وهو يشبه النجف في موسم الزيارات باسفنجة كبيرة تمتص جميع هذا العدد من الزوار، وتقذفهم إلى الخارج بعد أربعة أو خمسة أيام وهم فارغي الجيوب ليجدوا طريقهم بوسيلة من الوسائل إلى ايران والهند والحجاز أو فلسطين على حد تعبيره. ثم يقول ان سكان النجف يجب أن يقسموا إلى طبقتين بارزتين، طبقة رجال الدين المحترفين وطبقة العوام الاعتياديين. ويعتبر النجف كلها جامعة دينية واحدة يبلغ عدد طلابها حوالي (6000) طالب. والنجفي الاعتيادي في نظره نتاج محيطه المشحون بالتعصب، وقد يكون غنياً لكنه لابد له من أن يتظاهر بالفقر، وينظر إلى الزوار والبدو الذين يأتون للاكتيال وكأنهم فرائس شرعيون له. أما التاجر النجفي فهو من طراز التجار في القرون الغابرة، حينما كانت البضاعة تشحن بواسطة القوافل وتمر بأخطار لا حصر لها فلا يُعرف ربحها أو خسارتها إلاّ بعد عدد من السنين، ويكون أقل ربح لهم منها بنسبة مئة بالمائة. ويعتبر الزائر الايراني المتشبع بالروح الدينية، والبدوي الذي يذهله حتى منظر البيوت، تحت رحمته على الدوام. ومن عاداته أنه يحتفظ بتنكة الدهن ثلاثين سنة في سردابه بأمل أن يرتفع سعرها قرشاً واحداً.

والدين في رأي المستر (لايل) يتخلل حياة المجتمع النجفي من جميع نواحيه. فهو ينظم (نفسولوجية) الناس فيه، ويسيطر على أفكارهم وأعمالهم، وينساب أبداً ودوماًمع التيارات الخفية المتخللة في عقلهم الباطن.وبوسع المرء مهما ابتعد عنهم أن يسمع “نوطته”المدوية في قلب ذاتيتهم واضحة جلية(1). ثم يأتي

____________

1-   توماس لايل، الص 17 ـ 22.

 على وصف رجال الدين، والحياة العلمية بتفصيلاتها وأحوالها المعروفة للجميع، بعد أن يعترف بأنها أقدس المدن الشيعية ومقر أعظم المجتهدين وأكبرهم على الدوام. كما يقارن ما بين الاجتهاد الموجود عند الشيعة والالتزام بالنصوص الدينية الأصلية لدى المذاهب السنّية الأربعة، ويتطرق إلى نفوذ المجتهدين ومنزلتهم الكبيرة في العالم الإسلامي. ومما يذكره للبرهنة على هذا النفوذ الواسع قصة المجتهد الأكبر العلاّمة الميرزا حسن الشيرازي الذي أفتى بتحريم انحصار التبغ وإعطاء امتيازه إلى شركة روسية كافرة على حد تعبيره في أواخر القرن الماضي في ايران. ويذكر كيف ان تلك الفتوى قد أدت إلى إبطال الامتياز وتعويض الشركة الأجنبية عن خسارتها. ويعقّب على هذه القصة بقوله ان عالماً من علماء السنّة لا يستطيع أن يفعل ذلك. ويشير كذلك إلى ان من حسنات الاجتهاد أن يسمح العلماء الشيعة بتناول الكحول المحرمة عند الضرورة وعند اعتباره دواءً شافياً للمرضى في بعض الحالات. ثم يعدد شروط الاجتهاد التفصيلية التي ينقلها عن كتاب لقس من المبشرين يدعى (أدورد سي).

ولا ينسى المستر (لايل) الإشارة إلى وادي السلام الممتد خارج السور، الذي يرقد في أرجائه رقدتهم الأبدية الكثيرون من الملوك والوزراء والوجهاء والتجار، والأغنياء والفقراء، ويشير إلى القراء الذين يقرأون القرآن على الكثير من القبور لينيروا ظلمتها الموحشة ببركته وروحانيته، فيقول ان الزائر لوادي السلام في أمسيات الخميس من كلّ أسبوع يجد حوالي ألفي قارئ من هؤلاء القراء الذين يحصلون على قوتهم من هذه المهنة المصطبغة بالتقى والورع. ولا يحصل هؤلاء على الكثير من هذه المهنة، ولذلك فإنهم يتقاضون أيضاً حصتهم من الصدقات التي يفرقها المجتهد الأكبر على المحتاجين من الناس عادة.

ويأتي بعد ذلك على الطرق الضيقة والبيوت المحتشدة في رقعة صغيرة منالأرض. وأهم ما يذكره عنها ما يشير به إلى السراديب النجفية المعروفة التي يقول ان المزية الفريدة في النجف وجود طبقة واحدة منها في كلّ بيت على الأقل، وقد توجد في بيوتها الكبيرة ثلاث أو أربع أو خمس طبقات من هذه السراديب أيضاً. ومزية هذه السراديب من الناحية العملية في رأيه ان المرء يتحتم عليه لبس المعطف حينما ينزل إلى ما تحت الطبقتين أو الثلاث منها، بينما تكون درجة حرارة الخارج في حدود الـ (125) بالمقياس الفهرنهايتي. وتتصل كثير من الدور بعضها ببعض عن طريق هذه السراديب فتكون وسيلة للجرائم التي تقف مخيلة الرجل المتمدن مشدوهة مرتجفة تجاهها على ما يقول(1). ويتطرق المستر (لايل) كذلك إلى وجود بئر واحدة في كلّ بيت يبلغ عمقها مئة قدم، وفيها ماء أجاج يتسبب عنه الزحار (ديزانتري) أحياناً.

ومع جميع المغالطات والمثالب التي يوردها المستر لايل حينما يبحث عن الشخصية النجفية، وعلاقة الشيعة بالسنّة، وجرائم المجتمع، والمتعة والطلاق والقضايا الجنسية، ووضع الإنكليز في العراق مع حقهم بالبقاء فيه، فإن الحقائق الناصعة عن الصوم والالتزام بطقوس الحزن على الإمام الحسين في محرم، وشخصية الإمام عليّ (عليه السلام)، لم يستطع بكل ما عنده من تعصب وتحيز أن يطمسها أو يحجب نورها عن نظر القارئ.

فقد كان الإمام عليّ في نظره ألمع الأئمة المسلمين وأعظمهم بمراحل. “وقال انه قد عرف في شبابه وكهولته بالكثير من المآثر وأعمال البطولة التي تخلد شجاعته الفائقة في التأريخ وتبرر لقب “الأسد” الذي لقبه به النبيّ الكريم، كما عرف في شيخوخته بورعه وزهده ودماثة خلقه. ولا يسع المرء غير المتعصب إلاّ أن يعجب بشخصيته الملهمة المحبوبة للغاية، لما عرف عنه من إخلاص تام وتفان متناه لمعلمه وسيّده النبيّ محمّد. وقد أدى قتله بالطريقة التي قتل فيها إلى انتشار شهرته وذيوع صيته في الخافقين“.

____________

1-   نعتقد ان الحكاية هذه تحمل تكذيبها بنفسها.

 وقد كتب لايل في كتابه حوالي عشرين صفحة(1) عن محرم الحرام واستشهاد الإمام الحسين فيه، ومراسيم اللطم والضرب بالقامة والسلاسل إحياء لذكراه وحزناً عليه مما يجري في النجف كلّ سنة. وهو يقول في هذا الشأن ان الحياة العاطفية المتطرفة عند العرب والمسلمين تجد متنفسها الكامل خلال الأيام العشرة الأولى من محرم. وإن يوم عاشوراء يعد من أقدس الأيام عند المسلمين لأن الله عزّ وجلّ خلق فيه آدم وحواء، والعرش والسماء، وجهنم ويوم الحساب، ولوح القدر والقلم والمعاد والموت. ومما يذكره عن ليلة شهد فيها موكباً من مواكب “اللطمية” قوله “.. ان السكوت التام الذي كان يخيم على الجموع المحتشدة، والسماء الاستوائية العميقة التي كانت تحيط بكل شيء، وملاعبة النسيم لسعفات النخيل من وراء المحتفلين، والصوت الصبياني الرقيق المرتفع بالحداء المنطوي على قصة يشعر بفجيعتها المتناهية كلّ من يستمع إليها، قد رسمت كلها في مخيلتي صورة ليس من الممكن لي أن أنساها قط”. ويصف جماعات “اللطّامة” فيعجب بجماعة خدام الحضرة المتكونة كلها من السادة، والتي كانت تحتوي على ما يقرب من مئتين وخمسين شخصاً. ويقول عن صوت اللطم على الصدور انه صوت فريد في بابه ومفعم بالخوف الممزوج بحب الاستطلاع. وقد سمعه في ليلة من الليالي الهادئة وهو في مكان يقع على بعد ثلاثة أميال من النجف. أما “التشابيه” فيقول عنها إنها تمثل يوم عاشوراء، وتعتبر شيئاً موقراً جداً بعد جميع ما يحدث قبلها.لكنهاتكون كثيرة الواقعية في بعض فصولها، لأن الجمهور يسلك كما لو كان كلّ ما يجري أمامه معركة حقيقية تقع بين يديه. ولذلك فان الذي يقوم بدور يزيد لابد من أن تكون له أعصاب من حديد لأن الجمهور يصبح مخيفاً بتهديداته. ويأخذ بعد هذا بوصف جميع ما يحدث كما هو معروف لدى الجميع في هذه البلاد.

____________

1-   الص 57 ـ 76.

 وفي إحدى المناسبات دعا كليدار النجف المستر (لايل) ليصطحبه إلى الصحن فيشهد معه دخول موكب السادة وخدام الروضة اليه، وكان ذلك في العاشرة والنصف من مساء اليوم التاسع من محرم الحرام. فجلسوا ينتظرون في الساحة الخالية من وجود أي نوع من أنواع الضياء في كلّ مكان، عدا النجوم التي كان يبدو بعضها متلألئاً في كبد السماء الصافية الخالية من القمر. وبعد الصمت الذي ظل مخيماً على الجميع مدة من الزمن دخل الموكب تتخلله أربعة مشاعل ضخمة، تحيط بكل منها جماعة من السادة المعروفين لديه. وقد كانوا من جميع الطبقات والأعمار على حد قوله، من الأولاد الصغار إلى الرجال الملتحين والمسنين الذين أحنت ظهورهم السنين. كما كانوا عراة إلى المحزم مع العمائم الخضر التي كانت تجلل رؤوسهم. ثم نهض فجأة صبي لا يتجاوز عمره الثلاث عشرة سنة وارتقى المنبر فأخذ يقرأ قصة الحسين الشهيد بلهجة فصيحة أعجبت المستر (لايل) ولذلك نجده يقول انه كان يعتقد على الدوام ان العربية لغة موسيقية ترتاح لها الآذان، وان هذا الصبي لابد من أنه كان قد اختير لجمال صوته وإجادته في القراءة. وكان الرائي يلحظ في النور المختلط بدخان المشاعل مئات الأذرع ترتفع إلى السماء وتهبط أكفها لاطمة الصدور العارية بحماسة ظاهرة حزناً على الحسين وتوجعاً للإمام الشهيد، بينما ترتفع أصوات النسوة المولولات من فوق الجمع المحتشد. ويبدو ان المستر (لايل) قد تحسس بهذا المنظر، لأنه يعلق عليه بقوله: “ولم يكن هناك أي نوع من الوحشية أو الهمجية، ولم ينعدم الضبط بين الناس، فشعرت وما زلت أشعر بأني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلىء بالحيوية في الإسلام، وأيقنت بأن الورع الكامن في أولئك الناس والحماسة الدينية المتدفقة منهم يمكنهما أن يهزا العالم هزاً فيما لو وُجها في الطرق الصالحة والسبل القويمة. ولا غرو فلهؤلاء الناس عبقرية فطرية في الدين(1) “.

ثم يقول المستر لايل بعد ذلك ان المجتهد الأكبر نفسه قد أخبره وهو آسف في لحظة من لحظات ثقته به بأن هذه المراسيم والطقوس، بجميع ما فيها من تطرف في إظهار الحزن والأسى، هي أشياء محرّمة تحريماً تاماً، وإنه لا يستطيع السيطرة على الناس فيها. فأهون على المرء أن يصدّ موج البحر الطامي من أن يكبح جماح عاطفة أساسية في الجنس البشري مثل عاطفة التعبد لله والتفاني في سبيله. وهذه هي القاعدة الأساسية التي تستند عليها جميع الطقوس التي تجري في محرم، مع ان أحداً من المشتركين بها لا يحمل أية فكرة عن ماهية هذا الشعور. ويعقب على ذلك قائلا في مكان آخر: ان الكثيرين من العرب، ولا سيما الصبيان منهم، هم أصدق معرفة بالديانة الحقة من مئات (الانكلوساكسونيين) الذين يحضرون صلاة الأحد في الكنائس ويشتركون في طقوسها. لأن كلّ عربي يعلم تمام العلم بأن التدين يعني احتمال شيء غير يسير من التقشف الذي تحتمله الألوف المؤلفة ببهجة وسرور. لكن هؤلاء الناس كما قلت يتصفون بعبقرية طبيعية في شؤون الدين. ونحن لا نستطيع الاهتداء إلى لمحات من القواعد الأساسية للشخصية العربية وأهميتها المادية إلاّ في محرم ورمضان(2).

____________

1-   الص 73.

2-   الص 75.

 أما رمضان فيتطرق إلى ذكره في كتابه بما يقرب من عشرين صفحة أيضاً فيشرح فيها أهمية الصيام عند المسلمين، ويورد عدداً من الآيات الكريمة النازلة به مترجمة إلى الإنكليزية، ثم يقارن هذا الصيام بصيام المسيحيين فيذكر أنه يختلف تمام الاختلاف عن فكرة الصوم التي تتمسك بها الكنيسة الكاثوليكية، ويكاد يستخف بها. ويتطرق بعد ذلك إلى ما في صيام المسلمين من صعوبةومشاق بسبب الامتناع عن تناول كلّ شيء خلال ساعات النهار. وهنا يفنّد ما يذهب إليه بعض الأوربين الذين عاشوا في الشرق مدة من الزمن من أن الصيام عند المسلمين عبارة عن مظاهر فارغة لا غير لأن الناس يسمح لهم بأكل ما يشتهون خلال الليل. فيقول ان مثل هذا الاتهام المفعم بالجهل والتعصب لا يمكن أن يصدر ممن يكلف نفسه قليلا في تفهم أحوال الناس الذين يعيش بين ظهرانيهم ويتعاطف معهم. ويستشهد في ذلك بأكبر حجة عن العرب وبلادهم، الرحالة الانكليزي المشهور (ريتشارد برتون). ويستمد على إيراد الكثير من البراهين والمناقشات مما لا يتسع المجال لذكره، لكنه يعلق على ما يقوله المستشرق المعروف (مارغليوث) (بأن المتعبدين الذين يصومون رمضان في سورية ومصر هم في العادة الفقراء المتعودون على الجوع والتقشف) ويقول ان الشيوخ في العراق لا يقلون عن فلاحيهم تمسكاً برمضان ومراعاة لشعائره الحكيمة. ثم يعجب المستر (لايل) كيف يستطيع الخاص والعام الامتناع عن التدخين بالإضافة إلى الامتناع عن الأكل من دون تذمر ملحوظ. فيصف كيفية فتح المقاهي في النجف وقت الإفطار وتقاطر الناس عليها لتناول الشاي من دون جلبة أو حدة ظاهرة أو تذمر يذكر في الحصول عليه، سوى ذكر البسملة أو الحمدلة وسائر الجمل المناسبة. وهو يقول ان كرامة العربي الحقيقية وعزة النفس الأصلية يمكن أن تلاحظ هنا. ولذلك نراه يشير إلى ان هذا الصيام ينطوي على الكثير من ضبط النفس وكبت الشهوات، ويستخف بمن يقول ان حوادث الاحتكاك والمشاحنات تزداد بين الناس خلال الشهر الفضيل لأنه لم يلحظ ذلك حينما كان يشتغل حاكماً في محاكم بغداد المدنية، وقد يكون الأمر بعكس(1) ذلك على حد تعبيره.

وقبل أن ينهي المستر لايل ما يكتبه عن رمضان يتطرق إلى عيد الفطر ومراسيمه، فيقول إنّه شاهد تمتع الناس بهذا العيد في البادية والمدن، وفي البواخر، فكان يتمنى على الدوام أن يكون هو نفسه أحد المتمتعين به. ثم يأخذ بوصف مظاهره المختلفة في النجف، وزيارة الناس بعضهم لبعض من أجل المعايدة، وما أشبه.

____________

1-   الص 86.

 غير أنه يعمد بعد ذلك إلى تحليل النظام الإسلامي بوجه عام، ويزعم في ذلك أنه نظام جاف ضيق الأفق، لا يعترف بالإبداع والتقدم، فيربط أتباعه بقانونية تقتل فيهم كلّ أمل وتقضي على أي مجهود يبذلونه في مهده. ومع هذا يبقى الإسلام الخصم الألد للمسيحية(1) على حد تعبيره، ولا سيما في البلاد الأفريقية التي تشترك فيها الديانتان في منافسة حادة يكون فيها الإسلام هو المجلي في الوقت الحاضر. ثم يخلص إلى القول بأنه لا يستطيع أن يصدق بأن المسؤولين عن السياسة البريطانية في العراق يجهلون حقيقة النظام الإسلامي الذي يتصوره هو في البلاد الإسلامية عامة وبين العرب على الأخص، ويستغرب كيف يفكر المسؤولون في منح الحكم الذاتي للعرب وهم الذين لا يمكن أن يضطلعوا بذلك إلاّ بعد مئة سنة(2). وهنا أيضاً أقول ان ما حصل في البلاد العربية منذ أن كتب (لايل) هذا الكتاب حتى اليوم يبرهن على جهله في هذه الأمور وخطئه في حكمه المتحيز.

وحينما يبحث عن مستقبل العراق، وعلاقته ببريطانيا يعالج الموضوع بصورة “تجارية” وبحساب الربح والفائدة. ولذلك نراه يدعو إلى وضعه تحت “الحماية” البريطانية وإبعاد الداعين إلى الوحدة العربية، لأن حكم سنة واحدة في العهد الفيصلي قد أدى على زعمه إلى نقص كبير في الواردات وازدياد في التفسخ والفساد. وهذا أيضاً حكم لا سند له من الصحة لأن حكم السنة الواحدة من العهد

____________

1-   الص 169.

2-   الص 185.

 الفيصلي التي يشير اليها لم يكن حكماً وطنياً إلاّ بشيء من المظاهر، وإنما كان حكماً إنكليزياً يسأل عنه الإنكليز في الدرجة الأولى. ويدعو كذلك إلى تقوية الأقليات، والالتفات إلى الأقلية اليهودية التي لم يُقدر وضعها وأهميتها في هذه البلاد ومع ان اليهود هم العنصر التقدمي في جميع البلاد على ما يزعم، وهم الجماعة المسيطرة على شؤون المال والتجارة. ومن الغريب انه يولي هذه الأقلية عناية خاصة في عدة مناسبات مع أنه غير يهودي. ولا غرو فإن المستر (لايل) هو مثال الاستعماري البريطاني الذي أدى تصرفه وتصرف أمثاله إلى نشوب الثورة العراقية التي كان للنجف فيها قسط أوفر من الجهود التي يخلدها التأريخ بمداد الفخر والإعجاب.

موقف النجف إلى 1932

وإذا عدنا إلى مجرى الحوادث في العراق، وتقصينا ما أسهمت فيه النجف منها، نجد ان قيام الوزارة السعدونية، التي كان يحاضرها الإنكليز، بمضايقة العلماء في النجف والكاظمية قد أدى إلى هجرة بعضهم إلى إيران ومنهم المرحومان العلاّمة النائيني، والحجة السيد أبو الحسن احتجاجاً على نفي العلاّمة المرحوم الشيخ مهدي الخالصي بسبب معارضته في إجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي. وحينما استقالت الوزارة المذكورة على أثر ذلك، وتشكلت وزارة جعفر العسكري الأولى أراد الملك فيصل أن يسترضي الشيعة على ما يقول (آيرلاند) ولذلك نجد ان المستر (لونكريك) صاحب كتاب (أربعة قرون…) يذكر في كتابه الآخر عن العراق الموسوم (العراق بين 1900 ـ 1950)(1) ان الملك فيصلا زار النجف وكربلاء زيارة رسمية في كانون الأول 1923، فلقيت زيارته إلى تلك المناطق نجاحاً باهراً.والظاهر إنه ذهب إلى هناك ليمهد إلى إجراء الانتخابات وجمع المجلس التأسيسي الذي كانت مهمته التصديق على المعاهدة ووضع الدستور.

____________

1- Iraq. 1900 – 1950, by Stephen Hemley Longrigg,London 1953.

 وقد تم ذلك بالفعل في وجه معارضة قوية. ويقول المستر (لونكريك) في كتابه المشار إليه ان الوزارة العسكرية حينما استقالت بعد حل المجلس ألف الوزارة في 2 آب 1924 ياسين الهاشمي فأشغل وزارة المعارف في وزارته السياسي النجفي المثقف الشيخ محمّد رضا الشبيبي(1). لكن المعروف ان الأستاذ الشبيبي استقال بعد عدة أشهر احتجاجاً على منح الوزارة الهاشمية امتياز النفط للشركة الإنكليزية بشروط مجحفة للعراق. ومما يذكره (لونكريك) عن هذه الفترة كذلك (1924) ان الحالة في كردستان كانت غير مستقرة، بينما كان المسؤولون في الحكومة البريطانية منهمكين في المفاوضة مع تركيا حول قضية الموصل وإنهاء مشكلة الحدود بين البلدين. وقد عمد الشيخ محمود في تلك الأثناء إلى الاتصال بالأتراك والاستعانة ببعض ضباطهم الذين انضموا اليه في السليمانية، وإلى إيفاد أناس خاصين إلى كركوك لتحريض التركمان على مناصرته في حركته، وإلى النجف وكربلاء بطلب العون والمساعدة.

وقد كانت سنة 1927 مفعمة بالنشاط العام الذي كانت تديره الأحزاب المعارضة النشطة، مثل حزب الشعب برئاسة ياسين الهاشمي والحزب الوطني الذي كان يرأسه جعفر أبو التمن وحزب النهضة برئاسة أمين الجرجفجي، في مقابل الحزب الممالئ للانكليز الذي كان يرأسه عبد المحسن السعدون، وهو حزب التقدم. وقد أدى هذا النشاط إلى تخوف رئيس الوزراء جعفر العسكري من تقديم المعاهدة، التي عقدها مع الانكليز في أواخر هذه السنة، على المجلس النيابي وقيامه بتقديم استقالته في أيام 1928.

____________

1-   الص 152.

2-   الص 177.

 

على ان المستر (لونكريك) يذكر عن هذه السنة في كتابه(2) الثاني عنالعراق إنها تتميز بثلاثة أمور ذات أهمية سياسية خاصة. أولها ظهور العنصر الشيعي، من دون دلائل مسبقة، كقوة سياسية على مسرح الحوادث في البلاد. وقد كان لابد لهذه القوة من أن تظهر للوجود بعد أن زال عن الشيعة كابوس المضايقات التركية، وقل تأثير السلبية المزمنة التي كانت تتصف بها قيادة العلماء لهم في 1923، وظهور طبقة منهم تطالب بالاشتراك في حياة البلاد العامة وهي لا تقل عن غيرها في الوطنية والثروة والذكاء بشيء. ولم تعد هذه الطبقة تكتفي بالأقلية الشحيحة التي تعيّن في الحكومة من أبنائها ولا بالكرسي الوزاري الوحيد المقنن لها. وكان بوسعها أن تعتمد في نشاطها السياسي هذا على طبقة مثقفة بدأت تأخذ بالنمو، وكتلة عشائرية قوية تتركز في الفرات الأوسط، ومجموعة غنية طموحة نهمة في الاستحواذ على الأراضي الزراعية والتوسع بها من سادة المنطقة وعلى ما بقي من نفوذ العلماء والمجتهدين في المدن المقدسة وهو شيء لا يستهان به.

وفي هذا الجو المشحون بالانقسامات والاختلافات وقعت حادثة مؤسفة، في أوائل 1927، كانت بداية مناسبة لسلسلة من الحوادث الأخرى التي كهربت الجو واستنفدت الكثير من جهد المسؤولين في الأوساط الوزارية. فقد نشر أحد المدرسين (يشير إلى كتاب التصولي عن تأريخ العرب) كتاباً اُعتبر منافياً للعقائد الشيعية، فانقسمت الأوساط السياسية في عشية وضحاها إلى فريقين متنابذين، وعقدت الاجتماعات الصاخبة في بغداد والنجف وسائر المدن المقدسة للمطالبة بحقوق الشيعة. ثم ظهر للوجود من جديد حزب النهضة، الذي لم يُعرف له نشاط ملموس منذ 1922، بقيادة شيعية خالصة. وحينما عرضت الحكومة على المجلس النيابي “لائحة قانون الدفاع الوطني” في هذه الأثناء تضاعفت المعارضة الشيعية للحكومة بمناسبته. واستقال في الحال الوزير الذي يمثلهم في الوزارة السيد عبد المهدي، ثم انضم اليهم الأكراد خوفاً من التجنيد الاجباري الذي كانيتهددهم. فاستبدل السيد عبد المهدي بأمين زكي في المعارف، وعُين السيد علوان الياسري وزيراً للري والزراعة.على ان رئيس الوزراء عمد إلى تأجيل المجلس النيابي لينقذ وزارته، لكن هذا التدبير لم يؤد إلاّ إلى انتقال النشاط السياسي الرئيسي من بغداد إلى الفرات الأوسط. وقوطع وزير المالية حينما قام بجولة إلى النجف وما حولها، واستطاع الملك فيصل بكل ما عنده من سخاء ولباقة معالجة حادث وقع في الكاظمية في اليوم العاشر من محرم ما بين الجنود والمشتركين بالعزاء الحسيني المعتاد. ثم أخذ حزب النهضة يشنع بالوزيرين الشيعيين المشتركين في الوزارة ويندد بتعاونهما مع الحكومة، وعمد إلى تنظيم المظاهرات في النجف وكربلاء وكتابة المقالات الرنانة في صحفه، فأدى ذلك بياسين الهاشمي وكيل رئيس الوزراء إلى سدها. وحينما اعترضت المقامات العليا عليه قدم استقالته من الوزارة، وحذا حذوه رشيد عالي الكيلاني(1)

وحينما تشكلت الوزارة السعدونية الثالثة في 14 كانون الثاني 1928 للعمل على تصديق معاهدة 1927 وإمرارها من المجلس، بعد أن عقدها جعفر العسكري رئيس الوزارة السابقة مع الانكليز، كان من بين أعضائها الصراف النجفي محسن شلاش على تعبير (لونكريك)(2) ومما يذكر عن الحاج محسن في هذه الوزارة أنه كان مسؤولا عن عقد امتياز أصفر لاستثمار اللطيفية، حينما كان وزيراً للمالية من قبل. ولما كان هذا الامتياز مجحفاً للجانب العراقي تجاه الانكليز أصحاب الامتياز، ومبنياً على أغلاط فنية غير يسيرة، فقد طلبت المعارضة (جلسة 17 أيلول في المجلس النيابي) حينما عرض على المجلس من قبل هذه الوزارة إقالته ورفع الحصانة عنه تمهيداً لسوقه إلى المحاكمة فلم ينفذ الطلب.

وبعد أن استقالت الوزارة السعدونية الثالثة في كانون الثاني 1929 تألفت الوزارة التي تليها من بين أعضاء حزب التقدم أيضاً برئاسة توفيق السويدي، فبقي فيها الحاج محسن شلاش في منصبه أيضاً على ما يذكر (لونكريك) وآخر ما يورد هذا المؤلف كذلك عن الحاج محسن اشتراكه في وزارة نوري السعيد السابعة في تشرين الأول سنة 1942 وإشغاله منصب الوزير في وزارة الاقتصاد، وهنا يسميه بالتاجر النجفي.

____________

1-   الص 178.

2-   الص 179.

 تثمين في نهاية عهد الانتداب

ويتطرق المستر (لونكريك) في نهاية الفترة التي انتهت بدخول العراق إلى عصبة الأمم في 1932 إلى تثمين عام للتقدم الذي حصل في العراق، فيذكر في جملة ما يعدده في هذا الشأن ان محاولات وتجارب أجريت في الأشهر الأخيرة من هذه الفترة لفتح طريق النجف إلى المدينة. ثم يعاود ذكر هذه النقطة بعد ذلك ويقول ان السير في طريق النجف ـ المدينة قد ازداد وتوسعت أهميته في 1935 ـ 37. ويذكر في مناسبة أخرى كذلك ان الحجاج ظلوا يسافرون من النجف إلى البلاد المقدسة عبر البلاد النجدية سنة 1937.

وحينما يستطرد في تثمينه للحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت تسود العراق في ذلك التاريخ (1932) يأتي على ذكر الطوائف والطبقات الدينية، ويتعرض على غير عادته في المؤلفات الأخرى إلى النجف وتأثيراتها الدينية وغير الدينية على الوضع العام في البلاد، وكأنه يأبى إلاّ أن يبرهن على مشاركته لزملائه الانكليز الآخرين الذين كانوا يسيّرون العراق يوم نشبت الثورة العراقية في موتوريتهم من النجف وعلمائها واستغلالهم للنعرات الطائفية المقيتة في كلّ فرصة أو مناسبة. فيبدأ بالقول ان إدارة اُمة من الأمم، وصلاح أحوالهم السياسية، لا يتفقان مع وجود ثقافات وحضارات مختلفة متباعدة بين طبقات السكان، أو قنوع الولاء، أو مستويات متباعدة في التطور الاجتماعي، لكن العراق فيه أقليات غير مندمجة في أكثرية السكان، وتباين بارز في تطور الطبقات الاجتماعية ومستوياته ثم يتعرض إلى وجود الأكراد وأوضاعهم، ووجود الآثوريين واليزيدين والايرانيين وما أشبه وبقائهم محافظين على كياناتهم المتباينة. كما يشير إلى الاختلافات الموجودة بين الطوائف المسيحية المختلفة ويخلص منها إلى القول بأن اختلافاتها لا يمكن أن تقارن(1) بالاختلاف التاريخي العميق الموجود بين السنّة والشيعة الذي كان أبداً ودوماً وما زال يفرق الوحدة السياسية في البلاد ويملؤها مرارة وانشقاقاً. ولئن أصبحت القيادة الشيعية في 1932 وما بعدها أقل تعصباً وابتعاداً عن العراق، فإنّ علماء النجف ظلوا يحتفظون بالكثير من السلطة والنفوذ وبقيت الشيعية هي القوة الموحدة لكتلة كبيرة من السكان دائمة التذمر والهياج، والفكرة التي تسمو على ولاء العشائر وإخلاصهم. وكثيراً ما كانت الشيعية في الفرات، وهي تقترن بالابتعاد عن المركزية القريب من الفوضوية، منبعاً رئيسيا لمشاكل الحكومة ومصاعبها.

وفي معرض البحث عن وزارة رشيد عالي الكيلاني التي تشكلت في 20 مارت 1933، على أثر استقالة وزارة ناجي شوكت الضعيفة، وما قوبلت به في الأوساط السياسية، يقول ان الحكومة الجديدة قوبلت بالترحاب لأنها اعتبرت ممثلة للأخاء الوطني في البلاد. لكنها سرعان ما خسرت مؤازرة الوطنيين لأن منهاجها لم يتضمن شيئاً عن إعادة النظر بنصوص المعاهدة الجديدة التي عقدها نوري السعيد مع بريطانيا العظمى في 1932.

____________

1- الص 222.

 ولذلك أذاع أولئك الوطنيون بياناً في حزيران يهاجمون فيه الوزارة، وظهرت للحكومة دلائل على ان هذا السخط في محافل النجف والفرات الأوسط المخطرة يمكن أن يكتسب

طابعاً طائفياً، وبالتأكيد على المطالب الشيعية يمكن أن يعد خطراً على الأمن العام. وبذلك نشأ في البلاد من جديد وضع يريد فيه عنصر واحد من العناصر السياسية في الدولة إجبار حكومة وطنية مؤتلفة على تلبية مطاليبه(1). على أن موقف الوزارة الأخائية هذه قد أنقذ بوقوع حركة الآثوريين في الشمال، ووقوف البلاد بسببها صفاً واحداً وراء الحكومة لكنها سقطت بوفاة الملك فيصل الأول في أيلول 1933.

في عهد الملك غازي

وبعد أن يأتي المستر (لونكريك) على وصف ما حصل في الوزارات المختلفة التي تولت الحكم في عهد الملك غازي، يشير إلى كيفية انتهاز عليّ جودة فرصة وجوده في الديوان الملكي وتسلمه رئاسة الوزارة في 28 آب 1934. ويتطرق إلى قيامه بحل المجلس النيابي وإتيانه بمجلس جديد محشو بمرشحيه وأصحابه، خال من الشخصيات التي تنطق باسم العشائر، ولا يمثل فيه الشيعة تمثيلا عادلا. وعلى هذا الأساس نشطت المعارضة والعناصر المناوئة للوزارة إلى مهاجمتها وبث الدعاية السيئة ضدها. ويقول المستر (لونكريك) ان الدعاية كانت موجهة إلى الأكراد في الشمال، والقبائل التي تسيطر عليها (النجف) بصورة اعتيادية في الفرات، حيث يوجد الشيوخ السياسيون من أمثال شيخ آل فتلة عبد الواحد الحاج سكر الذي كان من غير المعقول عدم انتخابه للمجلس النيابي. وقد كان مع عبد الواحد رجال من مثل السيد محسن أبي طبيخ، وعلوان الياسري وغيرهما. على ان طائفة أخرى من الشيوخ لم تكن أقل منها حركة وتمرداً، ولا أقل اندفاعاً للمطالبة “بحقوق الشيعة” أخذت تتقرب إلى الحكومة وتنشد الحصول على المنافع منها. ومن دون القيام بحركات عنف صريحة أخذت عشائر الديوانية والحلة تعقد الاجتماعات، و “تهوس الهوسات” وتتجاهر بحمل السلاح. ثم جرت اتصالات بعلماء النجف، ولا سيما بالشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء العلاّمة العربي الأكبر على حد قوله، لتوحيد الكلمة. ومع جميع البرقيات التي قدمت إلى الملك، والمثول بين يديه في كانون الثاني 1935، لم تحصل أية نتيجة. وقد جاهد عليّ جودة في إعادة الأمور إلى نصابها من جميع الوجوه، لكنه لم يفلح في البقاء في الحكم واستقال في 23 شباط 1935.

____________

1- الص 230.

 وقد بذلت الجهود لتشكيل وزارة أخائية، من دون حل المجلس الذي جاء به عليّ جودة، فلم تثمر شيئاً. ولذلك شكل جميل المدفعي وزارة جديدة، غير أنه لم يحظ بالتأييد الشعبي ولا بمؤازرة الملك ولم يستطع حل أية مشكلة من المشاكل وإنما نشط العلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء إلى العمل مع شيوخ العشائر اللائذين به فاستطاع تنظيم قائمة غير معتدلة بمطاليب الشيعة تحمل العشرات والمئات من التواقيع. وفي الأخير اضطر المدفعي إلى تقديم استقالته بعد أن لم تستقم وزارته في الحكم أكثر من ثلاثة عشر يوماً لا غير. وعند ذاك تألفت وزارة أخائية برئاسة ياسين الهاشمي، في 17 مارت 1935، من دون قيد أو شرط. وكان ممن اشترك فيها الوزير النجفي المعروف الأستاذ محمّد رضا الشبيبي.

ومع ان تشكيل الوزارة الأخائية قد أرضى عبد الواحد الحاج سكر وجماعته الذين عادوا إلى حالتهم الاعتيادية، فإنها أقلقت مناوئيه من الشيوخ من أمثال (خوام العبد العباس وجماعته. فألح هؤلاء الشيوخ على الشيخ محمّدحسين كاشف الغطاء، وأكثروا ترددهم على النجف التي صار يتسرب اليها الدس السياسي من بغداد أيضاً، حتى تكهرب الجو في الفرات الأوسط معظمه. ويقول المستر (لونكريك) ان الوضع في النجف وما يحيط بها صار يذكر المرء بالوضع الذي كان سائداً فيها قبيل ثورة 1920، حينما استثيرت الدعاية ضد الانكليز، وان تأريخ المناطق الفراتية تلك في 1935 و1936 يعتبر تكراراً بنطاق أضيق لتأريخها في سنة 1920 نفسها. فلم تجد الحكومة بداً من الالتجاء إلى الحزم والقوة، فسيقت القطعات إلى الفرات الأوسط ورابطت مفرزة من الجيش في النجف بالذات بعد أن استعانت الحكومة بالشيخ محمّد حسين في بذل ما عنده من نوفذ لتهدئة الحال فلم يتوفق(1) في مسعاه. ولذلك اصطدم الجيش الذي كان يقوده بكر صدقي بالشيخ خوام فقضى على الحركة التي كان يتزعمها بسهولة(2)

موقف النجف من حركات العشائر 1935

على ان التطورات السياسية التي وقعت في العراق خلال هذه الفترة، وكان مسرحها النجف وسائر أنحاء الفرات الأوسط والجنوبي، فأدت إلى ثورة 1935 يحللها الكابتن (أ.د. ماكدونالد) ضابط الاستخبارات البريطاني المسؤول في تلك الأيام تحليلا يلقي ضوءاً غير يسير على مجريات الأحوال يومذاك برغم تفسيراته الخاصة التي تعبر عن وجهة النظر البريطانية المعروفة. فقد ألقى

____________

1-   والمشهور إن الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء كان على خلاف شديد في ذلك الوقت مع حكومة الهاشمي فليس من المعقول أن يكلف بتهدئة الأحوال.

2-   كان الشيخ خوام ينفذ أمر الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء في حركته المشار إليها هنا.

 

محاضرة عن الموضوع(1) في الجمعية الآسيوية الملكية في لندن يوم 2 تشرين الأول 1935، ونشرت بتفصيلاتها في عدد كانون الثاني 1936 من مجلتها.

ويبدأ الكابتن (ماكدونالد) محاضرته بشرح التدخل السافر الذي كانت تقوم به الحكومة في الانتخابات النيابية، وتعيين النواب تعييناً كيفياً في الغالب. ثم يذكر ان عليّ جودة حينما تولى رئاسة الوزارة جاء بمجلس فيه الكثير من أعوانه ومريديه حتى من المناطق العشائرية المعروفة في لوائي الديوانية والمنتفك، وأبعد الرؤساء من أهالي المناطق المذكورة عنه. وكان ممن شطب اسمه من قائمة لواء الديوانية عبد الواحد سكر شيخ مشايخ آل فتلة وقد أدى ذلك إلى التذمر الشديد، واستفحال أمر المعارضة التي استغلت هذه الفرصة في الفرات الأوسط لأغراضها، بزعامة حزب الأخاء الوطني وقادته من أمثال ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وحكمة سليمان.

أما ما يختص من ذلك بالنجف والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، فيذكر ماكدونالد أنه كان من الواضح ان عبد الواحد لم يكن يأمل الحصول على الكثير من التجاوب المحلي إذا اقتصر في دعوته على تبديل الحكومة فقط (حكومة جميل المدفعي). ولذلك حجب نياته الحقيقية عن الناس وأظهر نفسه بمظهر البطل المدافع عن “حقوق الشيعة” في البلاد، فتقمص بذلك دوراً يمكن أن يؤمن له مؤازرة واسعة وتجاوباً بعيد الانتشار. على أنه لم يظفر بمؤازرة العشائر المطلقة في ذلك لأن أربعين بالمئة فقط خفت لمؤازرته، وأحجم ستون بالمئة منهم عن الانحياز اليه لأنهم كانوا يعتقدون ان حكومة المدفعي أقل شراً من الحكومة الأخائية. ____________

1- Capt.A.D.Macdonald – The Political Developnent in Iraq,Leading up to the Risinq in the Sprinq of 1935,Journal ofRoyal Central Asian So ciety,January 1936,Vol.XXll.

 

لكن هؤلاء اضطروا إلى مجاراة عبد الواحد في دعوته إلىتحسين الأحوال في مناطق القبائل الشيعية، بدلا من تأييده هو بالذات ولذلك التجأوا إلى العلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، للاسترشاد وطلب المشورة. وهكذا تجزأت الكتلة العشائرية في الفرات الأوسط إلى مجموعتين: مجموعة نشطة فعالة يتزعمها عبد الواحد(1) تريد الإتيان بحكومة أخائية عن طريق الإخلال بالأمن، ومجموعة ثانية أكبر من الأولى(2) وعلى جانب أكبر من عدم السياسة والتدبير. وقد ربطت هذه نفسها بالشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، وهي عازمة على الحيلولة بذلك دون قيام عبد الواحد باستغلال البركات التي تسبغها عليهم الدعوة العتيدة الشيعية من أجل تحسين مركزه على حسابهم.

ويتابع الكابتن (ماكدونالد) شرحه للموضوع بقوله ان الأحوال في الجنوب كانت تمر خلال هذه الفترة من سيء إلى أسوأ، وما أن تسلمت وزارة المدفعي الجديدة زمام الحكم حتى اندفعت جماعة عبد الواحد إلى القيام بأعمال وإن كانت غير منافية للنظام في الظاهر إلاّ أنها مع ذلك كانت تعتبر غير قانونية على وجه التأكيد. فقد بادر أبناء عشائر (آل فتلة) إلى قطع طريق المشخاب الفرعي بتعطيل القناطر عن العمل، وسدوا طريق الديوانية ـ النجف… ولذلك سيق قسم من الجيش إلى الجنوب، فنقلت ثلاثة أفواج إلى المنطقة التي تأثرت بهذه الحركة، وتوجه فوج منها إلى النجف نفسها.

____________

1-   وكان من أبرز زعمائها السيد محسن (أبو طبيخ) والسيد علوان الياسري، وعبادي الحسين.

2-   وكان من أبرز هذه الجماعة ـ علوان الحاج سعدون، والحاج رابح، والحاج مرزوق العواد، وداخل الشعلان، وخوام العبد العباس.

 وفي أثناء هذه التطورات لم يسمح للشيخ محمّد حسين في النجف بالبقاء في معزل عن العمل. فقد كان موقفه صعباً في الحقيقة، لأنه كان يتعرض من جهة إلى

ضغط القبائل غير الأخائية التي كانت تطالبه بأن يُظهر بصراحة حقيقة تغطرس عبد الواحد وادعائه لنفسه ببطولة القضية الشيعية، وكان يتعرض من جهة أخرى إلى ضغط عبد الواحد نفسه، الذي كان وهو ينشد جعل مركزه منيعاً تجاه خصومه، ويطالب الشيخ بأن يساعده فيما يبذله من جهود مزعومة لإنصاف الشيعة ودعم قضيتهم العامة. ولم يكن يهمّ العلاّمة الكبير كثيراً أن تكون هذه الوزارة متربعة في دست الحكم أو تلك، غير انه كان من المهم الحيوي لنفوذه وسمعته ان العشائر إذا ما تحركت مطالبة بالقيادة الدينية فإن هذه القيادة يجب أن يكون زمامها بيده. وهو بطبيعة الحال لم يكن ينطلي عليه الدافع الحقيقي الذي كان يدفع عبد الواحد إلى العمل، لكن كثيراً من المؤازرة التي كانت تقدم بدافع الاعتقاد بأن القضية الشيعية كانت رائدة في عمله. وكان الشيخ كاشف الغطاء علاوة على ذلك يكره الظهور بمظهر غير العابئ بهذه الناحية من القضية كلها فيجازف بسمعته بينهم ويثير انتقادهم له. ولم يكن هناك شيء بالنسبة لوجهة نظره أكثر ابتعاداً عن رغبته الحقيقية من أن يكون مجبراً بتأثير المصالح الدنيوية العائدة لرؤساء العشائر، على مناوأة مجموعة لا يستهان بها من أفراد القبائل أنفسهم. ولذلك حاول، بشيء من النجاح، أن يبقى مسايراً لجميع الفئات ويظل غير ملزم بشيء تجاه أي أحد منهم، حاصراً أحاديثه وأقواله في مجال التوافه من الأمور، ومقتصراً في أعماله على تنظيم قائمة رسمية بالمطاليب الشيعية.

وحينما كانت تقرر هذه المطاليب كانت تنشر بصورة خاصة وتشيع بين الناس، ولكنها لم تقدم بصورة رسمية مطلقاً إلى أن تسلمت حكومة الإخاء الحكم. وعندما تم تقديمها كانت خالياً من تواقيع عبد الواحد عليها، وبعض الرؤساء المنضوين تحت لوائه وليس كلهم.

ثم يعود الكابتن (ماكدونالد) إلى البحث في “المطاليب الشيعية” على مايسميها، فيقول ان ظلامات الشيعية الحقيقية أو الموجودة في مخيلة الكثيرين منهم كانت تشغل العناصر المتحسسة بالأحوال السياسية في الفرات الأوسط والمدن المقدسة وفي مقدمتها النجف منذ عدة سنين، فأخذت تصبح وسيلة بالية في أيدي الساسة البغداديين. وقد نوقشت عدة مرات من قبل خلال السنين الفائتة، ورسمت، ثم قدمت في بعض المناسبات وهي تحمل مطاليب كانت تتراوح بين الأشياء المستحيلة والأشياء المعقولة العادلة. أما المطاليب التي وضعها الشيخ محمّد حسين في النجف فقد تكون أشد اعتدالا مما قدم منها حتى الآن(1) فقد كانت تنص على أن يكون عدد الأعضاء الشيعة في البرلمان متناسباً مع عدد الشيعة من سكان البلاد. وطالبت بتعيين الحكام العدليين بعدد كاف منهم، وبحرية الانتخاب في المناطق الشيعية، وحرية الصحافة في البلاد أجمع، وفيما عدا ما كان فيها من المطاليب المتطرفة التي تطالب بتخفيض الضرائب كانت تحتوي أيضاً على فقرات لم يكن بوسع أية حكومة تعطف عطفاً صادقاً على “القضية الشيعية” أن تمنحها لا عاجلا ولا بمرور الزمن.

وينتقد (ماكدونالد) بعد ذلك تصرف الوزارة المدفعية مشككاً بجدوى سوقها للجيش بالطريقة التي حصلت فأدت إلى سقوطها. ويعود إلى تدخل الشيخ محمّد حسين فيقول ان التوفيق لم يحالف تلك الوزارة فيما بذلته من جهود في أثناء مفاوضتها له، برغم ان الشيخ لم تكن تسيطر عليه بأي حال من الأحوال فكرة معاداة الحكومة القائمة بالذات، وإنما كان يهتم بصورة خاصة بنجاح القضية الشيعية على حد قوله، التي كان بوسع وزارة جميل المدفعي نفسها أن تحلها بقدر ما يمكن حلها عن طريق أية وزارة أخائية يمكن أن تأتي من بعدها.

____________

1-   هذه المطاليب قد طبعت بمطبعة الراعي في النجف وقد أشارت لها جريدة (الراعي) فألغت الحكومة بسبب ذلك امتيازها وعطلتها.

وبعد أن جاءت وزارة ياسين الهاشمي الأخائية إلى الحكم هدأت الأحوال في منطقة (آل فتلة)، لكنها اضطربت في منطقة خوام وجماعته. ولذلك عمدت الحكومة إلى مفاوضة العلاّمة كاشف الغطاء، والاستعانة به لتهدئة الحال. ويذهب (ماكدونالد) إلى ان الشيخ نفسه لم يكن يريد لدرجة ما أن يشترك في النزاع منذ البداية، لأنه لم يكن يرغب في التورط بالشؤون الطائفية ما لم يحصل على إجماع قبائلي يؤيده. يضاف إلى ذلك إنه كان من الفطنة بحيث يمكنه أن يلاحظ ان هذه العشائر التي وافق أن يكون ناطقاً باسمها، بينا يكون بوسع رؤسائها أن يتلاعبوا بعواطف أتباعهم السذج بالتحمس الظاهري للدفاع عن حقوق الشيعة والمطالبة بإنصافهم، فإنهم كانوا في الحقيقة بعيدين عن ذلك كلّ البعد لأن الذي كان يشغل بالهم هو الشيخ عبد الواحد والحكومة الأخائية وتوقع إعادة النظر في قضايا الأراضي المتنازع عليها بينهم. وإذا كان موقف الشيخ محمّد حسين وهو يرأس العشائر الموالية للحكومة يعد موقفاً غير صريح له في شهر مارت، فإن عدم ارتياحه في موقفه الجديد قد تضاعف وهو يرأس مجموعة من العشائر مناوئة للحكومة من دون أن تكون متماسكة فيما بينها أو متفقة على رأي، وهي تضج ملحة عليه بوجوب وضع نفسه في موضع عدائي لا يلين تجاه جماعة عبد الواحد القوية، ووزارة كانت تدل جميع الدلائل على كونها وزارة قوية. لكنه تردد وراوغ كالعادة وتكلم بكلام حسن مع الحكومة، وهو يرمي بذلك إلى أن يبدد الشك الذي كان يخامرها تجاهه ويجعلها تعتقد بأنه غير عازم على إثارة الضغائن الدينية(1). بينما راح يكلم رؤساء القبائل بكلمات التقوى والورع العامة، ويشجعهم بأن يجعلوا قضية المطاليب الشيعية في مقدمة الأشياء التي تخطر ببالهم، لكنه بذل عناية خاصة في عدم إلزام نفسه بشيء من قبيل التحريض الصريح على الإخلال بالأمن.

____________

1-   والثابت ان الشيخ كاشف الغطاء كان على خلاف ما يقول ماكدونالد فقد كان صريحاً في مخاصمة وزارة الهاشمي الأمر الذي جعل الشيخ عبد الواحد والسيد محسن أبو طبيخ وغيرهما ينقطعون عنه.

 وقد صدر تحريض كثير على الثورة من النجف في أواخر نيسان وأوائل مايس، على ما يقول (ماكدونالد) ومع ان الشيخ محمّد حسين المضغوط عليه إلى أقصى ما يمكن أن تتحمله قابلية رجل الدين المسلم في الإبهام والغموض، كان لابد من أن يكون هو المسؤول عن شيء منه فإن معظم اللوم عن ذلك التحريض كان يجب أن يلقى على عاتق رجال الطبقة الدينية الأقل بروزاً منه بالنسبة للنشاط الكثير الذي كان يبدو منهم. وهناك أدلة كثيرة تدعو إلى الشك كذلك في تسرب التشجيع غير اليسير من بغداد إلى الجنوب مرة ثانية، ولكنه صار يصدر هذه المرة من جهات غير أخائية. ومع ان هذا التأثير الهدام كان كله شيئاً أقل قوة وعزماً من التحريض السياسي الذي أدى إلى اقتلاع الوزارتين السابقتين عن كرسي الحكم، فقد كان له شيء من التأثير بلا ريب، وكان من شأنه أن يزيد في حراجة الجو المتوتر الذي كان سائداً في البلاد.

هذا والملاحظ في هذا البحث، وفيما لم نشأ أن نثبته هنا بالتفصيل من أقوال ماكدونالد، إنه يعتقد ان العراق الشيعي هو عشائري في نظرته واتجاهه وان الروحية التي تنحو منحى شيعياً طائفياً على حد تعبيره تسير يداً بيد مع اتجاه رجال العشائر الإقطاعي، ومناوءته لمفهوم الحكومة المركزية وتأييده التلقائي لكل شيء يبشر بحلول حكم عشائري لا مركزي أو يشير إليه من بعيد. ويرى ان الفكرتين الشيعية والعشائرية محبوكتان في مخيلة رجال العشائر بحيث لا يمكن التفريق بينهما لحد ما. ولا شك ان رأي رجل الاستخبارات البريطانية هذا فيه الكثير من التجني الذي قد يحمل على تقصد خاص في كيفية سرد الحقائق وطريقة عرض ما يسميه “القضية الشيعية” و “المطاليب الشيعية” وغير ذلك مما نجده مؤكداً عليه أبداً ودوماً في جميع ما يكتبه الإنكليز الذين عاشوا في هذه البلاد تقريباً، ولا سيما أولئك الذين شهدوا نيران الثورة العراقية تندلع في 1920 من النجف وسائر أنحاء الفرات الأوسط فتفسد على رجال الاستعمار البريطاني أحلامهم وتقلب خططهم الجهنمية رأساً على عقب. ولا نرى سبباً لمثل هذا الموقف سوى الموتورية الشديدة من رجال الدين الذين قادوا الثورة العراقية لإنقاذ البلاد من ربقة الاستعمار.

تعليق وتوضيح:

هذا وقبل أن ننتقل من موضوع حركات 1935 و1936 التي جرت في النجف والفرات الأوسط، لابد من أن نثبت هنا بعض النقاط التوضيحية خدمة للحقيقة والتاريخ. فإننا نرى في المراجع المحلية عن هذه الفترة ان الوزارة المدفعية الثالثة قد جاء تشكيلها اضطرارياً، لأن الاخائيين لم يقبلوا بتشكيل الوزارة بعد فشل وزارة عليّ جودة الأيوبي وسقوطها إلاّ بحل المجلس النيابي الذي جاء به الأخير. وكان هذا الشرط ضد رغبة الملك. وحينما تشكلت تلك الوزارة في 4 مارت 1935 لم تبذل مجهوداً كبيراً لحل المشكلة، وإنما اكتفت بإيفاد السيد عبد العزيز القصاب وزير الداخلية لدرس الأحوال في لواء الديوانية فعاد منها بعد أن لم يفلح في إقناع عبد الواحد وجماعته بالكف عما أقدموا عليه. ثم أوفدت الحاج عبد الحسين جلبي وزير المعارف إلى النجف ليتصل برجال الدين ويوسطهم لدى رؤساء القبائل بالتعاون مع الحكومة لكنه قوبل في النجف الأشرف بالجفاء والبرود، وعاد نجفي حنين(1). وعلى أثر هذا عزمت الحكومة على التذرع بالقوة وسوق الجيش لتأديب “المتمردين”، وكانت هذه فكرة جميل المدفعي منذ أن كان عضواً في الوزارة الأيوبية التي تولت الحكم قبل هذه الوزارة.فقد صرح عليّ جودة لصاحب (تاريخ الوزارة العراقية) إنه كان من رأيه أن لا يساق الجيش، وان تقتصر الحكومة على قيام الشرطة بضبط المراكز المهمة وتحافظ على الأمن. لكن وزير الدفاع جميل المدفعي كان يصر على تجريد حملة تأديبية إلى النجف والفرات الأوسط لإخضاع القبائل بالقوة.

____________

1-   وكان برفقة الحاج عبد الحسين الشيخ عليّ الشرقي.

 

وقد عمد إلى تنفيذ فكرته حينما تولى الرئاسة بعد ذلك، غير أنه لم يتوفق في مسعاه لأن الملك غازي كان من رأيه حقن دماء العراقيين وحل الأمور بصورة سلمية. ولذلك اضطر المدفعي لتقديم استقالته بعد أن بقيت وزارته في الحكم ثلاثة عشر يوماً لا غير.

وكان الملك قد وقف هذا الموقف لأنه تسلم من عبد الواحد الحاج سكر ثلاث برقيات متتالية، في 11 و13 و14 مارت 1935 يعرض فيها إخلاصه وإخلاص قبائله للعرش ويدافع عن نفسه بما يراه صالحاً، فاقتنع بأن حركة العشائر لم تكن إلاّ حركة سلمية لا يقصد بها تعكير الأمن. وتسلم برقية اُخرى من سماحة الشيخ كاشف الغطاء في يوم 14 منه يشير بها على الملك بتوقيف الحركات. وتسلم برقية غيرها، عن طريق رئيس الديوان، في يوم 13 مارت من العلاّمتين الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمّد جواد صاحب الجواهر في النجف يستنكران فيها سياسة الإرهاب التي اتبعتها الحكومة في حل المشكل. وهاك نص برقيتهما التي تجلو الكثير من النقاط:

إخلاصاً للعرش الهاشمي، وأداء للوظيفة الدينية، وحقناً للدماء، نلفت نظر صاحب الجلالة للحالة الحاضرة فإنها سيئة جداً وإذا بقيت الحكومة على الإصرار في سياسة الإرهاب تكون أسوأ. لقد خاطبنا وزير الداخلية في ذلك فلم نر منه ما يوجب الطمأنينة، ولم تزل البرقيات تردنا من أطراف العراق تطلب منا المداخلة في إصلاح الأمر. نرجو تبليغ الأمر إلى صاحب الجلالة ولفت نظره نحو هذه الشدة التي تستعملها الحكومة مع اُمة مخلصة للعرش والبلاد بدون مبرر شرعي وبدون ذنب سوى مطالبتها بتطبيق القانون الأساسي.

وحينما تشكلت وزارة ياسين الهاشمي الأخائية في 17 مارت 1935، تطورت الأمور من جديد على النحو المذكور من قبل وتحرك الشيخ خوام وجماعته ضدها. ولأجل أن يسبغوا على الحركة شكلا غير شكلها الأصلي تظاهروا بعلاقتها بالشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في النجف، لكن سماحته لم يكن ميالا إلى استعمال العنف من لدن الحكومة والتمرد على القوانين والأنظمة من لدن الناس. ولذلك أصدر “بلاغاً للناس” بتاريخ 12 محرم الحرام 1354 يدعو فيه قبائل الفرات وزعماءها إلى المحافظة على الأمن وعدم القيام بأي حركة يخشى منها اختلال النظام. وقد حذرهم من الانقياد إلى الأحزاب، والاستماع إلى رجالها، لأن الأحزاب هي التي أهلكت العباد على حد قوله، وخربت البلاد وجرت الويلات على هذه الأمة البائسة والمملكة العراقية الفتية، ولأن الأحزاب على ما يقول مطايا يركبها شياطين معدودون فيعبرون بها إلى مقاصدهم الشخصية ومنافعهم الذاتية(1)

وقد اشترك في وزارة ياسين الأخائية الشخصية النجفية المعروفة في عالم العلم والأدب على ما يقول (لونكريك) في كتابه(2) الأخير، الأستاذ محمّد رضا الشبيبي، فأشغل وزارة المعارف. لكن الشبيبي اضطر إلى تقديم استقالته منها في 15 أيلول 1935، لأنه لم يلق التأييد في مجلس الوزراء “بكثير من الآراء والمقترحات التي سبق له أن اقترحها بشؤون المعارف”، فقبلت استقالته واُسند منصبه إلى صادق البصام.

وبعد أن تولت وزارة حكمة سليمان الحكم على أثر الانقلاب العسكري الذي تزعمه الفريق بكر صدقي، هلل الكثيرون من الناس وتأملوا خيراً فيها. وحينما حاول رئيس الوزارة الجديدة حل المشاكل القائمة في الفرات الأوسط لم يتوفق فيها كلّ التوفيق، واضطر إلى سوق الجيوش واستعمال الشدة كذلك.

____________

1-   هذا البلاغ أصدره الشيخ حين علم بأن جماعة عبدالواحد قد جرفهم التيار الحزبي وقد قلبوا لآرائهم السابقة ظهر المجن.

2-   الص 241.

 ويقول المستر (لونكريك) في هذا الشأن أن تخبط (حكمه) في حل المشاكل الفراتية التي بقيت غير محلولة من قبل كان شيئاً واضحاً. فقد كان عليه أن يسترضي الناقمين من دون المس بحقوقهم، ويعفو عن المحكومين من دون إظهار شيء من الضعف، ويحافظ على الأمن من دون استعمال العنف الذي لا يستسيغه أحد. فأقدم على ذلك كله بكل ما كان عنده من حسنة وبراعة في معاملة الناس، لكنه أخفق إخفاقاً معروفاً في النتيجة. لأن خميرة المصالح الذاتية، والانقسامات الدائمة، التي كانت تصطبغ بها الحياة الاعتيادية في النجف وأوساط الفرات العشائرية والدينية، لم يمكن التخفيف من حدتها(1). ثم يأتي بعد ذلك على وصف اصطدام العشائر بالحكومة واضطرارها لتأديبهم ونفي عدد من رؤسائهم المعروفين. ويعرج من هناك إلى ذكر الاختلاف الذي حصل بين أعضاء الوزارة الحكميّة، والتقدمية التي كانت تتصف بها جماعة كامل الجادرجي التي يقول (لونكريك) ان وجودها شجع العمال على القيام بإضرابات خطيرة في مختلف الأماكن والمؤسسات، ومن جملتهم عمال الحياكة في النجف نفسها، وقد اُنتخب في عهد هذه الوزارة الأستاذ محمّد رضا الشبيبي رئيساً لمجلس الأعيان.

____________

1- الص 250.

 

فرايا ستارك تكتب عن النجف

وفي 1937 زارت النجف الكاتبة الإنكليزية القديرة، والموظفة في الاستخبارات البريطانية، المس (فرايا ستارك) وبقيت فيها أسبوعا واحداً ضيفاً على القائمقام الذي أنزلها في جناح الضيافة الموجود في نادي الموظفين. وقد كتبت فصلا خاصاً عن النجف ضمنته ملاحظاتها عنها في كتابها(1) الموسوم (صور بغدادية)

وتبدأ ملاحظاتها بما شاهدته في الكوفة. فهي تستهل الفصل بوصف جلسة مسائية على شاطئ الفرات، مع رئيس البلدية وسبعة من “الأفندية”. وكان ذلك في أوائل ربيع الأول بعد أن انتهى صفر، الشهر الثاني من شهري الحزن المعتادين في كلّ سنة، ولذلك تقول إنها شاهدت وهي جالسة من بعيد شعلات من النار طافية في النهر، وقد كانت تنساب منحدرة مع تياره حتى تختفي. وترمى هذه في النهر في نهاية موسم العزاء (نهاية شهر صفر) لتأخذ معها أحزان السنة وتفرج الكربة عن الناس. وهذه على ما تقول عادة قديمة ترجع بقدمها إلى تاريخ هذه البلاد العريق في القدم. ثم تشير بالمناسبة إلى أن “الأفندية” الذين شاهدوا معها النار الطافية، لمحوا هلال الشهر الجديد (هلال ربيع الأول) وأخذ كلّ منهم يتمنى الخير والموفقية لصاحبه من دون أن يشعروا بأن ما فعلوه يعتبر من قبيل عبادة القمر أو التبرك به. وليس من المستغرب أن يحصل مثل هذا، فتبقى هذه الوثنية، في بلاد لا تبعد كثيراً عن قبر “الكفل” و “برج بابل” اللذين يدلان على ذلك العالم الغابر.

ولكن المرء حينما يعبر جسر الكوفة المستند على الزوارق ينتقل من العالم البابلي إلى عالم الإسلام على حد تعبيرها. وهي ترى ان الحيرة توجد مدفونة تحت الرمال ما بين النجف والكوفة، وان التلال الرملية المحيطة بالكوفة تحوي في باطنها خرائب كوفة العرب الفاتحين الاُولى. وبعد أن تشير (فرايا ستارك) إلى

____________

1- Freya Stark – Baghdad Sketches, London 1937.

 جامع الكوفة الكبير وغيره من عالم البلد تقول ان (قصر الإمارة) هدمه عبد الملك بن مروان الأموي، لأنه بينما كان جالساً فيه ذات يوم سمع عجوزاً من الأعراب يقول “ستكون الخامس”. وحينما سأل عما كان يقوله هذا أجابه يقول: “عندما جئت لأول مرة إلى الكوفة رأيت رأس الحسين (عليه السلام) بين يدي قاتله عبيد الله هنا. فذهبت وعدت ثانية إليها بعد مدة فشاهدت رأس عبيد الله في نفس المكان بين يدي المختار بن يوسف الذي قتله. وبعد أن خرجت منها وعدت مرة أخرى ألفيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير. ثم ذهبت فعدت هذه المرة، وها إني أرى الآن بين يديك رأس مصعب”. ولذلك خرج عبد الملك من الكوفة وأمر بهدم قصر الإمارة الذي تشاهد خرائبه الآن بجنب دار الإمام (عليه السلام)

وقد كان الإمام عليّ هنا يعمل للخير ويتمسك بالأمور المثلى على حد تعبيرها، فأفنى نفسه وهو مريض الفؤاد ما بين أهل الكوفة المتلونين. وعلى مسافة غير بعيدة من هذه البقعة جعجع ابنه الحسين إلى جهة البادية وظل يتجول حتى نزل في كربلاء، فقتل قتلة فظيعة مع أهل بيته بعد أن منع عنهم الماء. وقصة قتله هذه من القصص القليلة التي تقول (فرايا ستارك) إنها لا تستطيع قراءتها من دون أن ينتابها البكاء. وتقول أيضاً ان التاريخ قد توقف في كربلاء والنجف منذ يوم مقتله ذاك، لأن الناس أخذوا يعيشون فيهما على ذكرى الكراهية لأعداء الحسين(1)

وقد أخذت النجف محل الكوفة، على ما ترى. ومع ان سكانها قد استقروا وتمدنوا فإنها لا تزال تعد من مدن البادية، المحاطة بسور خاص ترتفع هي في داخله فوق هضبة واطئة من الأرض كأنها تاج يعلوه ذهب القبة المتلألئ. وما زال عنزة وشمر يقصدونها من رمال النفوذ البعيدة للتزود منها، بينما تسلك السيارات الطريق الممتدة منها إلى مكة، وهي طريق الحج المسماة باسم زبيدة ويرتفع (بفرايا ستارك) الخيال فيخترق نظرها الأفق البعيد مع الطريق التي تتضح معالمها لعيون الإيمان على حد تعبيرها، ولذلك نجدها تقول ان المرء لا يسعه سوى أن ينحني خاشعاً أمام زهد الإنسان وورعه وتعجب كيف ان الساسة الانكليز يعتقدون بأنهم يستطيعون السيطرة على قلوب الناس بالوسائل المادية وحدها.

____________

1- الص 169، طبعة Cuild Books1947.

 وقد دبر القائمقام لها مواجهة العلاّمة الأكبر الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، الذي كان آباؤه لخمسة أظهر من زعماء الدين ولما كانت زيارتها للشيخ وهي امرأة شيئاً يلفت النظر، فقد دبرت الزيارة في أقل الأوقات تعرضاً لأنظار الناس. فجاء الشيخ هادي، نسّاخ الكتب، ليلقي نظرة عليها أولا، وبعد أن بعث أخباراً مناسبة عنها قادها مع خادمها خلال طرق ودرابين متعرجة إلى دار غير كبيرة يعيش فيها الشيخ مع أهله عيشة بسيطة كما كان يعيش المسلمون الأقدمون من قبل. وبعد أن تأتي على وصف الشيخ ـ الذي كانت لحيته مخضبة بالحناء ـ ووقاره وذكائه تقول إنها فهمت من حديثها معه بأنه كان يعرف (المس بيل) والسر (بيرسي كوكس)، ويعتبر الذين جاءوا بعدهما من الانكليز أقل منهما شخصية وقدراً. وحينما تطرق إلى الحديث معها عن العالم الشرقي، أخبرها برأيه عن بريطانيا والإسلام بقوله “إنه لا يوجد الآن بيننا وبين الانكليز سوى الصداقة لولا الأخطاء التي ارتكبت ضد إخواننا العرب في فلسطين. وما زالت هذه الظلامة موجودة فإننا لا يمكن أن تحل المحبة ولا السلام بيننا من البحر المتوسط إلى الهند. وآمل أن تبيني هذا إلى حكومتك، وتقولي لهم ان ما يلعبون به هناك هو ليس أراضي فلسطين وحدها، وإنما يلعبون بالعالم الإسلامي كله الذي يقدر بنصف إمبراطوريتهم ويتشوقون إلى الإبقاء على صداقته لهم”. ولما كان رأيه هذا يتفقتمام الاتفاق مع رأيها هي في هذه المسألة الدقيقة كان يسرها أن تعد الشيخ بأن تبذل جهدها في نقله أمانة إلى الجهات المختصة.

ثم زارت بعض المدارس، ومعالم البلدة الأخرى، بما فيها (المغتسل) الذي كان يقوم بتغسيل الموتى فيه رجل وأخته بسعر زهيد للجثة الواحدة. وقد تجولت ما بين القبور في بعض الأمسيات كذلك، وأمضت أمسية واحدة منها في التفرج على ما يجري عند الباب الكبير المؤدي إلى الصحن فكانت من أجمل الأمسيات التي قضتها في حياتها كلها. وكان ذلك من غرفة تعود للشرطة وتطل شبابيكها على باب الصحن وقسم من السوق. وبعد أن تصف ما شاهدته هناك وفي الداخل تقول إنها خرجت تقطع السوق الذي امتلأ بالأضوية، وهي تشعر بحبها للعالم بأجمعه. وبينما هي كذلك لاحظت في دكان بائع أحذية رجلا كان يرمقها بنظرات شزراء ممتلئة بالحقد والكراهية، فتأثرت أشد التأثر لأنها يحز في نفسها أن يكرهها أحد من دون سبب. وهي تقول: “ان ذلك الرجل لو كان بوسعه أن يخترق جسمها الانكليزي بنظره إلى أعماق قلبها لوجد ان ما كان يمتلئ به هو الاحترام الودي لعتبته المقدسة بالذات التي تعلو أرواح الناس كما تعلو قبة النجف المذهبة فوق أفق البادية، فتجذبهم إليها من بعيد” وتنهي الفصل بوصف جماعة من فقراء الأفغان كانوا يعيشون على الكفاف، ويحصلون على قوتهم من حياكة بيوت الشعر، ثم ينتزع كلّ منهم فلساً واحداً من وارده الشحيح بين حين وآخر فيعطيه للإنفاق على العتبة. وتعلق على ذلك بكل إكبار وإجلال قائلة: “من نكون نحن لننتقد عقيدة تعطي مثل هذا المقدار يا ترى؟“.

 النجف في السنين الأخيرة

هذا ولم أعثر فيما كتبه الغربيون عن العراق ما بين هذه الفترة وسنة 1958 على شيء يذكره عن النجف سوى بعض الإحصاءات والمعلومات العابرة. فقد كتب (لونكريك) في (1900 ـ 1950) ان مديرية الآثار القديمة قامت بالتنقيب في خرائب الحيرة الكائنة في منطقة النجف ـ الكوفة سنة 1945. وقد درست في السنة نفسها مديرية السكك الحديد العامة قضية مد خط خاص للسكك ما بين كربلاء والنجف والكوفة، لكن ذلك لم يثمر شيئاً. ويذكر كذلك ان (توفيق السويدي) أدخل معه في الوزارة التي شكلها يوم 23 شباط 1946 المتصرف النجفي سعد صالح المعادي لصالح جبر. ثم يذكر عن الفترة نفسها ان الجو المتوتر المفعم بالتذمر والخطر الذي كان يخيم فوق النجف وغيرها من المدن المقدسة(1) لم يؤد إلى وقوع اضطرابات مكشوفة يعبأ بها. ويعلق بالإضافة إلى ذلك على إحصاء النفوس الذي جرى في العراق سنة 1947 فيقول ان أكبر كثافة في السكان بالنسبة للألوية العراقية المختلفة تلاحظ في لواء الحلة الذي تبلغ كثافة النفوس فيه (49) نسمة في الكيلو متر المربع، ويأتي بعده لواء كربلاء الذي تبلغ كثافة نفوسه (46) نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. وفي خلال البحث عن التطورات التي حصلت في المجتمع العراقي وأحواله ما بين تشكيل الحكم الوطني في البلاد و1950، يذكر (لونكريك) وستوكس(2) في كتابهما عن العراق ان مراكز النفوس والمواصلات الموجودة خارج بغداد والموصل والبصرة بقيت منحصرة على الأغلب في كربلاء والنجف والحلة وكركوك والسليمانية وأربيل. وظلت النجف وكربلاء والكاظمية وسامرا هي المراكز الكبيرة التي يؤمها الزوار الشيعة بأعداد كبيرة، ولا سيما من إيران. ويذكر ان كذلك من جملة الطرق المهمة في البلاد طريق بغداد ـ كربلاء ـ النجف، والطريق ما بين هذه المدن والحلة. ثم يتطرقان إلى النواحي الدينية في البلاد فيشيران إلى ان العلوم الإسلامية، مع جميع ما حصل من تأثير التربية الحديثة وقوتها في الناس، بقيت تدرس في المدارس الدينية العائدة لأهل السنّة والشيعة معاً. وان النجف ما زالت الجامعة الدينية القديمة مزدهرة فيها، وما زال طلبتها يطبعون مؤلفاتهم الدينية على النمط الذي ظل متبعاً فيها منذ قرون عدة.

____________

1- الص 335.

2- الص 132 Stepjen Longrigg & Frank Stoaks – Iraq, London1958

 وفي أواخر 1958 (أي بعد ثورة 14 تموز) ظهر إلى عالم المطبوعات كتاب أمريكي عن العراق، في ضمن سلسلة من المطبوعات تطبع عن حضارات الأمم وأحوالها المختلفة في العالم. وقد بحث مؤلف الكتاب(1)، جورج هاريس، عن سكان العراق ومجتمعه وحضارته الحديثة من نواحيها المختلفة. فوردت في الكتاب، الذي يعد دراسة حديثة فريدة في بابها، إشارات غير قليلة إلى النجف وجدت من المناسب أن أختم هذا البحث الشامل بها. فقد ورد في موضوع السكان في مدن العراق المختلفة ان هجرة واسعة النطاق من القرى العراقية إلى المدن تقوم الآن على قدم وساق، وإن المدن التي يحصل فيها التوسع بهذه الطريقة هي البصرة وبغداد وكركوك والنجف(2). وورد في بحث القوميات المختلفة ان النجف والكاظمية فيها حوالي ألف أفغاني شيعي، وهم على صلة وثيقة بالجاليات الإيرانية من حيث اللغة وما أشبه. ويذكر المؤلف في بحث الحج والزيارة ان الشيعة يجيزون إنابة أشخاص آخرين للحج عنهم عند الضرورة(3)، وقد يعتاضون عنه بالزيارة إلى النجف (حيث يدفن الإمام عليّ) أو كربلاء. ولا شك ان المؤلف غير مصيب في هذا القول لأن الشيعة يعتبرون الحج من أركان الإسلام مثل سائر المسلمين كما يذكر المؤلف نفسه في الص 53 من نفس الكتاب. ويقول المؤلف في موضع آخر ان النجف التي تعد مركزاً للثقافة الشيعية والتعلم في العالم الإسلامي كله قد ساعدت خلال الأزمات السياسية التي حصلت في الحقبة التي نالت فيها البلاد استقلالها بعد الحرب العامة الاُولى، على تلقين طلبتها الروح الوطنية أهمية التراث العربي الخالد.

____________

1- Harris , George L. – Iraq, Its People, Its Society,Its Culture.New Hsven 1958.

2- الص 34.

3-   إنما تجوز النيابة عن الميت وليس عن الحي كما ذهب إليه المؤلف.

 وفي أثناء البحث عن الحركة الأدبية يقول “ان النجف خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها كانت قد غرست في طبقة جديدة من الشعراء فكرة الوطنية الحديثة والروح القومية التي تؤكد على التمسك بالتراث العربي المعروف. وقد أنتجت هذه المدرسة العربية الحديثة شعراً متشبعاً بالشعور الوطني المتسامي. وكان لمفاخر الحضارة العربية ومآثر العرب التاريخية القدح المعلى في تفكير أولئك الشعراء، ونادراً ما كانوا يلتفتون إلى موارد الثقافة الأخرى أو يحاولون استخدام أساليب جديدة في تطوير أفكارهم أو تغيير المواضيع التي يحصرون تفكيرهم فيها. ومع هذا فقد كان الجمهور وما يزال يقدر هذا الشعر حق قدره ويعمل على حفظه والتغني به”. ثم يقول عن الشعر العراقي خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها إنه دخل في طور جديد من أطواره فإن الاتجاهات الأدبية القديمة الموجودة في النجف وبغداد لم تعد مسيطرة على لب الشعراء والكتاب الشبان. لأن الطبقات المتعلمة أخذت تتعرض بازدياد إلى الآراء والأفكار الجديدة التي جاءت إليهم من أوربا وأمريكا بصورة مباشرة وغير مباشرة، عن طريق السيل المتدفق على البلاد من الكتب والنشرات المطبوعة في مصر ولبنان.

ترجمه وكتبه

جعفر الخياط

الحائز على درجة اُستاذ علوم M.SC. من جامعة كليفورنيا

ومدير التعليم الثانوي، والمفتش الاختصاصي، في وزارة التربية سابقاً

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.