الخميس , 21 نوفمبر 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » الروابط الثقافية بين النجف والهند

الروابط الثقافية بين النجف والهند

الروابط الثقافية بين النجف والهند

najaf1

تعود صلة العراق بالهند إلى عهود سحيقة في القدم بدأت مع فجر الحضارة في بلاد الرافدين، وهناك رأي شائع في الهند وفي الدراسات التي تتناول تأريخ العنصر الآري في الهند يشير أن الآريين جاءوا إلى الهند من العراق وإن بلاد فارس كانت همزة الوصل بينهما.

ومن البواعث الأساسية على هذا الاعتقاد أوجه الشبه القائمة بين الحياة القائمة في العراق مع حضارة (موهنجو دارو)   MOHENJO DARO التي اكتشف خرائبها في السند (بباكستان الحالية) وما وجد فيها من اللقى الأثرية الشبيهة بآثار العراق القديمة، ومن البواعث المهمة الأخرى التشابه بين الاعتقادات التي كانت سائدة في العراق.
وقد عثر في الهند على كتابات قديمة يرجع عهدها إلى 1400سنة قبل الميلاد وتحتوي على المعاهدات عقدت بين ملكين عاشا 1400 سنة قبل الميلاد وهما: سبي لو لياما (subbi Luliaina) ملك الحيتيين (Hittites) ومتى يوازار (Mattiuaza) ملك ميتاني (Mitani) في العراق الشمالية.
وقد عثر في الكتابات, الآلهة الميتانية وهي تقرأ هكذا: مترا Mitra وفرونا Varuna وإندرا Indra ونساتياس  Nasatyas  أو أسوويوس Asvius  وهذه الآلهة الخمسة المذكورة في الكتاب الهندي المقدس (Rig _ Veda) رك ويدا، وهذا يدلل على أن ملوك العراق الشمالية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد أو قبله كانوا يعبدون الآلهة الويدية، والقبائل التي جاءت بعبادة هذه الآلهة ـ ولعلها جاءت من إيران الشرقية ـ لابد من إنها كانت تعبدها في موطنها الحقيقي في القرن السادس عشر قبل الميلاد أو نحوه. وقد كانت المدينة الويدية إذ ذاك مزدهرة، وهذا أيضاً يدلل على أن القوم كانوا على صلة بالفرس والعراقيين القدامى وقد تكون هجرة العراقيين إلى الهند هجرة تدريجية تمت على مراحل كانت بلاد فارس إحدى مراحلها، وبمرور الزمن ترسخت أقدامها في الهند.
ومن الدلائل الأخرى على تلك الصلة القديمة وجود الألفاظ السنسكريتية ذات الأصل البابلي ومن ذلك كلمة تائيمتا  Taimata التي وردت  في اتهروا ويدا وأصلها في البابلية تائيمة Taimata وعلى الأغلب هي أصل كلمة تميمة (العربية) ومنها كلمة (تائيمتو) وهو اسم لتنين البحر العظيم تمتو Tamtu وترجع  إلى الأسطورة البابلية التي تقول إن ابسو (APSU) و (تائيمة) وجدا قبل خلق السماوات وكلمة ابسو كذلك كلمة ويدية جاءت مركبة (ابسو كشيت Apsu Kahit ) وهي في البابلية بمعنى بحر.
وورد في (اتهروا ويدا) كلمتا (ألي جي Aligi) و (وي لاجي Vilagi) وهما اسمان لثعبانين، قيل إنهما كلمتان من اللغة الأكدية ولعل كلمة (وي لاجي) أصلها Biligi وهو اسم أحد الآلهة الآشورية. وفي (اتهروا ويدا) إن السم يبطل علمه برقية (تبو) وأصل هذه الكلمات لفظة (توبة) السامية الأصل والمتداولة في العربية.
وجاء  في كتاب (ستاباتها برهمانا Sata patha Brahmana) كلمة هيلاوو Helauo وتكتب أيضاً هائي لو، ويستخدمها المحاربون للتعبير عن حماسهم عند الحرب وأصلها من كلمة هيلاوا أو أيلاوا العراقية القديمة، ويظهر منها الاستعانة بالآلهة عند الشدة و(أيلو) الآلهة باللغة الأكدية.
وفي ملحمة (مها بهارتا وانا بارا) إشارة إلى عبادة أيدوكاس Adukas بزيارة الأضرحة المسماة (كل جك Kaliyuga) وكلمة أيدوكاس تصحيف لكلمة جلوكا Jaluka أو جروكا Jaruka وأصل هذه الكلمة مأخوذ من الكلمة البابلية (زيكورت Zigurat) أو الزقورة وهي أصل هذه الكلمة المتداولة الآن (الزيارة).
وقد أجمع علماء السنسكريتية على أن كلمة (ايدوكاس) المذكورة ترادف كلمة (جلوكا) وهي اسم لكل بناية حفظت فيها عظام الموتى.
وقد استعملت في القرنين الخامس والسادس للميلاد عملة هندية باسم (كرشابانا) وكرشا أصلها من (كرشو karshu) الآشورية ومعناها السكة، ولعلها الأصل للفظة (القرش) المتداولة الآن في بعض البلاد العربية.
ومما يدلل على تلك الصلات القائمة بين (سومر) و (موهنجو دارو) ما وجد من الأختام المتشابهة كما يدل عليها ظهور (الناجا) أي الثعبان ذو الغطاء، بين الآثار التي وجدت في قرية بابلية عيلامية وهي ما يسمى الآن تل أسمر (بالقرب من بغداد) وكشف عن أختام وخرزات خزفية هي  في رأي المكتشف ـ ويوافقه سيرجون مارشال ـ قد جاءتها من موهنجو ـ دارو حوالي سنة 2000 قبل الميلاد.
وبالاعتماد على تلك الإشارات وغيرها يجزم (ماكدونل Macdonell ) بأن هذه المدينة الزاهرة  في السند استمدت أصولها من سومر بينما يعتقد (وولي Woolly) إن الثقافة السومرية والهندوسية القديمة قد جاءتنا معاً من أصل مشتركة في بلوجستان أو بالقرب منها، ولقد دهش الباحثون حين رأوا أن الأختام المتشابهة الموجودة في بابل وفي الهند ترجع إلى أقدم مراحل الثقافة في أرض ما بين النهرين أي إلى المرحلة السابقة لسومر وإلى آخر مرحلة من مراحل المدينة السندية، وهذا ما يوحي بفكرة أخرى حول أساسيات هذا البحث مفادها أن السومريين وسكان وادي الهند قد يوحي بأن السومريين كانوا من الأصل الهندي، ويبرز الاعتقاد هذا في وقت لم تتكشف فيه أصول السومريين الأولى حتى الآن ويبقى الرد العلمي على كل ما ورد مقروناً بالكشوف الأثرية المستقبلية والدراسات العلمية الكفيلة بالإجابة عن تلك الأسئلة المحيرة (من سبق من)؟
وما يهمنا الآن أن تلك الصلات كانت حقيقية ومزدهرة وهو مات يدل على ثقافة مشتركة وتجارة متبادلة بين العراق والهند منذ أقدم عصور الحضارة. أما في عصر الإسلامي  فقد كانت الصلاة مستمرة، ولأهمية الهند بالنسبة للدولة الإسلامية فقد أرسل الإمام علي (عليه السلام) أحد قواده في الكوفة من قبيلة عبد القيس لفتح السند وضمها إلى البلاد الإسلامية.
وتبرز العلاقات العراقية ـ الهندية بشكل واضح في العهد العباسي فقد تداول العراقيون كتب الحكمة والحساب الهندي ولا نزال إلى يوم ننسب أرقامنا إلى الهند فنقول الأرقام الهندية، وكانت في بغداد يومذاك جالية هندية غالبيتها من المنجمين والأطباء، وقد عرفنا عن طريق الجاحظ أن يحيى بن خالد البرمكي اجتلب أطباء الهند مثل: منكه، وبازيكر، وقلبرقل، وسندباذ، وبهلة الهندي، وهناك مجال واسع لدرس النزاع والمنافسة بين الطب الهندي والطب الآرامي، هم إن اللغة الهندية كانت معروفة في بغداد يترجم عنها المترجمون.
قال الجاحظ: (وأما الهند فوجدناهم يقدّمون في النجوم والحساب. ولهم الخط الهندي خاصة ويقدمون في الطب. ولهم أسرار الطب وعلاج فاحش الأدواء خاصة ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ… وأشباه ذلك. ولهم الشطرنج ، ولهم السيوف القلعية، وهم ألعب الناس بها، ولهم الرقى النافذة في السموم والأوجاع ولهم غناء معجب. ولهم الكنكله وهي وتر واحد يمر على قرعة فيقوم مقام أوتار العود، والصنج ولهم ضروب الرقص والخفة… ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة ولهم معرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين… ولهم شعر كثير وخطب طوال وعنهم أخذ كتاب كليلة ودمنة ولهم رأي ونجدة…).
وكان السنديون من حذاق الطهاة، ومشهوري صناع الأحذية، حتى غدت النعال السندية مضرب المثل… وقد اتصفوا بالدهاء، والنفوذ في المعاملات والأمانة مما جعل أرباب بيوت الصرف يستخدمونهم في أعمالهم، على حد قول الجاحظ: (ومن مفاخرهم أن الصيارفة لا يولّون اكيستهم وبيوت صرفهم إلا السند وأولاد السند لأنهم وجدوهم أنفذ في أمور الصرف وأحفظ وآمن…).
أما ارتباط الهند بالنجف فهو يرجع إلى فجر التاريخ حيث كانت السفن تبحر من بحر النجف إلى الهند، أما في العهد الإسلامي فهو يعود إلى خلافة الإمام علي (عليه السلام) وتشيع عدد من أهل السند بواسطة القائد العبدي الذي مر ذكره وقد بعثه لإخضاع السند، وقد كان لتلك البذرة أن تمت وترعرعت وأنتجت الكثير من القبائل الهندية والسندية المتشيعة التي تدين بالولاء لأهل البيت (عليهم السلام) وتتجه صوب النجف الأشرف بقوافل الزائرين التي تقصد لثم الأعتاب العلوية الشريفة والصلاة عند القبة المنيفة لما ورد في الأحاديث الصحيحة في فضل هذه البقة وقدسيتها وفضل الدفن في تربتها والتختم بحصبائها ومجاورتها وثواب المبيت والصلاة عند المرقد المطهر… وفي ذلك يقول الشاعر الهندي السيد علي نقي النقوي:
نجف وما أدراك ما نجــف             للناس والأمـــلاك معتـــــــكف
حــرم إذا لاذ الطريـــد بـه             يرعاه عن صرف الردى كنــف
وحديقة تزهو الورى طرباً             إذ فاح طيباً  روضها الأنــــــف
المجد خيم في مرابعــــــــه            وعلى فناه طنّب الـــــــــــشرف
وبه الهدى ألقى عصاه فــلا            حول له عنه ومنـــــــــــصرف
العلم أودعه الإلــــــــــه به            كمصون در ضمه الصـــــــدف
ذا شيخنا الطوسي شيد بـــه            لربوع شرع المصطفى شـرف
فهو الذي اتخذ (الغري) له            مأوى به العلياء تعتــــــــــــكف         
روض سقاه فضل بارئـــه             بصبيب هاطلة لها وطـــــــــف
لقد ازدادت الصلة بين النجف والهند وتوثقت منذ قرون وخاصة بعد ظهور الدولة الشيعية في الهند، فقد كان ملوك تلك الدولة يغدقون على المشهد الشريف والهدايا النفيسة ويقومون بزيارة النجف ما أتيح لهم الوقت من أجل ذلك، كما كان رعايا تلك الدولة من الأغنياء يوصون بدفنهم في النجف فكانت ترسل الأجساد للدفن مع صعوبة المواصلات يومذاك.

كما أغدق أمراء الهند بعطاياهم على أهل العلم من مجاوري النجف وكانوا يصرفون الأموال الطائلة لسفر الشباب المتدين النابه لأجل الدراسة العلمية في النجف، فتكونت في النحف جالية هندية ظهر من بينها الكثير من العلماء والأطباء والتجار والسياسيين وكثير منهم تعرب بعد حين وكان لهذه الجالية مؤسساتها الخاصة، كالمسجد والحمام والمدرسة والمسافر خانة (الفندق) أو كما يسمى في النجف الآن (خان الهنود) وللجالية مقابرهم الخاصة في بيوتهم أو في وادي السلام.
مدرسة الهندي:
من المدارس المعروفة في النجف كانت آهلة بطلبة أسست في حدود سنة 1328هـ، في محلة المشراق وقد أنفق عليها رجل من أهل (لاهور) اسمه ناصر على خان.
مسجد الهندي:
وهو من مساجد النجف (لم يفرغ من العبادة ليلاً ونهاراً وفي أوقات الفرائض تقام فيه جماعتان. وهو معتكف النجفيين ومحل عبادتهم وهو أجل مكان عندهم بعد الحرم العلوي). شيد أوائل القرن الثالث عشر الهجري، في عهد الشيخ حسين نجف الكبير، ومؤسسة أحد صلحاء الهند وهو المرحوم الحاج خان محمد، وقد قرر حينه أن لا يضع أول حجر في أساسه إلا رجل لم يبت ليلة من الليالي على جنابة ولم يترك صلاة الليل مدة عمره فأحجم الحاضرون وقام هو بنفسه فوضع أول حجر في أساسه. وقد أرخ هذه العمارة السيد رضا الهندي بهذه الأبيات المكتوبة في أعلى الباب بالحجر القاشاني:
للذكر هذا مسجد جامــــــع             فلا تكن فيه من الغافلـــين
وأدخل إليه خاضعاً خاشعاً             عليك ذلك البائس المستكين
واتخذ الواحد عوناً عـــلى              طاعته إذ هو نعم المعــين
مؤرخاً كبر وهلل وكـــــن             مصلياً واركع مع الراكعين
وقد كانت الأرض التي فيها المسجد والحمام وقيسارية الحاج علي أغا والسوق المتصل بها المقارب للصحن الشريف كلها لعائلة هندية شريفة ثرية تقطن النجف قبل زمن وينتسب إليها ميرزا علي أنور الملقب بالمفل الهندي وكان أحد شهود معركة الخميس الأدبية، وقد توفي في النجف وأرخ وفاته السيد صادق الفحام بأبيات مثبتة في ديوانه المخطوط قال فيها:
يا زائراً خير قبر ضم خير فتىً         له بجنب علىّ أوثق الأمــــــــــل
قف باكياً واحد التاريخ مجتهداً          وقل لقد أزهر الجنات (نور علي)

وعرف منها أيضاً مير فاضل بن مير نظام الهندي، كانت له أملاك كثيرة في هذه المنطقة وقد باع بعضها وهي (محل قيسارية حاج علي آغا) بعد وفاته للشيخ حسين نجف بحسب وكالته عن بنته العلوية حاني بنت مير نظام وعن أمها بورا بنت ميرزا على أنور الهندي علي السيد حسين الرفيعي. ومن أملاكه ساحة المسجد والسوق المتصل بالقيسارية المجاورة للصحن الشريف من جهة القبلة.
وبقي الاسم على هذا السوق إلى عصرنا الحاضر فإنه يعرف بسوق الهنود، وقد ذهب هذا السوق عند إنشاء الشارع المحيط بالصحن الشريف.
وفي يوم 15 شوال 1375 هـ اشترى الإمام السيد محسن الحكيم الدارين المتصلين بمسجد الهندي ووسع المسجد وشيد مقبرة لأسرته ومحلاً للتدريس وعمر عامة المسجد، وممن أرخ هذه العمارة الجديدة السيد موسى بحر العلوم بقوله:
حي الالى قد شيد الدين بهم                 لله زلفى عملوا فأتقـــــــــنوا
وهذه آثارهم مشهـــــــــودة                 تحسد عين المرء فيــها الأذن
فالبيت إبراهيم بانيه هــــدى                أرخ (وباني هذا البيت محسن)
جامع الهندي قد وسعـــــــه                 حجّة الله حكيم الزمـــــــــــن
قل به ما شنت راخ (أو فقل                 تلك آيات الحكيم المــــحسن)

نهر الهندية:
من الميزات المهمة التي قام بها ملوك النهد الشيعة ما بعثوه من الأموال الطائلة لحفر النهر المشهور الآن (بنهر الهندية) على نهر الفرات الذي يبتدئ من المسيب وقد شق من عرض هذا النهر جدول أجري الماء منه في قناة إلى منخفض النجف وكان ذلك سنة 1208هـ، وجاء تاريخه (صدقة جارية).

إن تلك الأعمال العمرانية أتاحت ظهور أهوار كثيرة في منطقة الفرات الأوسط ومن ذلك هو النجف، وهور الدخن والعوينة وأبو طرفة وهور الكفل وبحيرة يونس وبحر الشنافية حتى كان الراكب يأتي في سفينة من البصرة إلى النجف، وبهذا الطريق سلك الزوار الهنود الذي كانوا يقدمون إلى العراق بواسطة السفن إلى خليج البصرة ومنها إلى النجف عبر الفرات, وقد بلغ تقديس النهود لتربة النجف وكربلاء إلى حد أنهم أصدروا أمراً بجلب سفينة كاملة من التراب المقدس نقلوه إلى الهند وأسسوا بذلك مقبرة خاصة تعرف اليوم بقبرستان شاه جراخ في مدينة حيدر آباد الدكن.
 وكان ظهور نهر الهندية إيذاناً بالانتعاش الزراعي والسكاني للعشائر المحيطة به، فقد نزلت على حافتيه عشائر آل فتلة والعوابد وبني حِسَن، كما تشكلت بعض المدن كالهندية (طويريج) والكوفة الحديثة التي أطلق عليه أول هذا القرن (شريعة الكوفة) أو (الجسر) كما قامت مدينة الشامية أو (أم البعرور) وكل ذلك من المحاولات الهندية لإيصال الماء إلى النجف، فالنجف مدينة بعيدة عن الماء وترتفع كالمسناة أمام السهول المحيطة بها وهناك محاولات أخرى كثيرة قام بها ملوك فارس وغيرهم من أجل إيصال الماء إليها، والمشهور أن هذا المشروع كان باقتراح السيد علي الكبير أحد أعلام كربلاء على الملك آصف الدولة (أحد ملوك دولة أود الشيعة في لوكنو Luoknow) وبتشجيع من الإمام السيد دلدار علي (عالم الهند الكبير).
وكانت القناة التي أجريت إلى النجف قد ردمت فيما بعد ولما رأى الإمام الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر اشتداد الأمر على النجف وتحقق عدم صلاحية الاستسقاء من ماء البحر المر, جمع المهندسين وبذل الأموال الطائلة فحفر نهراً من نهر آصف الدولة (نهر الهندية المذكور) وأوصله إلى النجف قاطعاً تلك الرمال والآكام حتى وصل إلى موضع يقال له (الطبيل) على أربعة أميال من شمال غربي النجف، فوقف العمل لارتفاع الأرض عند الموضع المذكور، فاستعان صاحب الجواهر بملك أوده مرة أخرى ووضعت الترتيبات لإيصال الماء بحفر قناة من ذلك المكان مستوية بعمق بعيد القعر إلى أن يصل إلى أقصى الحفر أولاً وهو مكان يبعد عن سور النجف بضع خطوات وما لبث صاحب الجواهر جاداً في المشروع حتى توفاه الله ثم أكمل بعد ذلك بدعم من السيد أسد الله الرشتي نجل السيد محمد باقر المشهور بحجة الإسلام المتوفي سنة 1292هـ، وأجري الماء في شهر رمضان 1288هـ وفي ذلك يقول الشيخ محمد الجزائري:
شربوا المــاء زلالاً             بعد شرب الآجانات
فاشرب الماء وأرخ            (اشرب الماء الفرات)

وقد ذكر السيد جعفر بحر العلوم في تحفة العالم ما لفظه: (بذل العلامة صاحب الجواهر على كريه ثمانين ألف تومان على نفقة ثريا جاه محمد أمجد علي شاه الهندي المتوفي يوم 21 صفر 1263هـ وتخلف مكانه ابن السلطان محمد واجد علي شاه).
قال الشيخ جعفر محبوبة: (وقفت على مكتوب مطول أرسله الشيخ (رحمه الله) إلى بعض الأعيان من أهالي الهند تاريخه سنة 1265هـ يحثه فيه على هذا المشروع).
وفي الحصون المنيعة للشيخ علي كاشف الغطاء: (أرسل السيد حسين السيد دلدار علي اللكنوي إلى الشيخ صاحب الجواهر لكاً وخمسين ألف روبية لأجل حفر النهر).
ووقع بيدي عدد من الرسائل المخطوطة الموجهة إلى السيد حسين بن السيد دلدار علي من قبل علماء العراق في النجف وكربلاء وفيها يحثونه على المساعدات الخيرية في الأمكنة إلى المقدسة وجاء في إحدى هذه الرسائل إشارة إلى طلب المال من أجل إكمال مشروع حفر النهر إلى النجف (لا يخفى على منية نفسي، وحديثي في مجلس أنسي أني لم أزل أردد ذكركما في فؤادي، وأنشر حديث فخركما في كل ناد، وكم أحرر رسالة الوداد وأكرر الوكة الاتحاد وأرادف الرسائل وأتابع بينها وأوصل وأتالي فيها بالأثر, متفحصاً عن إكمال دراهم النهر).
ومن أعمال هذا العلامة السيد حسين دلدار علي أنه بعث خمس عشرة ألف روبية لبناء مشهدي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة (عليهما السلام) كما ارسل أيضاً إلى السيد إبراهيم صاحب الضوابط بكربلاء ثلاثين ألف روبية لتذهب إيوان العباس إلى غير ذلك من الآثار الباقية.
سور سامراء وعمارته بالأموال الهندية:
أثر كبير في العراق، أقيم بأموال هندية وهور عظيم له أربعة أبواب كبار تكاد تكون متجهة نحو الجهات الأربع المعروفة، ولكن باب من هذه الأبواب اسم يعرف به وقوم من أقوامها يخرجون منه ويدخلونه، أولها باب الناصرية وبعضهم يسميه (الحاوي) وباب الملطوش، وباب القاطون، وباب البوباز وأبو عظيم.
وقد عمر هذا السور العظيم أحد أعيان الشيعة من الهنود وصرف على نفقاته الكثير من الأموال بهمة الميرزا المجدد الإمام السيد محمد حسن الشيرازي (1235ـ 1312هـ) وكان من كبار العلماء الأفذاذ، هاجر إلى النجف سنة 1251هـ وقام فيها مدرساً حتى انتهت إليه رئاسة الإمامية وهاجر من النجف إلى سامراء سنة 1291هـ، وتوفي فيها بمرض السل في 22 شعبان 1312هـ. ولولا سعيه لما شيد هذا السور ولا غير ذلك من المبرات في سامراء كأندية العلم وخانات الزائرين والغرباء والمساجد… الخ.
ووقف على عمل السور المذكور الميرزا زين العابدين السلماسي في حدود سنة 1250هـ/1834م، والسيد إبراهيم السيد محمد باقر الموسوي القزويني الحائري صاحب ضوابط الأصول المتوفى بكربلاء بعد سنة 1260هـ.
خيرية أوده:
اشتهر هذا المصطلح كثيراً من خلال القرنين الأخيرين وقد يعبر عنه في بعض الأدبيات بلفظة (فلوس الهند) أو دراهم الهند… الخ والمقصود به الأموال التي كانت ترسل من مملكة أود الشيعية ومقرها لكنو Luoknow إلى النجف وكربلاء.
وقد بدأت قصة هذا الوقف ـ (أو الخيرية) كما كان يطلق عليه لدى النجفيين ـ حين قدم غازي الدين ملك أود قرضاً لحكومة الهند البريطانية سنة 1825هـ قيمته عشرة ملايين روبية، واتفق الجانبان على إبقاء أصل القرض دون تسديد بشكل دائم، على أن تدفع حكومة الهند فائدة مستمرة للأبد مقدارها خمسون بالمائة سنوياً. توقف لأغراض خيرية وتكون الحكومة وصية على إنفاقها وضمنت تلك الشروط في إتفاقية أمضاها الجانبان في 17/8/1825م ومددت الأغراض الخيرية للوقف بتوزيع هبات مالية على الفقراء في مدينتي النجف وكربلاء عن طريق عدد من المجتهدين المقيمين في هاتين المدينتين والذين تختارهم السلطات البريطانية باعتبارها الوصية على الوقف، ومنذ ابتدأ بتوزيع تلك الهبات في تلك المدينتين سنة 1949م مرت الطريقة المتبعة في التوزيع بتطورات عدة كما إنها سببت انتشار أشياء في سوء التوزيع وشكاوى متواصلة ضد المجتهدين الموزعين وقد كانت عائدات الوقف السنوية البالغة ثمانية آلاف جنيه استرليني تقسم إلى نصفين متساويين تدفعها السلطات البريطانية إلى من تثق بهم في النجف وكربلاء وكان أول من وزعها في النجف الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (المتوفي سنة 1266هـ) وبعد وفاته رفض الشيخ مرتضى الأنصاري استلامها أو توزيعها ورفض الكثير من العلماء زهداً وورعاً وخوفاً من الهيمنة الأجنبية التي يسعى إليها الانكليز.
واشتهر من موزعي تلك الأموال في النجف السيد علي بحر العلوم منذ سنة 1275هـ وبعد وفاته حل مكانه السيد محمد بن محمد تقي بن رضا بحر العلوم، كما ذكره السيد الأمين في الأعيان (ج9 / ص:408) وقال: (وكان بيده حصة النجف من دراهم الهند (المعروفة بفلوس الهند) وربما أثرت هذه في مقامه عند الناس بحسب رتبته العلمية السامية وبقيت في يده مدة طويلة ثم وزعت من قبل الانكليز بأيدي مجتهدي النجف فقبلها قوم ورفضها آخرون فبقي بيده مثل ما بيد أحدهم).
وممن رفض توزيع تلك الأموال الشيخ محمد طه نجف المتوفى سنة 1320هـ، والسيد حسين بن رضا بن مهدي بحر العلوم، وكان الكثير من طلبة العلم يؤثرون الجوع بدلاً من استلام تلك الدراهم ومنهم السيد محسن الأمين نفسه. وقد كان التلاعب في تلك الدراهم كثيراً فأثرى الكثير بواسطتها وإلى هذا يشير الشيخ محسن الخضري النجفي المتوفى سنة 1301هـ بقوله من أبيات:
فكثير ممّن تولى النصارى            بلغ القصد من فلوس الهند
والواقع أن طلاب العلم من العرب كانوا من أكثر المتضررين من هذا التوزيع، وللشيخ جعفر بن الشيخ علي كاشف الغطاء المتوفي سنة 1320هـ، قوله معرضاً بخيرية أود:
وخيرية من الهند جاءت بغـــتة      وخص بها ظلماً أهيل النمارق
جرى قلم فيها وجفّ وقد جرت     على نهجه أقلام كل منــــــافق

وهكذا كثرت الشكاوي من سوء توزيع العائدات الذي أنيط ببعض المجتهدين فاستأثروا بالأموال لأنفسهم بالرغم من تدخل الانكليز الذي لم يقض على تلك الظاهرة بل استفاد منها، ففي يناير 1912م قررت حكومة الهند فرض الإشراف المباشر على التوزيع من خلال تشكيل لجنتين يرأسها نائب القنصل البريطاني في كربلاء وتتوليان توزيع نصف الوقف في كربلاء والنجف على الفقراء مباشرة، ولكن هذا الإجراء كان يحمل في الوقت نفسه عدة مضامين سياسية تستهدف التعامل المباشر مع قطاع من أهالي النجف وكربلاء وقد تنبه لهذا الأمر والي بغداد حينئذ أحمد جمال بك وكان أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي المتحمسين، وطلب من البريطانيين تجنب الاتصال المباشر مع الرعايا العثمانيين كما أنه استغل فرصة ضعف الدولة الإيرانية للضغط على الرعايا الفرس المقمين في النجف وكربلاء لمنعهم من الاتصال بالانكليز من خلال خيرية أوده.

زيارة أعيان الهند إلى النجف:
بالإضافة إلى مئات العلماء الهنود الذين درسوا في النجف الأشرف ونبغوا في العلوم الدينية والأدبية فقد قصدها الأمراء والأعيان الهنود للتبرك بزيارة المشهد الغروي الشريف. ومنهم الأمير السيد محمد خان سنة 1310هـ، وفيها أمر بتعمير مقام الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، وفي سنة 1326هـ زارها مير فيض محمد خان تالبر أمير مقاطعة خيربور السند وهو شيخ كبير ومعه كثير من وزرائه وعساكره ونزل في دار السيد علي آل كمونة وفرق الأموال على خدم الروضة الحيدرية على حسب طبقاتهم.
وزارها أيضاً الأمير السيد علي رضا خان الرامبوري يوم الأحد في الخامس والعشرين من رجب سنة 1353هـ.
وممن تشرف بزيارة الحرم العلوي السلطان محمد شاه بن علي شاه (الآغا خان الثالث زعيم الإسماعيلية النزارية في الهند وذلك سنة 1312هـ، وإلى هذه الزيارة أشار الإمام محمد حسين كاشف الغطاء بقوله: (هو زعيم الإسماعيلية في الهند ولهم في بومباي ملك ضخم وهي مواطنهم اليوم وأمه بنت (نظام الدولة) وقد نال رتبة الزعامة لأتباعه أو الربوبية عليهم كما يقال وهو غلام لم يبلغ الحلم وقد رأيته لما ورد إلى زيارة النجف الأشرف وزرته في الزائرين فوجدته رباًّ ولكنه ربّ صباحة وملاحة فآمنت بآية حسنه وجماله فقط ولقد كانت آية باهرة فتبارك الله أحسن الخالقين).
وقد أرخ زيارة محمد شاه إلى النجف الشاعر في عصر السيد جعفر الحلي بقوله:
أهلاً فقد لاحت لنا البشائــــــر           وأصبح الغري وهو زاهر
بالشاه سلطان الورى محمـــد           إلى علي جاء وهو زائــــــر
الملك الوارث من آبائــــــــــه           مآثراً ما مثلها مآثـــــــــــر
قبل بلوغ العشر نال رتــــــبة           تقصر عنها السبعة الزواهر
مظهر رشد الخلق في وجوده            وأهله كانوا هم المظــــاهر
لله أمّ ولـــــــدت محمــــــــــداً           طاهرةً قد جاء منها طــاهر
من يرها في الملك وهي لبوة            قال ابنها لا شك ليث خادر
هاجر كي يحج قبر سيّــــــــد            أركان مثواه هي المشاعر
مهاجر لله قد أرختــــــــــــه:             (محمد أفضل من يهاجر)

النجفيون المنفيون إلى الهند:

قامت النجف بثورة مسلحة عام1918م ضد الانكليز وقتل يومها الحاكم الإنكليزي الحاكم الانكليزي (الكابتن مارشال) فانتقم الانكليز من النجفيين بإعدام عدد من الثوار ونفي زهاء 107 منهم إلى الهند، وكان من المنفيين عطية أبو كلل، وابنه كردي، والحاج سعد راضي وابناه مغيض وراضي، ومحمد أبو شبع، وتومان عدوه وأولاد حبيب الحار وهم مسلط وسعيد ومهدي وغيرهم، وقد عملوا في الأسر معاملة قاسية واضطهدوا بأنواع الاضطهاد، ولما أعلنت الثورة العربية في الحجاز ضد الأتراك خيرتهم الحكومة البريطانية بين البقاء في الأسر أو الذهاب لمقاتلة الأتراك، وكل اختار ما ترجح في نظره. وكان ممن حكم عليه بالنفي إلى الهند السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ محمد الجزائري، ولكن تدخل في أمرهما الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ خزعل أمير المحمرة عند الأخير وفي تلك الحادثة والأسر يقول الجزائري:
لقينا زعازع ريب المـــــــــــنون           وهان على النفس ما قد لقينا
نعم خننا الدهر في جريــــــــــــة           وهل يترك الدهر حرّاً ركينا
غداة أسرنا بأيـــــدي العـــــــــدو            ورحنا نكابد داءً دفيــــــــنا
وضيم (الغريان) غاب العــــراق            وفارق ليث العرين العرينا
وجزنا كما شاء تلك الحــــــزون            ننتظر الفتك حيناً فحيـــــنا
وأرجلنا طوع قيد الحــــــــديــــد            تسيل دماً يستفز الرصيـــنا
وما ضامنا (الأسر) في موقــــف            أطعنا عليه الرسول الأمينا
وما ضامنا ثقل ذاك الحـــــــــديد            ونحن بحسن ثنا ظافـــرونا
ولم يزر بالحر غلّ اليديــــــــــن            إذا ما قضى للعلاء الديــونا
ولا غرو لو خان صرف الزمان            حراً فمن طبعه أن يخـــونا

وبعد ثورة العشرين وقع الكثير من الجنود الهنود الذين كانوا يقاتلون مع الانكليز ضد العراقيين، في أسر أهالي النجف وقد وضعوا في (خان الشيلان) في النجف مع عدد كبير من الجنود الضباط الانكليز وعوملوا معاملة حسنة بينما عومل الثوار من النجفيين الذين أسروا خلال ثورة العشرين، عوملوا معاملة قاسية وسجنوا في خان من خانات الكوفة، وممن اعتقل وأسر في هذا الخان السيد محمد رضا الصافي (1289 ـ 1361) وهو شقيق الشاعر أحمد الصافي النجفي الذي شارك هو الآخر في الثورة ولكنه هرب خارج العراق خوفاً من الإنكليز.
وللسيد محمد رضا الصافي هذه الأبيات قالها عندما كان أسيراً عند الانكليز في الكوفة وقد وكلوا في حراسته مجموعة من الهنود الذين ينتمون إلى (الدين السيخي) فأسمعه قائلاً:
وأدخلوني حـــــجرة               مكبراً مهلـــــــــــــــلا
(السيك) عند بابـــــها              تحرسنا وتحمــــــــــلا
من السلاح بندقــــــاً               وأبيضاً منصـــــــــــلا
(فهر دسنك) تــــارة               و(جردسن) إذا انجــلى
و(عمرسن) يتبعـــني              مهرولاً إلى الخــــــــلا
وقهوتي (هاد) غـــداً              يصنعها ويعـــــــــــــملا
والرزق يأتي (ملسم)              به وشايي سهـــــــــــلا
بشرى رفاقي عندما               أدعى غداً وأُســـــــــألا
فإن يك النطق لـــــه              مشترياً ويقبــــــــــــــلا
أريد عقد جوهــــــر              منظماً مفصــــــــــــــلا
وأن يكون المشتري               سماً وقولي جمــــــــالا
يعذرني صحبي إذا               اخترت الفنا أو الفـــــلا
وقد بقي عدد قليل من الجنود الهنود في العراق بعد ثورة العشرين، وآثروا السكنى فيه، ولهم بقية إلى اليوم إلى اليوم في بعض قرى الفرات الأوسط.
شعراء النجف يحيون الهند:
 ألهمت الهند الشعراء قديماً وحديثاً وفي العصر الحالي برز (طاغور) كأشهر شاعر في الهند وقد أعجب به شعراء النجف وفي مقدمة من أعجب به الشاعر علي الشرقي فحياه بقصيدة قال في أولها:
بدء الحياة حـــــــراك            من اهتزاز السرير
ولا يريك سكـــــــوناً             إلا جمود القبـور
بليت من قبل موتــــي            بمنكر ونكـــــــير
لو كان ربي يعطي الـ            حياة بالتخيـــــــير
لما أردت الحـــــــياة             إلا حياة الطيـــور
بين البلابل أشــــــدو             أزف بين الصقور
كم من مليك تمــــنى              حريّة العصفـــور
وعندما انتخب الدكتور راجندرا برادساد رئيساً للجمهورية الهندية في 26/1/1950م (ربيع الثاني 1369هـ) قال الشيخ علي الباري مؤرخاً ذلك:
أشاوس الهند بقــــــــــاءها             تحت انتداب فيه معذوريّـــه
أسقطت (المفرد) ثم أرخت            (تأسست في الهند جمهورية)
وإلى مقاومة الهنود ضد الانكليز يشير الشيخ صالح الجعفري بقوله:
وتلك الهنود على ما بها          أحست بموقفـــــها الأرذل
فأضحت تهدّد انكلــــترا          وأسطولها الضخم بالمعزل
وإني لأحسبها أشرقــت          على مبتغاها ولم تفــــــشل
وهل يبعد الحق عن أمة          إذا ما ألحّت وما تكـــــسل
والشاعر النجفي الجعفري كان من المعجبين بالثورة الهندية، وله أبيات أخرى يخاطب فيها قومه على تقاعسهم ومستنهضاً هممهم للتضحية من أجل الوطن كما فعل الهنود، وقد أثارت هذه الأبيات في وقتها ضجة في الأوساط الأدبية:
قف في منى واهتف بمزدحم القبائل والوفود
             حجوا فلستم بالغين بحجّكم شرف الهنــــــود
حجو إلى استقلالهم وحججتم خوف الوعيد
            ضحيتكم كبشاً وما ضحوا سوى طيب الوجود
وله قصيدة عن استقلال الهند يحي فيها الشعب الهندي ويستذكر بطولاته وزعيمهم المهاتما غاندي، ومما قاله:
حيها أذكت من الحرب لظاها                  وأبت إلاّ الذي فيه منــــــــاها
شمرت تسعى إلى استقلالــها                  سدد الرحمن بالنصر خطاها
وحدت أشتاتها فاندفـــــــــعت                  كتلة تخشى المقادير قضــاها
لا القوانين وما أصرمـــــــها                   أقفت تيارها لما تنــــــــاهى
لا ولا القوى في تنظيمـــــهــا                  أفقدت أبطالها الصيد قـــواها
خانها السيف ولم تنكل ومـــن                  مات في حب هناة قد يـراها
دخلت والظلم في معمــــعـــة                  خبط الداخل فيها ثم تاهــــــا
ومضت طالبة حاجـــــــتــهـا                   لا ترى من أمرها إلا قضاها
هتفت بالملح في عصيانــــهــا                  وورا الأكمة ما كان وراهــا
ما كان ما ترجـــــــــــــوه ملـ                 ح نستطيب به الغــــــــــــذاء
كلاّ ولا نرجو بـــــــــــــه الـ                  أموال جمه والــــــــــــــثراء
ما لملح ما العصيان مـــــا الـ                  أطفال ما زمر النســــــــــاء
إلاّ قيود الـــــــــــــــــيأس تفـ                 صم في مضامين الرجـــــــاء
لله ما هذا الضعــــــــــــــــيفــ                ـف أمام تلك الأقويـــــــــــــاء
في سبيل العز نفس حــــــــرة                لم تشأ أن يخمد الضيم ســناها
سطعت في الهند شمساً فاتبرت               أمم العالم طراً لضــــــــــياها
انفت من وحمة الذلّ وهــــــــا               هي لا تفتأ في برد أباهـــــــا
وقال في غاندي:
جلد على عظم يسير فيقطع الشعب الطوال
             لا يرتدي غير النسيج نسيج كفيه الهزال
شبح ضئيل كاد لو لا الصوت أن يسمى خيال
               ملك القلوب وإنّها جيش بعيد الانخذال
ما الجيش أبلغ من قلوب تستميت لدى النضال
وللشاعر النجفي الجواهري قصيدة أنشدها في احتفال الصلاة التذكارية الذي أقامتها السفارة الهندية في بغداد بمناسبة ذكرى غاندي مساء يوم 30/1/1960م وفيها يقول:
سيدي أنت أيها الحق والعز والفخر والندى والعلاء
كل ما تستــــــــــــطيعه لك حب           وخشوع ووقفة وانحـــــــــناء
يا لصوقاً بالأرض وهو أيّـــــــا           ها الطراح ونعمة ونمـــــــــاء
يا وديعاً لوى من الأسد المـــــكـ          ـلوب ذيلاً فقرّ منه الـــــــعواء
يا شعاعاً من النبوة تســــــــــتهـ          ـدي به الأرض أرسلته السماء
يا سليل الفجرين بوذا وكونفــشـ          ـيوس منه سناها يستضــــــــاء
يارحيماً لم القلوب على جــــــمـ          ـرة حب فذابت الشحنـــــــــاء
والتقت أمة تفل ســـــــــلاح البـ           ـغي وهو الوديعة الــــــعزلاء
يا هتوفاً بالبشر لم تخرس الضحـ          كة منه بلية وعنــــــــــــــــاء
أيها الكوكب الذي انحـسرت عنـ          ـه من البؤس هالة غـــــــبراء
والتوى السيف وانزوى الـــعنف          وانفكت رقاب ولم تطل دمــاء
قلت كوني شيئاً مئات المــــلاييـ           ـن فكانت، وخير شيء يشـاء
نبئت في مجاهل البؤس والــذلة           في الشرق واحة غنــــــــــاء

وهناك بعض أعلام النجف من العلماء والمغامرين الذين استهوتهم الهند فسافروا إليها واستوطنوها ومنهم العلاّمة الشيخ حبيب بن الحاج مهدي شعبان من أسرة شعبان القحطانية النجفية المعروفة، ولد حدود سنة 1290هـ وكان عالماً أديباً شاعراً قصد الهند وكان بها من مراجع الدين على عهد إمارة رامبو حتى وفاته حدود سنة 1336هـ، ومن شعره متأسياً لأهل البيت:
يا أمة نبذت وراء ظهورها           بعد النبي إمامها وكتاباها
ماذا نقمت من الوصي ألم يكن      لمدينة العلم الحصينة بابها
وله:
أأبكي لرسم دارس حكم الــــــبلــى          عليه ودار بعد سكانــــــها قفرا
وأصفى ودادي للديار وأهلـــــــــها           فيسلو فؤادي ودّ فاطمة الزهرا
 وقد فرض الرحمن في الذكر ودّها           وللمصطفى كانت مودتها أجرا
وممن سكن الهند من النجفيين الشيخ حسن بن علي بن أحمد بن أبي جامع (من آل محي الدين) الأسرة العالمية الأصل، خرج والده من النجف وتوطنها ثم انتقل إلى الحويزة وتولى القضاء هناك أيام السيد خلف بن  السيد مطلب المشعشعي، ومات بها وانتقل أولاده إلى شوشبتر، وخرج الشيخ حسن إلى الهند وتوطن حيدر آباد الدكن وكان من تلامذة الشيخ محمد بن خاتون العاملي، وقد توفي في حيدر آباد في أوائل القرن الحادي عشر الهجري ومنهم السيد حسين شبر.

ومن النجفيين الذين استهوتهم الهند قبلي فطاف بها الشيخ عبد الحسين بن عباس الأعسم الذي كتب عنها رحلة بعنوان (الرحلة الأعسمية في الديار الهندية أو الزهور في رامبور) المطبوعة في بومباي سنة 1946م، ومنهم الشيخ حساني الطريحي والشيخ شمس الدين الطريحي.
الهجرة الهندية إلى النجف:
الهجرة الهندية إلى النجف قديمة وقد ازدادت في القرنين التاسع عشر والعشرين نزح إلى النجف المئات من طلبة العلم وفيهم العوائل الكثيرة التي آثرت السكنى ثم تعربت وتنجفت ولم يعد يربطها مع الهند أية رابطة تذكر.
وأكثر طلبة الهند الذين تفرقوا في الدراسة وحصلوا على الإجازات العالية عادوا إلى بلادهم وساهموا في النهضة العلمية الإسلامية في مختلف الأقاليم الهندية، ومن أهم الشخصيات العلمية الهندية التي درست في النجف السيد دلدار علي أحد أكبر أعلام الشيعة في وصاحب الدور الهام في دولة أود الشيعية، وهو بالإضافة إلى الإصلاحات الكبيرة التي قام بها في الهند صاحب مدرسة فكرية متميزة ساهمت في ترسيخ المنهج الأصولي وأنتج الكثير من المؤلفات وأنشأ أسرة علمية تخرج منها كبار الفقهاء والعلماء والأدباء.
ومن خريجي المدرسة النجفية الهنود الشاعر الأديب السيد حسين رشيد الرضوي الهندي والسيد راحت حسين والسيد حامد حسين والشيخ سعادت حسين وأعلام أسرة آل الكشميري ومن المحسوبين على الهند حميد خان معاون الحاكم السياسي لمنطقة النجف (1917 ـ 1920م)… وغيرهم من مئات الأعلام الهنود الذين تخرجوا من الحوزة العلمية النجفية وقد ذكر العديد منهم في موسوعتي عن تاريخ الشيعة في الهند.
وهناك بعض الأعلام الهنود الذين مكثوا في النجف وتغيرت ألقابهم بعد جيل أو جيلين. ومن الغريب أن المؤرخ الإيراني مهدي بامداد ينسب عائلة المرجع الديني السيد محسن الحكيم إلى أصل الهندي، ولعل الأسرة الوحيدة التي حافظت على انتسابها إلى الهند هي الأسرة العلوية المعروفة باسم (آل الهندي) التي تخرج فيها عدد من العلماء والأدباء المعروفين.
آل الهندي:
جد الأسرة الأعلى السيد مير شجاعت علي، وهو أول من هاجر إلى النجف الأشرف رغبة في المجاورة وهرباً من بطش الانكليز وذلك بعد مشاركته في الثورة التحررية الهندية ضد الانكليز سنة 1800م وقد استقر في النجف حتى وفاته سنة 1875م، وتعود سلسلة نسبه إلى الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بالوسائط التالية: فوالده السيد مير سرفراز علي بن دائم بن غلام حسام بن محمد باقر بن محمد حسين بن أعظم بن عبد الكريم بن عبد الرحيم بن مرتضى بن بازيد حاجي براي بزرك بن راجي سيد نور الدين شاه بن راجي سيد حامد شاه بن شمس الدين مثنى بن حسام الدين بن جلال الدين بن محمد الكرديزي بن زين الدين حسن بن عيسى بن باقر بن حسن الغزنوي نظام الدين بن حمزة السبزواري بن محمد لال بن أبي طالب (المدفون بسامراء)، بن أبي موسى محمد بن أبي القاسم طاهر بن جعفر التواب بن الإمام علي الهادي بن الإمام محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى بن الكاظم (عليهم السلام).
وأصل السيد مير شجاعت علي من مدينة (لكنو) ولدى وصوله إلى النجف تزوج من عائلة الجزائري (العربية الأسدية) وأنجب ولده السيد هاشم الهندي (1210ـ 1246هـ) الذي تخلف بولديه علي ومحمد، أما علي (1239ـ 1273هـ) فكان من أفضل تلامذة الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر وصهره على ابنته كما كان شقيقه محمد صهر الشيخ صاحب الجواهر على ابنة أخرى له وأمهما ابنة السيد حسن بن السيد أبي الحسن العاملي، ومن أجلاء الأسرة العلماء السيد باقر الهندي والسيد صادق الهندي والسيد رضا الهندي صاحب (القصيدة الكوثرية).
النجفيون الهنود:
يعتبر المئات من العلماء والخطباء الذين درسوا في الحوزة النجفية ورجعوا إلى بلادهم الهند بنسبتهم إلى النجف حتى إنك تجد هذا اللقب (النجفي) في أكثر الأقاليم التي يتواجد فيها الشيعة، وفي رحلتي الهندية التي استمرت لعدة سنوات قابلت وتحدثت مع أكثرهم وقد يضيق المقام لذكرهم الآن وكعينة محدودة أذكر الآن منهم: الشيخ غلام عسكري ـ الشيخ غلام الحسنين ـ السيد سلمان حيدرـ الشيخ محمد حسين النجفي ـ الشيخ محمود الحسن ـ الشيخ ميرزا محمد عالم ـ الشيخ افتخار حسين ـ السيد يوسف البدكامي الكشميري ـ السيد حميد الحسن ـ الشيخ العسكري المدارسي ـ السيد ضياء الحسن ـ السيد علي رضا آغا الحيدر آبادي ـ السيد بني الحسن ـ السيد يوشع البنكلوري ـ السيد مسعود أختر ـ السيد علي الرضوي ـ السيد كلب عابد ـ الشيخ روشن علي ـ السيد عابد حسين ـ السيد علي نقي النقوي ـ السيد محسن النواب ـ السيد ناصر حسين ـ الشيخ مقبول أحمد ـ نياز حسن ـ والقائمة تطول إلى مئات الأعلام…
وقد أجد من المتعربين الهنود وممن يتحدثون باللهجة النجفية العشرات كالذي رأيته في لكنو وحيدر آباد وكشمير، وحتى في (كركل) أو التبت الصغرى كما يسمونها المتاخمة للحدود الصينية، وقد أثرت فيهم الحياة التي قضوها في النجف تأثيراً كبيراً هيمن على كل تصرفاتهم وحياتهم. ويبدو أن تقادم العهد بالهجرة من النجف إلى الهند وبالعكس قد ضيع علينا أخبار الكثير من العوائل والأعلام، ففي إحدى زياراتي للجامعة النظامية  في حيدر آباد التقيت أحد الأساتذة فيها واسمه طاهر النجفي وهو من إخواننا أهل السنة ومن مواليد إحدى القرى التابعة لحيدر آباد، وقد جلسنا وتكلمنا كثيراً حول وضع الجامعة والطريقة القادرية التي ينتمي إليها وحدثني عن هجرة أسرتهم منذ مدة طويلة من النجف إلى الهند وأهداني قصيدة والده السيد ابراهيم بن عباس النجفي الرضوي (1295 ـ 1378هـ) المعروفة باسم لامية الدكن ومطلعها:
ألاحت سليمى في البراقع ترفل         أم الشمس تجري في الغمام وتذأل
وقد نوهت بهذه الواقعة وذكرت تمام القصيدة في مجلة الموسم العدد 6(ص:429 ـ 442) سنة 1990م.

شبيه روضة النجف:
وفي لكنو حاضرة التشيع في الهند، ترتفع عمارة كبيرة على ضريح يخلو من صاحبه اللهم إلاّ من البركة التي يستوحيها الزائرون من اسمه الكريم، ذلك هوالمرقد الذي أسس في القرن الثامن عشر تذكار للمرقد العلوي في النجف حيث كان من الصعب جداً الرحلة إلى العراق ولهذا كان المؤمنون الهنود يتذكرون الإمام علياً (عليه السلام) من خلال هذه البناية التاريخية حكام أود، وهناك أيضاً في المدينة نفسها، عمارات أخرى تذكارية للكاظمية ومسجد الكوفة كما أن هناك مدينة كاملة تعرف بـ(نجف الهند) ولمكانة النجف في نفوس الهنود فقد اتخذت لفظة النجف كاسم من أسماء الأعلام الشائعة في الهند اليوم ومن علمائهم الذين اسمهم نجف:
نجف علي مير فيض آباد (المتوفي 1254هـ /1838 م)، ونجف علي بن ورشن علي ( المتوفي(1255هـ / 1840م)، ونجف علي نونهروي (المتوفي 1261هـ / 1845م)، ونجف علي بن غلام علي (1837هـ 1926م)، وغيرهم.
الخلاصة:
1ـ إن الروابط الثقافية بني العراق والهند بدأت منذ  فجر التأريخ، وفي عصور متقدمة ارتبطت النجف عبر بحرها الذي كان يرتبط بخليج فارس ارتباطاً تجارياً بالهند.
2ـ ازدادت صلة الهند بالنجف في العهد الإسلامي بعد فتح السند أيام خلافة الإمام علي (عليه السلام) وترسخت في العصر العباسي وتأصلت ونمت وتوسعت  في العهد العثماني الأخير،
3ـ تعتبر النجف الأشرف العاصمة الروحية لما يزيد على مليون شيعي من المسلمين الشيعة في شبه القارة الهندية  فهي مهوى أفئدتهم ومقر مرجعيتهم.
4ـ بادل النجفيون إخوانهم الهنود حباً بحب وناصروهم في قضاياهم المختلفة كما قام الهنود من قبل بدعم المرجعية ومشاريعها.
5ـ التأثير الثقافي المتبادل بين الهند والنجف تغلب عليه العاطفة الدينية ويتميز بطابع إنساني عام. 
6ـ يمكن التوسع في هذا الموضوع بالرجوع إلى كتابنا (تاريخ الشيعة في الهند) وموسوعتنا الهندية العربية، والله الموفق.

الأستاذ: محمد سعيد الطريحي      

المصدر : مجلة آفاق نجفية العدد – 6 –

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.