الخميس , 21 نوفمبر 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » التنوع الحضاري لمدينة النجف الأشرف

التنوع الحضاري لمدينة النجف الأشرف

najaf3

تأليف الدكتور الشيخ أحمد الوائلي
إعداد مكتبة الروضة الحيدرية
النجف الأشرف

يقول أحد الشعراء:

 

قد يزين الخميل بضع ورود

وبمعناك جنة من اقاح

 

من مصاديق هذا المضمون مدينة النجف الأشرف فإنّ أبعادها الحضارية متنوعة ومع تنوعها تتصف بالتميز، والحصيلة هنا أمران:

الأوّل:

التنوع الحضاري الناتج من اختلاف الأجناس والأعراق التي سكنتها قبل الإسلام وبعده. ولعل البعض تلفت نظره عبارة قبل الإسلام في حين انّ الصورة الذهنية عن النجف انها ولدت بولادة عهد الشيخ الطوسي(قدس سره) إلاّ وجود ضئيل لا يُسمّى بمجتمع. والحقيقة انّ هذه التصور ليس بصحيح فإنّ المتتبع لتاريخ هذه المنطقة يتأكد من وجودها في عهود تسبق الإسلام بزمن طويل، فهي عندما مرّ بها أبو الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) كانت مدينة وكانت مسكونة بكثافة وكانت يزلزل بها فنزل إبراهيم (عليه السلام) ضيفاً على أهلها فلم يزلزل بهم، وعندما تأكدوا من ذلك قالوا انّ هذا من بركة ضيفنا وأصرّوا عليه بالبقاء وألزموه فأبى عليهم إلاّ أن يشتري منهم الأرض فأنعموا بالقبول فاشتراها منهم بمائة نعجة فسميت بانقيا من أجل ذلك لأن نقيا بلغتهم نعجة وبالتساوي مائة، وقد ورد ذلك في جملة مصادر(1). هذا مفاد الرويات.

والآثار التاريخية في جوانب مدينة النجف تتوزع في مختلف جهاتها فهناك آثار لسجون الأسرى وللمعسكرات تمتد إلى ايام الاسكندر وإلى ايام بختنصر مثل

____________

1- معجم البلدان، ج2 / ص: 49، فصل بانقيا.

عريسات ومثل ” ضيزن آباد ” المعروفة الآن باسم طعيريزات، ويصل تاريخ بعض هذه الآثار إلى ثلاثة آلاف وثمانمائة سنة قبل الميلاد(1)، خصوصاً في سجونها ومقابرها مثل “الطارات”. ويقول المسعودي “والنجف كان ساحل بحر الملح وكان في قديم الدهر يبلغ الحيرة وهي منازل آل بقيلة وغيرهم”(2)، وقد أفضتُ بذلك في كتابنا “الخلفية الحضارية للنجف قبل الإسلام” والذي لا يزال مخطوطاً، ولا اُريد التوسع في ذلك وإنما مجرد لفت النظر إلى الأقوام التي سكنت هناك وتركت بصماتها على التاريخ والحضارة والمدنية فهي أقدم مما يتصوره البعض.

أما التميز الذي أشرت إليه فهو حصيلة قهرية لا متزاج هذه الروافد المتنوعة وتلاقح أفكارها ممّا شكل مؤشراً غنياً يراه المتتبع بوضوح في أنماط السلوك عند الفرد النجفي خصوصاً بعد تعميق المدرسة العلمية وانتهائها إلى الثراء الملحوظ في الأبعاد الفكرية بعد عصر الشيخ الطوسي.

الثاني:

ولعلّ من أبرز الروافد التي انصبت في أبعاد النجف حضارياً وقبل الإسلام الرافد المسيحي ويظهر من المأثورات انه يبتدئ من عهد جذره الأوّل وهو المسيح (عليه السلام) وامّه العذراء، فقد ورد عند تفسير قوله تعالى عن عيسى وامه مريم ( وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَة ذاتِ قَرار وَمَعِين )(3) عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام)قال: “الربوة نجف الكوفة والمعين الفرات”(4). ومعنى ذلك انّ الايواء ـ وهو

____________

1- يراجع فتوح البلدان للبلاذري، مادة طيرناباذ. ومجلة لغة العرب لا نتاس الكرملي.

2- البلدان لابن واضح، ص: 73، طبع النجف.

3- سورة المؤمنون، الآية: 50.

4- كامل الزيارات، الباب الثالث عشر، والتهذيب للشيخ الطوسي بتوسط موسوعة العتبات المقدسة لجعفر الخليلي، ج1 / ص: 75 قسم النجف الأشرف، طبعة بيروت 1987م.

ويراجع كنز العمال، ج1 / ص: 258 بتوسط فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج3 / ص: 97، طبعة بيروت ـ الأعلمي.

الاقامة ـ هناك ثابت ولو لمدة قليلة، ويؤيد هذا المعنى ما رواه المجلسي في بحار الأنوار(1) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: “الغري هو قطعة من الجبل الذي كلّم اللّه عليه موسى تكليماً وقدس عليه عيسى تقديساً واتخذ عليه إبراهيم خليلا… إلى آخر الرواية”، ومن هنا كانت المنطقة بعد ذلك تكاد تكون في أغلب سكانها مسيحية حيث تستوعب المثلث المعروف “الحيرة، النجف والكوفة”. يقول محمّد حسين هيكل في كتابه حياة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): “انّ التماسك في كيان الامبراطورية الرومانية من الشام وفلسطين إلى شواطئ الفرات ليدين به أهل الحيرة ويؤمن به اللخميون والمناذرة”(2).

وبناء على ما نص عليه في تفسير الآية المذكورة يقتضي العكس حيث بدأت من منطقة النجف وانتشرت إلى الشام فإن المنطقة كانت متصلة بقرى عامرة من الحيرة حتى الشام، كما نصّ على ذلك المسعودي في مروج الذهب في فصل فتح الحيرة ومجاورة سعد بن أبي وقاص مع عبد المسيح بن بقيلة، ويؤيد ذلك وجود الأكراح وهي بيوت رجال الدين المسيحيين في النجف، وإلى جانبها أديرة للمسيحيين وكنائس وأشهرها دير مار عبدا، ودير حنه، وفي هذه الأكراح عيون وينابيع وآبار محفورة وهي مميزة بالجمال والنضارة تنبت الشيح والرياحين وفيها يقول بكر بن خارجة:

 

دع البساتين من آس وتفاح

واقصد إلى الشيح من ذات الأُكيراح

إلى الدساكر فالدير المقابلها

لدى الاكيراح أو دير ابن وضاح

منازل لم أزل حباً ألازمها

لزوم غاد إلى اللذات روّاح(3)

 

والحقيقة أن حديث الأكراح والأديرة والكنائس والتلال التي كانت للمسيحيين على ظهر النجف مطول وواسع يدل على كثافة السكان المسيحيين هناك وغلبتهم على المنطقة، كما يعكس أنماطاً من ممارستهم وسلوكهم ويعطي صورة كاملة عن ملامح حياتهم ويمكن مراجعة الديارات لشابستي، وآثار البلاد للقزويني، ومعجم البلدان للحموي والآثار الباقية للسيروني وغيرها.

____________

1- البحار، ج22 / ص: 43، طبعة بيروت، عند ذكر النجف.

2- حياة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ص: 30، طبعة مصر 1354هـ.

3- الأغاني، ج7 / ص: 107، طبعة دار الكتب المصرية.

وبالجملة فإنّ المنطقة كان يغلب عليها الطابع المسيحي بما له من آثار وإلى جانبه روافد أخرى في طليعتها الفرس والسريانيين والبابليين والعرب وأجناس أخرى نصت عليها كتب التاريخ والجغرافيا وعدت من تلك الشرائح اليونانيين والقساطرة(1).

ثالثاً:

وطّأت هذه الشرائح بما لها من سمات حضارية أرضية صالحة للفكر الإسلامي حيث كانت الشرائح السكانية مؤهلة فكرياً للاستفادة من عطاء الإسلام واجتمع لهذه المنطقة المناخ الثقافي الرائع مع المناخ الجغرافي الممتاز حيث كانت تسمى هذه المنطقة بخد العذراء لنقائها، وكانوا يعتبرونها مصحة يهربون إليها أيام الطاعون لصفاء هوائها وطيب مناخها وفي ذلك يقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

 

يا راكب العيس لا تعجل بنا وقفِ

نحيّ داراً لسعدى ثمّ ننصرفِ

ما أن رأى الناس في سهل ولا جبل

أصفى هواءً ولا أعذى من النجفِ

حفّت ببرّ وبحر من جوانبها

فالبرّ في طرف والبحر في طرفِ

وما يزال نسيمٌ من يمانية

يأتيك منها بريّاً روضة اُنفِ

كأنّ تربته مسك يفوح به

أو عنبر دافه العطار في صدفِ(2)

 

يضاف لذلك هذا التنوع في الشرائح السكانية. كل ذلك أهّل المنطقة لأن تكون بيئة علمية متميزة. ولعل من العوامل التي حملت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على نقل العاصمة إلى الكوفة هذا العامل، فإن مدرسة الإمام العلمية تحتاج إلى وسط يستوعب معطياتها فما كاد يحل هناك حتى بدأ التفاعل بين مدرسته والموروث في المنطقة فكان من ذلك مزيج رائع تجسد في تلاميذه واستمرت الحركة في تفاوت من حيث القوة والضعف حتى القرن الرابع وهجرة الشيخ الطوسي إلى النجف في القرن الخامس الهجري.

____________

1- د. جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1.

2- الأغاني، ج9 / ص: 285. معجم البلدان لياقوت، مادة النجف.

 

على نقل العاصمة إلى الكوفة هذا العامل، فإن مدرسة الإمام العلمية تحتاج إلى وسط يستوعب معطياتها فما كاد يحل هناك حتى بدأ التفاعل بين مدرسته والموروث في المنطقة فكان من ذلك مزيج رائع تجسد في تلاميذه واستمرت الحركة في تفاوت من حيث القوة والضعف حتى القرن الرابع وهجرة الشيخ الطوسي إلى النجف في القرن الخامس الهجري.

رابعاً:

كانت هجرة الشيخ الطوسي من بعد حدوث الفتنة في بغداد واحراق فيه كرسيه وكتبه وهو ما ألجأه للمجيء إلى النجف، واعتقد أنّ جملة من تلاميذه تبعوه واضيف إليهم مَن كان بالمنطقة من الذين انتظموا في دروس الشيخ الطوسي الذين بلغ عدد التابعين منهم والمجتهدين على قول ثلاثمائة ومن غيرهم جم غفير وكان طلاّب العلم الذين يدرسون هناك من ذلك اليوم حتى وقتنا الحاضر من جنسيات مختلفة وحضارات متنوعة تمازجت فانتجت خلاصة رائعة من الفكر والعمق والوسط الفاضل في مختلف أبعاد العلوم.

ولعل النجف وموقعها على حافة الجزيرة العربية وتفاعلها المستمر مع العلوم العربية لغة وفقهاً وأدباً وتفسيراً ميّز الوسط العلمي الذي ينهل منها بتظلع ليس بالقليل في هذه المبادئ المذكورة بالإضافة إلى المادتين الأساسيتين ـ الفقه والأصول ـ وما يعتبر مقدمة لهما من بلاغة ومنطق وما هو مهم من حكمة وفلسفة. لقد تنوعت جداول المعرفة هنا وتطارحت الأفكار وكدت القرائح وكدحت حتى كوّنت مزاجاً اجتهادياً تفتقر إليه جملة من مدارسنا العلمية مع فضلها ومكانتها العلمية ولكن هذه الانتمائية للنجف والظفر بالانتساب إليها هي صفة يحرص عليها فقهاؤنا كما هو معلوم.

خامساً:

والعامل الأوّل في كل ما بالنجف من مزايا وما لها من مكانة هو انها مثوى المعلم الثاني إمام المتقين وباب مدينة علم النبي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد غرس حقل المعرفة بالمنطقة ثمّ تعاهده ونماه طيلة حياته الكريمة وتعاهدته بعد

ذلك قدسيته وبركاته التي لها أثر واضح على ذهنية وسلوك الوسط الديني الذي يعيش بالنجف بل ومزاجه وذوقه حتى أصبحت سمة تعرّف المنتمي لهذه المنطقة وقد أشرت لذلك في قصيدة لي بوصفها فقلتُ:

 

وديار إن اختفي عرّفتني

مثلما عرّف الجواد الصهيل

 

وقدر لهذا المثوى المقدس أن يكون في واد مقدس قال المفسرون أنه هو المعني بقول تعالى: ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً )(1)، كما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام)، وإلى ذلك يشير عبد الباقي العمري بقوله:

 

إذا نحن زرناها وجدنا نسيمها

يفوح لنا كالعنبر المتنفس

ونمشي حفاتاً في ثراها تقدساً

نرى أننا نمشي بواد مقدس

 

ومن هنا كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يرشدون إلى السكنى بهذه المنطقة، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) سادس أئمة أهل البيت لبعض أصحابه الذي قال له لقد ضربت على جميع ما عندي فجعلته ورقاً ـ أي ذهب وفضة ـ وقلت أسكن في المكان الفلاني واخذ يعدّد الأمكنة، فقال له (عليه السلام): “لا تفعل ولكن عليك بالكوفة فإن البركة منها على اثني عشر ميلا من جوانبها الأربع وانّ إلى جانبها قبر ما زاره مهموم إلاّ وفرج اللّه همّه”(2). وورد انها من البقاع التي ضجّت إلى اللّه فهيأها لمن يعبده عليها ببركة هذا المرقد الطاهر. ومن أجل ذلك كلّه كانت مهوى القلوب والأفئدة، فقد كتب النراقي صاحب جامع السعادات وغيره إلى معاصره المهدي بحر العلوم(قدس سره):

 

ألا قل لسكان أرض الغري

لقد فزتمُ بجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء أو

فنحن عطاشى وأنتم ورود

 

فأجابه السيد بحر العلوم:

____________

1- سورة طه، الآية: 12.

2- ابن طاووس: فرحة الغري.

ألا قل لمولىً يرى من بعيد

ديار الحبيب بعين الشهود

لك اللّه من غائب حاضر

على حاضر غائب بالصدودِ

لنحن على القرب نشكو الظما

وفزتم على بعدكم بالورود(1)

وفي الوقت الذي هي فيه مهوى الأفئدة في الحياة فهي مهوى الأرواح بعد الممات وذلك لما ورد في فضل واديها وادي السلام: “ما من مؤمن يموت في شرق الأرض وغربها إلاّ ويقال لروحه الحقي بوادي السلام” وفي ذلك يقول الرواة اشترى أمير المؤمنين (عليه السلام) ما بين الخورنق إلى الحيرة وإلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم، فقيل له يا أمير المؤمنين تشتري هذا بهذا المال وليس ينبت خمطاً؟! فقال: “سمعتُ من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول كوفان يرد أولها على آخرها يمشي على ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب”(2).

وقد أعرب عن نزعة الشوق إلى أن تكون النجف المثوى الأخير في جملة من قصائد نظمتها في النجف ومن ذلك:

 

رمال الغريين يالوحة

تشد الخيال إلى الأروعِ

إذا مر طيفك رق الخضيل

وأوحى إلى الذهن أن يربعي

يضمخني بالشذى والسنا

ويحملني لمدىً أرفعِ

فاسرح بالأفق بين النجوم

وأرحل بالأسرع الأسرعِ

وأهبط حيث مسحت الثرى

بخدي في الوضع والوضعِ

وحيث أتوق إذا ما رحلت

بأن يك في عفره مضجعي

فثم خزين من الذكريات

لو الرمل يذكرها أو يعي

هناك المنى والهوى والشباب

ومهد أصولي والأفرعِ

 

____________

1- السيد جعفر بحر العلوم: تحفة العالم في شرح خطبة المعالم، قسم النجف، طبعة النجف.

2- فرحة الغري، ص: 20، طبعة النجف.

فيا دار ليلى حنين إلى

رباك يترجم بالأدمعِ(1)

لقد لعب هذا الوادي ـ وادي السلام ـ دوراً هاماً في مكانة النجف موضوعياً وذاتياً، فمن حيث الذات يعيش في نفوس المؤمنين امنية غالية أن يكون هو المثوى لها لما له من مكانة رسمتها الروايات واللّه في خلقه شؤون، فهو تبارك وتعالى له اختيارات في البقاع والأشخاص وفي الأوقات كما هو مدون في التراث الإسلامي ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(2). وأما من حيث الموضوعية فقد ضم هذا الوادي رفات مجموعة كبيرة من الملوك والوزراء والعظماء من مختلف بقاع الدنيا وكنموذج من هؤلاء عضد الدولة البويهي الذي أوصى أن يدفن في النجف عند الإمام علي (عليه السلام)، فدفن في الجانب الشمالي من الصحن بين القبر الشريف ومدخل الصحن المعروف بباب الطوسي وأمر أن تكتب على قبره هذه العبارة ” هذا قبر عضد الدولة وركن الملة أبي شجاع، أحب مجاورة هذا الإمام الطاهر لطمعه بالخلاص يوم يأتي كل نفس تجادل عن نفسها”(3).

وقد حفل أدب الوادي وهو الأدب الذي تناول وادي السلام من مختلف أبعاده ويشكل كمّاً ليس بالقليل ويحوي صوراً غاية في الروعة لما فيها من عظات وعبر وحبذا لو افرد له مؤلف خاص فانّه سيملأ زاوية كبيرة في الأدب الإسلامي، فيما حفل به بذكر هذا الجانب وهو كون وادي السلام يضم شرائح متنوعة، وفي ذلك يقول الشيخ علي الشرقي:

 

وكم كومة للترب من بعد كومة

معلّمة هذا الزعيم وذا الهادي

فذو الزهو خلّى الزهو عنه وقد مضى

وظلّت على الغبرا سيادة أسياد

 

____________

1- من دواويني المخطوطة.

2- سورة الملك، الآية: 14.

3- السيد جعفر بحر العلوم: تحفة العالم في شرح خطبة المعالم.

ولي في ذلك قصيدة:

 

فيا أيها الوادي الذي برماله

ينام غمار مهمل وقياصر

تكور فيه كل جيل بحفرة

فلخصت الأجيال تلك الحفائر

بها يستوي مَن مات من عهد آدم

ومَن مات من أمس فكل دواثر

ركائب أجيال تيممن ماجداً

يؤمل جدواه مقيم وزائر

 

وأنت ترى فيما مرّ من هذه اللمحات العابرة كيف جمعت هذه المدينة من الفضائل ما يكفي أحدها لرفع المكانة، فهي في البعد التاريخي خلفية حضارية ضخمة تتجذر في أعماق التاريخ وتضيء فيها أرقام لامعة من العظماء ويكفيها علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو امّة في فرد وهو غطاء يظللها بمجد لا حدود له.

وهي في البعد العلمي المدرسة الغنية بالعطاء والمتميزة والمستوعبة لأبعاد المعرفة، وهي في أبعاد القداسة مأوى أرواح المؤمنين وساحة حشرهم يوم يحشرون، وهي في بعد التراث حصن اللغة العربية وخميلها العامر باضمامات الأدب المشرق والفكر الناضج والتطلع الصاعد. وهي وهي الخ… وهي بعد ذلك كله جزء من الوطن الغالي الذي نضم عيه جوانحنا، ونتمنى له أن لا يتدنى أصيله عن مجده المشرق ولا يخبو وهجه بالمشاعر ولا تنال من مجده عوادي الأيام ولا يصبح مجرد ذكرى في وعينا بل وجهاً نغاديه ونراوحه وحمية في نفوسنا وألقاً في عيوننا.

وإليك يا بلدي، يا رملا درجنا على عفره أطفالا ونشقنا فيه رائحة الأم الرؤوم، ويا أفقاً شفّ حتى مازج الأرواح ولمعت فيه طيوف الحضارة في تألق

أخّاذ، ويا معهداً أغنى موائد المعرفة بعطاء جزيل ورفد المسيرة الإسلامية بما يسدد الخطى، يا روح علي (عليه السلام) ومزاج آل محمّد وهدى السائرين على دربهم، يا فقه القرآن وآثار عدل القرآن، يا ومضات القرائح التي تخلب الألباب بأمواجها الزاهية، ياكل هذا إليك على البعد:

 

فداء رمالك لا تقطعي

حديثك للعين والمسمع

صليني به بالمسا والصباح

وفي يقظاتي وفي مهجعي

فإني بايقاعه والرؤى

أهوّم في عالم ممتع

وهل تيم القلب مثل الديار

هوى يوقظ الجمر بالأضلع

فلو عشت أشرب من نبعه

بألف فم فيّ لم أشبع

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.