الجمعة , 29 مارس 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » النجف الأشرف في ذاكرة الزمان

النجف الأشرف في ذاكرة الزمان

najaf1

المبحث الأول

النجف اسماً، وتاريخاً موجزاً، وحضارة

 تأليف السيد عبد الهادي الحكيم

المصدر: مكتبة الروضة الحيدرية

تعريف

تضم مدينة النجف الأشرف جامعة من أقدم الجامعات الإسلامية التي رفدت العلوم والمعارف بالغنى الفكري والتنوع المعرفي من خلال ما قدمته في ماضيها العريق، ولا تزال تقدمه في حاضرها المشرق من رؤى ونظريات وآراء واجتهادات وبحوث ودراسات جعلتها وتجعلها محط أنظار المفكرين والدارسين من رواد العلم والحقيقة.

فالحوزة العلمية في النجف، وجامع الأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وجامعة القرويين في المغرب، شكلت وتشكل المربع الصلب لقاعدة عريضة من النظم الفكرية والأنماط المعرفية وطرائق التدريس وأصالة التنظير التي أنتجت المئات من المفكرين والعلماء والأئمة والفقهاء والرواد ممن كان لهم الدور الفاعل في بناء ماضي الأمة الإسلامية المعرفي الموصول بحاضرها الراهن والمؤسس لمستقبلها الحضاري والحياتي البادي في التشكل.

 

النجف في المعجم اللغوي

ورد في الصحاح للجوهري أن “النجف والنجفة بالتحريك مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد والجمع نجاف” (1) وفي لسان العرب أن “النجفة شبه التل ومنه حديث عمرو بن العاص أنه جلس على منجاف السفينة قيل هو سكانها الذي تعدل به سمي به لارتفاعه (…) قال الأزهري: والنجفة التي بظهر الكوفة وهي كالمسناة تمنع مسيل الماء أن يعلو منازل الكوفة ومقابرها”.(2)

 

أسماء النجف الأخرى

للنجف الأشرف أسماء عديدة أخرى عرفت بها أقل شهرة من (النجف)، وإن كان بعضها متداولا منها: الطور، والظهر(“أي الظهر المسمى نجد العذري وهو الموضع المعروف في ظهر الكوفة وذلك الظهر كان يمتد من الحيرة الى بارق الواقعة في البادية بين النجف وكربلاء”(3))، والجودي، والربوة (أي ما ارتفع من الأرض)، والغري (ومعناه البناء الجميل الجيد العمارة)، وقد كانا (غريين) فهدم أحدهما وبقي الآخر، ولعل هذا هو منشأ تسمية النجف باسم (الغري) بالإفراد، ومما يشهد لذلك ما ورد من أنه مرّ الشاعر القديم معن بن زائدة الشيباني بالغريين فرأى أحد البنائين الجميلين الراسخين قد هدم ولم يبق له أثر فأنشد قائلا:

 

 

لو كان شيء له أن لا يبيد على
فـفرّق الدهـر والأيام بينـهما

طول الزمان لما باد الغريانِ
وكل إلفٍ الى بيـنِّ وهجرانِ(4)

 

كما ورد ذكر الغري بالإفراد أيضا في شعر الشعراء من أمثال سفيان بن مصعب العبدي المتوفي في حدود سنة 120 أو سنة 178 هجرية حيث قال:

 

بلِّغ سلامي قبراً (بالغريّ) حوى
واجعل شعارك لله الخشوع به
أسمع أبا حسن إن الأولى عدلوا

 

أوفى البرية من عجم ومن عربِ
ونادِ خير وصيٍ صنو خير نبي
عن حكمك انقلبوا عن خير منقلب(5)

 

 

كما ورد ذكر الغري بالإفراد أيضا في شعر الشريف الرضي المتوفى سنة 406 هجرية حيث قال:

 

سقى الله المدينة من محلٍّ
وجادَ على البقيع وساكنيهِ
وأعلامَ (الغريّ) ومااستباحت
وقبراً بالطفوفِ يضمُّ شِلواً
وسامرا وبغداداً وطوساً

 

لبابَ الماء والنطفِ العذابِ
رخيَّ الذيلِ ملآنَ الوطابِ
معالمها من الحَسَبِ اللُّبابِ
قضى ظمأ إلى بردِ الشرابِ
هطولَ الودقِ منخرقَ العبابِ(6)

 

 

ومن أسماء النجف الأخرى أيضا: المشهد (ومعناه مجمع الخلق ومحتشدهم) يقول الشاعر والكاتب العباسي أبو إسحاق الصابي من قصيدة له يمدح بها عضد الدولة المتوفى سنة 372 هجرية إثر زيارته لمرقد الإمام علي (ع) في النجف الأشرف:

 

توجهتَ نحو(المشهدِ) العَلَمِ الفردِ
تزورُ (أميرَ المؤمنينَ) فيـا لـهُ

على اليُمنِ والتوفيق والطائر السَعدِ
ويـا لكَ من مجدٍ منيخٍ على مجْدِ

 

ومنها: وادي السلام (ويراد به مقبرة النجف الكبرى أطلاقا للجزء على الكل؛ لأن الأجساد والأرواح بعد الدفن تنعم بتربة هذا الوادي بالسلام والصفاء)، وهناك روايات عديدة في فضل الدفن في هذه البقعة المقدسة والتختم بدُرِّها ومجاورة الإمام العادل الذي تشرفت به أرضها، وعلى ذلك شواهد كثيرة من السنة المأثورة، فقد ورد عن الإمام علي (ع) أنه نظر الى (ظهر الكوفة) أي النجف فقال: “ما أحسن منظرك وأطيب قعرك، اللهم اجعل قبري بها”(7).

ومن أسماء النجف الأخرى كذلك: بانقيا (وهي اسم لناحية من نواحي الكوفة اشتراها النبي إبراهيم الخليل (ع) من ملاّكها لتدخل في ملكه وحيازته، راغبا في أنّ ما يحشر منها يكون في ملكه. فقد ورد عن ياقوت الحموي في معجم البلدان بأن بانقيا أرض النجف دون الكوفة. (8)

ويذهب الشيخ جعفر محبوبة الى أن “هذا الاسم عام لغير البقعة أيضا مما قاربها”(9)، مستندا الى ما ورد في أخبار خليل الرحمن (ع) من أن إبراهيم (ع): “خرج من بابل ومعه ابن أخيه لوط فنزل بانقيا، وكان أهلها يُزَلزلون في كل ليلة  فلما بات عندهم إبراهيم لم يزلزلوا، فقال لهم شيخ بات عنده إبراهيم (ع): والله ما دُفع عنكم إلاّ بشيخ بات عندي، فإني رأيته كثير الصلاة، فجاؤه وعرضوا عليه المقام عندهم وبذلوا له البذول، فقال لهم: لمن تلك الأرض؟ يعني النجف، قالوا: هي لنا، قال: فتبيعونيها؟ قالوا: هي لك، فوالله ما تنبت شيئا. فقال: لا أحبها إلاّ شراء، فدفع اليهم غنيمات كنّ معه بها – والغنم يقال لها بالنبطية (نقيا) – فقال أكره أن آخذها بغير ثمن” (10).

ومن أسماء النجف كذلك: اللسان (أي لسان البر). وقد كان يقال لظهر الكوفة اللسان، وما ولي الفرات منه الملطاط (11).

وقد وردت على ألسنة أئمة أهل البيت (ع) بعض من أسماء النجف المتقدمة مثل: وادي السلام، وبانقيا، واللسان، والغري، والغريين، والظهر، والنجف. بيد أن اسم النجف هو الأكثر شهرة بين الكتاب والمؤرخين، بل الناس بعامة وبخاصة في العصور المتأخرة. ومما ورد من ذكر النجف على السنة أهل البيت (ع) ما جاء على لسان الإمام محمد بن علي الباقر (ع) من أنه: “خرج (علي بن الحسين) سلام الله عليه متوجها الى العراق لزيارة أمير المؤمنين وأنا معه وليس معنا ذو روح إلاّ الناقتين، فلما انتهى الى النجف من بلاد الكوفة، وصار الى مكان منه. فبكى حتى اخضلّت لحيته بدموعه” (12).

 

الطبيعة الخلابة لأرض النجف

كانت العرب تسمي أرض النجف قديما بـ (خدّ العذراء)، حيث تنبت أرضه المعشبة من أزهار الطيب أشذاها وأحلاها كالخزامى والأقحوان والشيح والقيصوم والزعفران وشقائق النعمان وغيرها.

ولشقائق النعمان وتربة النجف علاقة حميمة، فقد روي عن ابن الجوزي قوله في كتابه الأذكياء: “مر النعمان يوما بالشقائق فأعجبته فقال: من نزع من هذا شيئا فانزعوا كتفه، قال: فسميت شقائق النعمان” (13).

لذلك وغيره فقد غدت النجف وأرضها متنزها للساسانيين والمناذرة قبل الإسلام، والعباسيين ومن تبعهم بعده، فقد أورد الطبري أن النعمان بن المنذر ذكر “أنه جلس يوما في مجلسه من الخورنق فاشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار، مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، وهو على متن النجف في يوم من أيام الربيع فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار” (14).

وذكر صاحب كتاب المناقب المزيدية: ان كسرى أقطع النعمان عدة قطائع بينها (طباق السلالم) وأنها معروفة بأرض النجف في غرب بلاد تستر، فكان خراج ذلك للنعمان في كل سنة مائة ألف درهم .

أما بعد الإسلام وبخاصة زمن تقدم الحضارة وشيوع الترف عند الحكام والأمراء والأغنياء فقد بهرت طبيعة أرض النجف ألباب بعض من خلفاء بني العباس تلك الآونة ومن أقدمهم السفاح والمنصور وهارون الرشيد، فبنوا القصور المشرفة عليها كقصر أبي الخصيب والقصر الأبيض وغيرها ليتنزهوا بها أيام الربيع(15).

 

الشعراء الذين افتتنوا بأرض النجف من قدماء ومحدثين

لقد افتتن فتغنى بأرض النجف وجمالها من الأدباء والشعراء الكثير، منهم مثلا: الشاعر المغني إسحاق بن إبراهيم الموصلي المتوفى سنة (235) هجرية الذي أنشد الخليفة العباسي الواثق خلال زيارته للنجف الأشرف قصيدته التي مطلعها:

ياراكب العيس لا تعجل بنا وقفِ

 

وقال في البيت الخامس منها:

ما إن أرى الناس في سهل ولاجبل
كأنَ تربته مسك يفوح به
قد حفَّ برٍّ وبحر فهو بينهما
وبين ذاك بساتين يسيح  بها
وما يزال نسيم من أيامنه
يلقاك منه قبيل الصبح رائحة
لو حلَّه مدنف يرجو الشفاء به

نحيِّ داراَ لسعدى ثم ننصرفِ

 

 

أصفى هواء ولا أعذى من النجف
أو عنبر دافه العطار في صدف
فالبر في طرف والبحر في طرف
نهر يجيش مجاري سيله القصف
يأتيك منها بريّا روضة أنف
تشفي السقيم إذا أشفى على التلف
إذاً شفاه من الأسقام والدنف(16)

 

 

ومنهم الشاعر محمد بن عبد الرحمن الثرواني (أبو نؤاس الكوفة) الذي يقول بدارة مريم من أرض النجف:

 

بدارة مريم الكبرى
بقصر أبي الخصيب المشرف
فأكناف الخورنق
الى النخل المكمم
 

وظل فنائها فقفِ
الموفي على النجفِ
والسدير ملاعب السلف
والحمائم فوقه الهتف(17)

 

 

ومنهم كذلك من قدماء الشعراء على سبيل المثال لا الحصر:

الفرزدق، الكميت، والعبدي، والبحتري، وابن حماد، والمتنبي، والصاحب بن عباد، والشريف الرضي، وأبو إسحاق الصابي، والحسين بن الحجاج، ودعبل الخزاعي، ومان الموسوس، وابن أبي الحديد، وعلي بن عيسى، وكثير غيرهم.

أما من ذكر أرض النجف من الشعراء المعاصرين فأكثر عددا، ولو استعرضت من ذكرها منهم في القرن الماضي فقط لما وفيت، فكيف إذا توسعت؟ بيد اني سأستعرض بعضا ممن ذكر أرض النجف في وهو من شعراء النجف في القرن المنصرم فقط من أمثال الشعراء:

السيد محمد سعيد الحبوبي، والسيد جعفر الحلي، والسيد إبراهيم الطباطبائي، والشيخ جواد الشبيبي، والشيخ جعفر النقدي، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ محمد جواد الجزائري، والشيخ محمد السماوي، والسيد باقر الهندي، والسيد رضا الهندي، والشيخ أغا رضا الأصفهاني، والشيخ عبد الحسين الحياوي، والشيخ عبد الحسين الحلي، والشيخ جواد الشبيبي، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والشيخ باقر الشبيبي، والشيخ عبد المهدي مطر. والشيخ علي الشرقي، والدكتور عبد الرزاق محي الدين، والشيخ محمد الخليلي،والسيد محمود الحبوبي، والشيخ محمد تقي الجواهري، الدكتور السيد مصطفى جمال الدين، والدكتور الشيخ أحمد الوائلي، والشيخ محمد جواد السهلاني، والسيد جواد شبر، والشيخ عبد الغفار الأنصاري، والشيخ محمد علي اليعقوبي، والشيخ عبد الغني الخضري، والشيخ عبد المنعم الفرطوسي، والسيد محمد بحر العلوم، والشيخ محمد حيدر، والأستاذ جميل حيدر، والأستاذ حميد فرج الله، والسيد صالح بحر العلوم، والسيد حسين بحر العلوم، والدكتور صالح الظالمي، والأستاذ مجمد جواد الغبان، والشيخ محمد حسن آل ياسين،الأستاذ عبد الغني الخليلي، والدكتور عبد الصاحب الموسوي، والدكتور الشيخ محمد حسين الصغير، والشيخ أحمد الدجيلي، والأستاذ صادق القاموسي، والدكتور حازم الحلي، والدكتور زهير غازي زاهد، والدكتور مسلم الجابري، والدكتور محمود البستاني، والسيد هاشم الهاشمي، والسيد عامر الحلو، والشيخ إبراهيم النصيراوي، والسيد هاشم الطالقاني، والدكتور مجيد ناجي، والأستاذ مدين الموسوي، والشيخ عبد الله الخاقاني، والشيخ محمد رضا آل صادق، والدكتور محمد حسين الطريحي، والأستاذ عدنان الصائغ، والسيد مهند جمال الدين. وكاتب هذه السطور. وغيرهم ممن يصعب إحصاؤهم وتعداد أسمائهم في مثل هذا المختصر.

 

النجف دار الأنبياء ومثوى الإمام علي (ع)

في مدينة النجف الأشرف مرقد الإمام العادل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وبه ازدادت الغري شرفا على شرفها، ونالت قدسية ومكانة مشهودة تغبطها عليها حواضر المدن وبقاعها الأخرى.

ولقد كانت مدينة النجف قبل احتضانها لمرقد الإمام علي (ع) داراً للأنبياء، فقد ورد في تاريخها ذكرٌ للنبيّين آدم ونوح (ع)، وبها كان منزل النبي إبراهيم (ع) واليها كانت هجرته، وفي النجف الأشرف أيضا ذكر لمرقد النبييّن هود وصالح (ع)(18).

 

قصور النجف القديمة ودياراتها

كانت مدينة النجف قبل تشرفها باحتضان مرقد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عامرة مأهولة بأهلها العرب، ذات حضارة عربية وشعر وأدب وعمران وبناء أيام التنوخيين واللخميين والمناذرة، وفيها قصور جذب جمالها وبراعة هندستها أنظار السكان القاطنين قربها والملوك والأمراء والشعراء والأدباء والمستطرقين والمؤرخين والرحالة على السواء، ومن هذه القصور (قصر أبي الخصيب) الذي وصفه المؤرخ الشابستي صاحب كتاب الديارات بأنه: “أحد متنزهات الدنيا”، و(قصر السدير) ذو القباب المحببة الثلاث وقد بناه ملوك اللخميين الذين حكموا الحيرة ما بين عامي(268- 632م)، و(قصر الخورنق) الفخم الذي يقترن اسمه غالبا بقصر السدير.وقصور أخرى هي: دومة الحيرة، والقصور الحمر، وقصر مقاتل أو قصر بني مقاتل، وقصر ابن مازن، وقصر الطين، وقصر بني بقيلة، وقصر العذيب والصنبر، والقصر الأبيض، وقصر الغرس، وقصر الزوراء، وقصر العدسيين(19).

وفي النجف أيضا آثار لأديرة عديدة أهمها: (ديارات الأساقف) وهي ديارات وقصور باذخة يشقها نهر يسمى نهر (الغدير)، يقع عن يمينه قصر أبي الخصيب، وعن شماله قصر السدير، و(دير الأسكون)، و(دير هند) و(دير الحريق)، و(دير مارت مريم أو دير مريم)(20) المشرف على النجف، الذي قال عنه المؤرخ الجغرافي ياقوت الحموي بأنه “دير قديم بناه آل المنذر بنواحي الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر أبي الخصيب”، و(دير اللج) الذي كان من أجمل الديارات في الحيرة بناء وتخطيطا وحسن عمارة، وكان النعمان- كما يصور أبو الفرج الأصبهاني- يركب اليه كل يوم أحد من كل أسبوع، وفي كل عيد، ومعه أهل بيته وندماؤه، وهم يلبسون الديباج المذهب، وعلى رؤوسهم الأكاليل المذهبة، وفي مناطقهم الزنانير المفصصة بالجواهر الثمينة، وفي أيديهم أعلام فوقها صلبان، حتى إذا أتموا صلاتهم انصرفوا الى منطقة مشرفة على النجف، ليستمتعوا ويمتعوا أبصارهم بما قل أن تشهده نواظرهم من قبل.

وقد ورد ذكر بعض هذه الأديرة في شعر شعراء بغداد والكوفة وغيرهما تلك الآونة كالشاعر إسحاق الموصلي، ومحمد بن عبد الرحمن الثرواني، وبكر بن خارجة الكوفي وأمثالهما، ومن هذه الأديرة: دير (ابن مزعوق) أحد المتنزهات المعروفة، ودير (مار فاثيون) الموصوف بالجمال الربيعي، ودير (حنََة) المعروف بكثرة الخضرة والرياض وغيرها.

وهناك في نجف تلك الآونة غير هذا المعلم أو ذاك، وغير هذا الدير أو ذاك، مما لا يتسع المجال لذكره هنا.

 

سكان النجف العرب قبل الفتح الإسلامي

ينصّ المؤرخون على أن النجف قبل الفتح الإسلامي وأثناءه كان يعج بسكانه العرب- كما تقدم- وهم غالبا أهل زراعة ورعي وأدب وشعر وفن وسمر، فقد ورد في كتب المؤرخين وحكاياهم وفي دواوين الشعراء الكثير مما يشير الى أهمية الشعر في بقاع الحيرة ” التي بناها الملك الكلداني نبوخذ نصر الثاني (562- 604) ق. م”(21) “على ثلاثة أميال من موضع الكوفة على بحيرة النجف وعلى حدود البادية”(22) لتصبح عاصمة المناذرة  ومنها “كان يمتد نفوذهم على المساحات الواسعة شرق الجزيرة العربية، وقد شجع تنامي مملكة المناذرة الساسانيين على الاستفادة منها ظهيرا سياسيا حليفا لصد غارات القبائل العربية”(23) أما أهلها منذ القرن الثالث الميلادي فهم ” ثلاثة أصناف (تنوخ): وهم العرب أصحاب المظال وبيوت الشعر ينزلون غربي الفرات، و(العباد) وهم السكان الأصليون الذين سكنوا المدينة وبنوا فيها، و(الأحلاف) وهم النازلون بالحيرة من غير هؤلاء جميعا، وقد سموا بذلك لتحالفهم مع العباد. وهؤلاء السكان جميعا من العرب (…) وقد وفد على ملوك الحيرة كبار الشعراء وفحولهم فأنشدوا الملوك خاصة عمرو بن هند ونادموهم، وعاشوا في نعمائهم طويلا، فعمرت بهم مجالس الشعر إنشاء وإنشادا ونقدا في الحيرة وضواحيها، وظلت تجلجل في أروقة المناذرة أصوات الشعراء أمثال النابغة الذبياني، وطرفة بن العبد البكري، والمسيب بن حلس، وعلقمة بن عبدة الفحل، والمرقش الأصغر، وعمرو بن كلثوم، وعبيد بن الأبرص، ولقيط بن معمر، وأوس بن حجر، والمثقب العبدي، وسلامة بن جندل التميمي وسواهم على مرّ الليالي و كرّ الأيام حتى نهاية مملكة الحيرة “(24).

“وربما سبق الحيريون الى إنشاء أول مجمع للأدب الجاهلي إذا صح ما رواه علماء الأدب من أن المعلقات جمعت في الحيرة وأن النعمان بن المنذر أمر فنسخت له أشعار العرب في الكراريس ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما وثب المختار بالكوفة سنة 66 قيل له إن تحت القصر كنزا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة وإذا صح ما يروى عن هشام بن الكلبي من أنه استخرج أخبار ملوك الحيرة عن بعض صحفهم فعلى هذا كان في الحيرة تدوين وكانت صحف وكراريس وبالجملة كان أدب جاهلي وكانت ثقافة حيرية عربية على الإجمال ومما لا شك فيه أن الخط الكوفي المعروف إنما تفرع عن الخط الحيري الذي انتشرفي بلاد العرب في أواخر أدوار الجاهلية ولا بد مع مخطوطات ومكتوبات”(25)

ولعل تلك الخلفية التاريخية ذات الثراء المترف للشعر والشعراء في مدينة النجف وضواحيها والكوفة ومجاسها قد ألقت بظلالها على أبناء النجف على مرّ العصور اللاحقة، فعمرت مجالس الأدب والشعر العربي في النجف منذ ذلك التاريخ وليوم الناس هذا بشكل ملفت للمتأمل. وانطبعت ألسنة ومسامع النجفيين بأشعار ولغة العرب نحوا وصرفا ولهجة وجرسا ” وقد فطن بعض السواح من المستعربين الى أن لهجة النجفيين من أفصح اللهجات العربية في هذا العصر وقد سمعت منهم ذلك”(26) كما يقول الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس المجمع العلمي العراقي.

 

النجف في كتب التاريخ الإسلامي

لقد ورد ذكر أرض النجف أو مسمى من مسمياتها في كتب التاريخ الإسلامي من أمثال: تاريخ اليعقوبي، وتاريخ الطبري، وفتوح البلدان للبلاذري، والكامل في التاريخ لابن الأثير وغيرها، خلال فترة الفتوح الإسلامية وبعدها وبخاصة ما كان منها أيام فتح الحيرة عام 12 هجرية حيث كانت أرضه وكوفتها معسكرا للجيش الإسلامي الفاتح. ثم ظهراً لمدينة الكوفة عاصمة الخلافة الإسلامية في زمن خلافة أمير المؤمنين الإمام العادل علي بن أبي طالب(ع)، ومن بعده زمن خلافة خليفته الإمام الحسن بن علي(ع). كما ورد ذكر أرض النجف زمن المختار الثقفي وفي حروب الخوارج(27).

 

طابع النجف وطباع أهله وتقاليدهم العربية الأصيلة

مما عرفت وتعرف به مدينة النجف الأشرف ان سماتها عربية صميمية واضحة المعالم،جرّاء تأثرها الى حد كبير بسمات سكان البادية المطلة عليها وطرائق معيشتهم وأعرافهم، فعادات النجفيين وتقاليدهم، وطباعهم ومظاهر حضارتهم،وهويتهم وأخلاقهم، وقيمهم ومرتكزاتهم، ولغتهم وما يستتبعها من شعر وفن وبلاغة وفصاحة وأدب وتراث، لا زالت تطبع المدينة كما كانت في السابق بطابعها العربي الأصيل.

“ويفسر موقع النجف على حافة الصحراء التأثيرات العشائرية العربية القوية على المدينة. وقد وجدت سمات النجف هذه تجسيدها في حقيقة أن عوائل عربية هامة من العلماء في المدينة نسبت أصولها الى عشائر مجاورة (…) والأكثر من ذلك أن النجف عام 1918 م كانت واقعة تحت نفوذ كتلتين عربيتين (…) ويتضح طابع النجف العشائري القوي حينذاك من مضمون دستور حي البراق الذي وضع بعد تولي الشيوخ الأربعة إدارة المدينة في عام 1915م وتحول ولاء أبناء العشائر التقليدي لعشيرتهم وشيخهم في النجف الى ولاء متين يدين به سكان البراق لحيّهم وشيخه كاظم صبّي. يضاف الى ذلك ان رابطة الدم التي وحدت سكان الأحياء والتشديد على الشرف والإشارة المتكررة الى ديّة القتيل بوصفها العنصر الذي ينبغي استخدامه في حل النزاعات كانت تبين مدى هيمنة الأعراف العشائرية على الروح المدنية النجفية حتى زمن متأخر هو القرن العشرين ” (28)

وأرض النجف تاريخيا أرض خصبة كثيرة الزرع والخضرة، وقد تقدم أن الملك كسرى أقطع النعمان عدة قطائع بأرض النجف فكان خراج ذلك للنعمان في كل سنة مائة ألف درهم، ويشير المؤرخون الى أن المدينة كان يسكنها سنة 338 هجرية ما يقرب من ستة آلاف ساكن كلهم من الشيعة وبينهم من العلويين ألف وسبعمائة علوي.

النجف كعبة الزائرين والقاصدين

وقد أمّ ويؤم النجف الأشرف لأهميتها الدينية والدنيوية في عصرنا الحاضر وما قبله الملايين على مدار العام زوارا وسواحا وطلابا وباحثين حتى لضاقت وتضيق بهم مساحات المدينة المفتوحة في المناسبات الدينية، وإن اتسعت لهم مضايف وبيوت وبرانيات النجف الأشرف المعروفة بالكرم والضيافة، ومن  قبلها اتسعت لهم عيون النجفيين وقلوبهم، وقد ورد في دليل المملكة العراقية الرسمي لسنة 1935-1936م أن مدينة النجف الأشرف ” أصبحت كعبة القصاد ومنهل العلماء، وهي اليوم في العراق كالأزهر في مصر يخرج منها في كل سنة عدد كبير من دعاة الدين ورجال الفضل والعلم الغزير (…) وقد دلت الإحصاءات الرسمية على أن متوسط عدد الزائرين للنجف في المواسم المخصوصة يتجاوز نصف مليون نسمة”(29)، وإن كان العدد يفوق ذلك بكثير حسب تقديرات السكان المحليين تلك الآونة، أما اليوم فيصل عدد زوار النجف الأشرف الى الملايين سنويا.

 

النجف موطن الحوزة العلمية والمرجعية الدينية العليا

كانت النجف الأشرف منذ ما يزيد عن ألف عام ولا تزال موطن المرجعية الدينية العليا لأتباع مذهب أهل البيت (ع) وموئل شيعتهم في العالم يرجعون اليها للتزود بعلوم الشريعة المقدسة وآدابها متى ما احتاجوا الى معرفة أمر ما أو أرادوا استيضاح حكم شرعي لمسألة ما من مسائلهم الحياتية المتكثرة. “فمنذ بداية القرن الثالث للهجرة ظهرت شخصيات علمية في النجف مثل شرف الدين بن علي النجفي وأحمد بن عبد الله الغروي وابن شهريار وقد يدل على وفرة طلاب العلم في النجف كثرة ما بذله عضد الدولة في القرن الرابع على علماء النجف وفقهائها، ويظهر أن المدرسة النجفية أو الهيأة العلمية لم تتكامل وتكون ذات حلقات ونظم علمية إلاّ في القرن الخامس للهجرة على عهد الشيخ أبي جعفر بن الحسن المعروف بالطوسي الذي هاجر من بغداد الى النجف بهيأة علمية فانتقلت بهجرته مدرسة كبرى الى النجف”(30)

ومنذ ذلك التأريخ والنجف الأشرف موئلا لطلاب العلوم الدينية يفدون اليها من بلدانهم ومدنهم المختلفة للدراسة والتحصيل حتى إذا أتموا دراستهم أو تزودوا بما أرادوه منها قفلوا راجعين الى أماكنهم ليفقهوا الناس بأمور دينهم وليبلغوهم أحكام شريعتهم بعد سنوات دراسية عديدة قضوها بالبحث والنظر من خلال مراحل هي في العادة ثلاث: مرحلة المقدمات ومرحلة السطوح ومرحلة البحث الخارج، ولكل مرحلة من هذه المراحل علومها وكتبها وطرائق تدريسها الخاصة بها.

 

مراحل الدراسة في الحوزة العلمية

لو ألقيت نظرة عجلى على المراحل الدراسية التي يجتازها طالب العلم في جامعة النجف الاشرف وحوزتها العلمية لوجدتها كما يأتي:

1- مرحلة المقدمات: وتدرس فيها عادة العلوم المساعدة للتخصص في الفقه مع مقدمات علم الفقه، حيث يدرس الطالب في مرحلته الأولى علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، ففي النحو والصرف يدرس الطالب عادة كتاب (الأجرومية)، ثم يثني بكتاب (شرح قطر الندى وبلّ الصدى)، ثم يعقبه بدراسة كتاب (شرح ألفية ابن مالك) لابن الناظم أو لابن عقيل، ثم ينتهي بكتاب (مغني اللبيب) لابن هشام الأنصاري، وأحيانا ب(شرح النظّام على شافية ابن الحاجب).

وفي علم المنطق يدرس الطالب المبتديء كتاب: (المنطق) للشيخ محمد رضا المظفر، و(حاشية ملاّ عبد الله على التهذيب)، وأحيانا (شرح الشمسية) للقزويني.

وفي مقدمات علم الفقه يدرس الطالب في هذه المرحلة: رسالة عملية لأحد المراجع المعاصرين تتضمن المهم من أحكام فقه العبادات، ثم المهم من أحكام فقه المعاملات، ومن أشهر هذه الكتب التي تعرف باسم الرسائل العملية: كتاب (منهاج الصالحين) بأجزائه الثلاثة للسيد علي الحسيني السيستاني، أو مثله للسيد محمد سعيد الحكيم، ثم يعقبه الطالب بدراسة كتاب (شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام) بأجزائه الأربعة للمحقق الشيخ جعفر الحلي.

أما في علم الكلام فيدرس الطالب: (شرح الباب الحادي عشر) للمقداد السيوري، ثم كتاب (كشف المراد في تجريد الاعتقاد) للعلامة الحلي.

وفي الفلسفة الإلهية والمنطق والحكمة يدرس الطالب (شرح منظومة السبزواري).

إضافة الى دروس محبذة أحيانا تستهوي الطالب أو يحثّه أستاذه عليها، وقراءات مطلوبة دائما منه في معارف شتى من أمثال علوم: التفسير، والحديث، والرجال، والتاريخ، والسير، وفنون الأدب العربي وتاريخه، ودواوين الشعر، وكتب ثقاقية عامة ينتقيها الأستاذ لطلابه ويحثهم على مطالعتها والاستفادة منها.

2- مرحلة السطوح: وتتركز دراسة الطالب في هذه المرحلة على دروس الاختصاص من فقه وأصول فقه، وقد تتجاوزهما الى غيرهما كالتفسير وعلومه مما يحتاجة الطالب المقبل على التخصص في علوم الشريعة المقدسة. فيدرس الطالب في علم الفقه الكتب الفقهية التالية:

(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) المتن للشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي العاملي، والشرح للشهيد الثاني الشيخ زين الدين الجبعي العاملي. ثم كتاب (المكاسب) للشيخ مرتضى الأنصاري.

ويدرس طالب الحوزة العلمية في أصول الفقه: كتاب (معالم الدين) للشيخ حسن العاملي، ثم كتاب (أصول الفقه) للشيخ محمد رضا المظفر، وأحيانا كتاب (قوانين الأصول) لأبي القاسم الجيلاني، ثم كتاب (الفصول في الأصول) للشيخ محمد حسين الحائري، أو كتاب (كفاية الأصول) للشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني، وهو الغالب، ثم كتاب (فرائد الأصول) المشهور باسم (الرسائل) للشيخ مرتضى الأنصاري.

3- مرحلة البحث الخارج: ويدرس الطالب في هذه المرحلة التخصصية،علوم الفقه وأصوله بشكل مركز، وقد يضم اليهما دراسة آيات الأحكام من كتاب الله الكريم دراسة إستدلالية معمقة، كما قد يدرس طالب البحث الخارج علم القواعد الفقهية دراسة تفصيلية، وربما يتعمق في دراسة الفلسفة وغيرها من الدروس الأخرى التي يرتأي الطالب حاجته اليها كباحث متأن في عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

يقول الدكتور فاضل الجمالي الباحث المتخصص ورئيس وزراء العراق الأسبق في بحث ميداني له عن جامعة النجف الدينية في شهر تشرين الثاني من عام 1957م: “لقد درست أغلب نظم التعليم الجامعي في الغرب، وزرت الجامعات الألمانية والبريطانية والفرنسية وجامعة أكسفورد وكامبرج، وتلقيت تعليمي في الجامعات الأمريكية، إلاّ أنه ما من جامعة من هذه الجامعات حتى الجامعات الألمانية تستطيع أن تفخر في حرية التعليم بما يضاهي حرية التعليم والعمق في جامعة النجف، والتي تطبع شخصية المنتسبين اليها بطابعها المتميز. فالنظام التعليمي لا يخضع لنفوذ الدولة،ولا يموّل من قبلها، وبالرغم من وجود (24) مدرسة علمية فإنه لا توجد هيأة خارجية أو سلطة تسيطر عليها أو تقوم بإدارتها، كما لا يوجد رؤساء أو عمداء أو أساتذة، وإنما يستطيع أي فرد مهما كان مستواه الثقافي أن ينضمّ للمدرسة إذا استطاع أن يجد له مكانا للإقامة مادامت لديه الرغبة في الدراسة، كما أن القانون الذي يدير هذه الجامعات وينظمها هو فقط الوازع الديني “(31).

 

أماكن الدراسة الحوزوية في النجف الأشرف

تتوزع أماكن دراسة طلاب الحوزة عادة وتتنوع بين أماكن عدة، فمن غرف الصحن الشريف وأواوينه الأربعة والأربعين – وأكثرها ارتيادا منهم إيوان السيد الحبوبي، وإيوان السيد اليزدي – الى الجوامع وقد تجاوزت مساجد وجوامع النجف اليوم التسعين جامعا ومسجدا، ولعل من أقدم هذه الجوامع التي اتخذت مراكز للعلم والبحث والمحاضرة جامع (عمران بن شاهين) الذي شيد في أواسط القرن الرابع الهجري ولا زال مكانا للبحث والتدريس، وقد كنت أشاهد فيه مرارا المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد محسن الحكيم (قدس) المتوفى عام (1970م) يلقي فيه أبحاثه العليا على طلبته، ومن الجوامع المهمة أيضا جامع (الخضراء) وهو من المساجد القديمة البعيدة العهد وقد كنت أشاهد فيه مرارا المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد الخوئي (قدس) يلقي فيه أبحاثه. ثم أعقبه في إلقاء المحاضرات على طلاب البحث الخارج المرجع الأعلى اليوم سماحة السيد السيستاني (دام ظله).

ومن الجوامع الشهيرة بالبحث والمناظرة كذلك جامع (الشيخ الطوسي) وكانت داراً لشيخ الطائفة الطوسي عندما هاجر الى النجف عام (448) هجرية ومنتدى للعلماء والدارسين في زمانه.وكذلك جامع (الشيخ الأنصاري).

ويعدُّ (جامع الهندي) كما يسميه النجفيون من أشهر جوامع الدرس والتدريس في النجف الأشرف اليوم ومن أكثرها ازدحاما بالحلقات البحثية والدراسة والتدريس، وقد تشرفت بالدراسة والمباحثة بين جنباته وقتا ما من دراستي الحوزوية القصيرة.

ويحدثنا المؤرخون أن الحاج خان محمد أحد صلحاء الهند في أوائل القرن الثالث عشر الهجري هو الذي شيد هذا الصرح العبادي والعلمي الكبير.

ومن أماكن الدراسة الحوزوية كذلك إضافة لغرف الصحن الحيدري وأواوينه وجوامعه المدارس الدينية وهي كثيرة منها مدرسة (جامعة النجف الدينية) و(مدرسة البغدادي)، ومن أماكنها كذلك الحسينيات ومنها (حسينية الشوشترية)

وربما يتخذ الأستاذ وطالبه من بيت الأستاذ أو بيت طالبه مكانا لدرسهما أو مناقشتهما العلمية وهو أمر شائع الى حدّ ما، وبخاصة في الظروف الأمنية الصعبة. وقد فتحت عينيّ على عمي المرحوم المجتهد المتقلب بين سجن صدام حسين وغربته القسرية سماحة السيد محمد حسين الحكيم (قدس)، وعلى سيدي الوالد (قدس)، وعلى عمي المرحوم المجتهد سماحة السيد حسن الحكيم  (قدس)، ثم على ابن عمي الشهيد السعيد السيد محمد رضا الحكيم، وهم يلقون دروسهم إما في مكتبة بيتنا العامرة الملحقة بقاعة المجلس الكبير(البراني) أو في قاعة المجلس الكبير نفسه الواقع في محلة الحويش في النجف الأشرف، وهكذا غيرهم ممن كنت أشاهدهم من أساتذة الحوزة العلمية ومدرسيها الكثير.

 

الأقسام الداخلية لطلاب الحوزة العلمية

في النجف الأشرف أكثر من ثمانين مدرسة حوزوية هي مكان لدراسة الطلاب وسكن مجاني لهم في آن واحد، حيث تتوفر فيها أغلب المستلزمات الضرورية لسكن متواضع مكون من غرفة صغيرة تتسع لأثاث الطالب وأمتعته وكتبه الدراسية وأوراقه وملازمه وما الى ذلك من شؤون حياته المختلفة، وبخاصة إذا كان من خارج مدينة النجف الأشرف، تخفيفا من عبء الدراسة ونفقاتها التي ربما تكون قاسية على الطالب من دون سكن مبذول له.

إن ” لكل مدرسة من مدارس النجف الدينية القديمة منها والحديثة أنظمة خاصة تعينها صيغةالوقف، لأن جميع هذه المدارس قد شيدت من الموقوفات التي وقفها العلماء، أو المحسنونعلى طلاب الدين، ولكل مدرسة شروط خاصة يقبل بموجبها اسكان الطلاب في غرفها.

وأغلب سكان هذه المدارس من الغرباء الذين يؤمون النجف بقصد الدراسة ووصول مرتبةالاجتهاد وقد يقضون فيها عشرات السنين حتى يبلغوا المرام ويعودوا إلى بلدانهممزودين بالإجازات التي يمنحها لهم أساتذتهم من المراجع الروحانية الكبرى.

ومنذ ألف سنة كما ذكرت والنجف مزدحمة بالطلاب الذين يأتون اليها من مختلف الأصقاع،كالهند، والتبت، والأفغان، وبلوجستان، وتركتسان، وقفقاسية، وإيران، وأفريقياالشرقية، ولبنان فضلا عن المدن العراقية العديدة وبخاصة في وقتنا الحالي.

ولقد أُحصيت المدارس في عام (1385) هجرية فكانت اثنتين وثلاثين مدرسة فيها اثنتان وخمسون وتسعمائة غرفة.

وربما تعد المدرسة (المرتضوية) ـ التي يظن أن الرحالة ابن بطوطة قد زارها حينما زار النجف سنة 737 هجرية ـ هي أقدم مدرسة من مدارس الحوزة العلمية في النجف الأشرف كما ورد ذكرها أيضا في نهاية مخطوطة لمحمد بن علي الجرجاني ختم كاتبها كتابتها سنة (720) هجرية وفرغ من نسخها في المدرسة المرتضوية في النجف الأشرف ناسخها حيدر بن علي بن حيدر سنة (762) هجرية، ثم تأتي بعدها (المدرسة السليمية) أو مدرسة المقداد السيوري الفقيه الحلي صاحب كتاب كنز العرفان في فقه القرآن المتوفى عام (828) هجرية حيث أنشئت في أوائل القرن التاسع الهجري، ولا تزال قائمة لليوم، وقد ورد ذكرها في ختام نسخة من كتاب مصباح المتهجد لشيخ الطائفة الطوسي قد فرغ منها في مدرسة المقداد السيوري ناسخها عبد الوهاب السيوري سنة 832 هجرية، أعقبتها (مدرسة الشيخ عبد الله اليزدي) المتوفى عام (981) هجريـة حيث أنشـئت في منتـصف القرن العاشر الهجري في المحلة المعروفة بمحلة المشـراق، تلتـها (المدرسة الغروية) التي أنشأها السلطان عباس الصفوي المتوفى عام (1038) هجرية في أوائل القرن الحادي عشر الهجري في الزاوية الشرقية من الصحن العلوي الشريف، ثم (مدرسة الصدر) التي أنشأها الوزير محمد حسين الأصبهاني المتوفى عـام (1239) هجرية في نهاية السوق الكبير في سنة (1226) هجرية، ثم (مدرسة المعتمد) التي أنشئت في محلة العمارة قرب قبـور المشـايخ من آل كاشـف الغطاء قبل سنة (1262) هجرية، (فالمدرسة المهدية) التي شيدت في محلة المشراق سنة (1284) هجرية، (فمدرسة القوام) التي بنيت في محلة المشراق سنة (1300) هجرية، (فمدرسة الإيرواني) التي اسست في محلة العمارة سنة (1305) هجرية، (فمدرسة الخليلي الكبرى) في محلة العمارة سنة (1316) هجرية، (فمدرسة البخاري) في محلة الحويش سنة (1319) هجرية، (فمدرسة الآخوند الكبرى) في محلة الحويش كذلك في سنة (1321) هجرية، (فمدرسة الخليلي الصغرى) في محلة العمارة سنة (1322) هجرية، (فمدرسة القزويني) في محلة العمارة أيضا سنة (1324) هجرية، (فمدرسة البادكوبي) في محلة المشراق سنة (1325)هجرية، (فمدرسة الآخوند الوسطى) في سنة (1326) هجرية، (فمدرسة اليزدي الكبرى) و(مدرسة الشربياني) في سنة (1327) هجرية، (فمدرسة الهندي) و(مدرسة الآخوند الصغرى) في سنة (1328) هجرية، (فمدرسة السيد عبد الله الشيرازي) في محلة الجديدة سنة (1372) هجرية، (فمدرسة البروجردي الكبرى) في الجانب الشرقي من الصحن العلوي المطهر سنة (1373) هجرية، (فالمدرسة الطاهرية) سنة (1377) هجرية، (فالمدرسة اللبنانية) في خان المخضر سنة (1377)، (فمدرسة الرحباوي) في سنة (1378) هجرية، (فمدرسة البروجوردي الصغرى) في سوق العمارة من محلة العمارة سنة (1378) هجرية، (فجامعة النجف الدينية) في حي السعد سنة (1382) هجرية، و(مدرسة الجوهرجي) في شارع المدينة سنة 1382 هجرية ايضا، (فمدرسة عبد العزيز البغدادي) في ساحة ثورة العشرين من جهة طريق كربلاء سنة (1383) هجرية، (فالمدرسة الشبرية) في محلة البراق سنة (1385)هجرية، و (دار الحكمة) في شارع زين العابدين سنة (1385) هجرية، (فمدرسة البهبهاني) في شارع زين العابدين سنة (1390) هجرية، وكذلك (مدرسة الأفغانيين) في محلة الجديدة، و(مدرسة السيد الخوئي) في دورة الصحن من جهة العمارة في سنة (1395) هجرية، وقد هدمت قبل أن يكمل بناؤها، (ومدرسة الكلباسي) في سنة (1395) هجرية، و(مدرسة البغدادي) في شارع أبي صخير، وهي غير مدرسة البغدادي المتقدمة، و(المدرسة الباكستانية) في شارع أبي صخير ايضا، و(المدرسة الأزرية) في خان المخضر، و(مدرسة أمير المؤمنين)، و(مدرسة الحسن بن علي)، (والمدرسة الأحمدية) وغيرها.

 

المجتهد والمرجع الديني

إذا انتهى طالب الحوزة العلمية من دراسة المقدمات ثم أعقبها بدراسطة السطوح وأنهى مرحلة البحث الخارج وتأهل لدخول مرحلة الاجتهاد والبحث في الأدلة التفصيلية بشكل واسع ومعمق ليختار منها ما يسوقه إليه اجتهاده في المسائل التي تعرض له أو يسأله غيره عنها. ووجد الباحث المجدّ منهم في نفسه – بصدق وإخلاص وتجرّد- القدرة على الاجتهاد ثم أعمل رأيه فيما عنَّ له من مسائل عُدَّ حينذاك مجتهدا.

وإذا تصدى المجتهد للإفتاء فيما انتهى إليه رأيه واجتهاده من مسائل فعمل المكلفون بآرائه ورجعوا إليه فقلدوه فيها عدّ مرجعا دينيا وقاضيا بالقسط بين الناس في أمورهم المختلفة، هاديا إلى الحق والهدى والصلاح، معلّما الكتاب والسنة والحكمة والشريعة، مزكيا ومطهرا ما أمكنه نفسه ونفوس الآخرين من الزيغ والضلال والانحراف، حارسا للعقيدة الحقة، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، محافظا على بيضة الإسلام، مبينا أحكامه الشرعية، وربما متوليا ما استطاع لأمرها في زمن الغيبة على خلاف بين الفقهاء في سعة هذه الدائرة وضيقها وفي دليلها ومدركها، وهل أنها تقف عند حدود الأمور الحسبية والضرورات الشرعية التي لا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها من قبل خيار المؤمنين على نحو الجزم واليقين، أو أنها أوسع من ذلك. ثم ما هي حدود هذه السعة على تقدير القول بها..؟

بعض الشروط الواجب توفرها في المجتهد والمرجع الديني

يشترط في المرجع الديني من بين أمور أخرى – غير الاجتهاد، والتقوى، والتعلق بحبل الله المتين، وحبه والخوف منه جل شأنه، والتنزه عن التعلق بأمور الدنيا الفانية، والسعي لتحقيق مرضاة الله تعالى في كل أمر والتقرب إليه في كل مسعى – عدالة بدرجة عالية تلزمه ” أن يكون على مرتبة من التقوى تمنعه عادة من مخالفة التكليف الشرعي، ومن الوقوع في المعصية، وإن كانت صغيرة، بحيث لو غلبته نوازع النفس ودواعي الشيطان ـ نادراً ـ فوقع في المعصية لأسرع للتوبة وأناب لله تعالى”(32) ورجع إليه.

وأين هذا من المدعين الذين ابتلينا بهم في هذه الأيام، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

 

تعدد المراجع

ونتيجة لتوفر الشروط المتقدمة من اجتهاد وعدالة وغيرها في أكثر من شخص واحد في زمن واحد، ولفتح باب الاجتهاد على مصراعيه في المذهب الجعفري، يتعدد في الغالب مراجع التقليد وتتنوع الاجتهادات والآراء، وهو ما يكسب هذا الفقه حيوية وغنى وعافية طالما حفزت طلاب الحقيقة على التجديد ومواكبة المستجدات باستمرار.

وفي النجف الأشرف اليوم مراجع أربعة للتقليد هم الأكثر شهرة بين مراجع التقليد فيها يأتي في مقدمتهم المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) فسماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) فسماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله) فسماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ بشير النجفي (دام ظله) إضافة الى العديد من المجتهدين حفظهم الله جميعا من كل سوء ودفع عنهم كل بلاء وبخاصة في هذا الزمن الصعب الذي ابتلي فيه شيعة أهل البيت (ع) بالتكفيريين والصداميين وأتباعهم امتحانا لهم وابتلاء، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكموالصابرينونبلوا أخباركم)(33).

 

موقع النجف الجغرافي وعدد سكانها ومساحتها ومناخها

تقع محافظة النجف الأشرف وسط العراق في الجزء الجنوبي الغربي من العاصمة بغداد على مسافة مائة وستين كيلومترا منها، وهي من محافظات الفرات الأوسط وتحيط بها محافظة كربلاء ومحافظة بابل من الشمال ومحافظة القادسية أو الديوانية والمثنى أو السماوة من الشرق، والأنبار أو الرمادي من الغرب والحدود الدولية مع المملكة العربية السعودية من الجنوب.

ويبلغ عدد سكان محافظة النجف وفق إحصاء وزارتي التخطيط والتجارة لعام 2003م حدود (946251)، وإن كان المظنون أنها تخطت عتبة المليون ساكن ممتدة جغرافيتها المكانية بين دائرتي العرض (50 29 – 21 32) شمالا وخطي الطول (50 42 – 44 44) شرقا(34)

أما مساحة محافظة النجف الأشرف فقد بلغت (28824 كم2)، ويتركز الاستيطان السكاني لساكنيها في القسم الشمالي منها في مدن المحافظة الكبرى الثلاث وبخاصة في مركز محافظتها (النجف)، وهذه المدن العامرة ثلاثتها سواء النجف أم الكوفة أم الحيرة ذات تاريخ حافل وماض تليد.

وتتربع أرض النجف المكونة من عشر طبقات مختلفة السمك على هضبة مرتفعة يبلغ ارتفاع أعلاها حوالي (176 متراً) فوق مستوى سطح البحر، وحوالي 40 مترا من مستوى نهر الفرات المجاور لها في مدينة الكوفة وأما المستوى العام لارتفاعها باتجاه حافاتها الغربية فيتراوح بين (100-120 مترا)(35).ومدينة النجف هي مبتدأ طريق الحج البري الموصل الى المدينة المنورة، ثم الى مكة المكرمة، ويمتد بعدها حتى حدود الصين. ويبلغ طول طريق الحج البري بحدود 1350 كم2 وهو طريق قديم جدا غير معبد قد يعود تاريخه الى سنة 170هجرية حيث عرف بطريق زبيدة زوجة هارون الرشيد وكانت سلكته وتسلكه القوافل الذاهبة الى أداء فريضة الحج منطلقة من النجف وآيبة اليه سنويا. ويذهب المؤرخون الى أن هارون الرشيد سلك هذا الطريق سبع مرات لأداء فريضة الحج وقد أصلحه وزوده الرشيد بما يحتاج اليه المسافر من ماء وزاد ومأوى.كما أن قوافل الحجيج في العصر العباسي ما كانت ترحل لأداء الفريضة المقدسة إلاّ عبره، واستمرت الحال على ارتياد هذا الطريق لأداء الشعيرة المقدسة في العصر المغولي والجلائري والصفوي(36). ثم أثرت الظروف السياسية وإرادات الحكام الظلمة بعد ذلك على هذا الطريق الحيوي لاحقا فأوحشته، وحجّمت دوره أحيانا ومنعت السفر عبره أخرى وهكذا، بيد أن هذا الطريق نشط أخيرا بعد سقوط النظام الصدامي عام 2003م. وسيستمر إذا ما أولته محافظة النجف الاهتمام الذي يستحقه.

أما مناخ النجف فبارد جاف شتاء تصل معدلاته في شهر كانون الثاني الى حدود (10درجات مئوية) وحار صيفا تبلغ معدلاته بحدود (35درجة مئوية) في شهر تموز حسب دعاوى دائرة الأنواء الجوية في النجف وإن كان ساكنوها يشعرون – وأنا منهم- أنها أكثر برودة في الشتاء وأشد حرارة في الصيف مما تدعيه قراءة الأنواء المتقدمة.

يذهب علماء الآثار وباحثو علم طبقات الأرض الى أن مدينة النجف والمنطقة التي حواليها يرجع تاريخها الى عصر (البلايستوسين المتوسط) وما تلاه وصولا الى العصر الحجري القديم بما يقدر زمنيا بأكثر من مليون سنة ماضية.مؤسسة فوق هضبة من الحجر الرملي الميال الى اللون الأحمر(37).

“وكانت النجف بحكم موقعها الكائن على حدود البادية، ومركزها الديني والاجتماعي الفريد في بابه، تقع في طريق الكثير من القوافل التي تأتي من الغرب عن طريق حلب وتستهوي الكثير من المسافرين في تلك الأيام فيمرون بها أو يتوقفون فيها مدة من الزمن. ويبدو مما جاء في كتابات عدد من الرحالة الأوروبيين يومذاك أن القوافل التي كانت تسير بين حلب وأصفهان كان بوسعها ان تسلك خمسة طرق عامة معروفة، غير الطريقين اللذين كانا يمران بالأناضول فيربطان بين اسطنبول (أو أزمير) وأصفهان، وقد كان أول هذه الطرق يبدأ بحلب، ويقع إلى يسار المتجه في الاتجاه الشمالي الشرقي، لكنه يمرّ بديار بكر وتبريز. وكان الطريق الثاني يتجه من حلب إلى الشرق رأساً فيحاذي بلاد ما بين النهرين، ويمرّ بالموصل فهمذان. أما الطريق الثالث فقد كان ينحرف أكثر من ذلك نحو الجنوب، ويجتاز بادية صغيرة ثم يمر بعانة والنجف وبغداد والبصرة. وكان الطريق الرابع يقع إلى يمين الذاهب إلى الجنوب الشرقي، فيمر بالنجف وبغداد أيضاً، وكان هناك طريق خاص يخترق البادية الكبيرة بطولها نحو البصرة، وكانت القوافل التي تسلكه تمر بالنجف أحياناً، لكنه لم يكن يسلك إلاّ مرة واحدة في السنة، أي حينما كان يقطعه تجار تركيا ومصر لشراء الإبل. ولاشك ان هذه الطرق هي التي كان يسلكها الرحالون الغربيون الذين اُخذ تواردهم على هذه الجهات بكثير بحلول القرن السابع عشر”(38).

ولقد ساعد موقع النجف الجغرافي على ربط العراق منذ الألف الثالث قبل الميلاد بجزيرة العرب عبر بوابة النجف ” وتشير المصادر التاريخية الى سعة العلاقات ما بين الحيرة والأحساء ونجد والحجاز واليمن، والى وجود اتصالات وثيقة ما بين أهل الحيرة وأهل مكة”(39) ثم بعد أن تضاءل دور الحيرة ونما دور الكوفة في العصر الإسلامي تجددت أهمية هذا الطريق باعتباره ممرا لجيوش المسلمين الخارجة من الجزيرة صوب شرق العالم الإسلامي حيث معسكر المسلمين في الكوفة، ومسلكا لحركات الهجرة الزاحفة من الجزيرة صوب بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات بعد أن تعرضت الجزيرة العربية الى موجة جفاف قاحل وقحط شديد(40).

 

النجف في كتابات الرحالة العرب والمسلمين

زار النجف الأشرف من الرحالة والسواح والمؤرخين من العرب والمسلمين وكذلك من المستشرقين والغربيين الكثير، فقد زارها من العرب والمسلمين السائح العربي ابن جبير سنة 580 هجرية، ثم السائح المغربي العربي ابن بطوطة الذي ابتدأ سياحته في سنة 703 هجرية فقال عن النجف الأشرف حينما حطّ رحاله بها: ” نزلنا مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناسا وأتقنها بناء، ولها أسواق حسنة نظيفة، دخلناها من باب الحضرة فاستقبلنا سوق البقالين والطباخين والخبازين، ثم سوق الفاكهة، ثم سوق الخياطين والقسارية، ثم سوق العطارين، ثم باب الحضرة حيث القبر.. قبر علي بن أبي طالب عليه السلام وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا ولكن لونه أشرق ونقشه أحسن.

ويدخل – من باب الحضرة – الى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة، ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز والتمر مرتين في اليوم ومن تلك المدرسة يدخل الى باب القبة “.

كما قصد مدينة النجف الأشرف الرحالة سيدي علي التركي صاحب كتاب “مرآة الكمال ” سنة 991 هجرية قادما اليها من مدينة كربلاء المقدسة عبر مدينة شفاثا التاريخية فزار فيها: “آدم ونوح وشمعون والإمام عليا المرتضى” ثم رحل منها الى الكوفة.

ثم قصدها الرحالة السيد عباس المكي الذي دخلها سنة 1131 هجرية، فوصفها بقوله: “البلدة رضية أمينة طيبة حصينة سورها مكين”(41)

ولا يسعني استيعاب ذكر من زارها من السواح والرحالة العرب والمسلمين لكثرتهم (“… التي فاض بها عدد من الكتب وعدد من المجلات والجرائد (…) وهناك الشيء الكثير مما ورد في الرحلات الفارسية على الأخص، والرحلات الهندية، والأراجيز الشعرية العربية عن النجف وما استلفت منها أنظار الرحالة “، ولكني سأكتفي بإشارة موحية لمنزلة هذه النجف في نفوسهم بما ورد عن بعضهم من أن النجف: “قلب العالم”، وأنها: “العالم في مدينة”،وأنها: “تتلقى كل أخبار العالم”).(42) معرجاً على ذكر بعض من زارها من السواح والرحالة الغربيين، فقد لاحظ الدكتور جعفر الخياط: “أن عددا غير يسير من الغربيين الذين زاروا النجف أو مروا بها أو الذين تصدّوا للكتابة عن تاريخ المسلمين ومعالجة شؤونهم، قد تطرقوا الى ذكرها بالقليل أو الكثير، أو عالجوا شؤونها بشيء غير يسير من البحث والتفصيل”(43).

بيد اني سأتطرق الى ذكر عدد من رحالة بعض الدول الغربية الذين زاروا النجف في فترات متفاوتة وكتبوا عنها.

 

النجف في كتابات الرحالة والباحثين الغربيين

فقد يمّم شطر مدينة النجف الرحالة البرتغالي (بيدرو تكسيرا) فقال متحدثا عنها في رحلته: ” دخلنا مشهد علي نهار السبت في الثامن عشر من أيلول سنة 1604- ربيع الثاني 1013 هجرية، فقصدت خانا من الخانات الكبيرة التي كانت تشبه في شكلها ومنظرها العام الصوامع الموجودة في البلاد الأوربية، (…) وقد كانت هذه المدينة كبيرة، فإن دورها كانت قبل ما يزيد على خمسين أو ستين سنة نحو ستة آلاف أو سبعة آلاف مبنية بإتقان في الغالب، فأصبحت لا يزيد عدد بيوتها على الست مائة فقط (…) وإن آثار الأسواق العامرة المبنية بالطابوق كانت ما تزال شاخصة للعيان وإن الروضة الحيدرية كان فيها الكثير من النفائس الثمينة ومنها ثلاث ثريات من الذهب المطعم بالأحجار الكريمة، وكان عدد من الأمراء المسلمين والملوك قد أهدوها الى الحضرة المطهرة ” مشيرا الى أن النجف كانت تخضع في تلك الأيام الى الأتراك، وأن الماء الصالح للشرب فيها شحيح الى حد كبير.

كما زارها الرحالة الألماني (كارستن نيبور) الذي دخل النجف في 22 كانون الأول من سنة 1765م ما بين شهري جمادى ورجب من سنة 1279هجرية ” فذكر في رحلته أن الماء الذي كان الناس يحتاجونه للطبخ والاغتسال – في النجف – كانوا يستقونه من قنوات خاصة تمتد في باطن الأرض، لكن الماء الصالح للشرب كان يؤتى به محملا على ظهور الحمير من مسافة ثلاث ساعات. ومما يذكره عن عمران البلدة ان جهة من جهاتها يكثر فيها الكلس، الذي كان يحرق للحصول على مادة البناء منه، وان الخشب كان يندر وجوده ويرتفع ثمنه فيها. ولذلك كانت البيوت تشيد كلها بالطابوق والجص وتعقد سقوفها على شكل قبب وعقود، فتكون متينة البنيان عادة. (…) وإن العلاقة بين أهل السنّة والشيعة في النجف وكربلا كانت علاقة حسنة إلى حد غير يسير. على انه يقول من جهة اُخرى ان الشيعة كان لابد لهم من أن يلتزموا جانب الهدوء لئلا يغضب عليهم الباشا في بغداد. ولم يفت (نيبور)، وهو الرجل العالم المدقق، أن يرسم مخططاً خاصاً لمشهد عليّ كما يسميه يشير فيه إلى معالم البلدة المهمة وشكلها العام، فهو يشير قبل كلّ شيء إلى أنها كانت في تلك الأيام محاطة بسور غير عامر يمكن الدخول إلى البلدة من عدة فجوات فيه، وان هذا السور كان فيه بابان كبيران هما “باب المشهد” و “باب النهر” وباب ثالث يسمى “باب الشام” لكنه يقول ان الباب الأخير كانت قد سدت فتحته بجدار خاص. ويضيف إلى هذا قوله ان الشكل الخارجي للبلدة يشبه شكل مدينة القدس، وان سعتها تقارب سعة القدس أيضاً.

ويقول الرحالة الألماني كذلك إن النجف كان فيها، عدا الجامع الكبير المشيد حول الضريح المطهّر، ثلاثة جوامع صغيرة أخرى. وقد عمد (نيبور) إلى تخطيط رسم خارجي عام للجامع الكبير، كما يسميه، وهو يذكر ان سقفه قد صرفت مبالغ طائلة على تزيينه وطليه بالذهب بحيث لا يمكن أن يوجد مبنى آخر في العالم أجمع يضاهيه بكلفة تسقيفه الباهظة. (…) ويشيد كذلك بالمنظر الأخاذ الذي يبين للناظر إلى القبة المذهبة، ولاسيما حينما تسقط أشعة الشمس عليها، أو حينما تبين للرائي من بعد ستة أميال، وأن الجامع الكبير كان محاطا بساحة واسعة يقام فيها السوق كل يوم”.

وقد قدر نيبور عدد الزوار الذين يقصدون النجف وكربلاء يومذاك بحوالي (5000) زائر في السنة رغم شدة وقساوة وخطورة ظروف السفر تلك الأيام.

وزار العراق سنة 1855م السائح الألماني المتقن للغة العربية وقواعدها (بيترمان)، فذكر في رحلته التي طبعها سنة 1864م “أن زوار النجف وغيرها من العتبات المقدسة كانوا يتواردون من إيران الى بغداد باستمرار، وقد بلغ عددهم في تلك السنة حوالي ستين ألف زائر، وهو ما أحصاه (بيترمان) من عدد التذاكر التي أصدرتها السلطات التي كانت مسؤولة عن الحجر الصحي يومذاك في خانقين”(44) وهي زيادة كبيرة عما قدره السائح الألماني نيبور قبل حوالي 90 عاما من زيارة بيترمان.

وبرغم أن الرحالة والمؤرخين الفرنسيين يركزون جلّ اهتمامهم في العادة على أحوال بلدان مستعمراتهم وبخاصة ما كان منها في المغرب العربي، إلاّ أنهم اهتموا بدراسة مدينة النجف الأشرف وأحوال سكانها اهتماما خاصا، من ذلك مثلا ما كتبه فكتوربيرار وبارون كارا دي فو والرحالة جان باتيست تافرنييه وفونتانييه وأدريان دوبريه وجان ديولافوي وجاك بيرك الذي يعشق النجف وأهلها وتقاليدهم وفكرهم وبيير جان لويزارد الذي يعيش مع فكر المجتهدين في النجف الأشرف ويتبنى قضيتها وكأنه ولد فيها واصفا النجف بأنها ” تحتل الموقع الرابع في ترتيب المدن الإسلامية المقدسة بعد مكّة والمدينة والقدس. وأنّها مركز كلاسيكي للثقافة الإسلامية والتعليم الديني بالنسبة للعالم الإسلامي بأسره، فهي بمنزلة جامع الأزهر في القاهرة أو الزيتونة في تونس أو القيروان في فاس”.

فقد زار المسؤول الفرنسي المسيو فونتانييه والي بغداد في عصره، وحين دون ملاحظاته عن الزيارة أرجع ازدهار بغداد الى قربها من النجف لا العكس، مشيراً الى أهمية النجف في السياحة الدينية واستفادة بغداد العاصمة من ذلك كونها ممرا للزوار القاصدين الى النجف الأشرف عبرها فكتب يقول: ” إن بغداد وقد مررت بها في 1824م لم تكن بغداد الموصوفة في ألف ليلة وليلة وإنما لها طابعها الشرقي، فإنها أصبحت مجمعا للمسلمين نظرا لوجود ضريح الإمام علي على مسافة منها، ولا شك ان وجوده يدعو شيعته الى زيارته والقدوم اليه.

ويقال إن مائة ألف أجنبي يمرون سنويا بمدينته (أي مدينة الوالي: بغداد) للذهاب الى زيارة ضريح الإمام علي، وهذا الازدحام يجعل من أية نقطة في البر وسطا تجاريا كبيرا “.

وإذ يبدو المفكر الفرنسي جاك بيرك: ” مأخوذاً بعلم اجتماع المدينة واقتصادياتها وروابط الثقة بين الأفراد والجماعات والمنازعات والمفارقات. ولا يغفل كرم أهلها وعاداتهم وسحر مناظراتهم ويصب كلّ اهتمامه على الشعر والتعليم والفكر بشكل عام فيعطي للتعليم الديني النجفي مكانة راقية ومهمة، ويتحدث عن الشيعة بكثير من الإعجاب. ويحاول أن يقيس مدى تأثير التاريخ على حاضرهم، وكيف تجسدت ملحمة كربلاء على سلوكهم وحزنهم، فأصبحت الطقوس مشاعر إلهامية تستوحي التاريخ وتصب حكمته في الشعر الراقي والأدب الرفيع والمناظرات الاجتهادية. ويلاحظ أن النجف التي تعيش إرث هذا التاريخ الدامي لم تتوقف عن التواصل مع العالم الخارجي. فهي تقرأ لأعلام الأدب والفن الغربيين والشرقيين على حد سواء، وتؤثر أعمال هؤلاء على إبداعاتهم، ويذكر بيرك باحترام شديد قصص المدينة المقدسة ويأتي على أعلامها فيعجب بالفكر كما يعجب بمعاني الأسماء، ويذكر المناهج التعليمية ويتبنى نقدها وعدم برمجة المعارف التي تدرس في مدارسها، ولكنه يعترف بعمق هذه الدراسة لأنها تتسم بنوع من إدراك وحدة الجوهر للغة العربية التي يتغزل بنغمها ولحنها المقفى ويأسف انّ اليونانية واللاتينية قد خسرت صفاتها الشعرية القديمة “.

أقول: في الوقت الذي تأخذ النجف بألباب الباحث جاك بيرك، يتساءل الفرنسي لويزارد الملم بما قدمته مرجعية النجف للإسلام والمسلمين والعراق والعراقيين من دم وعرق وفكر ومال فيقول: ” هل تجد النجف مستقبلا يليق بمكانتها؟ فالنجف تحتل مكانة أساسية في قرار “القضية العراقية”. بالنسبة للشيعة سواء أكانوا دينيين أم علمانيين فالمرجع أو المجتهد يرمز إلى هويتهم. ومكانة النجف مرتبطة بشرعية المرجعية.

إنّ جعل النجف ” فاتيكان ” عراقية يمكن أن يمثل حلاً قد يضمن الهوية الشيعية من جهة ويسمح من ناحية ثانية بقيام حياة سياسية دنيوية في البلاد. ويشير إلى اتفاقية لاتران 1929م التي نظمت العلاقة الدولية الدينية الفاتيكانية مع الدولة الإيطالية، ويعتبرها نموذجاً لتنظيم علاقة مشابهة مع الدولة العراقية التي ينبغي أن تعترف باستقلالية معينة للمدينة المقدسة كمقدمة لاعتراف رسمي بالأهمية العددية للطائفة الشيعية في العراق.

ويقترح لويزارد أن تكون إدارة المدينة من قبل مكتب إداري مكون من مرجعيات ومجتهدين ووجهاء المدينة سيوفر لها الأمن من تدخلات الحكومة العراقية وتدخلات الدول الخارجية، انّ جعل النجف ” فاتيكان ” عراقية ستكون الحل الناجح للمدينة المقدسة، وبطبيعة الحال لن يكون هذا أمراً ممكناً إلاّ في حالة قيام نظام ديمقراطي تعددي يضمن الحريات للجميع”.(45)

في 1853م زار النجف الرحالة الانكليزي (لوفتس)، فشد نظره المنظر المهيب للحرم العلوي المطهر حتى قال: إنه لا يمكن أن يصف الشعور الذي يخالج الناظر إلى جميع ما كان في داخل الجامع من زينة في البناء وتناسق في الألوان، لأن ما يراه كان لابدّ من أن يولِّد انطباعاً خالداً في نفسه. ويصف الرحالة الإنكليزي شكل الصحن الشريف والضريح المطهر الموجود في وسطه، مشيراً إلى زينة القاشاني المحتوية على الرسوم المتناسقة للطيور والأوراق النباتية والكتابات المذهبة، ثم يذكر ان أركاناً ثلاثة من أركان الصحن كانت تقوم فوقها مآذن ثلاث كسيت الاثنتان الأماميتان منها بالآجر المغلف بالذهب (…) وهذه مع القبة كانت تؤلف منظراً فخماً يعجز عنه الوصف. وكانت القبة الكبرى المكسوة بالذهب وهي تتوهج في نور الشمس تبدو للرائي من بعيد وكأنها تلّ من الذهب يقوم من البراري الممتدة من حوله. كما كانت توجد بين يدي الضريح المطهر بركة من النحاس تزيد في جمالها أشعة الشمس المتراقصة فوق سطحها الصقيل اللمّاع الذي يكاد يحاكي سطح القبة نفسه في بهائه وتلألئه.

ويذكر لوفتس كذلك إن الصحن كانت تباع فيه أشياء وحاجات كثيرة، فيقارن ذلك بالمعبد في بيت المقدس الذي دخل اليه المسيح قبل ثمانية عشر قرناً فوجد الناس يبيعون فيه الثيران والأغنام والصرافين يتاجرون بالعملة.

ولقد لفتت نظره على الأخص طيور الحمام الكثيرة المتخذة من الحرم المطهر واحة سلام وأمن وطمأنينة ودعة.

وفي مطلع القرن العشرين قصدت السائحة الإنكليزية (المسز رولاند ويلكنس) العراق فكتبت في كتابها عن الرحلة انها مرت في طريقها الى بابل بجماعات الزوار الإيرانيين الذين كانوا في طريقهم لزيارة الإمام الحسين في كربلاء والإمام علي في النجف،وكان الكثير منهم يأتون من بلادهم مشيا على الأقدام للزيارة رغم صعوبة ذلك ومشقته وبعده عن مدنهم وخطورة مسالكه المليئة بقطاع الطرق والسراق.(46)

ثم زار النجف في 19 مايس سنة 1917م بعد احتلال الإنكليز للعراق الجنرال البريطاني (السير رونالد ستورز) الملم باللغة العربية والحاكم البريطاني لمدينة القدس بعد احتلالها من قبل الإنكليز فيما بعد، فمرّ في السوق الكبير المؤدي إلى العتبة العلوية المقدسة، ومن هناك توجه إلى دار السيد عباس الكليدار. فخص بالذكر منه السرداب الكبير الذي تنخفض درجة الحرارة فيه بمقدار عشر درجات عن الخارج. وحينما صعد الضيف وقت الغروب إلى سطح دار مضيفه القريبة من الحضرة المطهرة، شاهد (ستورز) منه عن قرب القبة والمآذن وبرج الساعة في الصحن العلوي الشريف، وصوّر مناظر عدة من هناك على ضوء الشمس الغاربة، ثم استراح حتى دقت الساعة مشيرة إلى الثانية عشرة غروبية فتذكر حينذاك ساعة كيمبرج أو ” بيك بين ” المشهورة.

ومن طريف ما رواه الكاتب في حديثه عن النجف ما أورده من تفاصيل زيارته للمرجع الديني الأعلى في عصره سماحة السيد محمد كاظم اليزدي (قدس) فذكر السياسي البريطاني انه في الساعة الخامسة من عصر اليوم التالي لوصوله توجّه مع رفيقه المستر(غاربوت)، لزيارة العلامة الأكبر السيد كاظم اليزدي الذي يمتد نفوذه من العراق إلى أصفهان. ويذكر ستورز في هذا الشأن: ان الإنكليز لم يكونوا مطمئنين من موقف السيد تجاههم، وانه كان قد رفض مبلغ المئتي باون الذي قدم اليه على سبيل الهدية من قبل. وكان المستر غاربوت الذي رافق السير ستورز في السفرة من بغداد قد طلب اليه في هذه المرة أيضاً أن يتحايل على السيد اليزدي فيقدم له رزمة بألف باون هدية من الحكومة. فاستثقل هذه المهمة الصعبة، وكلف السير رونالد ستورز نفسه بأن يتولى المهمة عنه، فقبل بتحفظ ودسّ الرزمة في جيبه ثم توجها معا إلى دار السيد، وهناك انتظر برهة من الزمن في خارج حجرته ريثما يخبر بحضورهما، فخرج لهما السيد المرجع، وإذا به رجلا متقدماً في السن يلبس ” زبوناً أبيض ويعتمر بعمة سوداء “، وقد تخضبت لحيته وأظافره بحنة حمراء لمّاعة، فحياهما السيد من بعيد وأجلسهما على الحصيرة بجنبه خارج الحجرة. يقول ستورز: إنه بعد أن تبحّر في وجه السيد أدرك في الحال السر في شهرته ونفوذه. فهناك قوة في سيمائه الواضحة وعينيه الرماديتين المتعبتين، وسلطان في وجوده وحديثه الخافت، مما لم يجد له مثيلا في أي مكان آخر من بلاد المسلمين “.

وحين سأل ستورز المرجع السيد اليزدي عمّا إذا كان هناك أي شيء يريد أن يفعله الإنكليز له بادره السيد اليزدي بقوله: ” حافظوا على العتبات الشريفة، حافظوا على العتبات الشريفة “. فاعتبر ستورز أنه يقصد بذلك المحافظة على العتبات المقدسة ومن فيها من جماعة العلماء والمجتهدين بوجه عام. ثم عاجله السيد المرجع بجملة أخرى طلب اليه فيها أن لا يعينوا في المدن الشيعية إلاّ الموظفين من أبناء الشيعة، وأن يطلقوا سراح بعض الشيعة الذين كانوا معتقلين. وحينما مدّ ستورز يده لتقديم رزمة الباونات إلى السيد، دفع السيد الرزمة برفق مقرون بالعزم الأكيد، وهو يعتذر عن قبولها. فلم يجد ستورز من اللياقة الإلحاح على تقديمها.

وبعد ساعة انقضت على هذا المنوال عزم المسؤول الإنكليزي السير رونالد على توديع السيد المرجع اليزدي والعودة إلى المنزل، غير أنه قبل أن يفعل ذلك حاول تقديم الألف باون مرة ثانية اليه، لكن السيد المرجع رفضها من جديد بكل مجاملة وأدب. وهو يعتقد ان الشيء المهم الذي كان يعبأ به السيد هو الأنفة والإباء لا المال.

وهذا موقف بعيد تمام البعد عما يحدث في مصر والحجاز في ظروف مماثلة على حد تعبيره.

وحينما عاد ستورز بعد ذلك إلى منزل مضيفه السيد عباس الكليدار طلب اليه أن يشاركه في تناول العشاء ويضحي بآداب المجاملة التي تدعوه إلى الوقوف في خدمة الضيف في أثناء الطعام وهو يذكر بإعجاب ان السيد عباس وقف بعد ذلك للعناية بتقديم العشاء للسواق أيضاً على المائدة نفسها. ثم آوى إلى فراشه بعد مدة وقضى ليلة خالية من النسيم تماماً فوق السطح، وقد تسنى له خلالها أن يعجب بالهدوء التام والصمت الغريب الذي كان يلف النجف ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد منتصف الليل وقبيل الفجر كذلك”.(47)

ويعد الأمريكي (جون بيترز) رئيس بعثة بنسلفانيا للتنقيب عن الآثار في موقع نفّر الأثري (عفك) من أهم الباحثين الأمريكيين الذين زاروا النجف تلك الآونة، فقد زارها في سنة 1890م سالكا الطريق النهري من السماوة عبر بحر النجف وصولا الى أبي صخير ومنها عن طريف البر بواسطة الدواب الى النجف، ويصف الباحث الأمريكي النجف التي رآها مدينة مزدهرة محاطة بسور متداع آيل للسقوط وقد بني بالطابوق المجلوب والذي لازال يجلب يوميا من خرائب الكوفة بواسطة الدواب.

ويعتقد عالم الآثار الأمريكي بيترز أن العرب في المنطقة الجنوبية من العراق يعيشون عيشة تشبه عيشة البابليين قبل أربعة آلاف سنة في كثير من الأشياء، ويقارن من جملة ما يقارن بين وجود الأكشاك في أبواب الصحن لبيع الكثير من الحاجيات واللوازم المختلفة وما كان يحصل في أبواب معبد (بيل) في (نفّر) من قبل.(48)

وفي صبيحة 27 نيسان 1912م زار النجف الأشرف السائح النمساوي (ألواموسيل) فدخلها من بابها الشمالية، فألفى فيها سوقا كبيرة تمتد في اتجاه جنوبي حتى تصل الى الجامع الكبير، وقد بنيت بلديتها في الجاني الشمالي الغربي من المدينة، وحينما استقل السائح النمساوي الترامواي – الذي بنته بلدية النجف من أموالها لا من أموال خزينة الدولة في سنة 1909م – قاصدا الذهاب الى الكوفة شاهد المدافن على جهتي الخط الموصل بين المدينتين.

كما زار النجف أيضا الرحالة الإيطالي (بيترو ديلا فاله) وغيره العديد من الرحالة والباحثين الغربيين أعرضت عن الإشارة اليهم توخيا للاختصار.(49)

ــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــ

1 ـ الصحاح: 1182.

2 ـ لسان العرب. ابن منظور: 14 / 56 .

3 ـ الأحلام.الشيخ علي الشرقي.القسم الرابع:145- 146.

4 ـ المصدر السابق. الصفحة نفسها.

5 ـ أدب الطف.السيد جواد شبر:1/174.

6 ـ ديوان الشريف الرضي: 1/ 115.

7 ـ ماضي النجف وحاضرها. الشيخ جعفر محبوبة: 1/ 15 نقلا عن إرشاد القلوب. الديلمي.

8 ـ معجم البلدان: 1 / 331.

9 ـ ماضي النجف وحاضرها. سابق:1/8.

10 ـ المصدر السابق:1/9.

11 ـ أنظر: المصدر نفسه، وراجع هوامش الصفحات المشار اليها في المتن.

12 ـ فرحة الغري. عبد الكريم بن طاووس:3.

13 ـ ماضي النجف وحاضرها. سابق:1/4. هامش1 نقلا عن المصدر المذكور.

14 ـ موسوعة العتبات المقدسة 6. جعفر الخليلي.  قسم النجف: 1/135.

15 ـ أنظر مثلا: ماضي النجف وحاضرها. سابق: 1/4 وما بعدها والنجف والحيرة. د. مصطفى جواد: 58 وما بعدها  والجواهري شاعر من القرن العشرين. د. جليل العطية:14 وما بعدها.

16 ـ ديوان إسحاق الموصلي:151- 152.

17 ـ موسوعة النجف الأشرف. قسم النجف الأول: 6 / 37.

18 ـ ماضي النجف وحاضرها. سابق: 1/12وما بعدها.

19 ـ أنظر: النجف والحيرة. سابق: 58 وما بعدها.

20 ـ ورد اسم هذا الدير مرة باسم (دير مريم) كما في أبيات لإسحاق الموصلي(ديوان إسحاق الموصلي: 137)، ومرة باسم (دير مارت مريم) كما في معجم البلدان (مادة الدال والياء وما بعدهما، تحت عنوان (دير مارت مريم) و “دير مارت مريم هو نفسه دير مريم، لأن تصدير بعض الأديرة المنسوبة الى القديسين ب(مار) وتعني السيد، أو بمؤنثها (مارت) لا يعدو أن يكون نوعا من الاحترام والتقديس وأنه لا يغير من اسم الدير شيئا”. أنظر: ديوان إسحاق الموصلي:137 نقلا عن المؤرخ كوركيس عواد.

21 ـ محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني. د. عبد علي الخفاف: 19. نقلا عن: الحيرة المدينة والمملكة العربية. يوسف رزق الله غنيمة:91.

22 ـ حركة الشعر في النجف الأشرف وأطواره خلال القرن الرابع عشر الهجري.د. عبد الصاحب الموسوي:31-33. وانظر هوامش الصفحات أيضا.

23 ـ محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني. سابق: 22.

24 ـ حركة الشعر في النجف الأشرف وأطواره خلال القرن الرابع عشر الهجري.د. عبد الصاحب الموسوي:31-33، وانظر هوامش الصفحات أيضا. والجواهري شاعر من القرن العشرين. سابق:15وما بعدها، وغيرهما كثير.

25 ـ النجف وطبقات شعرائها.الشيخ محمد رضا الشبيبي.بحث منشور في الغابة العذراء:18.

26 ـ المصدر السابق. الصفحة نفسها.

27 ـ أنظر مثلا: اليعقوبي 1/ 120، والطبري: 3 / 346، والبلاذري: 252،  وابن الأثير: 3 /515.

28 ـ شيعة العراق. إسحاق نقاش:21-22.

29 ـ موسوعة العتبات المقدسة 6، سابق. قسم النجف 1/184، نقلاعن: دليل المملكة العراقية لسنة 1935- 1936م.

30 ـ الأحلام. سابق: 120.

31 ـ ماضي النجف وحاضرها. سابق:1/375وما بعدها.

32 ـ منهاج الصالحين. السيد محمد سعيد الحكيم:1/13. وانظر كذلك: منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم:1/12. والمرجعية الصالحة للسيد محمد باقر الحكيم:40- 57.

33 ـ سورة محمد:آية 31.

34 ـ محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني. سابق: 16.

35 ـ أنظر: أرض النجف. د. موسى جعفر العطية:61 و26 من الكتاب.

36 ـ أنظر: ماضي النجف وحاضرها. سابق: 1/405.

37 ـ موسوعة العتبات المقدسة 6. قسم النجف:1/ .234

38 ـ المصدر السابق: 201.

39 ـ محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني. سابق:23 نقلا عن: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. د. جواد علي: 7 / 335.

40 ـ أنظر:محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني.سابق:23.

41 ـ موسوعة العتبات المقدسة. قسم النجف. سابق: 1/هامش 172.

42 ـ لمزيد من التفاصيل أنظر: مدينة النجف في كتابات المؤرخين والجغرافيين المسلمين. د. رباب الحسيني. بحث ألقي في مؤتمر علمي عن النجف أقامته: مؤسسة كربلاء للدراسات والنشر في لندن ونشر لاحقا مع بقية الأبحاث ضمن كتاب من مجلدين.

43 ـ النجف في المراجع الغربية، موسوعة العتبات المقدسة 6. قسم النجف:1/194.

44 ـ المصدر السابق: 1/  238 وما بعدها.

45 ـ أنظر: النجف كما وصفها بعض المستشرقين الفرنسيين. د. قيس جواد العزاوي:1 وما بعدها و26 وما بعدها و21 وما بعدها كذلك.

46 ـ أنظر: النجف في المراجع الغربية،. سابق:  1/233 وما بعدها و245

47 ـ المصدر السابق:1/ 258.

 

48 ـ نفسه:1/240 وما بعدها.

49 ـ لمزيد من المعلومات عن زيارات الرحالة الغربيين للنجف أنظر: المصدر السابق ففيه مما لم أتناوله الكثير.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.