الجمعة , 19 أبريل 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » المجتمع النجفي في عهد الملك غازي – القسم الأول

المجتمع النجفي في عهد الملك غازي – القسم الأول

najaf2

المجتمع النجفي في عهد الملك غازي 1932ـ1939

دراسة في التاريخ الاجتماعي

(القسم الأول)

الأستاذ حيدر سعد الصفار

 

تعد دراسة التاريخ الاجتماعي لمجتمع أي مدينة ومنها مدينة النجف الأشرف من الضروريات المهمة لأي باحث كريم، لأن المجتمع يمثل النواة المحركة لجميع الأحداث وفعاليات الحياة اليومية سواء أكانت (سياسية أم اقتصادية أم علمية) وغيرها، ولو انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، فإن دراسة التاريخ الاجتماعي لمجتمع مدينة النجف الأشرف للسنوات (1933ـ1939) تعد ضرورة علمية تزداد أهميتها عندما يخلد في بالنا إن الدراسات السابقة لم تتناول التاريخ الاجتماعي لمجتمع المدينة في تلك السنوات حصراً وبشكل مسهب، إذا أخذنا بالحسبان الدور الريادي للمدينة ومجتمعها على مر المراحل التاريخية الماضية واللاحقة واستجابة لتلك الدواعي، جاءت الضرورة الملحة لدراسة هذا الموضوع وتناول جوانبه ذات الحلقات المتنوعة والمعقدة في بعضها التي حجب عنا الكثير من الكتاب والباحثين الذين تناولوا تاريخ النجف سواء بقصد أو من دونه.

تحتوي دراستنا على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول، تناول التمهيد لمحة تاريخية موجزة عن مدينة النجف الأشرف مسلطاً الضوء على موقعها الجغرافي وأصل تسميتها واشتقاقها اللغوي ومنشأها فضلاً عن أهميتها عبر المراحل التاريخية السابقة.

وتناول الفصل الأول طبيعة المجتمع النجفي من إعلان الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الانتداب البريطاني من خلال التركيب الاجتماعي لسكان المدينة مستعرضاً أعداد السكان ومكونات المجتمع وطبيعة العلاقات القائمة فيما بينهم، ونوع العادات والتقاليد الممارسة في حياتهم اليومية آنذاك. وتم استعراض أثر الواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي على المجتمع النجف، وتم إبراز المعالم والمشاهد التاريخية للمدينة وأحوال المجتمع النجفي العامة.

واختص الفصل الثاني في مناقشة التطورات والمشكلات التي واجهها المجتمع النجفي في تلك السنوات في المجالات (الاقتصادية والعمرانية والخدمية) في المجتمع النجفي ودرجة استيعابها في خلق التوازن الاجتماعي بين فئاته والوصول به إلى أعلى درجات الرقي والتقدم، فضلاً عن متابعة المسيرة التاريخية للجمعيات والأحزاب السياسية (السرية والعلنية) التي تأسست في النجف في المرحلة التي سبقت مدة البحث وضمنها والعوامل التي أدت إلى احتجابها وأسباب عزوف أغلب فئات المجتمع النجفي عنها وقد توصل الباحث إلى مجموعة نتائج أبرزتها الدراسة كانت الخاتمة موضوعاً لها.

اعتمدت الدراسة في محتوياتها على مجموعة من المصادر والمراجع تنوعت حسب مقتضيات فصولها كان من أهمها الوثائق الرسمية (العراقية والبريطانية) المنشورة وغير المنشورة المودعة في الوحدة الوثائقية في دار (الكتب والوثائق العامة) في بغداد، وفي الأرشيف الوثائقي لمؤسسة (آل كاشف الغطاء) العامة في النجف الأشرف, كان من أهم الوثائق غير المنشورة (ملفات البلاط الملكي) وتقارير الحاكم العسكري البريطاني في منطقة الشامية بين سنتي (1917ـ1918م) أما الوثائق المنشورة فكان من أهمها (محاضر مجلس النواب) وبعض المكاتبات الرسمية حول (ماء وكهرباء النجف) فضلاً عن المطبوعات الحكومية مثل (دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960م) و(دليل التلفونات للواء كربلاء) و(الدليل الإحصائي للمديرية العامة لتربية النجف) التي أسهمت على رفد الدراسة بالمعلومات التي تخص فقرات موضع البحث في الدراسة.

وشكلت المخطوطات مصدراً مهماً لدراستنا هذه لما تضمنته من معلومات موثقة من كاتبها الذي عاصر جزءاً من أحداثها، ونقل عن أشخاص عايشوا الأحداث المتبقية، وأسهمت المقابلات الشخصية في إيضاح العديد من المعلومات التي غاب ذكرها في مصادر أخرى.

وأملت الرسائل والأطاريح الجامعية (غير المنشورة) جزءاً واسعاً من معلومات الدراسة كان من أبرزها أطروحة الدكتوراه لأستاذنا ستار نوري العبودي (الحياة الاجتماعية في العراق في مرحلتي الانتداب البريطاني 1920ـ1932م) ورسالة الماجستير لسعد عبد الرزاق محسن (محافظة النجف، دراسة في جغرافية السكان) ورسالة الماجستير لعدي حاتم عبد الزهرة (حركة التيار الإصلاحي النجفي 1908ـ1932م) وأطروحة الدكتوراه ورسالة الماجستير لعز الدين عبد الرسول المدني الاتجاهات الإصلاحية في النجف (1932ـ1945م) و(محسن أبو طبيخ ودوره في الحركة الوطنية حتى عام 1985م) ورسالة الماجستير لعلي عبد المطلب المدني (الحياة الاجتماعية في مدينة النجف الأشرف 1914ـ1932م) ورسالة الماجستير لرسول نصيف الشمرتي (مجلة الاعتدال النجفية 1933ـ1948م) فضلاً عن أطروحة الدكتوراه لناهدة حسني علي جعفر ويسين تاريخ النجف في العهد العثماني الأخير (1831ـ1917م) وغيرها من الدراسات غير المنشورة.

واحتلت الكتب العربية والمترجمة موقع الصدارة لمصادر ومراجع الدراسة، كان من أهمها كتاب (ماضي النجف وحاضرها ج1) لجعفر باقر محبوبة، إذ لا يمكن لأي باحث الاستغناء عنه عندما يتناول تاريخ النجف.

واشتركت إصدارات جعفر الخليلي (هكذا عرفتهم) بأجزائها الثلاث، وكتاب (العوامل التي جعلت من النجف بيئة شعرية) كغيرها من المراجع المهمة المعتمدة في البحث ومن المصادر العربية الأخرى كتب حيدر الح المرجاني (النجف قديماً وحديثاً) بأجزائها الأربعة، وكتب الباحث النجفي طالب علي الشرقي، وعلى وجه الخصوص كتاب (النجف عاداتها وتقاليدها).

وتعد مؤلفات المؤرخ العراقي المرحوم (عبد الرزاق الحسني) من أكثر المصادر التي اعتمدت عليها دراستنا عدداً لما تحتويه من معلومات وثائقية قيمة في تاريخ العراق السياسي المعاصر، وكان من أهمها كتاب (تاريخ الوزارات العراقية) بجزأيها الثالث والرابع، وكتاب (ثورة النجف على الإنكليز بعد قتل حاكمها الكابتن مارشال) وكتاب (الثورة العراقية الكبرى) وغيرها، ثم جاءت مؤلفات الأستاذ عبد الرزاق الهلالي، إذ غطت جزءاً كبيراً من المعلومات الخاصة بالتعليم ومفرداته، ومن الكتب المهمة التي اعتمد الباحث عليها والتي حملت في طياتها لمسات إصلاحية، كتاب علي الخاقاني (شعراء الغري أو النجفيات، ج1، ج4، ج7، ج12) الموجهة نحو كثير من العادات والتقاليد الخاطئة التي مارستها أغلب فئات المجتمع النجفي سواء بقصد أو من دونه. واحتلت مؤلفات المرحوم الدكتور (علي الوردي) أهمية خاصة من بينها (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) و(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ج1، ج3، ج4) لما لها علاقة بموضوع الدراسة. ومن الدراسات الأكاديمية المهمة التي أغنت بحثنا بكثير من المعلومات الخاصة بالموضوع كتاب محسن عبد الصاحب المظفر (مدينة النجف الكبرى) فضلاً عن مؤلفات المرجع الديني (محمد الحسين كاشف الغطاء) مثل (الاتحاد والاقتصاد) و(جنة المأوى) و(الدين والإسلام) و(في السياسة والحكمة) و(المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) و(محاورة الإمام المصلح مع السفيرين البريطاني والأمريكي) و(الميثاق الوطني العربي).

واعتمد الباحث كذلك على مؤلفات كثيرة أخرى مثل كتب محمد علي كمال الدين، التي كان من أبرزها (ذكرى السيد عيسى آل كمال الدين) و(مذكرات السيد محمد علي كمال الدين) و(معلومات ومشاهدات) و(النجف في ربع قرن) ولم يغب عن بال الباحث الاستعانة بمجموعة من البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات والدوريات العراقية، فضلاً عن شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) التي حملت في طياتها معلومات خاصة بمدة البحث، وأسهمت المعاجم والموسوعات بشكل مباشر على تعريف القارئ بمجموعة من المصطلحات التي احتاج إليها ضمن دراسته إذ كانت الهوامش موضعاً لها، وكان من أبرزها (موسوعة العتبات المقدسة ج1، ج2) لجعفر الخليلي، و(موسوعة الأحلام) للشيخ علي الشرقي و(موسوعة تاريخ الكوفة ج1، ج2) لمؤلفها كامل سلمان الجبوري، ومن المعاجم معجمي (رجال الفكر والأدب في العراق والنجف) و(معجم المطبوعات النجفية) لمؤلفها محمد هادي الأميني.

لم تستثن الدراسة المصادر الأجنبية باللغة الإنكليزية ومنها كتاب (history of Middle East Studiesin the economics) لـ(M. A. Cook) و(Encyclopedia Britannica) لـ(William Benton) ومن الجدير بالذكر تميزت هذه الدراسة باستخدامها أعداداً كثيرة من الصحف والمجلات والدوريات التي حصل عليها الباحث من خلالها على المعلومات الدقيقة التي توارت عنها خطى الباحثين، وعلى وجه الخصوص عند الخوض بموضوع التطورات والمشكلات (الاقتصادية والعمرانية والخدمية) حتى وصل الأمر في بعض الحالات أن تكون الهوامش مليئة بها ولصفحات عدة من دون ذكر مصادر أخرى غيرها، فمن الصحف الأكثر استخداماً صحيفتي (الهاتف والراعي) ومن المجلات (الغري والاعتدال والاقتصاد والبيان) ومن الدوريات آفاق نجفية.

لقد واجهت الباحث مجموعة من المشكلات فرضتها الحالة المتردية للوضع الأمني في البلد، بسبب ما حملته الأيام من مفاجآت آنية عشية البحث، وذلك قدر العراقيين ككل…

 

                                                                                                الباحث

 

التمهيد

لمحة تاريخية موجزة عن مدينة النجف الأشرف

أولاً: الموقع والطبيعة الجغرافية للمدينة:

برزت مدينة النجف الأشرف واحدة من بين المدن الحضارية المهمة (العربية) و(الإسلامية) عبر مراحل التاريخ، وخصوصاً بعد احتضان ثراها جسد الإمام علي بن أبي طالب(ع) فأصبحت بذلك مدينة مقدسة متميزة من بين حاضراتها من المدن أعلاه.

 تقع مدينة النجف على حافة الهضبة الصحراوية الغربية من العراق. يحدها من الشرق مدينة الكوفة على بعد 10 كيلومتر وتحدها من الشمال مدينة كربلاء على بعد 80 كيلومتر، أما من الجنوب والغرب فمنخفض بحر النجف.

 والحيرة منها على ثلاثة أميال. وبلغت مساحتها حوالي 1338 كيلومتر مربع تقريباً، وكان أقصى ارتفاع لهضبتها قد بلغ 176 متر فوق مستوى سطح البحر، والمستوى العام لارتفاع الهضبة باتجاه حافاتها الغربية يتراوح ما بين (100ـ120) متر.

أما سطحها فيتميز بالتنوع الطبيعي ويشتمل على نوعين من أنواع السطح وهما: (السهل الرسوبي) و(الهضبة الغربية) اللذان يشكلان معظم أقسامها الوسطى والجنوبية. تقع مدينة النجف الأشرف ضمن خط عرض 32 درجة ودقيقتان إلى جهة الشمال والى جهة الشرق ضمن خط طول 44 درجة. وتأسيساً على ذلك، فإن معدل ما ينزل بها من أمطار سنوياً يتراوح ما بين (1ـ5) قطرات في كل عقدة (بوصة)، فأصبحت بذلك عرضة لاختلاف درجات الحرارة والبرودة طوال أشهر السنة، فصيفها شديد الحرارة، تهب فيه الرياح اللافحة (السموم) حتى تصل حرارته إلى درجة (45.5) درجة مئوية.

أما شتاؤها فشديد البرودة حتى تصل درجته إلى تحت الصفر أحيانا.

تميز مناخها بانخفاض نسبة الرطوبة وسيادة الرياح الغربية، إذ كانت في أغلب الأحيان عرضة إلى العواصف الترابية. أما موقعها إدارياً فإن مدينة النجف هي مركز قضاء النجف التابع إدارياً للواء كربلاء. خلال المدة المعنية بالدراسة.

ثانياً: النجف أصل التسمية واشتقاقها اللغوي:

النجف لغة، النون والجيم والفاء أصول صحيحة، هو المكان المستطيل المنقاد الذي لا يعلوه الماء وجمعه نجاف. ويقال: (هي بطون من الأرض في أسفلها سهولة تنقاد إلى الأرض لها أودية تنصب إلى لين من الأرض). وكذلك وردت في اللغة أيضاً: هي الأرض المستديرة المشرفة على ما حولها والنجف محركة التل وبها المسناة، ومسناة بظاهر الكوفة تمنع ماء السيل أن يعلو مقابرها ومنازلها ونجفة الكثيف وروي أن النجف كان جبلاً عظيماً، وعندما أراد ابن النبي نوح(ع) الهروب من الطوفان إذ قال: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ). إذ لم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه، فأوحى الله إليه يا جبل أيعتصم بك مني فتقطع قطعاً إلى بلاد الشام وصار رملاً دقيقاً ومن ثم صار بحراً عظيماً سمي (ني) ثم جف فقيل (ني جف) ومن ثم أصبحت تسميته (نجف) لأن لفظه أخف على الألسن.

أما النجف اصطلاحاً فهي المدينة المقدسة لدى مسلمي العالم، وهي مركز مهم لتعليم العلوم الدينية واللغة العربية. وسميت النجف بعدة أسماء هي: بانيقيا. و(ظهر الكوفة، اللسان، خد العذراء، براثا، الربوة، الثوية، الطور، الجودي، البيض، عين سلمى).

إلا أن أكثر التسميات شيوعياً هي: (الغري، المشهد، وادي السلام).

ثالثا: النجف الأشرف منشأها وأهميتها عبر المراحل السابقة

ارتبطت مدينة النجف من الناحيتين التاريخية والجغرافية بـ(الحيرة). والكوفة إذ كانت هناك نجفان: (نجف الكوفة) و(نجف الحيرة). وانفردت النجف بتسمية (نجف الكوفة) لاحتواء ثراها لجسد الإمام علي(ع) ونشوء مدينة حول القبر الشريف بعد أن كان يزار سراً حتى ظهوره سنة (787م) على يد الخليفة العباسي هارون (786-809 م) عندما أمر بإقامة أول بناء على القبر الشريف.

بدأت أهمية مدينة النجف بعد ظهور القبر الشريف، فنشأت العمارة حول المرقد المقدس وعلى أثر ذلك، استقر بعض العلويين والخاصة من الشيعة، فأخذت بالتوسع شيئاً فشيئاً ولم ينته القرن (العاشر الميلادي) حتى أصبح في النجف من السادة العلويين ما يقارب الألف وتسعمائة نسمة عدا غيرهم من الشيعة.

وازدهرت بعد ذلك إبان الحكم البويهي (942-1055م) لبغداد واستمر ذلك الازدهار في المراحل التاريخية اللاحقة حتى بلغت مرحلة متطورة بعد انتقال الشيخ الطوسي إليها سنة 1056م الذي أنشأ فيها الحوزة العلمية جامعة النجف الدينية والفكرية التي سيرد الحديث عنها لاحقاً فأصبحت بذلك مركزاً متقدماً للدراسة والبحث.

وفي العهد العباسي الأخير (1155-1258م) لقيت النجف عناية خاصة من الخليفة العباسي الناصر لدين الله (1179ـ1225م) إذ قام ببناء المساجد وتوسعتها وأمر بإقامة عدد من المدارس الدينية وتعمير الضريح الشريف أيضاً, وبذلك أصبحت المدينة متسعة للعين أكثر من ذي قبل.

أما في القرنين (الثالث عشر والرابع عشر الميلادي) فقد اتسعت النجف من الناحيتين العمرانية والسكانية في عصر السلطتين الأيلخانية (1258-1335م) والجلائرية (1337-1411م) إذ بذلت أموالاً طائلة من خزائنهم فعمروا بها المدارس والمساجد وأجروا إليها الأنهار.

وفي عهد الدولة الصفوية (1507ـ1534م) أي بعد مرحلة دولتي الخروف الأسود والأبيض (1411ـ1507م) إذ بلغت النجف موقعاً متقدماً من الازدهار، وبعد أن جاءها عدد من التجار فأنشأوا وعمروا ووسعوا فيها.

أما بعد العهد العثماني الأول (1534ـ1750م) فقد أصابها الركود بسبب الحروب الطاحنة بين العثمانيين والصفويين.

 وشهدت المدينة في عهد المماليك (1750-1831م) نهضة أدبية وعلمية كبيرة.

وعند عودة العثمانيين لحكم العراق (1831-1914م) فقد استطاعت النجف طوال حكمهم أن تعيش وضعاً شبه مستقل، إذ كانت المدينة الأبرز من بين مدن العتبات المقدسة في العراق وأخذت منذ أوائل القرن العشرين تمارس أثرها الديني الذي أثر بشكل ملحوظ في الوضع السياسي في العراق.

 

الفصل الأول

طبيعة المجتمع النجف منذ إعلان الحرب العالمية الثانية

حتى نهاية الانتداب البريطاني (1914-1932م)

أولاً: التركيب الاجتماعي لسكان مدينة النجف الأشرف

1. أعداد السكان:

اختلفت التقديرات التخمينية لسكان مدينة النجف في تلك السنوات بين (1914-1932م) على الرغم من التقريب النسبي بين تلك الأعداد فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر التقرير البريطاني الذي أصدرها الحاكم العسكري البريطاني لمنطقة الشامية سنة 1918م إن عدد سكانها يبلغ حوالي (45000) نسمة، أما جعفر الخياط فقدر نفوسها في تلك المرحلة من خلال بحثه المنشور في موسوعة العتبات المقدسة بـ(40000) نسمة.

في حين قدر (حسن الأسدي) في كتابه (ثورة النجف على الإنكليز) عدد سكانها سنة 1918م وبشكل تقريبي (45000) نسمة. وأعطى (محمد علي كمال الدين) في كتابه (النجف في ربع قرن) رقماً تخمينياً تراوح ما بين (30ـ35) ألف نسمة بضمنهم الأقلية المهاجرة الأجنبية، إذ قدر عددها بـ(7000) مهاجر, إلا إن أقرب تلك الإحصاءات التخمينية ما ذكره سعد عبد الرزاق محسن في رسالته الموسومة (محافظة النجف دراسة في جغرافية السكان) فضلاً عن ما ذكره محسن عبد الصاحب المظفر في كتابه (مدينة النجف الكبرى دراسة في نشأتها وعلاقتها الإقليمية) من خلال الجداول الإحصائية التي أعدوها لذلك الغرض، فقد ذكروا أن عدد سكان المدينة ما يقارب (38.827) نسمة. ويمكن الاستدلال على أن الرقم الأخير هو الأكثر قبولاً لأنه جاء ضمن دراسة علمية بخطوات أكاديمية.

2. مكونات المجتمع:

امتازت مدينة النجف الأشرف بمجموعة من الخصائص، خلت منها أغلب المدن العراقية الأخرى، فقد اشتركت مجموعة من العوامل (الدينية، الاقتصادية، السياسية… الخ) لتكوين ذلك النسيج الاجتماعي المتعدد في أصوله العرقية. فمنها من كان أصله عربياً من قبائل مهاجرة من الجزيرة العربية كما هو الحال مع قبائل عنزة وشمر، والآخر انتمى إلى عشائر عراقية سكنت ضفتي دجلة والفرات, فضلاً عن الأقليات الأجنبية المهاجرة من المدن الإسلامية المختلفة.

وبمراحل متعاقبة من تاريخ المدينة، شكلت تلك التركيبة السكانية ما يقارب (471) رهطاً. سكنت المنطقة المحيطة بالمرقد الشريف من جهاته الأربع, فامتلكت الأرض ومارست العمل، فزاد تركزها، وانقطعت عن موطنها القديم التي هاجرت منه، فقدرت نسبة الأسر المهاجرة بـ (95%) من التركيبة السكانية للمدينة والتي مثلت الهجرة الأولى حتى سنة 920, واختلفت مدينة النجف الأشرف عن حاضراتها من المدن العراقية في طريقة تقسيمها لفئات المجتمع، فعندما صنفت المدن العراقية مكوناتها الاجتماعية على أساس اقتصادي، فإن النجف صنفت مكوناتها إلى أساس ديني.

وبناء على ذلك فقد تكون المجتمع النجفي من خمسة فئات كما يأتي:

أ. رجال الدين وطلبة العلوم الإسلامية:

حازت مدينة النجف على الزعامتين الدينية والعلمية من خلال حوزتها العلمية فأصبحت بذلك العاصمة الروحية لمسلمي العالم. فاستوطنها كبار العلماء وطلبة العلم، فنشأت فيها الزعامات الدينية، فأصبحت موضعاً لمشورة المسلمين فيم معاملاتهم المختلفة.

وتنامى أثر رجال الدين وطلبتهم، فأصبحوا الفئة المميزة ليس في أوساط المجتمع النجفي فحسب، بل في العراق والمنطقة. وكانت مرحلة الانتداب البريطاني إحدى محطات الاختبار لمجموعة من رجال الدين الذين كان لهم الأثر الفاعل في تغيير ملامح الواقع السياسي العراقي والتصدي للمحتلين الجدد.

ب. السدنة وخدمة الروضة الحيدرية:

وهي أقدم الفئات الاجتماعية التي سكنت المدينة بعد ظهور القبر الشريف سنة 787م. كان عملها الرئيسي، إدارة شؤون المرقد العلوي وتقديم الخدمات المتنوعة لزائريه وأصلهم من السادة العلويين، ومن ثم انضم إليهم بعد حين من يقوم ببعض الخدمات الأخرى مثل التنظيف وأمور الإدارة الأخرى، وكانوا من أصول غير علوية. ومن الجدير بالذكر، فإن سدانة المرقد الشريف منصب رفيع عقدته الحكومة العثمانية وكتبت فرماناً خاصاً لبعض الأسر النجفية، ومن ثم أصبح تقليداً وراثياً انحصر ببعض الأسر المحددة.

ت. العامة:

وهي الفئة التي سماها بعض المؤرخين بـ(المشاهدة) أو (العمايدة) وهي أكثر فئات المجتمع عدداً، فسيطرت على شؤون المدينة، وجلهم من أبناء القبائل العربية الذين احتفظوا بتقاليدهم العربية، واعتاد بعضهم على حيازة السلاح وحمله من أجل أن تكون لهم الرئاسة والسيطرة على المدينة والتي أطلق عليها فئتي (الزكرت والشمرت), وفضلاً عن فئتي الزكرت والشمرت، فقد شكلت الأسر العلوية وغير العلوية النسيج الاجتماعي لمجتمع المدينة، وكانت الأسر العلوية أقدمها سكناً، ومن أبرز الأسر العلوية في النجف هي (آل الحبوبي وآل الخرسان وآل الخياط وآل زيني وآل كمونة وآل الحكيم وآل بحر العلوم وآل البكاء وآل الجابري وآل جريو وآل الحمامي وآل الحلو وآل الصائغ وآل زوين وآل الجوفي وآل الرفيعي وآل علي خان… الخ). أما أبرز الأسر غير العلوية: (آل كاشف الغطاء وآل الجواهري وآل الشرقي وآل الأعسم وآل شلاش وآل محبوبة وآل سميسم وآل شمسة وآل الصفار وآل عنوز وآل الفضلي وآل الكيشوان وآل الغطاوي وآل شعبان… الخ).

ث. المرأة النجفية:

على الرغم من امتلاك المرأة النجفية جل التقدير والاحترام، إلا أن المجتمع بصفاته الدينية والعشائرية جعلها تقبع في بيتها وتلبي كل متطلبات الزوج اليومية, وبقيت جزءاً من بيتها، لا تختلط بغير أهلها، إلا في المناسبات الدينية والمآتم الحسينية أو حفلات الأعراس التي تقيمها نساء المحلة، وإذا رغبت في الخروج ورأت رجلاً من بعيد فإنها تتنحى في زاوية من الطريق حتى يبعد عنها، على الرغم من إنها حرصت كل الحرص على ارتداء ما يستر بدنها لأنها ترى فيه عنواناً لسلامة دينها وأخلاقها.

وكان عذر مختار المحلة مقبولاً لدى المحاكم إذا طلبت منه إحضار امرأة واعتذر عن ذلك بحجة أنها (مخدرة), وحرم عليها التكلم بصوت عال في دارها لئلا يسمعه المار.

ونتيجة لذلك فقد برزت مجموعة دعوات لرجال دين ومصلحين اجتماعيين مطالبين بتخليصها من مجموعة من الآفات (الأمية، الجهل، المرض) بما لا يتعارض مع ما جاء به الدين الإسلامي من تأكيد على تكريمها من الله في القرآن الكريم والسنة النبوية التي حددت واجباتها وحقوقها واعتبرتها الأساس الذي يقام عليه بناء المجتمع.

وظلت دعواتهم مستمرة في المطالبة بتعليمها والقضاء على الجهل والخمول بين أوساط الفتيات ومن أبرزها دعوة محمد رضا الشبيبي. الذي وصف تلك الدعوات بقصيدة قال فيها:

كم فتى في العراق أضحى مقلاً
وكساني غيابة الجهل حتى
قد تربى عن النهي مستقلاً

من كمال وكم فتاة مقله
لم يسع جهلها المحيط وجهله
وتربت عن الحجا مستقلة

 

وجاءت دعوات السيد هبة الدين الشهرستاني مكملة لآراء الشبيبي وطروحاته الإصلاحية بالتركيز على الجانب العلمي في تكوين المرأة مؤكداً حرص الدين الإسلامي على حفظ المرأة وعدم تعرضها للأخطاء الاجتماعية، مستعرضاً لوضعها في الشرق وبيان ما أصابها من ظلم بعيد عن الدين. مستشهداً بالآية القرآنية في قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ).

جـ. الأجانب:

نتيجة لتمتع مدينة النجف الأشرف بالقداسة الدينية والمزايا العلمية، مما جعلها مدينة تحمل خصائص الجذب السكاني للاستيطان ومحط أنظار الفئات المسلمة الأجنبية المهاجرة، وما ساعد في ذلك فعالية عناصر الطرد السكاني للمهاجرين وما تعانيه بلدانهم من مساوئ الفقر والجهل وانتشار الأوبئة. وكان من أبرزها الهجرات (الفارسية، والهندية والتركية والأفغانية), ومجموعة ضئيلة من اليهود بلغت (39) شخصاً.

واختلفت مقاصد المهاجرين وتنوعت، فمنهم الفئة الروحية التي بلغ عددها الخمسة آلاف تقريباً ممن انتموا إلى مدارسها الدينية واستقروا بها، وتجنبوا الاختلاط بسكان المدينة ما أمكن، لانشغالهم بالدراسة وتوابعها، وبمرور الوقت أصبحت الرئاسة الدينية والمرجعية تحت سيطرتهم فأصبح معظم العلماء المجتهدين المقلدين منهم. أما الفئة الأخرى ومنهم التاجر والصانع المحترف، الذين بلغ عددهم السبعة آلاف تقريباً إذ اختلفت عن سابقتها فقد اختلط معظمهم مع سكان المدينة، كما حصل بعضهم على الجنسية العراقية، وأصبحوا لا يختلفون عن النجفيين من حيث اللغة والأزياء وممارسة العادات والتقاليد الاجتماعية اليومية.

ونتيجة لزيادة أعداد المهاجرين الأجانب، برز في مدينة النجف تياراً إصلاحياً داعياً إلى إيقافها والحد منها موضحاً سلبياتها على العراق بشكل عام والنجف بشكل خاص وتهديدها لأمنه الوطني. وقد حذر الشيخ علي الشرقي من تلك الهجرات وخصوصاً الفارسية ووصفها بأنها العصارة غير النافعة التي تريد استغلال المدينة بثرواتها وسرقتها من أهلها. وقد أثبتت دعوى ذلك التيار الإصلاحي صحتها، وخاصة عندما سد المهاجرون على ابن المدينة أسباب رزقه، متجاوزين بذلك حدود الضيافة محاولين التدخل في شؤون المدينة الدينية، السياسية الاقتصادية، الاجتماعية.

فكانت نتيجة ذلك ثورة الروح الوطنية ضد الأجنبي وعده غاصباً وعدواً لدوداً، ومما ساد في ذلك الاتجاه سياسة الدولة العراقية في الحد من تنامي ذلك النفوذ وخاصة (الفارسي) في مدن العتبات المقدسة ومنها النجف. ومن أجل إلغاء الامتيازات التي تمتع بها الأجانب، فقد أصدرت الحكومة العراقية مجموعة قرارات، كان من أهمها قانون الجنسية العراقية سنة 1924م. وقوانين أخرى لحقته. مما أدى إلى انحسار أثرهم والحد من امتداد نفوذهم.

3. طبيعة العلاقات القائمة في المجتمع النجفي:

إذا كانت القبيلة أو العشيرة تشكل محور علاقات التنظيم الاجتماعي للريف فإن (المحلة) شكلت محور التنظيم للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد في مجتمع المدينة خلال سنوات الانتداب البريطاني. وكانت المحلة تتألف من شارع عريض نسبياً وأزقة تابعة له، يعرف الواحد منها (عكد) وتتألف من مجموعة دور، تتجه مداخلها إلى (عكود) أو إلى الشارع الرئيسي. فمدينة النجف الأشرف تكونت من أربع محلات هي: المشراق والعمارة والبراق والحويش. وقد كون سكان المحلة الواحدة خليطاً اجتماعياً واحداً، على الرغم من كون بعض (العكود) اختص أهلها بمهنة معينة أو قومية معينة أو طائفة دينية. وفرضت الحياة المشتركة لأبناء المحلة نوع من الولاءات العصبية لمحلتهم في أحيان كثيرة على حساب الولاءات الأخرى (القومية، القبلية، المهنية) في حالة تعرض محلتهم إلى الاعتداء من المحلات المجاورة الأخرى. وعلى النقيض من ذلك كله، كان النجفيون يتناسون عداءاتهم ويتحدون اتجاه أي تهديد خارجي منفذين بذلك المثل البدوي (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب).

وبلغت وحدة النجفيين ذروتها في نيسان سنة 1915م عندما انتفضوا على العثمانيين بعد هزيمتهم في معركة الشعيبة وطردوهم من المدينة ومحيطها. وتولى زعماء المحلات الأربع إدارة المدينة. ومن أجل تنظيم العلاقات الاجتماعية ما بين المحلة الواحدة في تلك المرحلة أصدر زعيم محلة البراق وثيقة التزم أبنائها بموجبها فيما بينهم للدفاع عنها وصيانة وحدتها.

واستمرت المدينة على ذلك الحال حتى الاحتلال البريطاني لبغداد في 11 آذار 1917م. عندما أخذ البريطانيون يتدخلون في شؤونها، بعد أن قرروا انتزاع السلطة من زعمائها، وتعيين حاكماً عسكرياً عليها كانت نتيجته ثورة النجف عليهم في 19 آذار 1918.

وعلى أثر تلك الثورة فقد تصدع جدار الوحدة بين النجفيين من خلال استخدام المستعمر سياسة الترهيب والترغيب أو سياسة فرق تسد مع زعماء المدينة وأبناءها.

4. طبيعة العادات والتقاليد في المجتمع النجفي:

أ. الأعياد والمناسبات الاجتماعية المختلفة:

انحصرت ممارسة المجتمع النجفي لعاداته وتقاليده في إطار الأعياد الدينية والاجتماعية، ومنها على سبيل المثال عيدي الفطر والأضحى. وعيدي الغدير والنوروز.

 أما المناسبات الاجتماعية الأخرى فهي عديدة يمكن لنا أن نستعرضها كما يأتي:

1. الزواج:

مارس المجتمع النجفي تقاليده الخاصة بالزواج كما يبغيها الشارع الإسلامي، إذ قضى حصول موافقة أطراف ثلاثة هم (الفتي والفتاة) فضلاً عن (أهل الفتاة) لإتمام عقد الزواج. فهناك مجموعة من الخطوات المتداخلة مع بعضها البعض من الواجب نجاحها، لغرض الوصول إلى الهدف الرئيسي، كان من أهمها (الخطبة) فعند حصول الموافقة الأصولية من أهل الفتاة ومن ثم تأتي الخطوة الثانية والمتمثلة بإرسال النيشان ثم عقد القران ومن بعده ليلة الحنة والزفة والدخلة ومن ثم الصبحة وأخيراً السبعة.

ومن الجدير بالذكر فقد لاحقت المجتمع بما يخص الزواج مجموعة من التقاليد والأعراف المقيتة التي لا تمت إلى الدين الإسلامي بأي صلة، وبقي المجتمع النجفي أسيراً لتلك التقاليد التي سببت الحرمان لكثير من الفتيات في ممارسة حقوقهن الشرعية.

2. الختان:

وهو من العادات الاجتماعية الثابتة عند المجتمعات الإسلامية ومنها المجتمع النجفي إذ كانت مناسبة الختان عندهم لا تقل أهمية عن المناسبات الأخرى، وجرت العادة في تلك المناسبة، بأخذ الأطفال قبل يوم الختان إلى الحمام وعند خروجهم منه تقام لهم زفة بواسطة عربات خشبية تجرها الخيول، وتبدأ من الحمام حتى ضريح الإمام علي(ع) وعلى طول الطريق ينثر عليهم الحلوى وماء الورد حتى وصولهم البيت. وفي الليل يوزع ذويهم على الجيران الحنة فضلاً عن الحلويات، وعند الصباح يحضر المدعوون إلى جانب أهل البيت وأقربائهم بانتظار (المطهرجي)ـ ويكون الحلاق دائماً وخلال فترة الانتظار يتم إحضار الفرقة الموسيقية، ومن ثم تتم عملية الختان، بعدها يتم تقديم الفطور للضيوف.

3. المآتم:

وهي إحدى المناسبات الحزينة، التي حتمت على المجتمع النجفي إقامتها عندما يتوفى أحد أفراد المجتمع، إذ كانت تقام له مجموعة مراسيم، تبدأ بتشييع واسع في المدينة، بعد إجراء التغسيل له، ومن ثم يتولى الشباب الأقربون للمتوفى حمل الجنازة وإدخالها في الصحن العلوي الشريف، لتتم الصلاة عليها، بعد ذلك يطاف بها داخل الضريح، ثم تحمل خارجاً، وإذا صادف مرور التشييع في إحدى أسواق المدينة، يغلق أصحاب الحوانيت أبواب حوانيتهم أثناء مرور الجنازة احتراماً لها. وبعد انتهاء عملية الدفن يعلن عن المكان الذي يقام فيه مجلس الفاتحة للرجال والنساء.

ب. الشعائر والممارسات الدينية الأخرى:

للشيعة طقوس دينية تميزوا بها، كانت أعظم وسائل الدعاية تأثيراً في النفوس كان من أهمها العزاء الحسيني التي تبدأ من اليوم الأول لشهر محرم من بداية السنة الهجرية وتستمر حتى اليوم العاشر منه وتمارس تلك المراسيم من خلال إقامة المجالس الحسينية. ومواكب العزاء فضلاً عن تمثيل أحداث واقعة الطف بشكلها الحقيقي في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام ولم تكن المجالس الحسينية حكراً على الرجال فقط بل كان للمرأة النجفية دور في إقامتها.

وعلى الرغم من شعبية تلك الشعائر والممارسات، إلا أن بعضها واجه شيئاً من الاعتراضات الشرعية ولاسيما من التيار الإصلاحي النجفي للأعمال التي مارسها بعض من أصحاب العقول اللاواعية في المجتمع النجفي في المناسبات الدينية الأخرى والتي أساءت للدين الإسلامي ومبادئه، واعتبروها أعمالاً لا أخلاقية فضلاً عن المواقف التي اتخذتها الحكومة العراقية اتجاه تلك الممارسات سنة 1928م عندما حاولت منع إقامة تلك الشعائر والتضييق عليها، غير إنه رفع في السنة التالية، وفي سنة 1932م أعادت الحكومة من تضييقها ومنعت من إقامتها. وعلى الرغم من ذلك كله فقد أعلنت الحكومة العراقية في وقت سابق اليوم العاشر من شهر محرم الحرام عطلة رسمية، وأمرت بتنكيس العلم العراقي إلى النصف في جميع دوائر الدولة.

ت. الأزياء:

ذكرنا فيما سبق من أن مدينة النجف الأشرف تميزت بأنها مركزاً لاستقطاب الهجرات الأجنبية من مختلف المدن سواءً كانت عراقية أم عربية أم أجنبية إلا إن تلك الهجرات لم تترك أثراً في عادات وتقاليد المجتمع العراقي ومنها الأزياء بل العكس من ذلك. فضلاً عن إن البعض من ألزم نفسه باحترام زي عائلته الذي فطن عليه، بالرغم من اختلاف مركزه الاجتماعي. فقد اختلفت أزياء النجفيين ما بين فئة وأخرى.

فعلى سبيل المثال، اختص العلماء ورجال الدين بزي موحد تقريباً فكانت لباسهم العمامة والجبة والعباءة الخفيفة في الصيف والثقيلة في الشتاء، ويحتذون في أقدامهم (المداس) ومن لوازم ذلك الزي إطلاق اللحية، وتميز بعضهم بترك طرف العمامة سائباً على الصدر واختلف سدنة الروضة الحيدرية عن لباس رجال الدين بارتدائهم الكشيدة بدل العمامة فقط. أما لباس العام من أبناء النجف الأشرف فكان يحتوي على العقال الذي يلبس فوق الكوفية أو الشماغ ويلبس تحت أحدهن (العرقجين) فضلاً عن الصاية والدشداشة والعباءة، ويلبس الحزام لتثبيت الملابس على الجسم، الذي يصنع من (الجلد أو المطاط أو القماش) كما يلبس بعضهم الفروة في فصل الشتاء.

ومن الأزياء الشائعة في المدينة البدلة الرجالية الجاكيت والبنطلون وهو لباس أوربي الأصل. اختص بلبسه موظفي الحكومة والأفندية. ويحتذون مختلف الأحذية، وكانت طبقة الكسبة والشباب والصغار يلبسون الخف (النعال) ويلبسه غالبية السكان في بيوتهم.

أما النساء فكن يلبسن العباءة الصوفية أو الكتان التي تصنع محلياً، وأخرى تضعها على الأكتاف وتخط على الأرض تسمى (سرساحة)، أما لباس الرأس فكان العصابة والشيلة التي تغطي الرقبة والصدر وتحيط بالوجه من تحت الحنك، أما الوجه فيغطى بالحجاب (البوشية) وهي من طبقتين، إحداهما خفيفة والأخرى سميكة وترتدي في قدمها جواريب خاصة بها تسمى (محس) وتلبس النساء الأحذية ذات الكعوب العالية والشحاطات وكانت الطبقة الفقيرة من النساء حفات لا يلبسن الحذاء.

ت. التسالي والألعاب:

لم تكن التسالي والألعاب بمعزل عن تقاليد المجتمع وعاداته، بل عدت جزءاً من ممارسته اليومية وجزءاً من تراثه. وكانت الألعاب الشائعة آنذاك ذات أغراض ومقاصد متعددة، فبعضها بقصد التسلية وبعضها رياضة للجسد، والبعض الآخر للمقامرة أو لسد الفراغ، وشملت الجنسين وهي كثيرة ومتعددة،فمنها على سبيل المثال الزورخانة و(المحيبس، الحبل، الدعبل، حرامية ونواطير، المراصع، خط يوشير، الجروخ، شبي ياحيدة، صندوقنا العالي، يحمصة يزبيبة، طيارات الورق، الفرارات، المراجيح، عظيم الضايع، المعجال، العرباين، اللكو، الطيور، اللعابات، الطمة، الدوز… الخ)

ج. عادات وتقاليد أخرى:

وهناك عادات وتقاليد أخرى، مارسها النجفيون ولكنها بشكل منقطع ولفترات متباعدة فمنها على سبيل المثال، عملية (كسر الشراب) بعد انقضاء شهر صفر المشهور لديهم بالثقل والنحس. وكان للحج نصيب من تلك العادات، إذ كان النجفيون ينصبون الخيام في منطقة المناخة ثلاثة أيام وعند صبيحة اليوم الثالث يقرع الطبل الخاص بالسفر ويرفرف علم أمير (الحج) أما المسافرون لغير الحج فكان يمرر فوق رأسه القرآن الكريم ويتم سكب الماء وراءه وللدار الجديدة نصيب من تلك العادات، إذ كان النجفيون عندما ينتهون من بناء الدار الجديد يقومون بذبح ماعزاً (سخلاً) ويأخذون رأسه ورجليه لدفنها في مدخل البيت الجديد كما مارس المجتمع النجفي اتجاه الظواهر الفلكية مجموعة من العادات الاجتماعية منها على سبيل المثال عند حدوث ظاهرة خسوف القمر كانوا يقومون بضرب الطبول والصحون وإيقاد النيران في الأماكن المرتفعة ظناً منهم أن الحوت ابتلع القمر فيرددون:

يا حوتة البلاعة هدي كمرنه بساعة.

وفي شهر رمضان وبمناسبة ولادة الإمام الحسن(ع) التي تصادف في الخامس عشر منه. تقدم البيوت النجفية أطباقاً من الحلوى للأطفال الذين يقفون على أبوابها ينشدون نشيد الماجينة.

ومن العادات والتقاليد الأخرى، تحسس المجتمع النجفي من بعض أصوات الطيور وعدها مصدراً للشؤم، مثال ذلك أصوات الغراب والبوم وبعض الطيور المهاجرة، فضلاً عن تفضيلهم أكل السمك يوم الأربعاء لاعتقادهم إنه يجلب الرزق ويكره أكله يوم السبت لاعتقادهم أنه يجلب الفقر، كذلك يكره ترك القرآن الكريم مفتوحاً لئلا تقربه الشياطين، ويكره قص الأضافر ليلاً لأنه تورث الفقر ويستحب قصها صباح يوم الجمعة.

ثانياً: أثر الواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي على المجتمع النجفي بين (1914-1932م):

1. أثر الواقع الاقتصادي:

لاشك من أن الموقع الجغرافي والتاريخي لمدينة النجف كان له تأثيراً على المدينة ومجتمعها، إذ أصبحت المدينة محطة تجارية مهمة ارتبطت بالعالم الخارجي والداخلي بواسطة مجموعة من الطرق البرية التي ساعدت على إنماء الواقع الاقتصادي الذي أثر بشكل مباشر على المدينة ومجتمعها.

واستطاعت مدينة النجف الأشرف القيام بدور الوسيط بين تجارة البادية ونجد والحجاز في أوائل القرن العشرين وأصبحت لها جاليات مارست أعمالاً تجارية على نطاق واسع إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى (1914ـ1918م) وكان النجفيون يستوردون من إمارة حائل الخيول العربية والحمير والبغال والماعز والأغنام والسروج والجلود والأحزمة والأحجار وغيرها من مواد أخرى، مقابل ذلك كانت النجف تصدر التمور إلى دمشق ومدينة حلب لارتباط أبناءها بعلاقات تجارية مع بيوتات تجارية كبيرة فيها.

وصدرت الزيت المستخدم للإضاءة,والحبوب وخاصة الرز والعباءات الثقيلة (البريم) والخفيفة (الخاجية) والجلود غير المدبوغة وبكميات كبيرة وغيرها من المواد الأخرى وارتبطت بعلاقات تجارية مع عمان واليمن والكويت والبحرين وبلاد فارس.

أما تجارتها الداخلية فقد مارستها وبشكل منظم من خلال أسواقها الداخلية التي كانت ضمن محلاتها الأربع، وسوق خارج البلدة سمي بـ(المناخة) احتوى مجموعة حوانيت اختصت ببيع الملابس والأحذية والدلال والتي تتناسب مع طلبات أهل البادية واحتياجاتهم, وكان السوق الكبير يمثل الشريان الرئيس للمدينة ومركزاً للتبادل التجاري بنوعية الجملة والمفرد ويتفرع منه سوق خاص بـ(الصفارين).

وسوق اليهود وسوق (عكد الحمير) وسوق (التجار) والأخيران يمثلان منطقة البيع بالجملة, وانفرد سوق محلة العمارة ببيع الأسماك والفحم والحطب ومنتوجات الفخار.

 

واشتهرت مدينة النجف الأشرف بتجارة التهريب أو ما يسمى (القجغ) التي انحسرت بزعماء محلاتها الأربع والبعض من تجارها فقط، وكانت أهم البضائع المتداولة في التهريب هي الأسلحة والعتاد والأقمشة والسجائر التي جلبت على ظهور الإبل عن طريق البادية.

وشهد المجتمع النجفي تغيراً ملحوظاً في واقعه الاقتصادي بين (1915-1917م) بفعل عوامل رئيسة ثلاث أولها: استقلال المدينة بعد طرد العثمانيين منها، والثاني: متاجرتها ببضائع الهند التي غمرت البصرة بعد سيطرة القوات البريطانية عليها، والثالث: بسبب ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية والنفط الأبيض بسبب تزاحم الطرفين المتحاربين (العثمانيين والبريطانيين) على شرائها لتموين الجيشين. والجدول يبين لنا حجم الزيادة التي أثرت بشكل إيجابي على زيادة التبادل الاقتصادي وتطوره.

اسم المادة

سعرها قبل الحرب

(سعر الطن الواحد)

سعرها أثناء الحرب

(سعر الطن الواحد)

نسبة الزيادة المئوية

الحنطة

13.3 ليرة عثمانية

60 ليرة عثمانية

22.17%

الرز

8.6 ليرة عثمانية

30 ليرة عثمانية

28.6%

الشعير

5 ليرة عثمانية

30

16.6%

التمر

4.4 ليرة عثمانية

20 ليرة عثمانية

22%

(15) لتر من النفط الأبيض

¼ ليرة عثمانية

2.5 ليرة عثمانية

10.8%

 

جدول يمثل الزيادة التي طرأت على بعض المواد الغذائية والنفط الأبيض

وساهمت واردات أوقاف أودة على إنماء الواقع الاقتصادي وبشكل مميز. فضلاً عن المواد الناتجة من جراء استقبال المدينة لمئات لآلاف من الزوار المحليين والأجانب سنوياً, وما كان يؤول إليها من موارد مالية أخرى نتيجة دفن الموتى في مقبرة وادي السلام.

2. أثر الواقع السياسي:

عرفت مدينة النجف الأشرف بالعديد من المواقف الوطنية الرافضة للاحتلال سواء كان عثمانياً أم بريطانياً. وبرزت تلك المواقف وبشكل مباشر في مطلع القرن العشرين بعد أن شرعت القوات البريطانية باحتلال العراق أثر اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م التي ترافق معها انهيار العثمانيين عسكرياً وإدارياً.

 وانصب اهتمام العثمانيين بالدرجة الأولى على إقناع الشيعة لإعلانهم فتوى الجهاد، وكانت أولى خطواتهم إرسال وفد رفيع المستوى إلى مدينة النجف الأشرف يتناسب مع حجم المهمة المكلفين بها.

وبناءً على ذلك فقد أفتى علماء الدين في النجف بوجوب الدفاع عن الإسلام وداره، ولم يتوقفوا عند إصدار الفتوى فحسب، بل قاموا بقيادة تلك الجموع والمشاركة في العمليات العسكرية بأنفسهم, وعلى الرغم من تداعي الموقف العسكري بسبب الظروف التي أحاقت بهم إلا أنهم استمروا في بث روح الثورة، والمقاومة ضد المستعمر الكافر، والإصرار على فتوى الجهاد القائلة (إن إمارة الكافر غير جائزة وقتاله هو أعظم الواجبات).

وعلى أثر هزيمة العثمانيين في معركة الشعيبة، وعدم تموينهم لجيش المجاهدين بالغذاء والعتاد، وإعلانهم الأحكام العرفية ثم القيام بحملات التحري ضد الفارين من المعارك لم تستثن النساء منها، حتى وصل الحال إلى تفتيش ولمس أثدائهن خشية أن يكون الفارون متزيين بزي النساء، الأمر الذي أثار حفيظة النجفيين مما أدى إلى قيامهم بانتفاضة استمرت ثلاثة أيام استطاعوا الإجهاز على حاميتهم المتواجدة داخل المدينة في نيسان 1915م وأصبحت السلطة فيها محلية، تدار من زعمائها الأربعة. واستمر الحال حتى الاحتلال البريطاني لبغداد في 11 آذار 1917م إذ قام البريطانيون بتعيين حميد خان حاكماً مدنياً على المدينة.

 ورداً على ذلك رفض النجفيون الخضوع للاحتلال البريطاني معبرين عن ذلك بثورة قادها تنظيم سري عرف بـ(جمعية النهضة الإسلامية) في 19 آذار 1918م التي انتهت في 4 مايس منها, وقد تم تعيين حاكماً جديداً خلفاً لحاكمها المقتول, وحاول البريطانيون إشغال النجفيين عن طريق تشكيل المجالس البلدية وإقناعهم على أنها تحقق لهم نوعاً من الحكم الذاتي والاستقلال السياسي وتم تشكيل ذلك المجلس في ك2 1920م وتألف من 14 عضواً من الشامية والنجف، وعقد أول اجتماع له في 25ك2 1920م اتضح للمجتمعين إن المهام الموكلة للمجلس لمناقشتها هي مهام ثانوية تتعلق بقضايا الزراعة والصحة والخدمات. واكتشفوا أن البريطانيين يسعون لاحتوائهم وليس لديهم أي رغبة بالانصياع لمطالبهم التي نادوا بها وفيها الاستقلال التام، فعقدوا العزم إلى مواصلة التصدي لهم والثورة عليهم سنة 1920م قادها (حزب النجف الوطني السري).

وكان لعلمائها ومجاهديها ومثقفيها والمرأة النجفية الدور الرئيس في إشعال فتيلها وإدامة زخمها الوطني. وكان من أهم نتائجها المستخلصة ترشيح الأمير فيصل ملكاً على العراق ومن ثم قيام الحكم الملكي سنة 1921م وبذلك تخلصت المدينة من السيطرة البريطانية، وقد تناوب على حكمها بين سنتي (1921ـ1932م) مجموعة من الرجال الوطنيين الذين قدموا خدمات جليلة تركت أثرها على المدينة ومجتمعها. والجدول التالي يبين لنا أسماء الحاكمين (القائمقامين) الذين توالوا على حكم المدينة بعد قيام الحكم الملكي حتى إعلان الاستقلال سنة 1932م.

القائمقامون الذين توالوا على حكم المدينة للسنوات (1921ـ1932م)

الاسم

تاريخ التعيين

الانفكاك

التفاصيل

حسين علي مظلوم

24/2/1921

1/11/1922

وصف بالحزم وعارفاً بأمور الإدارة وشؤونها، واشغل سابقاً مناصب عدة في التربية والتعليم.

أحمد عزت البغدادي

15/11/1922

7/7/1923

من الشيوخ وكبار السن.

صديق الدملوجي

7/7/1923

20/9/1923

العاملين في خدمة الناس والإدارة

عبد العزيز عبد الله

24/9/1923

31/3/1925

عرف بثقافته العامة وحزمه الإداري ونشاطه المحسوس.

عبد الله المظفر

8/4/1925

3/8/1927

تولى مناصب عدة منها رئاسة بلدية كربلاء.

علي البزركان

20/8/1927

16/6/1928

له خدمات متنوعة وتولى مناصب عدة وعايش ثورة النجف.

شاكر فهمي

17/6/1928

1/7/1930

من الرجال العاملين في خدمة الدولة وله مواقف مشرفة يعرفها من تعرف عليه، تولى مناصب عدة مهمة.

بدر الدين السويدي

14/7/1930

11/5/1931

من الرجال المثقفين له مقالات في بعض المجلات والكتب.

جعفر حمندي

11/5/1931

31/7/1932

حقوقي تولى مناصب عدة له خدمات جليلة في المدينة منها فتح أبواب في السور الأخير (السادس).

 

وفي سياق التطورات السياسية اللاحقة، عندما حاول البريطانيون فرض المعاهدة (العراقية ـ البريطانية) الأولى سنة 1922م وقف النجفيون في طليعة الصفوف المعارضة لها وطالبوا الملك بعدم الاعتراف بها أو التصديق عليها, كما أظهر النجفيون موقفاً مماثلاً اتجاه قضية انتخابات المجلس التأسيسي، إذ عبروا بمختلف شرائحهم عن رفضهم للانتخابات المصطنعة ومحاولات الحكومة لتشكيل مجلس تأسيسي تكون مهمته الأولى التصديق على معاهدة رفضها الشعب مسبقاً.

وبناءً على ذلك فقد استقالت لجان التسجيل الحكومية في أكثر من مدينة استجابة لفتاوى العلماء التي صدرت في 28 ت2 1922م كما توالت المواقف الوطنية للمجتمع النجفي تجاه التطورات السياسية اللاحقة، إذ كان موقفهم متميزاً من مشكلة الموصل من خلال معارضتهم لمؤتمر لوزان المنعقد سنة 1923م معبرين عن ذلك من خلال التجمعات والتظاهرات التي أقاموها في المدينة, ولم يقفوا مواقف الرفض على المستوى الشعبي فقط بل تعدى ذلك إلى المستوى الحكومي، تمثل باستقالة وزير المعارف الشيخ (محمد رضا الشبيبي) من الوزارة الهاشمية الأولى في 15 آذار 1931م وفي سنة 1930م تحولت شوارع النجف الأشرف ومحلاتها مسرحاً للمحاضرات والاجتماعات ضد عقد معاهدة 1930م وطالبت بإلغائها أو تعديل مضمونها. وفي 5 تموز 1931م كان للمدينة أثر مهم في إضراب أهالي المدينة ضد رسول البلديات فقد أقفلت المدينة بكاملها فلا بيع ولا شراء ولا حركة نقل.

على الرغم من ذلك كله، فلم يكن أبناء النجف الأشرف مغيبين عن التشكيلات الوزارية منذ تأسيس الدولة العراقية حتى سنة 1932م كما مبين في الجدول التالي:

نوع الوزارات وعددها التي أنيطت لمجموعة من الشخصيات الوطنية

في مدينة النجف الأشرف بين (1920ـ1932م)

الاسم

الوزارة

اسمها

تسلسلها

تشكيلها

انتهاءها

التفاصيل

عبد الكريم الجزائري

المعارف

النقيبية2

2

12/9/1921

19/8/؟؟؟؟

اعتذر عن استلام المنصب بعد 15 يوم فحل محله هبة الدين الشهرستاني

عبد المحسن شلاش

المعارف

النقيبية3

3

30/9/1922

16/11/1922

صدر المرسوم الملكي المرقم 129 في 17ت1 1922م بتعيينه وزيراً للمعارف لكنه اعتذر عن استلامه لكثرة أعماله التجارية فقدم استقالته في 1 ت2 1922م

عبد المحسن شلاش

المالية

العسكرية1

5

16/11/1922

2/8/1924

محمد رضا الشبيبي

المعارف

الهاشمية1

6

2/8/1924

21/6/1925

قدم استقالته في 5/3/1925 منها لأسباب سياسية مر ذكرها

علوان عباس الياسري

الأشغال والموصلات

العسكرية2

8

21/8/1926

8/1/1928

صدر المرسوم الملكي في 6/8/1927م بتعيينه وزيراً للأشغال والمواصلات بدلاً من محمد أمين زكي

عبد المحسن شلاش

الأشغال والموصلات

السعدونية2

9

14/1/1928

20/1/1929

عبد المحسن شلاش

الأشغال والموصلات

السويدية1

10

28/4/1929

25/8/؟؟؟؟

وفي 3 تشرين1 سنة 1932م شهد العراق حدثاً سياسياً مهماً تمثل بانضمام العراق إلى عصبة الأمم المتحدة, وبذلك انحسر ظل الانتداب بالظاهر وحصول العراق على استقلاله، فراقب النجفيون الأحداث عن كثب وبوعي عربي وإسلامي غايته تحقيق الهدف الأسمى والحصول على الاستقلال التام.

3. أثر الواقع الثقافي:

أ. التعليم:

عند الحديث عن الواقع الثقافي وحلقاته التاريخية لمدينة النجف الأشرف ودرجة تأثر المجتمع بذلك الواقع، لابد لنا أن نستحضر كل المراحل التاريخية السابقة. فقد أكد أغلب الباحثين على أن الحركة العلمية لمدينة النجف الأشرف كانت امتداداً لمدرسة الكوفة التي انتعشت علمياً وفكرياً في أوائل القرن الثامن الميلادي على يد مؤسسها الإمام جعفر الصادق(ع). واستمرت نواة الحركة العلمية حتى هجرة الشيخ الطوسي فرأى أن ينميها ويرعاها فكانت تلك المرحلة إيذاناً بتأسيس جامعتها الإسلامية (الحوزة العلمية). واحتضنت مدرسة النجف على امتداد مسيرتها العلمية أعداداً كبيرة من طلاب العلوم والمعارف فسنت منهجاً نظمت به شؤونهم. وقسمت الدراسة إلى نظام الحلقات والدراسة الفردية وقد اختصت الدراسة الفردية بنوعين من الدراسة القديمة والحديثة. واتخذت الحوزة العلمية من الصحن الشريف وبعض الجوامع والمساجد وبيوت كبار العلماء والمدارس الدينية مقراً لتلك الدراسات، فضلاً عن اختيار تلك المدارس لتكون مقراً لسكن الطلاب الأجانب والوافدين إليها من مدن أخرى، وشيدت بعض الدول الإسلامية لجالياتها في المدينة مدارس دينية  اختصت بهم كـ(المدرسة الهندية والأفغانية واللبنانية والترك الأذربيجانية). ولم يكن التعليم مقتصراً على الحوزة العلمية فقط، بل ظهرت دعوات عدة للاهتمام بالتربية البيتية والمدرسية التي أكدت على ضرورة شمول جميع أبناء طبقات المجتمع على حد سواء من دون استثناء. ومما زاد من قوة تلك الدعوات الفتوى التي أصدرها المرجع الديني المتحرر محمد سعيد ألحبوبي عندما سأل عن أمر المدارس الحديثة هل هي حلال أم حرام؟ فقال: (إنها ضرورية للشيعة فضلاً عن كونها حلالاً).

وفي السياق ذاته ففي سنة 1919م أنشأت في المدينة المدرسة الابتدائية الأميرية واتخذت من محلة الحويش مقراً لها, وكانت تدرس فيها اللغة الإنكليزية, وفي وقت لاحق استبدل اسمها بـ(الغفاري). وفي سنة 1921م تقدم عدد من مؤيدي الحركة الإصلاحية طلباً إلى الحكومة العراقية بإنشاء مدرسة إصلاحية حديثة.

وعلى أثر ذلك وفي أوائل سنة 1922م أجيزت المدرسة الأميرية باسم (مدرسة الغفاري الأهلية). أما في سنة 1925م فقد تأسست مدرسة ثانوية وكانت واحدة من أوائل المدارس الثانوية في العراق مثل إدارتها صفوة من رجال الفكر في العراق, وفي سنة 1926م تأسست مدرسة ابتدائية أخرى سميت مدرسة (غازي).

أما المرأة النجفية فقد بقي تعليمها على نحو محدود، وظل مقتصراً على الكتاتيب التي احتوت بالماضي على معلمة تسمى (الملاية) وتبع تعليم المرأة حالة الأسرة المادية، فالأسر الميسورة خصصت معلمة أو أكثر لتعليم بناتها.

وكان مكان المدرسة أما في دار الطالبة أو دار الملاية ونتيجة لاحتواء مدينة النجف الأشرف على الأسر العلمية الكثيرة جعلت من عمل كتاتيب البنات أقل بكثير من كتاتيب الأولاد وبقيت ظروف تعليمها صعبة للغاية بسبب القيود الاجتماعية المفروضة عليها والتي زادت من معاناتها.

وعلى الرغم من تشدد المحافظين في المجتمع النجفي من مسألة تعليم المرأة، فقد تمكن الإصلاحيون من مواجهته بعد أن لجأوا إلى حيلة ذكية خلصتهم من فشل فكرتهم في تأسيس مدرسة للبنات، إذ أشاع الإصلاحيون إن الهدف من فتح المدرسة هو لتعليم بنات الموظفين فقط. ونجحت تلك الخطة وفتحت المدرسة الأولى لتعليم البنات في النجف سنة 1929م كتب على واجهة مدخلها (المدرسة الابتدائية لبنات الموظفين).

 ولم تكن المدارس وحدها التي تركت أثرها على الواقع الثقافي في المجتمع النجف بل شاركتها (المجالس الأدبية) و(مجالس الفقهاء والعلماء) فضلاً عن احتواء بيوت الأسر العلمية والمؤسسات الثقافية على روافد علمية، تمثلت بالمخازن الواسعة (المكتبات) التي احتوت على أنواع من المخطوطات والكتب التي عدت الرافد العلمي الأول والأهم لنهضة المدينة حضارياً وفكرياً ولم يقتصر وجود تلك المخطوطات والكتب النادرة في المكتبات والمؤسسات الثقافية فحسب بل تداولها المثقفون في الأسواق. فعلى سبيل المثال فقد اختص سوق محلة البراق ببيع الكتب المخطوطة وغيرها على اختلاف أنواعها, وقد قصده بعض الأجانب من شعراء وملحقين ثقافيين لشراء المخطوطات والكتب النادرة، فضلاً عن وجود مزاد علني في كل صباح من يوم الجمعة لبيع الكتب النادرة، إذ ترتفع أسعارها على نحو خيالي، كما احتوى أيضاً على حوانيت خاصة بمجلدي الكتب والصحف ودواوين الشعر.

ب. الصحف والمجلات:

صح القول عندما قيل إن الصحف رسل المدينة إلى الجيل الجديد، وهي خير ظاهرة للحركة الفكرية، فقد أسهمت الصحف والمجلات الأجنبية الواردة إلى مدينة النجف على بلورة الواقع الثقافي والحضاري للنجفيين على الرغم من أن قارئيها كانوا يتحرجون من الجهر بقراءتها في الأماكن العامة كالأسواق والمجالس. وقد شجعت تلك الصحف والمجلات على استنهاض همم أدباء المدينة ومفكريها بإصدار مجموعة من الصحف والمجلات, إذ مرت تلك الإصدارات بدورين بدأ الأول في سنة 1910م وهو الدور الذي دخلت فيه النجف الأشرف المعترك الصحفي وشاركت بعض المدن العراقية في الدعوة إلى الثقافة الفكرية العامة بمختلف مناهجها, أما الثاني بدأ باندلاع الثورة العراقية سنة 1920م وانتهى في شباط سنة 1931م والجدول التالي يوضح لنا تفاصيلها وبدوريها الأول والثاني:

الصحيفة

نوعها

مديرها

رئيس تحريرها

صدورها

احتجابها

المطبعة وموقعها

التفاصيل

العلم

مجلة علمية دينية فلسفية اجتماعية

محمد علي هبة الدين الشهرستاني

عبد الحسين الأزري

29/3/1910

1/5/1911

الآداب/ بغداد

صدرت لمدة سنة ومن الثانية 9 أعداد

الفرات

صحيفة أسبوعية سياسية أدبية تاريخية

محمد باقر الشبيبي

محمد باقر الشبيبي

7/8/1920

15/9/1920

الحيدرية/ النجف

صدرت منها 5 أعداد ثم احتجبت بسبب أحداث ثورة العشرين

الاستقلال

صحيفة أسبوعية سياسية أدبية اجتماعية

محمد عبد الحسين الكاظمي

عبد الرزاق البغدادي (الحسني)

1/10/1920

13/11/1920

الحيدرية/ النجف

صدر منها 8 أعداد وحجبت لملاحقة كادرها من البريطانيين

النجف

صحيفة أدبية اجتماعية

يوسف رجيب

محمد علي البلاغي

17/4/1925

19/6/1927

العلوية/ النجف

صدرت لمدة سنتين العدد الأول من الثالثة

الحيرة

مجلة شهرية علمية أدبية

عبد المولى الطريحي

جعفر الخليلي

15/1/1927

آذار 1927

العلوية/ النجف

صدرت بثلاثة أعداد ثم احتجبت

الفجر الصادق

صحيفة أسبوعية أدبية

جعفر الخليلي

جعفر الخليلي

7/3/1930

شباط 1931

الراعي/ النجف

احتجبت بعد سنة من صدورها

ت. المطابع:

عدت مدينة النجف الأشرف في مقدمة المدن التي دخلتها الطباعة مبكراً، وذلك مؤشر واضح على بواكير حركتها العلمية ونهضة التأليف المبكرة فيها فأصبحت بذلك مركزاً للحركة الفكرية والسياسية لا في العراق فحسب بل في الأمة العربية والإسلامية فقد وصفها عبد الله الفياض في كتابه الثورة العراقية الكبرى بـ(فاتيكان الشيعة وأزهر العراق), وكانت من أقوى العوامل التي سرعت على جلب المطابع وبصورة مبكرة صعوبة ما كابده أعلام المدينة وفقهائها عند الشروع بطبع كتبهم ونتاجاتهم العلمية في مطابع بعيدة عن المدينة، إذ كانوا يرسلونها إلى بغداد أو خارج العراقو وما ينتج عن ذلك من مصروفات مالية تحمل صاحبها الوزر الثقيل.

 والذي ساعد على ذلك ظهور الدعوات الإصلاحية التي نادت بضرورة نشر العلوم الحديثة والإسهاب في دراستها، التي جاءت متزامنة مع نشاط حركة التأليف، إذ كان من ضروراتها الحاجة إلى المطابع لتجسد ذلك النشاط وتدعمه.

وساعد على ذلك شخصية المجتمع النجفي الميالة إلى الحركة الثقافية وتطوراتها، فضلاً عن محاولاتها لإيصال نتاجها الفكري إلى البلاد النائية.

 وتعد المطبعة الخشبية التي ابتكرها وصنعها محمد علي المطبعي من أولى المطابع التي صنعت في المدينة وحازت على جائزة كبرى للاختراعات, وفي سنة 1907م جلبت أول مطبعة من الهند إلى النجف الأشرف عن الطريق البحري, وقد طبعت بها بعض الكتب العربية وغير العربية والمجلات والصحف وأعداد مجلة العلم، وفي مرحلة لاحقة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تعطلت المطبعة وأغلقت وبيعت أدواتها, والجدول التالي يوضح لنا المطابع التي أنشأت في مدينة النجف بين (1914ـ1932م):

اسم المطبعة

انشائها

اسم صاحبها

التفاصيل

العلوية

1910

محمود العلوي

ابتاعتها مجموعة من التجار وكانت تشمل على مطابع حديدية عدة مختلفة الأحجام ومطبعة حجرية وفي حصار النجف نهبت بعض حروفها وأذيبت إلى خراطيش بنادق وتكسرت آلاتها في سنة 1922م استطاع العلوي أن يطورها يجلب مطابع حديدية وعادت إلى العمل. طبعت فيها صحيفة النجف.

الحيدرية

1918

صادق الكتبي وأخيه محمد إبراهيم

جاءت بها القوات البريطانية إلى النجف الأشرف لطبع مناشيرهم وإعلاناتهم، وبعد إنهاء حصار النجف في 4 مايس 1918 ابتاعها صادق الكتبي وأخوه من الحكومة البريطانية. وقد ربحوا كثيراً عند شرائها لأن ثمنها يقابل الورق الذي دخل معها في البيع. ثم أبدلت إلى مطبعة حديثة سنة 1922م. وصنفت من الدرجة الثانية طبعت فيها جريدتي الفرات والاستقلال.

المرتضوية

1920

صادق الكتبي وأخيه محمد إبراهيم

وهي من المطابع الحجرية الجيدة، وبعد وفاة أصحابها انتقلت إلى محمد كاظم الكتبي وألحقت بالمطبعة الحيدرية وجعلها مطبعة واحدة وصنفت من الدرجة الثانية.

الغري

1920

محمد علي الصحاف

وكانت من المطابع الحديدية وهي مطبعة صغيرة، وبعد وفاته انتقلت إلى ولده الأكبر عبد الرضا المطبعي. سميت بعد ذلك بمطبعة الغري الحديثة وصنفت من الدرجة الثانية.

الراعي

1930

جعفر الخليلي

عرفت بطباعة صحيفة الفجر الصادق وصحف أخرى خارج مدة البحث وتم نقلها بعد حين من صاحبها إلى بغداد.

ثالثاً: الواقع العمراني والأحوال العامة لمدينة النجف الأشرف بين (1914ـ1932م):

1. أبرز المعالم والمشاهد التاريخية لمدينة النجف الأشرف:

يعد المرقد العلوي الشريف من أبرز المعالم والشواهد التاريخية للمدينة. فضلاً عن مراقد الأنبياء والصحابة ومقامات الأئمة. والمساجد التي أنشأ بعضها ضمن أروقة الصحن العلوي ومحلاتها الأربع والبعض الآخر خارج حدود المدينة. وارتبط التخطيط العمراني للمدينة منذ نشوئها سنة 787م بالمرقد الشريف، ففي بداية القرن التاسع الميلادي بدء السكن حول المرقد العلوي الذي مثل المركز الأول للجذب السكاني. وعليه فقد تميزت المنطقة المحيطة بالمرقد بكثافة بيوتها التي تميزت بالخصائص العربية والإسلامية منسجمة مع طبيعة المجتمع وتقاليده. وعلى الرغم من تأثر البيت النجفي بأطوار مختلفة من فن العمارة إلا إن البساطة هي السمة الغالبة عليه. كما فرضت الظروف المناخية ذات الطبيعة الصحراوية للمدينة أن يحتوي كل بيت على ملجأ أرضي (سرداب). ساعد على ذلك طبيعة أرض المدينة الصخرية الجافة. والجدول التالي يوضح لنا أنواع تلك الملاجئ وخصائصها الطبيعية:

صنف الملجأ (السرداب)

نوع الطبقة الأرضية

العمق بالأمتار

التفاصيل

السرداب الأرضي

أرض الربوة

6

حفر في الطبقة الأولى تحت الأرض البيت أو صحنه ويخترق الطبقة الأولى من هضبة المدينة ويحفر في كل بيت تقريباً ويتألف من 10 سلالم.

سرداب (نصف سن)

السن الهصهاص

10ـ11

يتألف من طابقين، يلي السرداب الأرضي يحفر ضمن الطبقة الأولى والثانية ويكون أبرد من الأول، ويتألف من (15ـ30) سلم.

سرداب السن

سن القرن

14ـ15

ويصل إلى الطبقة الأرضية الرابعة من الهضبة، وهي طبقة طينية صلبة تسمى (طين خاوة) كما يسميها البغداديون والبصريون ويتألف من (30ـ40) سلم.

سرداب سن الكار

رأس الكار

18ـ25

وصل إلى طبقة (الزغل) وهي الطبقة السادسة من الهضبة من الهضبة وهو نادراً ما يحفر في بيوت النجفيين.

 

وبقيت البيوت النجفية خالية من التزويق والتجميل، وكل ما لوحظ فيها الباب الرئيسي الذي يؤدي إلى (دولان طويل يرتبط بساحة مكشوفة صغيرة المساحة مبلطة بالطابوق الفرشي تطل عليها مجموعة غرف، أما غرفة (البراني) تكون معزولة عن (الدخلاني) وبنيت السقوف على شكل طاق معقود من الجص والآجر أو من جذوع النخيل أو من فروع الأشجار يغطيها السبوس (قشر الرز) أو الرماد والأتربة لوقايتها من الأمطار، الحرارة، البرودة أما المبطخ صغير المرافق الصحية (المرحاض) تحت السلم غالباً والتنور في أحد أركان البيت، ولا يخلو البيت من حب فخاري لماء الشرب, واحتوت بيوت أخرى على الطابق الثاني الذي بني على أعمدة خشبية سميت (دلك) كما احتوى الطابق الثاني على شبابيك خشبية تطل على الأزقة الخارجية، واحتوت الغرف على رفوف سميت بـ(الكنجينة) استخدمت لحفظ الأطعمة والمواد الأخرى. وعند الباب الخارجية توجد دكتان صغيرتان للجلوس أو لاستخدامها للركوب على الحيوان. وينار البيت بواسطة الفانوس أو النفطية وهي علبة من التنك تثقب من الأعلى وتوضع فيها فتيلة. ونتيجة لمعاناة المجتمع النجفي في تلك المرحلة من شحة المياه لذا لجأوا إلى حفر الآبار وبناء الأحواض في الساحة المكشوفة في كل بيت نجفي، لملئها بالماء ليتم استخدامها لمستلزمات الحياة اليومية. فضلاً عن احتواء البيت النجف على نوعين من مخازن المياه الآسنة، الأولى استخدم لتصريف مياه الأمطار والثانية لتصريف مياه الغسيل. وأشرفت تلك البيوت على أزقة (ممرات) كانت في أكثر الأحيان ضيقة وغير مبلطة وذات أشكال متعرجة وغير مستقيمة. وبعضها ينتهي بنهايات مسدودة لا مخارج لها، للحفاظ على أمن المدينة من عمليات السطو والاعتداء فضلاً عن اتقاء الحر الشديد والبرد القارص. ومن المعالم والشواهد العمرانية البارزة في المدينة وجود مجموعة من الخانات الداخلي والخارجية.

واحتوت المدينة كغيرها من المدن الحضارية القديمة على الحمامات الشعبية التي كانت تستقبل الوافدين إليها طوال ساعات النهار وحتى الليل.

كما تميزت بكثرة مقاهيها وهي ذات مناظر حسنة وتنظيم جميل، واحتوت على أرائك مرصعة وغلفت بفراش جذاب، وكانت المقاهي النجفية أشبه ما تكون بنواد ثقافية تطرح فيها مختلف الأمور السياسية والأدبية. واحتفظت المدينة بتلك المعالم العمرانية من خلال أسوارها التي أحيطت بها. فضلاً عن احتواء السور الأخير على مجموعة من الأبواب التي مثلت المداخل والمخارج الرئيسة للمدينة والتي احتفظت بتاريخ يزيد على الألف سنة.

2. الأحوال العامة لمجتمع مدينة النجف الأشرف:

لم تكن أحوال المجتمع النجفي العامة في مرحلة حكم البريطانيين بأحسن حال من السنين الماضية. وظلت المدينة ومجتمعها يعانون أقصى ظروف التخلف وتراكم المشكلات بسبب الإهمال المتعمد من المحتلين. فعلى سبيل المثال عدت مشكلة المياه من أهم المشاك التي عانى منها المجتمع حتى العقد الثالث من القرن العشرين وذلك لسببين الأول: لارتفاع أرض المدينة عن مستوى نهر الفرات بـ(43) متراً. والثاني: لعدم توفر الوسائل العلمية الحديثة لإيصاله إلى المرتفعات العالية. إذ فشلت الكثير من المحاولات لإيصال الماء إليها.

ونتيجة لذلك ففي 6 تشرين أول 1925م قامت مجموعة من وجهاء المدينة بتقديم مضبطة إلى وزارة المواصلات والأشغال استرحموا فيها عطف الحكومة إلى مسألة تجهيز الماء إلى المدينة، وبناءً على ذلك أرسلت الوزارة مهندسها البريطاني (ريكدن) إلى المدينة لمعاينة المكان، ومن ثم تقديم تقريراً بذلك, إلا أنها ذهبت كغيرها أدراج الرياح. وفي سنة 1927م قدم أحد تجار المدينة الحاج (أحمد الزكي) طلباً إلى الحكومة العراقية للموافقة على نصب مضخة ماء على نهر الفرات ـ في الكوفة لإيصال الماء إلى المدينة من خلال شبكة من الأنابيب، فضلاً عن نصب ماكنة أخرى في مركز المدينة لتوليد الطاقة الكهربائية، بتمويل مالي من خاله الحاج (معين الطهراني) الذي حصل على الموافقات الرسمية لذلك، وتم جلب مضخة الماء والأنابيب، وفي نهاية سنة 1928م تم ضخ الماء إلى المدينة، وبذلك حلت مشكلة الماء إلى الأبد. وفي الوقت ذاته تم نصب ماكنة لتوليد الطاقة الكهربائية وسط المدينة إلى الجنوب من الصحن العلوي بمسافة 400 متر، إذ كانت تشغل 400 مصباح في الصحن العلوي والشوارع المحيطة به مجاناً، فضلاً عن إنارة 400 مصباح وضعت في شوارع المدينة كافة، كانت تدفع مبالغها بموجب العقد المبرم بين إدارة بلدية المدينة وإدارة المشروع. وفي جانب آخر من الخدمات فقد غابت الخدمة الهاتفية نهائياً عن المدينة وظلت مقتصرة على الدوائر الحكومية فقط.

 أما في الجانب الصحي فلم تشهد المدينة أي خدمات بارزة، كما ساهمت كثرة النفايات وقلة النظافة على انتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة مثل وباء الهيضة (الكوليرا) الذي أدى إلى موت الكثيرين. فضلاً عن مساهمة الحمامات الشعبية المنتشرة في المدينة على انتشار الأمراض الأخرى ولاسيما الجلدية منها. وساعدت المياه الآسنة على انتشار مرض السل الذي تتكيف جرثومته مع تلك الظروف. فضلاً عن انتشار أعمال السحر والشعوذة في معالجة الأمراض في تلك المرحلة. ومن الجدير بالذكر فقد كان في المدينة مركز صحي واحد يدار من طبيب هندي وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قام البريطانيون في شهر تشرين1 1918 بإعادة بناء الثكنة العثمانية وتحويلها إلى مستشفى صغير ألحقت معها صيدلية ولم يجر على الخدمات البلدية لمدينة النجف الأشرف أي تغيير يذكر، فعلى الرغم من تعرض المدينة للعواصف الرملية التي تهب عليها في فصل الصيف، لم تكن هنالك أي بدائل مقدمة من بلدية المدينة وسلطاتها المحلية في منع تلك العواصف من خلال قيامهم بتشجير محيط المدينة الخارجي وتشجير شوارعها وإنشاء الحدائق العامة فيها.

المصدر: مجلة آفاق نجفية العدد 13

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.