المجتمع النجفي في عهد الملك غازي 1932ـ1939م
دراسة في التاريخ الاجتماعي
القسم الثالث
الأستاذ حيدر سعد الصفار
الفصل الثالث:
أثر التطورات المادية والفكرية والقوى النافذة في المجتمع النجفي للسنوات 1932ـ1939م:
أولاً: أثر التطورات الاقتصادية والعمرانية والخدمية:
شكلت التطورات المادية المختلفة في الميادين الاقتصادية والعمرانية والخدمية فضلاً عن التطورات الثقافية والحضارية في تحريك وتطور الواقع الاجتماعي لمدينة النجف بعد أن تفاعلت وتوازنت مع أثر القوى الاجتماعية الفاعلة فيه، ويمكن أن يتبين لنا ذلك بوضوح من خلال:
1. أثر التطورات الاقتصادية:
على الرغم من التطورات الاقتصادية التي شهدتها مدينة النجف للسنوات (1932ـ1939م) إلا أنها ارتبطت بشكل مباشر بالمستجدات العالمية والمحلية على حد سواء وفي مراحل متفاوتة تميزت مرة بالإيجابية وأخرى بالسلبية. وأهم تلك المستجدات الأزمة الاقتصادية العالمية 1929ـ1933م حين تبين أثرها على العراق بشكل مباشر مع السنة الثانية للأزمة لارتباط العراق مع الاقتصاد البريطاني بسبب انحسار عمليات الاستيراد والتصدير فتدنت بذلك الأسعار بصورة أكبر، وأشهر عدد من التجار إفلاسهم فضلاً عن ركود الأسواق المحلية وتعرضها لوضع معقد في جميع أنحاء القطر من دون استثناء.
ولو انتقلنا من التعميم إلى التخصيص فإن مدينة النجف ـ كما مر سابقاً ـ كانت إحدى المدن العراقية المهمة والمتميزة بنشاطها الاقتصادي التجاري ـ الصناعي التي تأثرت بشكل مباشر من جراء المتغيرات الآنفة الذكر إذ شهدت أسواقها ركوداً لم تألفه من قبل بسبب قلة حركة السابلة لقوافل الجزيرة العربية والتي كانت تشكل المصدر الرئيسي لنشاط المدينة تجارياً.
ونتيجة لذلك فقد شهدت أسعار الحبوب (الحنطة، الشعير، الرز) والمحاصيل الزراعية الأخرى تدهوراً ملحوظاً وهبوطاً مستمراً لأسعارها حتى وصلت إلى نسبة 25% مما أدى إلى انخفاض معدلات إنتاجها، فعلى سبيل المثال سجلت أسعار الطن الواحد من محصول الحنطة والشعير في تلك السنوات إلى 4.350 ديناراً للأول و(3) دنانير للثاني واستمرت أسعار التمور في تراجع مستمر، فعلى سبيل المثال سجلت أسعار تمور (الحلاوي) في نهاية سنة 1932م إلى (30) ديناراً للكارة الواحدة بعد أن كان سعرها في سنة 1929م (36) ديناراً، وأصبح سعر تمور الخضراوي (12.50) ديناراً للكارة الواحدة عند نهاية سنة 1932م بعد أن كانت تباع (22) ديناراً في سنة 1929م. وشهدت أسعار المواشي ومنتجاتها هبوطاً متزايداً نتيجة زيادة العرض على الطلب الخارجي لها وبذلك أصبحت عالة على أصحابها مما أدى إلى ظهور حالة خطرة تمثلت بذبح الأغنام الحوامل لاستحصال جلود صغارها، فضلاً عن بيع منتجاتها بأقل من روبية واحدة وانخفض سعر الكيلو من الدهر الجيد إلى روبية واحدة.
وتزامن مع تطورات الأزمة الاقتصادية العالمية تطورات محلية أخرى كان لها الأثر البالغ في تراجع حركة النشاط الاقتصادي وكساد أسواق تمثلت أسبابه بإصدار الحكومة العراقية قانون العملة الجديدة ـ ومر بنا سابقاً ـ وتمخض عن ذلك توجيه ضربة مفاجئة لسوق العملة المحلية في داخل العراق ومنها مدينة النجف، ومما زاد في ذلك الوضع سوءاً قيام المرابين بالتلاعب بأسعارها، فضلاً عن انتشار حالات التهريب لمعدن الذهب إلى الخارج بعد أن كانت النجف سوقاً مهماً له بسبب إلغاء الحكومة البريطانية الغطاء الذهبي للباون فأوجدت بديلاً عنه ما يعرف بـ(الكتلة الإسترلينية)، فأصبح الباون بموجبها أساساً للتبادل ما بين بريطانيا والدول التابعة لها أو المرتبطة بها.
وعلى أثر ذلك خلفت تلك التطورات مجموعة من الآثار السلبية كان من أهمها وأخطرها زيادة سبب العاطلين ضمن فئات المجتمع النجفي، الذين اتخذوا من بعض المواقع والشوارع محطة لأعمالهم غير الأخلاقية حتى وصل الأمر إلى تماديهم في إيذاء المارة من أهل المدينة وزوارها، وانتشرت في محلات المدينة ومقاهيها مجموعة من الممارسات السيئة مثل لعب القمار، فضلاً عن الحالات الأخرى كالغش والسرقة ضمن عمليات التبادل التجاري وازدياد عمليات التهريب وجرائم القتل والسرقة التي طالت حتى الدوائر الحكومية، وبرزت ظاهرة أخرى لم يألفها المجتمع النجفي من قبل تمثلت بابتياع الطبقة الفقيرة ملابس الموتى التي تجلب من أصحاب النفوس الضعيفة في النجف وخارجها وامتد ذلك الوضع المتردي حتى شمل الطبقة العاملة ضمن المؤسسات الأهلية إذ أصبحت الأجور اليومية المدفوعة لهم لا تفي لسد رمق الفرد الواحد ومتطلباته اليومية، مما أدى إلى قيامهم بمجموعات من الإضرابات التي طالبوا فيها بزيادة أجورهم.
ومما زاد في سوء الأحوال المعيشية للمجتمع النجفي في تلك المرحلة وعلى وجه الخصوص اليد العاملة منه، مزاحمة اليد الأجنبية لها في مختلف المجالات مما أدى بفئات المجتمع النجفي صاحبة الضرر بمطالبة الحكومة بإجراء إحصاء على الأجانب المحترفين بالمهن الحرة ووضع تشريع خاص بهم مع قصر قسم منها على الوطنيين فقط.
وتضاعفت مشاعر الطبقة العاملة من أصحاب الحرف والصناعات اليدوية أكثر فأكثر على كل ما هو أجنبي حتى شمل مقاطعة البضائع الأجنبية، ورداً على ذلك فقد أصدرت الحكومة العراقية قانوناً في شهر كانون الأول 1935م منعت بموجبه الأجانب من ممارسة بعض المهن والأعمال المعينة، ومنع القانون ذاته جميع الإيرانيين من ممارسة جميع المهن والحرف التي كانوا يزاولونها في مدن العتبات المقدسة وعلى أثر ذلك القانون شكلت الحكومة لجنة خاصة لتسجيل جميع الأجانب في مختلف المهن من أجل تنفيذه وحصر ممارستها بالعراقيين فقط.
وفي السياق ذاته ومن أجل إنهاء آثار الأزمة الاقتصادية قدم فريق من الشباب النجفي المثقف طلباً إلى الحكومة العراقية بفتح (جمعية للمنتجات الوطنية) في النجف، وقد حصلت الموافقة على ذلك الطلب وقد شهدت الجمعية إقبالاً من الشباب النجفي للانتماء إليه وعلى أثرها قامت الجمعية بمفاتحة الدوائر الرسمية والشركات الأهلية وأصحاب المعامل لإرسال منتوجاتهم بشتى أنواعها وقد حصلت على ذلك ومن ثم قامت ببيعها على العوائل التي تضررت من جراء الأزمة آنفاً إلا أن ذلك الوضع المتردي سرعان ما تغير بصورة تدريجية بعد زوال آثارها، فقد عادت حركة النشاط الاقتصادي على سابق عهده حتى قيام الحرب العالمية الثانية (1939ـ1945م) إذ نشطت حركة المسابلة وشهدت أسعار الحبوب والتمور والمواد الأخرى تصاعداً ملموساً مما أثر وبشكل إيجابي على حركة التعاملات التجارية ونشاطها. وشهدت سوق التعاملات المالية في عملية بيع وشراء أنواع العملات (المحلية والأجنبية) على الرغم من حصر الحكومة العراقية عمليات التبادل التجاري بـ(الدينار العراقي) فقط. وحددت موعداً نهائياً لشراء العملة الهندية من مصارفها نهاية الدوام الرسمي ليوم السبت 30 أيلول 1933م ويوضح لنا الجدول التالي أنواع العملات والمسكوات الذهبية المتداولة في النجف وأسعار صرفها بالدينار العراقي للسنوات بين (1932ـ1939م):
العملات والمسكوكات الذهبية |
سعر صرفها بالدينار العراقي |
العملات الفضية |
سعر صرفها بالدينار العراقي |
العملات الورقية |
سعر صرفها بالدينار العراقي |
|||
فلس |
دينار |
فلس |
دينار |
فلس |
دينار |
|||
الليرة العزيزية القديمة |
710 |
1 |
الريال الفرنسي |
80_85 |
– |
الدولار الأمريكي |
230 |
– |
الليرة الرشادية |
820 |
1 |
الريال السعودي |
66_70 |
– |
ليرة تركية |
105 |
– |
الليرة الحميدية |
790 |
1 |
المجيدي العثماني |
55 |
– |
ليرة سورية |
110 |
– |
الليرة المجيدية |
730 |
1 |
الروبية الهندية |
73 |
– |
الجنيه المصري |
980 |
– |
الباون الإنكليزي (الذهب) |
980 |
1 |
القران الإيراني |
89 |
– |
الجنيه الفلسطيني |
950 |
– |
عشر مانات (روسي) |
20 |
2 |
|
|
|
الجنيه الاسترليني |
990 |
– |
ذهب تيزاب (مثقال واحد) |
245 |
1 |
|
|
|
|
|
|
ويبدو واضحاً من الجدول السابق القيامة العالية لسعر صرف الدينار العراقي على الرغم من حداثته مقارنة مع سعر صرف العملات الأجنبية الأخرى وعلى وجه الخصوص الدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني، ويوضح لنا حجم التطور في عمليات الصيرفة التي شهدتها المدينة في تلك المرحلة.
ومن جانب آخر فقد ساهمت واردات (خيرية أودة) التي وزعت بمعدل 4 مرات سنوياً في النجف على زيادة رأس مال المدينة ومجتمعها فضلاً عن العوائد المالية الأخرى جراء مزاولة عدد من رجال الدين (خطباء المنبر الحسيني) أثرهم الخطابي وعلى وجه الخصوص في أشهر محرم وصفر ورمضان ضمن محيط المدينة المحلي ومحيطها الإقليمي الواسع في بعض الأقطار العربية والإسلامية.
وساعد الموقع الجغرافي والمكانة الدينية لمدينة النجف فأصبحت بهما محطة لعبور آلاف الزائرين من مسلمي العالم لأداء فريضة الحج سنوياً فأعدت عدتها وأسست لذلك مجموعة من الشركات الخاصة بنقل الحجاح التي تميزت باحتوائها على أعداد متنوعة من السيارات ذات الأحمال الكبيرة والصغيرة فضلاً عن أسعارها الزهيدة والجدول التالي يبين لنا نوع تلك السيارات وكلفة المبالغ المحددة لنقل الحجاج من والى المدينة المنورة خلال تلك المدة:
ت |
فلس |
دينار |
الدرجة |
نوع السيارة |
التفاصيل |
1 |
750 |
15 |
الأولى |
صالون ذات 4 مقاعد |
لنقل الحجاج من بغداد إلى المدينة المنورة ذهاباً وإياباً |
2 |
500 |
12 |
الثانية |
باص ذات 6 مقاعد |
لنقل الحجاج من بغداد إلى المدينة المنورة ذهاباً وإياباً |
3 |
150 |
8 |
الثالثة |
باص لوري ذات 12 مقاعد |
لنقل الحجاج من بغداد إلى المدينة المنورة ذهاباً وإياباً |
4 |
250 |
15 |
الأولى |
صالون ذات 4 مقاعد |
لنقل الحجاج من بغداد إلى المدينة المنورة ذهاباً وإياباً |
5 |
300 |
12 |
الثانية |
باص ذات 6 مقاعد |
لنقل الحجاج من بغداد إلى المدينة المنورة ذهاباً وإياباً |
6 |
950 |
7 |
الثالثة |
باص لوري ذات 12 مقاعد |
لنقل الحجاج من بغداد إلى المدينة المنورة ذهاباً وإياباً |
ويتضح من الجدول السابق حجم العوائد المالية الناتجة من جراء نقل الحجاج من مدينة النجف والعودة بهم إليها، فضلاً عن الأموال المستحصلة من عمليات البيع والشراء من قبل الزائرين وبشكل مستمر سنوياً ويمكن لنا أن نستنتج مستوى التطور الحضاري لمدينة النجف في تلك السنوات من خلال امتلاكها لأعداد من السيارات ذات المواصفات الخدمية العالية الجودة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حجم الأعداد الغفيرة من الحجاج سنوياً.
وفي مرحلة لاحقة تأثرت النجف اقتصادياً نتيجة قيام الحرب العالمية الثانية إذ سرعان ما ثار الجشع في نفوس بعض من تجار المدينة مستغلين ذلك الوضع استغلالاً غير مشروع، فزادوا في أسعار المواد المخزونة لديهم مما أدى إلى اضطراب الأسواق وسوء الحالة الاجتماعية مرة أخرى بسبب النمو الاستهلاكي الواسع للمنتجات الغذائية مقابل النقص الحاصل فيها بسبب مشكلة المواصلات البحرية نتيجة دخول إيطاليا الحرب وإقفالها طريق البحر الأبيض المتوسط. وأدى قيام الحرب العالمية الثانية إلى انحسار أعداد الزائرين الأجانب من الإيرانيين وغيرهم مما أثر سلباً على حجم الواردات المالية التي كانت تحصل عليها المدينة إلا أنها بالوقت ذاته لم تؤثر على طريق الحج البري إذ بلغ أعدادهم في تلك السنة إلى 1349حاجاً فضلاً عن رؤساء القوافل وسائقي السيارات ومعاونيهم.
2. أثر التطورات العمرانية:
شهدت مدينة النجف في السنوات (1932ـ1939م) حركة عمرانية متميزة في مجال البناء والعمران حمل في طياته خصائص الرقي والتطور الحضاري، وتطرقنا في الفصل الثاني إلى حجم ذلك التطور على الرغم من قصر مدته، وقد تناولنا إقامة تلك المعالم بشيء من التعميم كإنشاء المحلتين الغازية والصالحية ومؤسسات حكومية خدمية وصحية وثقافية فضلاً عن التوسعات العمرانية الأخرى في المدينة القديمة وأسواقها وبذلك تقدمت المدينة عمرانياً.
ونتيجة لتلك التطورات شهدت المدينة زيادة سكانية أثر حركة الهجرات الأجنبية والمحلية نحوها وساهمت في ذلك مجموعة عوامل أخرى كان من أهمها توفر أسباب الراحة والأمن وتنوع طرق الإعاشة، وأصبحت فيها أسواق عدة وأثنى عشر حماماً للنساء والرجال، وما يقرب من مائة مسجد وست عشرة مدرسة دينية وست مدارس حكومية حديثة، ومن الدور ما يقرب نحو ستة آلاف دار أو أكثر، فضلاً عن التطورات الصحية والاقتصادية والثقافية والخدمية وغيرها. وفي تلك السنوات أصبحت المدينة تحاط بشوارع ذات تصاميم حديثة وعريضة امتدت من خلالها إلى مسافات واسعة من الفضاءات المكشوفة باتجاه بحيرة النجف ومقبرة السلام وعلى وجه الخصوص عندما قلع سورها السادس، وعلى الرغم من بعض المساوئ التي حصلت للشرائح المعوزة في المجتمع النجفي نتيجة هدم السور لأنهم كانوا من سكنة أو أوينة إلا أن (ولرب ضارة نافعة) فقد طالبت قائمقامية القضاء من وزارة الشؤون الاجتماعية بتخصيص مبلغ من المال لبناء الأراضي التي خصصتها الإدارة المحلية في النجف للطبقة العاملة والفقيرة التي ألحق بها ذلك الضرر، وقد استجابت الوزارة لذلك فأمرت بتخصيص دفعة أولية وقدرها (246.320) ديناراً لبناء تلك الدور.
ونتيجة لتلك المتغيرات العمرانية الواسعة التي غيرت من معالم المدينة القديمة سعت الإدارة المحلية للمدينة على إثبات تلك المعالم وتوثيقها، وطالبت من الجهات المختصة في بغداد لإرسال لجنة مختصة الغرض منها لرسم خارطة جغرافية جديدة للمدينة، وقد أصدرت الموافقات الرسمية لذلك فأرسلت في شهر آب 1939م لجنتها برئاسة المساح الأول ناجي الحكاك وباشرت أعمالها فور وصولها.
وفرضت تلك التطورات والتوسعات العمرانية في بعض الحالات على الإدارة المحلية في المدينة بتكليف أكثر من مختار في المحلة الواحدة ليكون لسان حال أهلها مع الإدارة المحلية، وسعت تلك الإدارة بتشكيل لجنة خاصة بعد أن وكلتها بدراسة العمق التاريخي للمدينة حتى يتسنى لها تسمية شوارعها بأسماء تاريخية تتناسب مع الزمن الحاضر، وفي منتصف شهر حزيران 1938م انتهت من وضع أسماء الشوارع للمحلتين الجديدتين ومن ثم شوارع محلات المدينة القديمة.
ورحب المجتمع النجفي بتلك الخطوة مباركاً للجنة إخلاصها وحسن اختيارها للأسماء، فأحيت بذلك ذكرى عظماء الحيرة والرجال العرب الذين كانت لهم صلات مباشرة مع مدينة النجف، وأخذت اللجنة بنظر اعتبارها الخدمات الجليلة المقدمة من بعض الأشخاص ممن خدموا المدينة بإخلاص.
وتميز البيت النجفي الجديد في تلك السنوات (1932ـ1939م) بطراز عمراني حديث اختلفت معالمه كلياً عن الطراز العمراني للبيت النجفي القديم، إذ تجددت هندسته وجد نظامه وجمع ما بين الطراز الشرقي والطراز الغربي الحديث في آن واحد محتوياً على (البراني) و(الدخلاني)، فالأول احتوى على غرفة الضيوف وفيها مكان خاص للطعام فضلاً عن المرافق الصحية والحمام والمغسلة، أما الثاني احتوى على غرف النوم والمطبخ والمخزن، وخصصت في بعض البيوت غرفة للمكتبة احتوت على أثمن الكتب حفظت داخل خزانات صنعت من خشب الصاج وتميز البيت الحديث بكثرة نوافذه وسعة مساحته إذ بلغت مساحة أغلبها (200ـ400) متراً مربعاً.
وغلفت أرضيته بأنواع البلاط الملون ومن مواصفاته المميزة الأخرى طلاء الجدران بالأصباغ وبني من مواد إنشائية اختلفت كلياً عن تلك المواد التي بني بها البيت النجفي القديم على الرغم من ارتفاع أسعارها فضلاً عن محتويات البيت الداخلية من الأثاث كالسجاد والمعلقات والطباخات والأواني والأسرة والكراسي والأرائك الحديثة والمذياع بوصفه ظاهرة حضارية وتجربة عملية حديثة نحو حياة أفضل، ومن الخصائص المميزة الأخرى فقد اشتبكت على جدرانه أسلاك الكهرباء والهاتف.
وعلى الرغم من التطورات العمرانية وسعتها إلا أن المدينة القديمة بمحلاتها الأربع بقيت تحصد مساوئ استخدام الأساليب العمرانية الخاطئة التي أسست عليها، فقد تعرض المجتمع النجفي في تلك السنوات إلى كوارث عديدة نتيجة عدم صلاحية المواد الإنشائية التي استخدمت في بناء تلك المنشآت السكنية وبفعل عامل الزمن أصبحت لا تقاوم المستجدات الطارئة في أرضية المدينة القديمة بسبب ارتفاع منسوب المياه في الآبار ومخازن المياه الآسنة (البالوعات)، إذ أصبحت المادة الهوائية (الجص) عديمة الفائدة ولا تستطيع مقاومة الرطوبة الحاصلة في جدران البيوت وأرضياتها.
وعلى أثر ذلك شكلت إدارة بلدية النجف لجنة مختصة لمتابعة المستجدات الحاصلة في الآبار ومخازن الماء الآسن والأضرار الناتجة منها ووضع الحلول الكفيلة بمعالجتها وفق السبل والطرق الهندسية الحديثة.
3. أثر التطورات الخدمية:
إن مما لاشك فيه الدور الذي قامت به الإدارة المحلية في مدينة النجف وبلديتها لتقديم أفضل الخدمات المطلوبة فيها، وفي تلك السنوات (1932ـ1939م) وقعت عليها مهام جسام ومسؤوليات شتى اتجاه المجتمع النجفي الذي عانى من الإهمال والحرمان المتعمد طول مرحلتي الاحتلال والانتداب البريطاني في شتى المجالات الاقتصادية والعمرانية والخدمية.
وسجلت الإدارة المحلية في المدينة أولى نجاحاتها التي لم تحقق في سنوات ماضية رغم المحاولات والتي لا تحصى ولا تعد سواء من الإدارة المحلية السابقة أو من أصحاب المشاريع الخيرة في المدينة وخارجها، بعد أن عانت المدينة ومجتمعها من فقدان نعمة الماء والتي لا تعوضها نعم أخر الذي زاد من حجم المشكلة موقع المدينة المحاط بصحراء قاحلة ذات رمال ناعمة وتلول يابسة تتوهج بحرارة الشمس في الصيف وتتصلب من شدة البرد في فصل الشتاء فلا زرع فيها ولا عشب ولا حقول إلا ما ينبت بواسطة الغيث وبشكل مؤقت في فصل الشتاء إذا كانت كمياته غزيرة، ومن ذلك كله فقد استوعبت إدارة القضاء كل المشاكل وقدمت للمدينة ومجتمعها حلاً نهائياً تمثل بإيصال الماء إلى المدينة بواسطة مشروع نهر (الأمير غازي) ومشروع الماء الجديد فانتعشت بذلك المدينة ومجتمعها وتوارت عنهما أشباح الظمأ المخيف.
وفي خطوات لاحقة سعت الإدارة المحلية في تلك السنوات على إدامة نجاح ذلك المشروع وتوسعته من خلال جلب المواد الاحتياطية الكاملة، وأخذت بنظر اعتبارها التوسعات التي ستحصل في المستقبل القريب فقامت باستيراد أنابيب لمياه ذات أحجام كبيرة اختلفت عن سابقتها ليصل الماء بصورة مستمرة ومن دون انقطاع.
ودرست إدارة القضاء وإدارة المشروع الظروف الاقتصادية للشرائح الفقيرة في المجتمع النجفي فقرروا توزيع مقاييس الماء إلى العوائل المحرومة بصيغة الأقساط المريحة تراوحت من(4-6) أقساط ونفذت وبشكل سريع تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية القاضية بوضع حنفيات الماء في محلات المدينة لتستطيع تلك الشرائح الاستسقاء منها، وعلى أثر ذلك وضعت 3 حنفيات لذلك الغرض، وزعت على المحلات التي لا تحتوي على أكثر عدد من الفقراء والمعوزين وقد شهدت إدارة المشروع إقبالاً قل نظيره من الأهالي لتسجيل طلباتها وإيصال الماء إلى بيوتهم.
وفرضت التطورات الحضارية خلال تلك المرحلة على إدارة البلدية بوضع مضخة خاصة على جدول (الأمير غازي) لإيصال الماء الخام إلى بيوت المحلتين الجديدتين لاحتوائها على حدائق داخلية فضلاً عن الحدائق العامة مثل (حديقة غازي).
وعلى الرغم من وصول الماء الصافي إلى بيوت المحلات القديمة وإنهاء معاناتهم، إلا أن ذلك سبب مشكلة أخرى جاءت نتيجة الاستخدام الخاطئ من الأهالي في المدينة القديمة وبشكل كبير مما أدى ذلك إلى حدوث آثار سلبية على الواقع العمراني في المحلات القديمة بسبب عدم مقاومة المواد المستخدمة في بناء أغلبها جراء الرطوبة الناتجة عنه وعلى أثر ذلك سعت إدارة البلدية إلى وضع المخططات والخرائط اللازمة للتخلص من المياه الفائضة عن الحاجة وتصريفها عن طريق (المجاري) ونقلها خارج المدينة إلى البحر.
ومن آثار التطورات الخدمية في مجال الكهرباء، شهدت إدارة مشروع (الماء والكهرباء) إقبالاً متزايداً من فئات المجتمع النجفي كافة على الرغم من ارتفاع أسعار الأدوات الكهربائية، وساهمت الطاقة الكهربائية الجديدة في خلق روح المنافسة من أصحاب المعامل والمشاريع الإنتاجية في المدينة من خلال تحويل آلاتهم الكهربائية القديمة (D. C) وتحويلها وفق النظام الكهربائي الجديد (E. C)، فضلاً عن استيرادهم المكائن الكهربائية الجديدة التي ساهمت في إنشاء معامل إنتاجية عدة التي أثرت بشكل مباشر على الحد من البطالة الحاصلة داخل المجتمع النجفي، فضلاً عن هبوط بعض أسعار المواد المنتجة كالثلج، إذ كان أحد المواد الاستهلاكية المهمة والمستخدمة بشكل كبير من المجتمع في فصل الصيف.
وعلى الرغم من الفوائد التي حصلت عليها المدينة من وصول التيار الكهربائي لكل مكان فيها إلا أن الشبكة الكهربائية تعرضت لمشاكل جمة بسبب تعرضها للأذى من بعض المتطفلين والأطفال وعلى وجه الخصوص الأسلاك الممتدة في الشوارع البعيدة عن مراقبة السلطات المحلية، فضلاً عن تعرض المصابيح الكهربائية للكسر نتيجة عمليات التخريب من الأطفال بلعبة الحجر بالقوس (الكزوة) إلا أن ذلك لم يثن من عزم إدارة المشروع وسعيها إلى تحسين آلية المشروع وتطويره وقامت إدارة المشروع بتعيين المهندس البريطاني (Smith) على ملاكها بدلاً من المهندسين الألمان الذين أسرتهم القوات البريطانية بسبب قيام الحرب العالمية الثانية.
أما في جانب البريد والبرق وبناءً على اتساع أعمال الخدمات البريدية ونشاطها المتميز الذي شهدته تلك السنوات، قرر مدير البرق والهاتف العام جعل الخدمات الهاتفية مفتوحة خلال 24 ساعة أثر الطلبات المقدمة من أصحاب الهواتف في المدينة، فضلاً عن جعل مدينة النجف من الدرجة الأولى نتيجة الخدمات المقدمة والحركة المستمرة في أعمالها البريدية، وقرر تعيين موظف آخر لتسهيل وتقديم أفضل الخدمات للأهالي.
وعلى الرغم من ذلك كله إلا أن الخدمات البريدية كانت تتعرض بين آونة وأخرى لمجموعة من المشكلات بسبب الانقطاعات المتكررة لأسلاك الهاتف نتيجة الفيضانات الحاصلة لنهر الفرات على مدار السنة مما يعرقل معالجتها وتصليحها لفترات طويلة، فضلاً عن المبالغ التي تصرف لإدامتها وصيانتها نتيجة تلك الأضرار.
أما في الجانب الصحي فقد أثمرت التطورات التي أشرنا لها سابقاً مجموعة من المزايا الطيبة للمدينة ومجتمعها وعلى وجه الخصوص في مجال الأمراض المعدية مثل (الملاريا والبلهارزيا) وغيرها لأن المرض واحد من ثالوث التخلف، إذ شهدت المدينة تراجعاً مستمراً في حجم الإصابات المرضية نتيجة العناية الفائقة والمتابعة المستمرة من الجهات الرسمية سواء على مستوى اللواء أو من الإدارة المحلية للمدينة والكادر الطبي للمستشفى الملكي، ومن الجدير بالذكر أن الخدمات الصحية تلك لم تقتصر على مركز قضاء النجف فحسب بل شملت النواحي التابعة للمدينة وغيرها.
وشهدت المدينة تطوراً ملحوظاً في المستوى الأمني مما ساعد على استقرارها ومن ثم رفع محصلة الخدمات المقدمة لمجتمعها والزائرين في المجالات كافة إذ لم تكن تلك الإنجازات وليدة صدفة وإنما جاءت نتيجة الجولات التفتيشية المتكررة للمفتش الإداري المركزي في اللواء (يوسف ضياء) التي أدت إلى رفع مستوى تلك الخدمات وزيادتها.
ثانياً: أثر التطورات الثقافية والحضارية:
شهدت مدينة النجف في السنوات (1932ـ1939م) حركة ثقافية وحضارية جاءت نتيجة المؤثرات الإصلاحية المتنامية بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية هدفها تغيير أسس البناء الخاطئ في المجالات كافة ومنها المجال الثقافي إذ شعر أبناؤها الأحرار أن على مدينتهم واجباً لابد لها من القيام به وليس من الجائز أن تتنازل عن ذلك الأثر التاريخي ووجبت عليها مسؤوليات جسام لربط ماضيها بحاضرها والعمل على تنمية ثقافة أبنائها لمسايرة العصر بحسب أهدافه وتعدد غاياته.
ومما ساعد على ذلك كله التطورات الثقافية والفكرية التي أشرنا إليها سابقاً إذ فرض التجدد الحاصل في المجال التعليمي على المدينة ومجتمعها أسساً ذات أبعاد نهضوية متطلعة إلى تجارب الأمم الأوربية المتحضرة ومفكريها من خلال الدور المتميز الذي لعبته المدرسة وكادرها التعليمي المساعد على نهضتها وتطورها.
ومن أجل ذلك وجه مفكروا المدينة جل اهتمامهم للنهوض بالواقع التعليمي من أجل بناء مجتمع واع مثقف ونبذ كل الأساليب القديمة المتبعة في المدارس الدينية التي خلت من عناصر ونظم الحياة المتجددة والتي تمكنها من البقاء والتفوق على المبادئ والآراء والمعتقدات الحديثة، فظلت المؤسسة الدينية في مؤخرة الركب تتعثر ضمن سبل ملتوية مما أدى إلى انقلاب طلابها عليها والالتحاق بالركب الجديد الممثل بالمدارس الحكومية ليضمنوا سبل العيش عند تخرجهم وعلى أثر ذلك التوجه الجديد أصبحت المدارس الرسمية (الحكومية) غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من الطلاب ونتيجة لذلك قررت وزارة المعارف العراقية في مطلع شهر تشرين الأول 1938م بفتح صف دراسي جديد لمرحلة الرابع الثانوي مسائي وطالبت الفئات المثقفة في لمدينة من المديرية العامة لتربية كربلاء بفتح صف دراسي لطلاب الخامس الثانوي، وفي السنة ذاتها ونتيجة للزيادة الحاصلة في أعداد الطلاب في مرحلة المتوسطة قامت المديرية أعلاه بفتح شعبة دراسية إضافية رابعة لطلاب الأول المتوسط، ومن الجدير بالذكر شهدت السنة الدراسية (1939ـ1940م) إقبالاً على المدارس الحكومية بالرغم من الأجور الدراسية الجديدة التي حددتها وزارة المعارف في تلك السنة، ومن جهة أخرى فقد أفرزت النتائج النهائية للسنة الدراسية (1937ـ1938م) نتائج عبرت عن المستوى الآخذ نحو التطور في المستويين النهاري والمسائي، ويمكن أن نوثق تلك الدلالات من خلال الجدول التالي:
ت |
الصف |
عدد الطلاب |
الغياب |
الناجحون |
الإكمال |
الراسبون |
نسبة النجاح |
الأول في الصف |
1 |
الأول (نهاري) |
112 |
2 |
68 |
27 |
15 |
62% |
حميد المؤمن |
2 |
الأول (مسائي) |
34 |
– |
21 |
8 |
5 |
62% |
أحمد صالح |
3 |
الثاني (نهاري) |
80 |
2 |
48 |
13 |
17 |
62% |
عبد الكريم حسين المؤذن |
4 |
الثاني (مسائي) |
13 |
1 |
7 |
3 |
2 |
59% |
محمد حسن أحمد |
5 |
الرابع العلمي |
17 |
– |
15 |
2 |
– |
88% |
باقر كاشف الغطاء |
6 |
الرابع الأدبي |
24 |
1 |
16 |
6 |
1 |
70% |
هادي محيي |
فضلاً عن ذلك فقد تميز طلاب ثانوية النجف الخامس الثانوي والثالث متوسط في الامتحانات النهائية الوزارية (البكالوريا) وعلى وجه الخصوص في مادة اللغة الإنكليزية وللسنة الثانية وعلى أثر ذلك قام المجلس البريطاني للعلاقات الثقافية مع البلدان الأخرى في لندن بإرسال هدايا من الكتب القيمة بوساطة وزارة المعارف العراقي لطلاب العراق المتميزين في اللغة الإنكليزية للسنة الدراسية (1936ـ1937م) فكان لطلاب النجف النصيب الوافر منها ومنهم (نوري كاشف الغطاء) من الثانوية و(ضياء علي الموسوي) من المتوسطة و(حميد الجوفي) و(أحمد عبد الهادي) من الدراسة الابتدائية.
وجاءت تلك النتائج المتميزة أثر الدعوات التي طالب بها التيار الإصلاحي بضرورة تعلم اللغة الإنكليزية فضلاً عن اللغات الأجنبية الأخرى لأهميتها في الحفاظ على الدين الإسلامي وكيانه وللرد على دعوى المستشرقين وكتاباتهم.
وشهد ذلك التميز العلمي اهتماماً واسعاً ومتميزاً لدى المجتمع النجفي والكادر التعليمي للثانوية المركزية ولعبت الصحافة النجفية وعلى وجه الخصوص صحيفة (الهاتف) دوراً متميزاً في إبراز معالم ذلك التطور من خلال إعلاناتها ومتابعتها المستمرة لنتائج الامتحانات النهائية بدوريها الأول والثاني فضلاً عن نشرها لكل شاردة وواردة في ذلك المجال الحيوي المهم وانعكست بوادر ذلك التفوق العلمي على المستوى الثقافي العام لطلاب الثانوية حتى أصبحوا قادرين على إصدار نشرة مدرسية متنوعة تناولوا فيها سير الدروس وأنشطتهم اللاصفية فضلاً عن المواضيع العلمية والأدبية.
وشهدت المدارس في تلك السنوات نشاطات رياضية داخلية وخارجية لم تمارس في سنوات ماضية، فعلى سبيل المثال وفي مطلع شهر كانون الثاني 1938م شكلت لجنة رياضية مركزية في مدارس النجف لرفع مستوى الرياضة البدنية في جميع مدارس القضاء وسعت لإقامة مسابقات رياضية أولمبية بين المدارس خصصت لها جوائز وهدايا أخرى لتشجيعها وبث روح المنافسة العلمية والرياضية، وتميزت مدارس القضاء بمشاركاتها الرياضية خارج القضاء محرزة المركز الأول لأكثر من سنة ضمن الترتيب العام لمجمل النشاطات الرياضية التي كانت تجري بين مدارس كربلاء والحلة فضلاً عن مدارس النجف.
وفي أول تجربة حضارية قامت ثانوية النجف بتأسيس فصائل الفتوة والكشافة في نهاية تلك المرحلة التي مهدت في وقت لاحق على إنماء روح حب الوطن والإقبال على التطوع في صفوف جيشه الباسل ومارست تجربة علمية وأدبية في الوقت ذاته من خلال السماح لطلابها المتميزين بإلقاء محاضرات في مواضيع شتى وتحت إشراف أحد الأساتذة المختصين بالأدب العربي لإعداد كوادر قيادية تعود بالنفع على المدينة ومجتمعها.
وتميزت ثانوية النجف في الجانب السياسي وكانت متميزة في الجانب العلمي والأدبي والرياضي من خلال مشاركة طلابها في الأحداث السياسية إبان عهد وزارة ياسين الهاشمي الثانية بمسيرات تعبوية وبدعم وإشراف هيئتها التعليمية، مطالبة الوزارة الوفاء بعهودها وإجراء الإصلاحات وتطبيق بنود الدستور كافة.
ومن جانب آخر شهدت المدينة نشاطاً ثقافياً متميزاً قام به مثقفوا المدينة من ذوي الاتجاهات الإصلاحية للقضاء على الأمية من خلال المؤسسات الأهلية العلمية والأدبية التي أسسوها سابقاً إذ قاموا بدور توفيق لتضييق الخلاف القائم آنذاك ما بين التعليم الحكومي والتعليم الديني وربطه بالتطورات الحضارية التي شهدها العراق آنذاك.
واستمر النشاط المتنامي لتلك المؤسسات باتجاه التطورات الحضارية التي شهدها العالمان العربي والأوربي في تلك السنوات من خلال حضورها المتميز في معظم المناسبات السياسية والثقافية المحلية والعربية فضلاً عن العالمية، واشترك أعضاؤها في الكثير من البعثات العلمية والأدبية خارج القطر وأنها أصبحت مؤولاً للكثير من الوفود والشخصيات العربية والأجنبية ومن النشاطات الثقافية الأخرى التي مارستها تلك المؤسسات إقامة الأمسيات الثقافية التي قدت من خلالها مجموعة من الروايات المسرحية والتي خصصت ريعها لمساعدة الفقراء والمعوزين من أهالي المدينة.
ومن جانب آخر فلم تكن المدينة في السنوات (1932ـ1939م) بعيدة عن التطورات الحضارية الأخرى فقد عدت مدينة النجف إحدى المدن الحضارية التي شهدت استيراد ودخول أعداد غير قليلة من السيارات قياساً بالمدن العراقية الأخرى ومن مناشئ عالمية متنوعة مثل الألمانية والبريطانية والأمريكية.
ومن الوسائل الحضارية الأخرى التي حظيت بها المدينة في تلك السنوات انتشار المذياع في النجف وبأعداد غير قليلة وأفرزت تلك المرحلة مظاهر حضارية أخرى تمثلت بمعالجة العادات البالية المستحكمة والعمل على إزالتها، فعلى سبيل المثال سعت النخبة المثقفة إلى محاربة ونبذ الألقاب الفارغة والتسميات الضخمة ومنها (العلامة، الفهامة، الإمام الأكبر، الأوحد، ظهير المسلمين، العالم الرباني)، ومن المظاهر السلبية الأخرى التي دعا التيار الإصلاحي لمحاربتها وأيدت من السلطات المحلية في المدينة واللواء بسبب عدم احترام الشعائر الدينية في شهر محرم الحرام من الكثير وممارسة أعمال لا تمت لها بأي صلة من ضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل وضرب الطبول وغيرها من الممارسات التي عدها المصلحون النجفيون بدعة دخيلة.
ونتج عن تلك التوجهات صراع فكري بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي، إذ اعتمد المحافظون في صراعهم على بعض رجال الدين والأدباء ومجموعة من المثقفين المتشددين مستغلين العاطفة الدينية واستخدام المال مع مؤيديهم وبالمقابل فقد حصل الإصلاحيون على تأييد رجل الدين المتحرر (محمد علي هبة الدين الشهرستاني) والمرجع الديني (أبو الحسن الاصفهاني) وآخرين.
وطالب التيار الإصلاحي النجفي على ضرورة إصلاح الخطابة الدينية على المنابر للخروج بنتائج تتناسب مع حجم الرسالة والتضحيات التي قدمها الإمام الحسين بن علي(ع) وأن لا تكون مقتصرة على البكاء والعويل وطالبوا الخطباء بالابتعاد عن كل صفات التوجه المذهبي.
وعلى أثر ذلك أطلق المحافظون على التيار الإصلاحي ألقاباً خلت من الطابع الأخلاقي ووصفوهم بالكفر والزندقة من أجل عزلهم عن المجتمع ومن ثم القضاء عليهم لأنهم أصبحوا خطراً عليهم. ومن جهة أخرى طالب المصلحون بضرورة الاعتناء المرأة وتعليمها وإنصافها وفق الشرائع السماوية السمحاء ورفع الظلم عنها وحمايتها من الآفات الاجتماعي وأولها الأمية، وأكدت تلك الدعوات بضرورة مشاركتها في النهضة الثقافية والفكرية من خلال دخولها أروقة الجامعة لتساهم في رفد الواقع التعليمي النسوي ضمن مجتمعها بشكل عام وأسرتها بشكل خاص لبناء مجتمع قويم ومتحضر من خلال أثرها في بيتها وعملها لتربية جيل قادر على مواجهة الأفكار المنحرفة، وانبرى التيار الإصلاحي للدفاع عنها وإنصاف حقوقها مع الرجل في حالة إصابة المجتمع بالفساد الاجتماعي مطالباً الشارع أن يلقي بظل اتهاماته إلى الرجل أولاً من دون المرأة وجاءت تلك الدعوات كرد فعل قوي باتجاه الآراء المحافظة التي كان جل غايتها استخدام المرأة سلعة مضافة إلى السلع المنزلية الأخرى تستخدم متى اقتضت الضرورة لها.
وعلى الرغم من التطورات الثقافية والحضارية التي شهدها المجتمع النجفي للسنوات (1932ـ1939م) إلا أنها لم تكن إيجابية في جميع جوانبها، إذ أفرزت آثاراً سلبية خطيرة تمثلت بانتشار المفردات الأعجمية الدخيلة على لغتنا العربية الفصيحة لغة القرآن الكريم على الرغم من محاولات المصلحين المستمرة للتخلص منها وإزاحتها عن الجسد النجفي لأنها شكلت ظاهرة غير صحيحة فانتقلت عدواها من جيل إلى جيل، والأخطر من ذلك كله أنها دخلت في لغة الأدب والصحافة في مدينة عدها الكثير إحدى حاميات اللغة العربية الفصيحة في تلك المرحلة وقبلها، وقد اشتركت مجموعة من العوامل على انتشارها كان من أهمها تعرض العراق لاحتلال طال قروناً من الزمن تعاقب على حكمه العثمانيون والفرس ومن ثم البريطانيون ونتيجة لذلك تأثر السكان بلغة حكامهم فشاع على أثرها استخدام الأسماء الطويلة مثل (بهجت، صفوت، طلعت، فكرت، الخ) ودخلت اللازمة التركية (جي) على كثير من الأعمال والمهن مثل (جوهرجي، عبايجي، كهوجي، مكوجي، الخ) وأضيفت بعض المفردات إلى الكلمة العربية فحولتها إلى ألفاظ غريبة عن أصولها فأطلق عليها كلمة (ملمعة بالتركية) مثل (أدب سز، حياسز… الخ) وسميت الكلمات الفارسية المدعمة بالمفردات العربية بـ(الملمعة الفارسية) مثل (بيعار وبذات)، ومن جهتها ساهمت الحوزة العلمية في النجف على انتشار تلك المفردات من خلال طلابها الأجانب الذين قصدوها لغرض الفائدة العلمية فضلاً عن الجالية الفارسية صاحبة الكم الأعظم من رعاياها فضلاً عن ذلك فقد ساهمت الزوجات الفارسيات لأبناء بعض الأسر العربية في المدينة على نشرها من خلال تعليم أبنائهن لها.
والجدول التالي يبين ما أمكن إحصاؤه من المفردات الأعجمية المستخدمة من المجتمع النجفي في تلك المرحلة وقبلها:
مصدر الكلمة |
عددها |
مصدر الكلمة |
عددها |
مصدر الكلمة |
عددها |
مصدر الكلمة |
عددها |
مصدر الكلمة |
عددها |
مصدر الكلمة |
عددها |
فارسية |
279 |
ملمعة تركية |
6 |
هندية |
3 |
روسية |
2 |
تركية ـ أذربيجانية |
1 |
ألمانيا |
1 |
تركية |
256 |
تركية ـ مغولية |
5 |
إنكليزية ـ فارسية |
3 |
فارسية ـ لارستانية |
1 |
تركية ـ هندية |
1 |
يونانية ـ إنكليزية |
1 |
إنكليزية |
100 |
إنكليزية ـ تركية |
5 |
فرنسية ـ تركية |
3 |
إيطالية ـ فرنسية |
1 |
كردية ـ تركية |
1 |
إيطاليا ـ ألمانيا |
1 |
فارسية ـ تركية |
31 |
معلمة فارسية |
4 |
تركية ـ لاتينية |
3 |
فرنسية ـ إنكليزية |
1 |
سريانية |
1 |
كردية ـ فارسية |
1 |
تركية ـ فارسية |
16 |
إسبانية |
4 |
تركية ـ إنكليزية |
2 |
فرنسية ـ روسية |
1 |
إنكليزية ـ إيطالية |
1 |
لاتينية |
1 |
فرنسية |
15 |
تركية ـ يونانية |
3 |
آرامية |
2 |
فارسية ـ فرنسية |
1 |
تركية ـ صينية |
1 |
مغولية |
1 |
إيطالية |
10 |
يونانية |
3 |
فارسية ـ إنكليزية |
2 |
آرامية ـ صينية |
1 |
أفغانية |
1 |
|
|
تركية ـ إيطالية |
8 |
تركية ـ فرنسية |
3 |
فارسية ـ هندية |
2 |
هندية ـ تركية |
1 |
|
|
|
|
ويبدو واضحاً من خلال الجدول أعلاه حجم أعداد المفردات الفارسية التركية الإنكليزية المستخدمة من المجتمع النجفي عن غيرها من المفردات الأعجمية الأخرى، ومن الجدير بالذكر أن أعداد المفردات الفارسية زادت وبشكل واضح على أعداد المفردات التركية والإنكليزية على الرغم من أن الدولتين التركية (العثمانية) والبريطانية حكموا العراق حكماً مباشراً.
ثالثاً: أثر القوى الاجتماعية النافذة في المجتمع النجفي في خلق التوازن الاجتماعي:
1. القوى الدينية (النخبة الإصلاحية):
أصبحت مدينة النجف بعد تأسيس حوزتها الدينية ذات نفوذ ديني امتد إلى دول إسلامية عدة من خلال مرجعيتها الدينية العليا فضلاً عن خريجي مدرستها الذين توزعوا فيها مثل الهند وإيران وسوريا ولبنان وغيرها من المدن الإسلامية الأخرى، فمنهم من رسم لنفسه بتأدية دور ديني خالص ومنهم من آل على نفسه أن يؤدي دوراً مزدوجاً جمع بين الثوابت الرئيسة التي حصل عليها من خلال دراسته الحوزوية والتطورات الحضارية الحاصلة في العالم الغربي بشر أن لا تنحى بتلك الثوابت إلى مسار غير صحيح، فمنهم من اعتلى منبر المرجعية ومنهم لم يصلها، وقد أطلق عليهم رجال دين مصلحين (متنورين) فمنهم على سبيل المثال المرجع الديني الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، ومن رجال الدين الشيخ محمد رضا المظفر، والشيخ محمد جواد الجزائري، والشيخ علي الشرقي، والشيخ محمد رضا الشبيبي وغيرهم.
واختلف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عن معاصريه من المراجع (العلماء) في الحوزة العلمية في تلك السنوات (1932ـ1939م) إذ كان فقيهاً صاحب حجة وبرهان وساع الإطلاع حراً في آرائه ونظرياته الفكرية الحديثة التي تتناسب مع العصر وتطوراته، وعده الكثير من المؤرخين والباحثين المرجع الأبرز في تلك المرحلة فقد تولى مقاليد المرجعية الدينية والزعامة الروحية للمسلمين الشيعة مما أضاف لها دوراً متميزاً جاء نتيجة حسن إدارته والتعامل مع منهجيتها حسب المعطيات والمتغيرات الآنية آنذاك فضلاً عن امتلاكه الجرأة في إبداء الرأي الذي ارتكز على الحجة والدليل القاطع وبرهانهما العقل، كانت له حوزة علمية واسعة وضخمة احتوت على كثير من العلماء وطلبة العلم.
وأسهمت البيئة الفكرية والثقافية لمدينة النجف في صقل موهبته الأدبية فضلاً عن رجال الدين المتحررين آنفي الذكر, إذ برزت نتاجاته الأدبية من خلال كتاباته الشعرية وهو المجال الذي أخذ منه حيزاً واسعاً فأصبح بذلك من رواد الشعر العراقي الحديث ولم تقتصر نتاجاته الأدبية المتميزة على الشعر بل تعدى ذلك إلى النثر، فقد كان من أبرز كتاب المقالة الاجتماعية والسياسية والدينية والفلسفية في العراق التي تميزت بالصياغة الفنية ووحدة الموضوع ومتانة اللغة وسمو الهدف الخالي من أي قصد طائفي متشنج، أما في الخطابة فقد تميز بفصاحة اللسان وبلاغة المفردات وحسن التأثير على مستمعيه على الصعيدين المحلة والعربي، فأصبح أحد أعلام الطائفة في مجال الأدب وأئمة القريض والفصاحة.
وتميز الشيخ محمد رضا المظفر بكتاباته المقترنة بجمال التعبير وسلامة الأداء والمادة الخصبة ذات الأفكار الدقيقة الموشحة بعمق النظرة والممتزجة بالعلم والأدب وتميزت بروعة العرض والتنسيق والمواضيع العلمية كالأصول والمنطق والفلسفة ونظم الشعر منذ نعومة أظافره فتميز شعره بمتانة الموضوع ورقة الديباجة.
أما الشيخ محمد جواد الجزائري فقد تميز بالحس الأدبي ومن أهل الجلالة العلمية الرصينة في مجال الفقاهة والأصول والحكمة والفلسفة وبرز الشيخ علي الشرقي بين أقرانه من الشعراء الشباب فأصبح شاعراً متجدداً باعثاً فيهم روح الحرية حتى عده الكثيرون أحد أركان صرح الأدب الحديث وأحد مؤيدي حركة الإصلاح والتجديد.
فضلاً عن ذلك فقد تأثر الشيخ محمد رضا الشبيبي في صياغة اللفظ والتركيب وطريقة النظم من محيط النجف الأدبي التي اكتسبها من العصر العباسي فظل محافظاً عليه من حيث اللغة والسبك العربي الأصيل، وظهر التجديد في شعره إذ خرج عن محيطه وقيوده عابراً الآفاق الواسعة متغلغلاً في أعماق الشعوب العربية وحرياتها، فهو أول من فكر بإحياء التراث الأدبي داعياً إلى تأسيس جمعية تهتم بدراسة المخطوطات وتحقيقها ومن ثم طبعها ونشرها على غرار لجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر وأصبح من فحول الشعراء في ثلاثينات قرن العشرين.
وفي الجانب السياسي تميزت تلك النخبة بمشاركتها وتصديها لكل الأحداث السياسية التي ألمت بالبلاد ومنها النجف منذ مطلع القرن العشرين حتى المدة المعنية بالبحث فعلى سبيل المثال كان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أول المتصدين للجيش البريطاني أثر إنزاله عند مصب شط العرب في 6 تشرين الثاني 1914م إذ كان ضمن المجموعة الثانية التي توجهت إلى جبهة الحويزة وكان على رأس المجاهدين الذين تصدوا لمقاومته في جبهة الكوت سنة 1916م.
وقام الشيخ محمد جواد الجزائري بدور متميز للذود عن حياض وطنه ومدينته والعمل على وحدته فانخرط تحت لواء الجهاد ضد البريطانيين في شرق البصرة من جهة عربستان إلا أن تراجع المجاهدين وتقدم البريطانيين واحتلالهم البصرة أدى إلى انسحاب الشيخ محمد جواد الجزائري راجعاً إلى المدينة مستخدماً أسلوباً آخر من أساليب الجهاد فانضم إلى (جمعية النهضة الإسلامية) واختير الشيخ علي الشرقي سفيراً للسيد محمد سعيد الحبوبي في مناطق الشطرة والغراف مستنهضاً عشائرها للالتحاق تحت راية الجهاد.
وشارك الشيخ محمد رضا الشبيبي في الذود عن تراب وطنه من المحتلين حيث اشترك في معركة الشعيبة عندما شن الجيش العثماني هجوماً على الجيش البريطاني فنقلها في قصيدة ووصف فيها أهوال الحرب واصفاً الجثث المنثورة وقسوة الحصار وحرمان القوم من الماء والطعام ثلاثة أيام بلياليها، وصور الواقعة الثانية (يوم المدائن) و(تل السور) بمزيج من العاطفة الدينية والعربية منتقداً ذلك الصراع والدمار الذي حل بالبشرية نتيجة السياسة الهوجاء للدولة العثمانية الذي جاءت من وجهتين الأولى بوصفها مالت عن الطريق القويم للإسلام والثانية بأنها غاصبة حقوق العرب الذين قامت على أيديهم الدولة الإسلامية مرتكبين أكبر الذنوب التي صفح عنها العرب.
وعلى إثر الأحداث السياسية المتلاحقة نتيجة القرار الذي اتخذته الإدارة البريطانية بتعيين موظفين محليين تابعين لها، ثارت النجف عليهم سنة 1918م كان الشيخ محمد رضا المظفر قد عايش أحداثها وتأثر بها ودعا الشباب إلى مؤازرتها.
وقام الشيخ محمد جواد الجزائري في تلك الثورة بدور جهادي تعبوي تمثل بإنشاء مصنع لصناعة الأسلحة في الطابق الثاني من داره الواقعة في محلة العمارة الذي كان السبب في بتر أصابع يده اليسرى، وبعد انتهاء الثورة حكمت عليه المحكمة العسكرية البريطانية الخاصة بالإعدام ومن ثم غيرته بالنفي إلى الهند.
وفي تلك الثورة كان الشيخ علي الشرقي على اتصال وثيق بأعضاء جمعية النهضة الإسلامية فقد شارك في أحداثها التي كادت تقضي عليه، ولاقى مآسي الحصار الذي فرضه البريطانيون على المدينة بعدها وعلى إثرها شكل الشيخ محمد رضا الشبيبي حزب (النجف الوطني السري) بعد عودته من منطقة الحجاز.
وعند قيام الثورة العراقية الكبرى سنة 1920م ساهمت النخبة الدينية على قيامها والمشاركة في جبهاتها، كان في مقدمتهم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عندما صدرت فتاوى العلماء بمقاومة البريطانيين وطردهم من البلاد فقد حضر اجتماعاتها وقام بكتابة رسائل موقعة من العلماء إلى عشائر بني حجيم والعشائر الأخرى وتركت الثورة أثراً كبيراً على الشيخ محمد رضا المظفر من خلال العديد من القصائد والموشحات التي نظمها مظهراً خيبة أمل بالسياسة البريطانية اتجاه العراق ومجتمعه وساهم الشيخ محمد جواد الجزائري في التحضير لها والمشاركة الفعلية في جبهاتها إذ كان قائداً أعلى لجبهة الحلة، وقد وضع خطة لاحتلال بغداد بعد اتفاقه مع عشيرتي كعب وزوبع، إلا أن انكسار جيش الثوار أدى به إلى التراجع لمعسكرات التدريب الواقعة بين النجف والسماوة والإشراف عليها، وعند انتهاء الثورة حكم عليه بالإعدام للمرة الثانية وأطلق عليه البريطانيون (الخصم العنيد) مما اضطره للاختفاء عن أنظارهم في جبل حمرين، وبقي هناك حتى صدور العفو عن الثوار وأرسل الشيخ علي الشرقي إلى منطقة الشطرة والغراف للتمهيد إليها وفتح فرع (للجامعة الإسلامية) في الشطرة.
أما الشيخ محمد رضا الشبيبي فعند انطلاق شرارة الثورة قام بتشكيل مكتب لها في النجف وقام بتوزيع المنشورات فضلاً عن رفع علم الثورة فوق سوق الخياطين في النجف.
وبعد انتهاء الثورة العراقية الكبرى وعند تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق سنة 1921م بدار الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بإلقاء خطبته التعبوية لمساندة الملك بتأسيس الدولة العراقية الحديثة، إلا أن آماله خابت بعد أن وجد الملك تابعاً لسيطرة المحتل ومنفذاً لأوامره، ومما زاد في آلامه السياسية الجديدة التي استخدمها المستعمر لزيادة هوة الخلاف بين السنة والشيعة إلا أن ذلك لم يثن من عزمه على تنبيه المجتمع العراقي لذلك الخطر المحدق من خلال خطبه التي فازت بإعجاب المجتمع العراقي بكل طوائفه وملله ووقف الشيخ محمد جواد الجزائري موقف المعارض عندما شكلت الحكومة العراقية وبوشر بانتخاب المجلس التأسيسي رافضاً تلك الانتخابات ووصفها بالمزيفة. أما الشيخ محمد رضا الشبيبي، فقد استوزر للمعارف سنة 1924م إلا أنه سرعان ما استقال عندما اتضح له أن سياسة الحكومة لا تتماشى مع آرائه السياسية وبقي بعيداً عن الوزارة وانتخب عن لواء بغداد في أول مجلس نيابي عراقي وذلك سنة 1927م.
واستمر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء على ذلك النهج وعلى وجه الخصوص في ثلاثينات القرن الماضي نتيجة الأحداث السياسية التي شهدتها الساحة العراقية ـ ومر بنا سابقاً ـ بسبب الاضطهاد الطائفي الذي مارسه رجال الإدارة في الحكومة العراقية ضد المجتمع، إذ وقف موقف الند منها منذراً بذلك رجال الشيعة وزعماؤها من الانقسام وتحويلهم إلى أدوات يحركها الساسة المحترفون في بغداد معتمداً بذلك على قاعدة العشائر المسلحة (شبه المنظمة) والمرتبطة بمرجعيته الدينية. وشهدت له الساحة السياسية العراقية مواقف أخرى إلا أنها خارج نطاق البحث. وفي السياق ذاته كان للشيخ محمد جواد الجزائري موقف وطني إزاء قضية الموصل وتبعيتها إذ كان من المجاهدين العنيدين اتجاهها، فقد سافر إلى الموصل وأقام فيها ثلاثة أشهر يثقف أهلها بأهم عرب ويلزمهم الالتزام بوحدتهم مع العراق ورفض الشيخ محمد جواد الجزائري قرار الوزارة المدفعية الثالثة باستخدام القوة العسكرية ضد العشائر الثائرة حيث قام بإرسال برقية إلى الملك غازي في 13 آذار 1935م منبهاً إياه على السياسة المتبعة من الحكومة ضد العشائر وعدها سياسة قمعية تؤدي إلى المزيد من القتل والدمار.
أما الشيخ علي الشرقي فبعد أن اعتزل المجال السياسي بعد أحداث ثورة 1920م حتى سنة 1926م رجع إليها بعقلية سياسية جديدة ملؤها الاعتدال محافظاً على رزقه بعد أن تغيرت مجاريها وأصبحت التوفيقية من أشهر معالمها، ففي سنة 1933م عين رئيساً لمحكمة (التمييز الشرعي الجعفري) بعد حصول موافقة علماء الدين في النجف على تعيينه لأن لهم الأمر آنذاك واستمر به حتى سنة 1947م ومن ثم صدرت الإدارة الملكية بتعيينه عضواً في مجلس الأعيان العراقي وأثرت أحداث الفرات الأوسط سنة 1935م في نفس الشيخ علي الشرقي وما آلت إليه الأمور، فقد جاء برفقة مبعوث الحكومة العراقية عبد الحسين الجلبي وزير المعارف إلى النجف لمفاوضة رؤساء العشائر عند الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلا أنه تعرض لانتكاسة نفسية عندما سمع أحد الحاضرين في الصحن الحيدري مخاطباً عبد الواحد سكر قائلاً: (يوحيد طب ثور الشيعة)، فرد راجعاً من دون التوصل إلى نتائج إيجابية والحسرة ملء عينيه، وعد الشرقي ثاني رجل في نشاطه السياسي في مدينة النجف بعد الشيخ محمد رضا الشبيبي من خلال أفكاره التي حملت خواص النضوج الفكري والآراء الحديثة التي أثرت في المجتمع النجفي وعلى وجه الخصوص عند فئات الشباب.
وشغل الشيخ محمد رضا الشبيبي العديد من المناصب السياسية في الثلاثينات فقد شغل منصب وزارة المعارف في الوزارة الهاشمية الثانية فضلاً عن الوزارة المدفعية الرابعة وعين عضواً في مجلس الأعيان سنة 1935م ثم رئيساً له لمرات عديدة (خارج مدة البحث)، وكان عضواً في مجلس النواب لدورات عديدة (خارج مدة البحث) ولعب دوراً رئيساً في إنماء الحركة الثقافية في العراق.
ومن الجدير بالذكر لم تنحصر المواقف السياسية للنخبة الدينية على الصعيد المحلي فحسب بل تعدت إلى أبعد من ذلك حتى شملت القومية منها فعلى سبيل المثال عد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء من أبرز المراجع الذين برزوا على الساحة العراقية ضمن إطار معالجته للقضايا القومية والتصدي لها ومساندتها، وقد سجل التاريخ الحديث والمعاصر له العديد من المواقف المشرفة، كان أولها رحلته إلى الشام ومصر سنة 1911م مشاركاً أحرار سوريا من خلال مقالاته في الصحف العربية ومحاضراته التي ألقاها هناك داعياً من خلالها إلى مقاومة الاستعمار وطرده من الأراضي العربية المحتلة والتي أججت الحس القومي لديهم، ومن ثم ذهب إلى مصر بقصد الاتصال بأعلامها ومناقشة علمائها (علماء الأزهر) على نوادي التبشير المنتشرة هناك واستمرت تلك الرحلة سنتين ومن ثم عكف بعدها عائداً إلى مدينته منقطعاً إلى التدريس.
ومن مواقفه القومية الأخرى مساندته للمنظمات والشعوب الإسلامية إزاء الهجمات الصهيونية التي كان هدفها تمزيق وحدة المسلمين واغتصاب دولة فلسطين وعبر عن تلك المواقف من خلال مشاركته في المؤتمر الإسلامي المنعقد في القدس سنة 1931م.
وظلت القضية الفلسطينية موضع قلق الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في مراحلها اللاحقة وعلى وجه الخصوص بعد عملية التقسيم التي قامت بها الحكومة البريطانية ولجانها المشبوهة، فضلاً عن تصديه وبوقت مبكر إلى ألاعيب السياسية الأمريكية البغيضة منبهاً بذلك المجتمعين العراقي والعرابي منها على حد سواء كاشفاً كذب ادعاءاتها للدفاع عن الحقوق الشرعية للشعوب المضطهدة بالوقت الذي سمحت لنفسها باستخدام أقسى أساليب الاضطهاد والتمييز العنصري ضمن حدود قارتها مع أصحاب الأرض الشرعيين من هنود وزنوج واصفاً ذلك الحال بقوله: (إذن أيروق لك أيها العربي الغيور ذلك الوضع التعيس والعيش الخسيس وأن ينتهي بك الأمر إلى مثل ذلك الحال، فإن الدولة التي تضطهد أبناء وطنها من الأولى أن لا تتورع عن اضطهاد أبناء الأقطار الأجنبية البعيدة، ويكشف اضطهاد الزنوج في أمريكا كذب مزاعم حكومة أمريكا في الدفاع عن حرية الشعوب وفي السعي لتقدم الشعوب ورفاهيتها وسعادتها).
واهتم الشيخ محمد جواد الجزائري بأحداث الوطن العربي منبهاً المجتمع العربي على تجاوزه واقعه المرير والانتقال إلى حياة أفضل فمنها على سبيل المثال الثورة في ليبيا والجزائر ومصر فضلاً عن القضية الفلسطينية وحث أهلها على الجهاد لتحريرها وطرد الصهاينة منها، وقد نظم قصائد في القضية الفلسطينية منها:
لا عيد يرتاح به مسلم يرى (فلسطين) بأيدي اليهود
أرى وميضاً وعساني أرى من خلفه ناراً وعيداً سعي
وأكد الشيخ محمد رضا الشبيبي على إيمانه العميق بأمته وعمل جاهداً على جمع شملها بالكلمة الصادقة والموقف القومي الهادف فثار لقضية طرابلس سنة 1912م وأيد ثورة أهل الدروز على الحكم الفرنسي سنة 1918م وحذر الشبيبي الدول عما بيتته دول الاستعمار وعلى وجه الخصوص أمريكا، وارتأى ضرورة إنشاء قيادة حازمة وواعية للشعب العربي لحل المشاكل السورية والجزائرية والمصرية ومشاكل الجنوب العربي في مقدمتها القضية الفلسطينية التي ملأت باله في كل مكان وزمان وضمن نثره كان الشبيبي من رواد الحياد الذين رأوا ضرورة وجود كتلة ثالثة بين المعسكرين الغربي والشرقي هدفها إيجاد التوازن الدولي وإبعاد شبح الحرب العالمية الثالثة.
وبعيداً عن الجانب السياسي تميزت النخبة الدينية في مدينة النجف في الجانب الإصلاحي الذي شمل مجالات عديدة فمنها على سبيل المثال في مجال التعليم، فقد طالب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المجتمع الحفاظ على سلامة لغته العربية لأنها إحدى رموز الوحدة الوطنية وطالب المغتربين في بلاد الهجرة بعدم التخلي عنها لأنها عنوان عزتهم وثبات قوميتهم وعد تاركها خارجاً عن الدين وخائناً للوطن، وفي جانب آخر أكد على الاهتمام باستحداث أساليب جديدة في التعليم الحوزوي التي من خلالها يمكن للمجتمع التخلص من كل الأباطيل التي كان يستخدمها المغرضون لتكون مقبولة ومتلائمة مع روح العصر وإفراغها من كل التأويلات والتعقيدات المتلبسة بها لتصبح سلسة وبسيطة يستوعبها الكل مطالباً المتحررين من أبناء المجتمع النجفي وغيره للقيام بمهمة توفيقية بين مبادئ الدين ومستجدات العصر الحديث من خلال تشكيل لجنة مختصة لرفع تلك الإرهاصات وإزالتها إلى الأبد فبدأ بمدرسته فأدخل في مناهجها النظم التعليمية المتطورة، فحصلت على اعتراف حكومية شمل نظامها المتبع ومناهجها المقررة فشهدت إقبالاً من الطلاب العراقيين والأجانب.
وتبلورت فكرة الإصلاح وتنظيم الدراسة الدينية لدى الشيخ محمد رضا المظفر ومعالجتها عن طريق الجذور الأولى للمشكلة ودعا أخوانه وأبناءه بإخلاص للوقوف إلى جنبه في حله ولاحظ الشيخ المظفر أن الكتب الدراسية مازالت تحت طابع الغموض والتعقيد مما استدعى الطالب بصرف جهد كثير في فهم العبارة وما ظهر عليها من غموض وتعقيد فضلاً عن سوء التنظيم في تنسيق الأبحاث ومن ثم فإن تلك المنهجية سدت على الطلاب بفتح أبواب جديدة من الفكر ولاحظ أن الدراسة الفردية أو دراسة الحلقات على الرغم من إيجابيتها في دفع الطالب إلى الشعور بالمسؤولية إزاء نفسه، إلا أنها لا تخلو من بعض النقص من خلال قضاء وقت طويل للعثور على الأستاذ الخاص وقد لا تتوفر في الطالب الدواعي النفسية التي تبعثه على العمل الفردي وعدم الشعور بالمسؤولية وشعر بها الآخرون.
واستغل الشيخ محمد جواد الجزائري حوزته العلمية في الدعوة لإصلاح التعليم التي لم تقتصر على طلبة العلوم الدينية في النجف بل شملت الجميع فضلاً عن قيامه بالدور التأسيسي الأول للتعليم والتربية لعشرات من قرى الشبك والبابوية في منطقة الموصل وتلعفر وصب الشيخ علي الشرقي جل اهتمامه على التعليم ومقاومة الأمية ونشر اللغة العربية الفصحى وبشكل مبسط داعياً إلى إنشاء مراكز علمية ترعى الكفاءات إلى مستوى الإبداع وأوصى الشباب بتعلم اللغة الإنكليزية فضلاً عن وصاياه بضرورة الاهتمام بالتعليم الابتدائي وتوسعته ليشمل مناطق العراق مطالباً بزيادة مخصصات التعليم لرفع مستواه ومسايرة التطورات الحضارية ودعا إلى اختيار مدينة بغداد لتكون مركزاً فكرياً رئيساً، وأكد على التعليم المهني وتطويره لكونه الحلقة المهمة التي تسهم في ولادة كادر فني متخصص، فضلاً عن دعواته المتكررة على أهمية المدرسة والجامعة في خلق أفق متجددة للأجيال المتعاقبة، وانتقد الشيخ الشرقي المدارس بنوعيها الحكومي والديني بسبب تأكيدها الجوانب العلمية من دون العاطفية.
وأيد الشيخ محمد رضا الشبيبي إلى ما ذهب إليه النخبة الدينية المصلحة في تأكيد على الجانب العلمي وتطوير المناهج العلمية من خلال استخدام مدرسين من الأقطار العربية يتميزون بالكفاءة واهتم بالتعليم المهني، وعده أحد أسس تقدم البلاد لأنها تساهم في الحد من البطالة الاجتماعية إذ شهد العراق سنة 1938م تطوراً ملحوظاً في المستوى العلمي عندما كان وزيراً للمعارف إذ حصلت الوزارة على تخصيصات مالية بلغت 707 ألف دينار مقارنة مع سنة 1935م التي بلغت ميزانيتها 428 ألف دينار، وشهدت تلك السنة زيادة في عدد المدارس بنسبة 25% وازدياد عدد الصفوف بنسبة 37% وازدياد عدد الطلبة بنسبة 30% فضلاً عن زيادة عدد المعلمين بنسبة 28%، وكان الشيخ الشبيبي أول الداعين إلى تأسيس فرقة للفتوة والكشافة في المدارس على غرار نظام الفتوة المعروف في تاريخ الإسلام. شغل الشيخ الشبيبي مجموعة من المناصب العلمية والأدبية على الصعيد العربي فعلى سبيل المثال عضويته في المجمع العربي سنة 1923م وعضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة وعضواً في المجلس الأعلى للمخطوطات في الجامعة العربية فضلاً عن الألقاب العلمية مثل منحه شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة ورشح من نادي القلم العراقي بإجماع الآراء ليكون ممثلاً للعراق وعضو شرف في نادي القلم البريطاني سنة 1937م.
واستمرت النخبة من رجال الدين في سعيها الحثيث لإصلاح وإزالة الشوائب العالقة في الجانب الديني إذ طالب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بتنقية العقيدة الإسلامية من كل ما أضيف عليها من بدع جعلته غير مقبول وعرضته للنفور وطالب بكتابة العقائد بأسلوب حديث يتماشى مع روح العصر رافضاً الأسلوب القديم الذي زاد من تعقيدها وصعوبة فهمها لذا ابتعد الشيخ عن الغموض في كتاباته لتكون واضحة للصغير قبل الكبير ووجه الشيخ انتقاده إلى علماء الدين بسبب ما لحق به من وهن لأنهم أهملوا الجانب التوجيهي للمجتمع مما زاد في معاناته وضعفه.
وركز الشيخ محمد رضا المظفر في الإصلاح الديني على خطباء المنبر الحسيني وحدد مجموعة شروط للخطيب من الواجب تنفيذها حتى يكون أهلاً لارتقاء ذلك الصرح الشاهق وطالب الخطباء إلى الإحاطة الكاملة بشؤون الفكر الإسلامي من فقه وتفسير وحديث وتاريخ وما إلى ذلك، وعلى أثر ذلك أسس الشيخ المظفر (جمعية منتدى النشر) فأخذت على عاتقها تحقيق تلك الشروط وتخريج مجموعة من الخطباء الناضجين فكرياً وأدبياً لتأدية أثرهم الريادي، ولقي الشيخ المظفر ما لقي في سبيل تحقيق تلك الفكرة من عذاب وأذى وما وضع في طريقه من أهوال إلا أن من حسن الحظ لقي ذلك المشروع تأييداً كبيراً عند المرجع الديني السيد أبي الحسن الأصفهاني وانبثق عن ذلك المنتدى مدرسة تم تحديد نظامها واختيار مناهجها لتصل بالطالب إلى حد النضوج العلمي والفكري ضمن أطر إسلامية وعربية.
فضلاً عن ذلك أكد الشيخ محمد جواد الجزائري بآرائه الإصلاحية على الحوزة العلمية وأوضاعها مؤكداً على ضرورة تحديث مناهجها وإدخال العلوم الحديثة عليها، ورد الشيخ على كل شخص حاول التشكيك بالخلق الإلهي وبمبادئ الدين الإسلامي من خلال قصيدته التي أطلق عليها عنوان (حل الطلاسم) برهن فيها على وجود الخالق عز وجل وقطع دابر الآراء المادية والأفكار الغريبة، فضلاً عن قيادته للتكتل المتحمس لفكرة الإصلاح على الرغم من قلته نحو بعض الممارسات الخاطئة في الشعائر الحسينية مؤيداً بذلك فتوى المرجع الديني السيد أبو الحسن الأصفهاني حول حرمتها والحد منها.
ونبذ الشيخ علي الشرقي في آرائه الإصلاحية الطائفية وأساليبها ودعا إلى تركها محذراً رجال الدين المتشددين من الرهبنة والمغالاة في سلوكياتهم لخداع الناس من خلال العمامة والسبحة والوقار المصطنع، وقد وصفهم بأبيات شعرية قائلاً فيها:
انظر إلى سبحته ترى الذي أقول لك
شيطانه كخيطها بين الثقوب قد سلك
ووجه الشيخ محمد رضا الشبيبي انتقاداته إلى رجال الدين وحملهم مسؤولية الأمراض الاجتماعية بسبب تقصيرهم المتعمد ووصفه وصمة عار عليهم، وسعى الشيخ الشبيبي جاهداً إلى نشر الإسلام مؤمناً بكل النظام السماوي، ورد على كل من ادعى البهتان والزور في الوحي ودافع عن كون الرسالة وحياً ربانياً لا وجدانياً
وأخذت المرأة جانباً مهماً ضمن اهتمامات الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الإصلاحية داعياً إلى منحها الفرص الكافية لإعلان مشاركتها في الحياة اليومية جنباً إلى جنب مع أخيها الرجل، رافضاً كل النعوت التي تطلق عليها من بعض المتخلفين الذين عدوها عبئاً ثقيلاً عليهم، وطالبهم إلى تأسيس الجمعيات النسوية لمطالبة الحاكمين بحقوقها السياسية المهضومة وعارض بشدة أي دعوة تطالب المرأة بأعمال لا تتناسب مع عفتها وأثرها الريادي في بناء الأسرة والمجتمع.
وأيد الشيخ محمد رضا المظفر إلى ما جاء به الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء مضيفاً عليه بوجوب تهيئة الأساليب التي من شأنها أن تهيئ لها سبل التعليم الصحيح والبناء القويم لأنها مدرسة الجيل الصالح وأعمدة البلاد.
واتهم الشيخ محمد جواد الجزائري السياسة البريطانية التي استخدمتها عند احتلالها العراق مخلفة وراءها آثاراً اجتماعية خطيرة كان من ضمنها الجهل المطبق التي تعرضت له المرأة وعليه طالب بتعليمها والخروج بها من مأزق الجهل والظلام.
وساند الشيخ علي الشرقي رجال الدين المتنورين في دعوتهم إلى تعليم المرأة وتخليصهم من محيط الجهل والظلام.
وأعلن الشيخ محمد رضا الشبيبي تحفظه حول تعليمها غير أنه أعطى أسباباً لذلك وعدها حاضنة الجيل لتنمية عقله وتربية روحه رافضاً خروجها إلى الحياة الوظيفية وبقاءها في منزلها لأنها أولى بها، إلا أن ذلك الموقف سرعان ما تغير فقد سمح لبناته الدخول إلى الجامعة والتخرج منها ومن ثم الدخول إلى الحياة العملية ليمارسن مهنة التعليم.
أما في الجانب الاجتماعي طالب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء إلى نبذ العادات الاجتماعية القديمة ومحاربتها مثل الرشوة والفساد الإداري، وانتشار الملاهي وإباحة الخمور التي جاء بها المستعمر وطالب التيار الواعي والمثقف على محاربتها والحد منها، ورفض وبكل مرارة العادات الاجتماعية التي تحط من قيمة الجنس البشري والتي ورثها العراقيون جيلاً من بعد جيل فمنها على سبيل المثال احتقارهم لمهنة الفلاحة والحياكة والعطارة وصيادي الأسماك، بالوقت الذي يقدمون ولاء الطاعة والتقديس للأثرياء والإقطاعيين.
وكان للشيخ محمد جواد الجزائري آراء إصلاحية في الجانب الاجتماعي فقد نأى الشيخ الجزائري باللائمة على البريطانيين الذين وضعوا العراقيل أمام تقدم الواقع الاجتماعي، فانتشرت بذلك الأمراض الاجتماعية وتمزقت بذلك أواصرها وقد وضع لذلك مجموعة حلول كفيلة بحلها والقضاء عليها مستعرضاً إياها بقصيدته التي سماها (الحياة الفردية).
في الجانب ذاته رأى الشيخ علي الشرقي عدم جدوى الشعر والكتابة وحبذ تأسيس جمعية للشباب المثقف في مدينة النجف هدفها نشر الأفكار المتحررة فآلت تلك إلى حقيقة على أرض الواقع وأطلق عليها اسم (جمعية مكافحة الفقر)، ولما رأى الشيخ الشرقي أن الناس قد اعتادوا على نقل جنائز موتاهم من الأماكن البعيدة إلى جوار الأضرحة المقدسة بحجة الشفاعة، صور لنا مساوئ تلك العادة بما تحمله من سلبيات، وأطلق نعوتاً لاذعة نحو تقاليد وشعائر التيار المحافظ مما سبب اهتزاز قاعدته الاجتماعية ونال من جراء جرأته الكثير من الخصومات الشخصية والردود الموجعة التي ألجأته في بعض الأوقات إلى العزلة عندما رأى سراب الماء في أفكار أغلب فئات المجتمع.
وحذر الشيخ محمد رضا الشبيبي من مساوئ السكوت على الخرافات والممارسات الاجتماعية الخاطئة وطالب الاعتناء بالشباب العاجزين عن نهضة صادقة تقود البلد إلى بر الأمان، وانتقد الشباب الطائش الذي يثور على كل شيء من دون تفكير فضلاً عن أسفه الشديد اتجاه بعض الشباب المثقف الذين استمدوا ثقافاتهم من فئات تريد بهم الخذلان منبهاً آباءهم على متابعتهم وإصلاحهم لأنهم السند الذي تشاد على أعمدته عزائم الشباب. ونادى إلى إنشاء جيل قوي يعتمد على ثقافة قوية نابذاً الثقافة التي لقن بها الجيل بقصد إضعاف روح الإقدام وأمانة المشاعر الوطنية والقومية، فضلاً عن ذلك طالب الحكومة العراقية في غلق السجون والمعتقلات فقد ربط تقدم الدولة بدرجة التعاون فيما بينها وبين أبناء الشعب لأنهم قوامها منهم تستمد سلطانها، وطالبها إلى إنشاء دور للأيتام في مختلف الألوية العراقية أسوة بمدن بغداد والموصل والبصرة.
وشملت الدعوات الإصلاحية للنخبة من رجال الدين الجانب الاقتصادي، إذ طالب الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المجتمع بالسعي وراء عاملين مهمين للنهوض بالواقع الاقتصادي من خلال العلم والعمل فبهما يصبح الاقتصاد قوياً ومتيناً ووضع مشروعاً اقتصادياً عن طريق الاستثمار الصحيح للأموال بواسطة وضع آلية صحيحة لجمع التبرعات الخيرية التي تساعد على إنشاء المشاريع العمرانية والخدمية، فضلاً عن مطالبته أصحاب الأموال باستثمار أموالهم لبناء المستشفيات والمدارس بدلاً من الإكثار من بناء المساجد سعياً وراء مظاهر الأبهة الكاذبة، وطالب بإصلاح طريقة تنفيذ وصية المتوفي صاحب الأموال بعد أن لوحظ أن أغلبها كانت تحصر نصف التركة لبناء مسجد من دون تصرف.
أما الشيخ محمد جواد الجزائري فقد وجه انتقادات لاذعة إلى وزارة الاقتصاد العراقية واصفاً إياها بأنها (اسم على غير مسمى) بسبب عدم نجاحها في تصريف المنتوجات العراقية وعدم قدرتها على رفع المستوى الزراعي والصناعي في تلك المرحلة، وبناءً على ذلك نظم قصيدة سماها (مسرح الخيال) وقد وضع صيغاً عملية للنهوض بذلك الواقع عن طريق الجمع بين النظريات الاقتصادية الحديثة والنظريات التي جاء بها الدين الإسلامي لبناء العدالة الاقتصادية في مجتمع يسعى إلى النهوض والبناء.
ونادى الشيخ علي الشرقي بضرورة إصلاح الجانب الاقتصادي من خلال الاهتمام بالثروة الزراعية وتحسين واردات النخيل الآخذة بالتناقص حتى باتت لا تكفي لسد حاجة سكان بغداد وحدهم، وشكك الشيخ الشرقي بمصير الأموال المرسلة من الهند (خيرية أودة) كل سنة باسم الفقراء معترضاً على طريق توزيعها، وطالب بتشكيل لجنة نزيهة تعمل على توزيع تلك الواردات بشكل عادل من دون استغلال، وتكررت دعواته في المجال الصناعي ودعى إلى تطويرها لينهض بالبلد نحو الاستقلال الاقتصادي.
ودافع م الشيخ محمد رضا الشبيبي عن جميع فئات المجتمع العراقي فقد دافع عن المعلم حينما رأى دخله لا يكفي للمعيشة بمستوى الطموح، وطالب برفع مستوى التقاعد للموظفين بصورة عامة وحاسب الحكومة عن الرسوم والضرائب التي تجبيها من الشعب كأجور الجسور والمعابر ورسوم الذبائح وغيرها، وعارض الشيخ الشبيبي الحكومة في أعمالها بإقامة المصايف على نمط عال لا تؤدي بالفائدة لعامة الناس في وقت كانوا أحوج إلى الخبز من بناية جديدة يصطاف فيها وزير أو غني أو نبيل ونبه الحكومة إلى ما كان يحيط بالبلاد من غلاء فاحش وفوضى في أسعار السوق، ودعا الشيخ الشبيبي إلى تشجيع الصناعة وتطويرها والاهتمام بالتطورات العلمية الحديثة الخاصة بها فضلاً عن دعواته في مجال التجارة وناشد الحكومة بفرض قيود على المواد الأولية المستوردة لأنها أصبحت مكدسة وفائضة عن حاجة البلد ومن أجل تشجيع حجم الصادرات العراقية، طالب بتأسيس أسطول بحري ليسهل في عملية نقلها.
2. النخبة الوطنية المثقفة:
اجتمعت مجموعة عوامل وراء اختيار النخبة الوطنية المثقفة كان من أهمها المكانة الاجتماعية التي حظيت بها تلك النخبة بين أروقة المجتمع النجفي التي دفعتهم بأداء دور سياسي على الصعيدين المحلي والعربي.
وعملت تلك النخبة جنباً إلى جنب مع القوى الدينية الإصلاحية على إزالة إرث متراكم ثقلت موازينه حمل عبئها المجتمع النجفي عقوداً من الزمن وحملت ذاكرة النجف التاريخية الكثير من الأسماء إلا أننا اخترنا عينة منهم بحسب أدوارهم المؤثرة التزاماً منا بآلية المنهجية المحددة ولعل من أبرزهم: السيد سعد صالح جريو وجعفر الخليلي ومحمد علي البلاغي، وسعت تلك النخبة إلى تقديم خدماتها في أكثر المجالات عندما شعرت أن عليهم مسؤوليات من الواجب تقديمها إلى مدينة آبائهم وأجدادهم.
بدأت النخبة الوطنية المثقفة نشطة في العمل السياسي وكان السيد سعد صالح من أنشطهم وأكثرهم حماساً انضم في أولى مراحل حياته إلى (جمعية النهضة الإسلامية) ومن ثم إلى حزب (النجف الوطني السري) وإلى مكتب ثورة النجف سنة 1918م فضلاً عن جمعية (الشبيبة)، وعند قيام ثورة 1920م ترك دار المعلمين راجعاً إلى النجف لينضم إلى الثوار دفاعاً عن مدينته، وعند انتهائها بدأت السلطات البريطانية بمطاردته فاستطاع التخفي منها والذهاب إلى الكويت فبقي فيها زهاء الشهرين وعند عودته من الكويت انتمى إلى جمعية (حرس الاستقلال) فكان على اتصال مع فئة الأحرار النجفيين ليطلعهم بمجريات الأحداث في بغداد وعلى أعمال الجمعية.
وشارك في الحملات التي قادتها الحركة الوطنية لتعديل المعاهدة العرقية ـ البريطانية لسنة 1922م لضمان حقوق المجتمع العراقي في وطنه في السيادة والاستقلال فضلاً عن حضور اجتماع الحركة الوطنية في 21 آذار 1930م ممثلاً عن النجف لمناقشة أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية والنظر في خفض عدد الموظفين والمستشارين البريطانيين وعلى أثر ذلك قررت الحركة الوطنية إقامة التظاهرات في بغداد والمدن القريبة منها وأقفلت الأسواق في بغداد، وفيها ألقى سعد صالح كلمة باسم مدينة النجف أعلن فيها عن تضامن المدينة ومجتمعها مع الأهداف التي تحقق عزة العراق ووحدته، وقف سعد صالح موقف المعارضة من المعاهدة (العراقية ـ البريطانية) سنة 1930م وتغيب عن جلسة التصويت المعدة لذلك.
انتخب سعد صالح عضواً في مجلس النواب سنة 1930م نائباً عن لواء الديوانية في الدورة الانتخابية الثالثة، وفي شباط 1933م رشح عن لواء كربلاء في الدورة الانتخابية الرابعة، وفي الخامسة التي جرت في 15 أيلول 1934م فضلاً عن السادسة في 7 حزيران 1935م ومن جانب آخر استنكر عملية تعطيل الصحف من الوزارات المتعاقبة ودعا إلى إبراز أثر المحاكم في محاسبة الناشر إذا كان مداناً أو تبرئته.
وفي مجال القضايا القومية فقد انتقد رجال السياسة في العراق وحملهم مسؤولية صدع الوحدة وغياب روح القومية عندما تأسست الدولة العراقية وذكرهم بأن حركة القومية العربية والروح القومية العراقية هما اللذان كانا السبب في تأسيها.
وتبنى جعفر الخليلي من خلال صحفه التي أنشأها آراء سياسية هدفت إلى تطور العراق والسعي إلى وحدته.
وتأثر محمد علي البلاغي بمدينته التي عدت من أبرز المراكز السياسية في العراق إذ كان من بين الشباب الأوائل المساهمة بفتح فرع (الحزب الوطني العراقي) في النجف والكوفة وأعلن معارضته للمعاهدة (العراقية ـ البريطانية) سنة 1922م فضلاً عن مقاطعته لانتخابات المجلس التأسيسي مؤكداً على الوحدة الوطنية وأثارت حادثة وفاة الملك غازي مشاعر محمد علي البلاغي فقد وصفها بالفاجعة التي أصابت العرب.
واهتمت النخبة الوطنية المثقفة بالقضايا الاجتماعية وإصلاحها، فعلى سبيل المثال شغلت الجوانب الاجتماعية حيزاً كبيراً في آراء سعد صالح فقد أكد على أهمية الأخلاق مبرراً ذلك على أن الدولة العراقية تعاني من أزمة أخلاقية حادة مطالباً المسؤولين بمعالجتها ونسيان علاقاتهم الشخصية المتشنجة من أجل المناصب. كان من أوائل الدعاة لتشكيل نقابة المحامين وتحديد واجباتها وعارض تعدد النقابات في الألوية مطالباً بتشكيل نقابة واحدة تضم محامي العراق كافة فضلاً عن مطالبته بإلغاء الألقاب والرتب الممنوحة من الدول الأجنبية لإزالة الفوارق الاجتماعية رافضاً أي دعوة قدمت من بعض المسؤولين لاستبدالها بألقاب أخرى لأنها من الأمراض المتوارثة عن الاستعمار.
اهتم سعد صالح بقضايا الفلاح والدفاع عن حقوقه معارضاً لعملية إخراجهم من أراضيهم لأن ذلك يولد وينمي الجريمة لديهم واستغرب من رفض بعض رؤساء العشائر في المجلس النيابي أي طلبات تقدم من بعض النواب بإعطاء الفلاحين حقوقهم مع أن الفلاحين يخدمون في بيوتهم ويسعون لإرضائهم حتى في تقديم أرواحهم فدية لهم.
وانتقد جعفر الخليلي الأحكام التي أطلقها التيار المحافظ في مدينة النجف حول الاتجاهات العلمية الهادفة لتصحيح بعض المفاهيم الاجتماعية الخاطئة لدى المجمع وعدوها من ضروب الكفر مثل كروية الأرض والزلازل والبراكين وظاهرة الخسوف والكسوف والمد والجزر. ونتيجة لتلك الآراء وغيرها تعرض الخليلي إلى الإهانة عند سيره في المحلات والطرق ووصل الأمر إلى التهديد بالقتل بسبب إطلاق المحافظين لقب (الأموي) على كل شخص يتبنى أفكاراً إصلاحية في آرائه وبالمقابل أطلق المحافظين على أنفسهم لقب (العلويين)، فضلاً عن ذلك تبنى الخليلي في كتاباته معالجة الأوضاع الاجتماعية السيئة الناتجة عن سيطرة العادات والتقاليد البالية على فكر المجتمع وتوجهاته من خلال مجموعته القصصية (من فوق الرابية) التي احتوت على 25 قصة قصيرة صور فيها مجموعة من المشاكل الاجتماعية مثل العلاقات الأسرية وما ينتابها من إرهاصات واستعرض مشكلة الفقر ومؤثراته على المجتمع بشكل عام والأسرة بشكل خاص وما ينتج عنه من تشريد وضياع لبعض أفرادها، وطالب الحكومة بالسعي إلى إنشاء المستشفيات والجمعيات الخيرية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية الواجب دعمها من فئة الأثرياء في المدينة الذين لم يعطوا آذاناً صاغية لحل المشكلات الاجتماعية ومنها البطالة، كان الخليلي شديد الإيمان بأن الصحافة الأدبية الاجتماعية أجدى نفعاً من الصحافة السياسية لأنها أكثر فاعلية في تنمية قدرات المجتمع ثقافياً وعلمياً فحرص على أن يون قلماً لصالح الكل مهتماً بشؤونهم داعياً إلى التغيير من خلال استخدام الثقافة الهادئة.
واهتم محمد علي البلاغي بالتربية وأسسها ما لها من آثار إيجابية على المدركات التقلية لجيل الناشئ وإعداده إعداداً قويماً لا ينثني لأي ريح عاتية وأولى جل اهتمامه بالصحف والمجلات الأجنبية التي دخلت البلاد في العقد الأول من قرن العشرين محذراً المجتمع النجفي بمكوناته من خطورة اقتباس الأفكار والآراء الهدامة التي تحويها وترك الأفكار والمفاهيم التي تساعد على بناء ثقافة المجتمع بشكل صحيح، وفي السياق ذاته شجع البلاغي فئة الشباب على الكتابات الأدبية وغيرها فكان قارئاً ومصححاً لبعضها ليساهم في عملية غرس الثقة في نفوسهم والتطلع إلى نتاجات أخرى أفضل فضلاً عن دعواته المتكررة في الكتابات التي نشرها في مجلة (الاعتدال) الداعية إلى تدريب مجموعة من الرجال والنساء على أساليب التربية الصحيحة لتقوم بدورها في إعداد الجيل الجديد.
وفي الجانب الاقتصادي اعترض سعد صالح على بعض المشاريع والأعمال الولية غير الضرورية مطالباً الحكومة العراقية بوضع أسبقيات زمنية لتنفيذها كذلك اعترض على الأموال المبذرة من الوزارات وعملية الإسراف في ميزانيتها مبرراً تلك الحال إلى سببين، الأول: سببه غياب السلطة الرقابية الدائمية مما أدى ذلك إلى تلاعب الوزارات في عملية صرف المبالغ والأبواب المخصصة لصرفها. أما الثاني: كان سبب غياب الملاك الوظيفي الثابت نتيجة تلاعب الوزير بتلك الوظائف كل حسب آرائه ورغباته، وفي جانب آخر طالب سعد صالح الحكومة العراقية بإعطاء الملكية الصغيرة للفلاحين معارضاً إعطاء الملكيات الأميرية المعمرة وبمساحات واسعة إلى المتنفذين، أما موقفه في قضية استبدال العملة الهندية بالعملة الوطنية فقد طالب بتأسيس بنك وطني سنداً لها على أن يكون لها الاحتياطي من الذهب حتى لا تتعرض إلى الهبوط وأن تكون مبنية على أسس ثابتة وقوية فضلاً عن ذلك اعترض سعد صالح على تصديق الاتفاقية المنعقدة في 7 نيسان 1932م لتعديل امتياز شركة النفط التركية لأنها وضعت تحت أسنة الحراب وسمحت باقتطاع قسم من بلدنا.
وطالب جعفر الخليلي أرباب المهن بتطوير مقدرتهم المهنية لتحقيق سبل النهوض والتقدم الصناعي وطالب بحل مشكلة البطالة المنتشرة في مدينة النجف بشكل واسع داعياً إلى توفير فرص العمل لأبنائها ورفع مستواهم المعيشي.
وذهب محمد علي البلاغي إلى ما جاء به الخليلي حول النهوض بـ(الصناعة المحلية) وتشجيعها وطالب الحكومة العراقية بإصدار القوانين الخاصة لضمان حمايتها من البضائع الأجنبية المستوردة ودعا إلى تأسيس الشركات المحلية للاستثمار لأنها إحدى مقومات النهوض الاقتصادي فضلاً عن ذلك فقد دعا المجتمع العراقي إلى ضرورة تساوي طرفي الموازنة المالية في عملية الاستهلاك والادخار، وحذر ذوي الواردات ذوي الواردات المالية المتوسطة أو الأدنى من التمادي في عمليات الصرف والشراء لأن ذلك سيؤدى حتماً إلى استخدام أساليب غير مشروعة في عملية حصولهم على تلك الواردات.
واهتم سعد صالح في الجانب التعليمي بشكل أكثر من الجوانب الأخرى، إذ عد مهمة وزارة المعارف صعبة ودقيقة للغاية إذ طالب بزيادة ميزانيتها ودعمها بشكل أكبر من قبل معترضاً على سياسة الدولة العراقية في مجال التعليم وطالبها بإصلاح المناهج وطالب بفتح مدارس زراعية لأن البلد تفتقدها فضلاً عن مطالبته بدعم مدرسة الغري الأهلية في النجف وتنفيذ الحكومة لالتزامها بمساعدتها ودفع مخصصاتها من الوزارة.
وهدف جعفر الخليلي في آرائه إلى تشجيع الشباب لاختيار الطريق القويم والصحيح في حياتهم والمتمثل بالتعليم، مطالباً الحكومة بفتح مدارس أكثر لها من أثر ريادي في تخريج جيل مهمته النهوض ببلد عانى الكثير من مآسي الجهل والفقر والتخلف، ووجه مجموعة انتقادات إلى طرق التدريس المتبعة في المدارس الدينية والقائمين عليها لعدم توفيرهم المستلزمات الكافية للطلاب لأول مهمتهم التعليمية، وطالب الخليلي المرأة العراقية المتعلمة بأداء أثر متميز واستثنائي مع بنات مجتمعها في عملية الإرشاد والتوعية التي تساعدهن على حل المشاكل اليومية لهن ولأسرتهن.
وأولى محمد علي البلاغي اهتماماً خاصاً في الجانب التعليمي وأسس تطويره مؤكداً على أهمية المحتوى العام للمناهج التي تدرس في المدارس الحكومية وأن تكون ملائمة لتطورات العصر وروحه بشرط أن لا يكون هنالك فصل عن الماضي الذي يتمتع بمواصفات المنهجية الملائمة، كان من المناصرين للجهود المبذولة من أجل تقليص نسبة الأمية في مجتمعه فقد اشترك في عضوية اللجنة المشكلة من المجلس البلدي في النجف لذلك الغرض وسبقت أفكاره رجال العلم والأدب في النجف من خلال طرحه وبوقت مبكر للارتقاء بالمستوى التعليمي لمدينته عن طريق تأسيس جامعة علمية فيها.
شغلت النخبة الوطنية المثقفة العديد من المناصب الإدارية التي سهلت لهم بتطبيق وتنفيذ آرائهم وأفكارهم الإصلاحية التي هدفت إلى النهوض ببلدهم في مصاف الدول المتقدمة أولاً وآخراً فعلى سبيل المثال شغل سعد صالح منصب مدير ناحية (الجربوعية) التابعة لقضاء الهاشمية في لواء الحلة بتاريخ 6 كانون الثاني 1926م ونتيجة للخلاف الذي وقع بينه وبين متصرف لواء الحلة الذي أدى إلى سحب يده من الوظيفة ومن ثم أعيد إليها ثم نقل إلى موقع مدير ناحية (العكيكة) من لواء (المنتفك) ذي قار حالياً في 5 أيلول 1926م ومن ثم نقل إلى ناحية الرميثة في 10 آب 1927م وبعدها نقل إلى قضاء أبي صخير ليشغل منصب وكالة قائمقامية القضاء ومن ثم نقل بعدها إلى زرباطية التي لم يباشر عمله فيها فاستقال في 4 شباط 1928م وفي 14 شباط 1939م عين متصرفاً للواء الحلة فضلاً عن مناصب إدارية أخرى خارج مدة البحث.
أما جعفر الخليلي فإنه لم يشغل أية مناصب إدارية تذكر لكنه مارس مهنة التعليم في مدارس متعددة منها على سبيل المثال عين معلماً في إحدى المدارس الابتدائية في الحلة سنة 1923م وفي سنة 1924م نقل إلى مدرسة (الحلة الابتدائية الأولى) ومن ثم عين في المدارس المتوسطة وبعدها نقل إلى ثانوية النجف فدرس فيها مادتي الجغرافية والتاريخ ومنها استقال من مهنة التدريس متفرغاً للصحافة.
وشغل محمد علي البلاغي منصب مدير إدارة مشروع ماء وكهرباء النجف
3. الجمعيات والأحزاب السياسية:
بدأت بوادر التأثير السياسي على مدينة النجف تلوح بالأفق عند مطلع القرن العشرين عندما خاض علماؤها ومثقفوها فضلاً عن العوام ذلك المعترك فكانوا أدواته الموجهة والمحركة في الوقت ذاته على الصعيدين الداخلي والخارجي فأثرت وتأثرت بهما.
فعلى الصعيد الخارجي كانت الثورة الدستورية الإيرانية (1905ـ1911م) والثورة الدستورية العثمانية في 24 تموز 1908م والغزو الإيطالي 1911م والاحتلال الفرنسي للمغرب العربي سنة 1912م وقد زادت تلك الأحداث في لياقة النجف سياسياً فانعكس بصورة مباشرة على نشاطها محلياً فحملت راية الجهاد ضد البريطانيين سنة 1914م وثورتهم على العباسيين سنة 1915م وعلى البريطانيين سنة 1918م التي مهدت الطريق لثورة 1920م.
واستمرت مدينة النجف تمارس أثرها السياسي بتعاقب مع الأحداث السياسية المتلاحقة الأخرى وقد أسهمت تلك الأحداث بصورة مباشرة بولادة العديد من التنظيمات السياسية التي أخذت تمارس دوراً قيادياً لردع كل التصدعات الحاصلة في الجدار الوطني إلا أن التنظيمات (الجمعيات والأحزاب) لم تستمر في مسيرتها وعلى وجه الخصوص في مدينة النجف الأشرف بفعل عاملين رئيسين فالأول تمثل بمعارضة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء للانتماء إلى أي حزب أو جمعية سياسية، أما الثاني فقد فرضته لعبة سياسة قادتها وزارة ياسين الهاشمي الثانية عندما قررت بإيقاف عمل جميع الأحزاب الداخلية.
وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يعني خلو الساحة النجفية من أي تنظيم سياسي جديد إذ ظهر في مدينة بوادر تنظيم سياسي اختلف عن باقي التنظيمات من حيث الشكل والمضمون فقد كان سرياً في إعلانه وبعيداً عن ارتباطات السلطة وشخصياتها في المضمون، ففي سنة 1930م ظهر أول تنظيم في النجف عرف باسم (العاصفة الحمراء) كونه مجموعة من الشباب النجفي المثقف وقد ضم كل من علي محمد الشبيبي ومرتضى فرج الله وهادي الجبوري وقد كانت تزود بالكراسات الاشتراكية والشيوعية من بغداد، وفي 31 آذار 1934م ظهر باسم (لجنة مكافحة الاستعمار والاستعمار) التي اشترك في تأسيسها وكان أحد أعضائها البارزين من النجف (حسن عباس الكرباس) ولاقى ذلك التنظيم رواجاً أكثر من قبل من بعض مثقفي المدينة وعند انعقاد الاجتماع الأول لها كان لمدينة النجف حضور متميز فيه تمثل بحضور اثنين من أعضائها وهم أحمد جمال الدين ومهدي هاشم وكانت باكورة أعمالها في النجف في 19 آذار 1935م من خلال منشورها الذي أصدرته والذي حمل عنواناً (ماذا تريد) تم توزيعه أمام أبواب البيوت ولصق الآخر على جدران الأسواق وبناءً على ذلك أحالت وزارة الداخلية المنشور إلى مديرية الشرطة العاملة لإجراء التحقيق الدقيق عن القائمين به والقبض عليهم.
احتوى على 11 مطلباً دعت فيها إلى وحدة العراق رافضة جميع المعاهدات العراقية ـ البريطانية وعدتها منقصة لسيادة العراق واستقلاله، ومن أجل توثيق نشاطات الحزب ليطلع عليها الكثير من الأهالي أصدر الحزب صحيفة أطلق عليها (كفاح الشعب) صدر عددها الأول في تموز 1935م كانت لسان حال العمال والفلاحين في انتفاضة الفرات الأوسط سنة 1935م وقد توقفت في كانون أول 1935م بعد أن بلغت أعداد نسخها الموزعة 500 نسخة إلا أن ذلك النشاط لم يتوقف فقد استمر الشيوعيون بممارسة نشاطهم الإعلامي من خلال صحيفة (الانقلاب) التي أصبحت بعد تأسيسه مكرمة لنشاط الحزب 100%.
ونتيجة لذلك فقد أثارت تلك النشاطات والأفكار حفيظة المؤسسة الدينية في النجف مما أدى إلى اتخاذها موقفاً حاداً وصارماً اتجاهها، بوصفها تمثل الخط المعارض لها وتبنى تلك المعارضة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عندما عد مبادئها هدامة ومحطمة وعد الركون إلهياً من أعظم المحرمات وأكبرها مطالباً الشباب النجفي التصدي لها ومقاومتها للحفاظ على دينهم وعرضهم مذكراً المجتمع النجفي ومنبهاً إياهم بأنها من تركات وآثار المستعمر البريطاني وويلاته التي ساعدت على انتشارها جنباً إلى جنب مع الفقر والمرض والتخلف مؤكداً على علاجهاً وضرورة القضاء عليه والحد من انتشار سطوتها، وساندت أكثر المجلات النجفية موقف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ووقفت موقف الند من الأفكار الشيوعية الوافدة وعدتها أهدافاً ملؤها الإلحاد ومساراتها بعيدة كل البعد عن مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وعلى أثر ذلك تعرض الحزب إلى انتكاسة مرحلية إلا أن بعدها أعاد الحزب نشاطه بكل قوة سنة 1942م إذ شهدت نشاطاً طلابياً واسعاً تم كسبهم عن طريق علي محمد الشبيبي ومرتضى فرج الله إلا أنها بقيت سرية، وفي مراحل لاحقة (خارج مدة البحث) ارتقى تنظيمها السري من الطلبة إلى درجة منظمة ضمت عدداً من الخلايا.