Take a fresh look at your lifestyle.

الصوم في التعبير القرآني – قراءة في أبعاد المفهوم ودلالة النص-

0 880

      في اللحظة التي خاطبت فيها السماءُ بنصِّها المعجزِ العقلَ البشري والروحَ الإنسانية معاً بغاية إرجاع ذلك العقل إلى عدالته المنطقية وإعادة تلك الروح إلى مكامن فطرتها الأصل؛ كان أولئك – الذين وجِّه إليهم ذلك الخطاب- بمنأى عن جوهره المضموني عقلاً وعملاً؛ إذ كانوا يعيشيون على مبدأ الضد والمخالفة لذلك المضمون الإلهي المقدس؛لذا احتاج المجتمعُ حينذاك إلى من يُعيدُ إليه إنسانيتَهُ ويوقظُ عقلَهُ المحرومَ من سلوك الوعي وممارسة البصيرة بعد طولِ رقاد ليمنحَهُ نور الحقيقة وحقيقة النور ووجه الحياة الحقَّة التي امتد عمرُهُ وهو على خصامٍ معها، ولا يعيد الأمرُ إلى نصابه إلا القادر الأوحد سبحانه، فجاءَ النصُّ القرآنيُّ منقذاً للبشرية فكان دستوراً تشريعياً؛ إذ يتعامل مع الناس على أساس مبدأ إرجاع الحق إلى أهله ودرء الباطل عَمّن تنكبه، ومُعلِّماً يصقل شخصية الإنسان، ومُنظِّماً ممتازاً لشؤونه الحياتية؛ إذ ضمَّ كثيراً من أصول علم الاجتماعي الإنساني، وهو في الوقت نفسه يعمل مُرشداً للحفاظ على صحة البشرية؛ وكان من بين الأمور التي تمتُّ إلى التَّهذيب الصحي والنفسي للإنسان بصلة هي فريضة (الصوم)؛ ذلك بأنَّها تعدُّ من أجلى الفرائض التعبدية التي تسعى إلى تقويم النفس الإنسانية وصقلها سلوكياً وتوجيهياً من جهة؛ ومن جهة أخرى فإنَّها تعمل على بناء الكيان الصحي لجسد الإنسان وتنظيم عملية غذائه بصورة صحيحة كي لا يقع في تبعة سوء التنظيم الغذائي مدى حياته دون وعي منه إلى ذاك أو إحساس البتة،

وتأسيساً على هذا المنطلق نجد أن (الصوم) الواجب على الإنسان المسلم إنما ورد لمنفعة، ولما كانت هذه المنفعة مبنية على أمر سماوي واجب الأداء كان من دواعي الاستجابة إلى المرتكز المنطقي أنْ نقرأ مفهوم وماهية هذه المنفعة؛ إذ إنَّ التساؤل المثار في هذا النطاق يكمن في منحيين: الأول منها هو بيان مفهوم (الصوم)؛أ كان للتعبير القرآني استعمال آخر لدلالة (الصوم) بخلاف ما هي عليه في التداول اللساني لها لدى العرب.. أم إنَّ المفهوم الاصطلاحي الذي وظَّفَهُ النصُّ القرآنيُّ لإرساء مفهوم هذه الفريضة السماوية مبني أصالةً على المعطى المعجمي لها.. أو أنَّ ثمة خصوصاً وعموماً من وجه بينهما؟ أما المنحى الثاني فيكمن في بيان الإعجاز اللغوي ومنطق الدلالة النصية في صياغة فريضة الصوم على المسلمين وجوباً؛ ذلك بأنَّه لم ترد في النص القرآني صيغةُ الأمر بالصوم كما هي الصيغة الإنشائية الشائعة استعمالاً وتداولاً على اللسان العربي؛ بل وردت دلالة الإقرار بهذه الفريضة بصياغات لغوية أخرى تعبر عن دلالة (الأمر بالصوم) على الرغم من انتفاء صيغة الأمر نفسها في الصياغة الخطابية للغة الآية الكريمة التي فُهِمَ منها دلالة الصوم وجوباً؛ وتأسيساً على الرغبة في الإجابة عن هذين المنحيين نقول:
معنى (الصوم) في اللغة:
إذا أردنا معرفة معنى (الصوم) في اللغة فإنَّنا سنجده تحت مادة (صوم)، وإذا كان الخليل بن أحمد الفراهيدي هو أول من أسَّس معطيات دلالة المفردة بتصنيفها بين دفتي مُدوَّن سمِّي بـ (معجم العين) فإنَّه – والحال هذه- تفرض الأولوية الرُّكون إليه ابتداءً لمعرفة معنى هذه المفردة حيث يقول الخليل:(الصَّوْمُ: تَرْك الأكْلِ وتَرْكُ الكلام وقوله تعالى:(إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً)(1) أي صَمتاً)(2) بهذا نلحظ أنَّ الصوم في اللغة يقترب كثيراً من معناه الاصطلاحي فهو يعني الامتناع عن الأكل والشرب، وقد يدل على الصمت كما هو مدلول المفردة في الآية الكريمة، وقد يُراد به معنى السكون وعدم الحركة كما في قول الخليل: (وصامَتِ الرِّيحُ إذا رَكَدَت)(3) ثم يُعقِّب قائلاً:(ويقال: رجل صَومٌ ورجلانِ صَوْمٌ وامرأةٌ صوْمٌ ولا يُثَنَّى ولا يُجمَع؛ لأنّه نعت بالمصدر وتلخيصه: رجل ذو صَومٍ وامرأة ذات صَومٍ ورجلٌ صَوّامٌ قَوّامٌ؛ إذا كان يصومُ النهارَ ويقومُ الليْلَ ورجالٌ ونِساءٌ صُوَّمٌ وصُيَّم وصُوّام وصُيّام كل ذلك يقال)(4)؛ بهذا نجد أنَّ معنى الصوم في اللغة هو الامتناع من الأكل، والصمت عن الكلام، والسكون عن الحركة.
وقد وافق ابنُ منظور الفراهيديَّ فيما أورده من دلالات لمفردة الصوم؛إذ يقول (الصَّوْمُ تَرْكُ الطعامِ والشَّرابِ والنِّكاحِ والكلامِ، صامَ يَصُوم صَوْماً وصِياماً واصْطامَ، ورجل صائمٌ وصَوْمٌ من قومٍ صُوَّامٍ وصُيّامٍ وصُوَّمٍ بالتشديد)(5)؛ بهذا نجد أنَّ ابن منظور لم يتفق مع الفراهيدي فحسب في بيانه لمفردة (الصوم) في المعجم العربي؛ بل زادَ عليه بعضَ المعاني ولم يتوقف الأمرُ لديه عند هذا الشأن فقط؛ بل أعادَ صياغة معنى (الصوم) الذي ذكره الخليل بحيثية أكثر دقةً ومهارةً واستيعاباً لمعنى المفردة؛ إذ ذكر الخليل أنَّ الصوم هو ترك الأكل فحسب، وتوقف عند هذا الحد ولم يُضِف أيَّ تعليقٍ آخر على هذا المعنى بالذات، على حين يلفت انتباهنا أنَّ ابن منظور كان أكثر شمولية لبيان معنى الصوم من الفراهيدي في هذا المنحى الدلالي حيث ذكر أنَّ الصوم هو ترك الأكل والشرب والنكاح، فكان بهذا أوفقَ مما قدّمه الخليل لمعنى هذه المفردة.
مفهوم (الصوم) في النص القرآني:
إنَّ لكل فن من الفنون المعرفية مصطلحات خاصة يتداول بها أرباب ذلك الفن، وتأسيساً على هذا المنطلق المنطقي ظهرت المفاهيم الاصطلاحية وتخصَّصت تلك المفاهيم على أساس خصوصيات المعرفة لأصحاب ذلك الفن؛ من هنا كان لابد لعلماء الشريعة من أن يؤسسوا لمفهوم الصوم ويعرضوا له في بطون مدوناتهم التخصصية، فكان من جنس ذلك تعريف القونوي لـ(الصوم) حيث يقول:(هو عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والمباشرة في جميع النهار(6) فنلحظ أنَّ تعريفه هذا لا يُباين كثيراً ما عرَّفه به ابنُ منظور بيد أنَّ ما يؤخَذُ على القونوي أنه لم يُحدَّدْ زمن ذلك الإمساك حيث قال: (في جميع النهار) وهذا يقتضي – إذا ما تمسكنا بالدلالة الحقيقية للخطاب – أنْ يكونَ الصوم من بداية النهار إلى نهايته؛ وينتهي النهار -كما هو معهود- بعد الزوال وبناءً عليه يجب الإفطار بعد الزوال لا حين أذان المغرب؛ فضلاً عن أنَّه لم يشترط شرط النية الواجب أداءها في الصوم، على حين نجد أنَّ الجرجاني لم تفته هذه اللفتةُ في تعريفه لـ (الصوم) فقد عرَّفه على أنَّه (عبارة عن إمساك مخصوص وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الصبح إلى المغرب مع النية)(7) فنجده قد أوضح زمن الصوم وحدَّده من وقت اليوم بدقة وزاد على ذلك بذكره لشرط (النية) في الصوم،؛ ذلك بأنَّ النية أساس كل عمل يؤدَّى في الشريعة أو الحياة.
وحدَّه النووي بقوله(وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص)(8) فنجده قد أضاف لنا شرطاً آخر في بناء مفهوم (الصوم) ألا هو أنْ يؤدَّى الصوم من شخص مخصوص، ويريد بخصوصية الشخص في هذا الموضع وهو أن يكون مسلماً، فالمراد من الخصوصية ههنا هو (الإسلام)؛غير أنَّه لم يتطرَّق إلى شرط النية؛ من هنا يُحمد له أنَّه أبانَ سمةَ الخصوصية للشخص الصائم وبعبارة أخرى أنَّه قام ببيان مفهوم الصوم المنطبق على المسلمين حصراً دون غيرهم، وبهذا وجب أنْ يُقيِّدَ التعريف بمقولة (من شخص مخصوص) حتّى يتّضحَ المرادُ ولا تختلط الأمور على المتلقي، على حين أنَّه يؤاخذ بحاجة تعريفه إلى شرط النية الذي ذكره أبو عبد الله الحنبلي في تعريفه لـ (الصوم) حيث يقول:(وهو في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص من شخص مخصوص بنية مخصوصة)(9)

غير أنَّ ما يؤخذ عليه وعلى النووي معاً هو أنَّهما لم يشيرا إلى طريقة ذلك (الإمساك) وهذا ما لم يغفل عنه الطوسي – وهو خير من عرَّفَ الصوم- حيث يقول: (والصوم في الشرع هو الإمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص، ومن شرط انعقاده النية)(01) فقوله (على وجه خصوص) يريد به صوم الجوارح وهي الطريقة الصحيحة والمعنىالحقيقي لمفهوم الصوم؛ فالإمساك لا يكون عن الأكل والشرب والنكاح فحسب؛ بل يجري الإمساكُ على الجوارح ابتداءً ومن ثم يسري الصبر على الغرائز تباعاً ولا خير فيمَنْ صامَ غريزياً ولم يمسك نفسه عن فعل الذنب جوارحَ.
ونحسب أنَّ المفهوم الحقيق للصوم على وفق استحصال الغاية منه قد أوضحه
الرسول(صلى الله عليه وآله) في مقولته:(الصومُ جُنةٌ من آفات الدنيا وحجابٌ من عذاب الآخرة، فإذا صمتَ فانوِ بِصومِكَ كفَّ النفسِ عن الشهواتِ، وقطعَ الهمَّةِ عن خطواتِ الشيطانِ والشياطينَ، وأنزلْ نفسَكَ منزلةَ المرضى لا تشتهي طعاماً ولا شراباً، وتوقعْ في كلِّ لحظةٍ شفاكَ من مرضِ الذنوبِ، وطهَّرْ باطنَكَ من كلِّ كذبٍ وكدرٍ وغفلةٍ وظلمةٍ يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله تعالى)(21) وبتأمل هذا الحديث النبوي الشريف نقف على جملة دلالات:
1- إنَّ الرسولَ(صلى الله عليه وآله) لم يُخرِجْ – بحديثه الشريف هذا – الصومَ عن معناه اللغوي أو الاصطلاحي البتة؛ إذ أشار ابتداءً إلى أنَّ الصوم (جُنة)؛ والجُنة تعني الستر والدرع والامتناع من الوقوع في الزلل؛ يقول الفراهيدي:(ويقال: أجَنَّه اللَّيْلُ وجَنَّ عليه اللَّيْلُ إذا أظْلَمَ حتى يَسْتُرَه بظُلْمته، واسْتَجَنَّ فلانٌ إذا اسْتَتَرَ بشيءٍ)(31)؛ بهذا ندرك أنَّ الصوم هو وقاية وامتناع للشخص الصائم من أن يقع في الهوى أو أن تزل قدمه في ذنب أو معصية فهو أشبه حالاً بالدرع في ساحة الوغى يقي المقاتل من الضربات التي قد يتلقّاها من الأعداء، ولا عدو للإنسان أكثر من الشيطان الذي يسوقه إلى ظلم نفسه وظلم الآخرين؛ لذا عليه أنْ يستترَ بالصوم لأنَّه من أشدِّ السيوفِ مضاءً في حقِّ الشيطانِ.
2- نستدل من الحديث الشريف أنَّ على الصائم أنْ ينوي بصومه أداء غاية الصوم نفسها وهي كفُّ النفسِ عن الشهواتِ حتّى يعدَّ الصوم – بذلك- هو فعلاً الدرع الواقي من الزلل، فلا خير في صوم لا يقدم صاحبه خطوة إلى الأمام في طريق الصلاح؛ إذ يقول أمير المؤمنين(عليه السلام):(كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ؛ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء)(41)، فإذا لم تتحقق الغاية من الصوم فإنَّه الصوم – والحال هذه- يعدُّ تعذيباً للنفس بالجوع والعطش بلا طائلٍ أو نتيجةٍ.
3- نفهم من الحديث أنَّ ثمة غايةً أخرى من الصوم، إلا وهي الشفاء للنفس وإسباغ الطهارة عليها، فهذه هي المحصلة الأساسية والنهائية من الصوم، وهي وصول الإنسان إلى حال الطُّهر النفسي؛ وتأسيساً على تحقق هذه الغاية فإنَّ المرء سيشفى من الوسوسة والتفكير بالغي جرياً وراء متابعة الشيطان.
وإذا ما تلمسنا الرابط الدلالي بين معنى الصوم في اللغة ومفهومه في الاصطلاح – سواء ما عرَّفَهُ العلماء به أو ما أوضحَهُ الرسولُ(صلى الله عليه وآله)- فإنَّنا لا نجد كبير اختلاف بين المنحيين، فكلاهما يدل على معنى (الترك) و(الإمساك) من بعض الأمور فضلاً عن أنَّه يحمل في طياته معنى (السكون) عن الحركة تجاه أمر ما والتَّحصُّن ضد شيء معين؛ بيد أنَّ مفهومه في الاصطلاح له خصوصيات بنائية تميزه من معناه في اللغة، مثل عامل الوقت المحدد للصوم وحيثية الأداء واشتراط النية وخصوصية المؤدِّي والغاية الأساسية من الصوم سواء على المستوى الجسدي أم النفسي ونظائر ذلك.
الدلالة النصية لآية الصوم في التعبير القرآني:
قال تعالى في محكم كتابه العزيز(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( سورة البقرة: 183) عند التأمُّل في النص الكريم نجد أنَّ بناءه الخطابي مُفرَّغٌ تماماً من استعمال صيغة الأمر (صوموا)؛ إذ لا نقف على هذه الصيغة في النسيج الصياغي لهذه الآية الكريمة مُطلقاً؛ غير أنَّ المتلقي قد فَهَمَ منها وجوبية أداء هذه الفريضة السماوية فأدَّاها التزاماً؛ والأظهر لدينا أنَّ المتلقي قد استنطق هذه الدلالة الوجوبية وآمنَ بها بناءً على وجود جملة من القرائن الـمُكتَنَزة ومجموعةٍ من الإشارات الكامنة في النص القرآني المعجز الذي ورد فيه ذكر الصوم أعلاه؛ ذلك بأنَّ داعي القول قناعةً بوجود الدلالة الوجوبية للصوم في هذه الآية الكريمة يكمن في حيثيات الصياغة اللغوية وطريقة البناء الخطابي لنص الآية الكريمة نفسها؛ ذلك بـأن التأمُّل في نطاقها يتضح له الآتي:
1- إنَّ الثابت من خلال الاستقراء أنَّ عبارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تتصدَّر النصوص التشريعية في الخطاب القرآني؛ وبهذا يثبت بما لا يقبل الشك أو التردد أنَّ الآية الكريمة أعلاه إنما هي نص تشريعي أنبأ عن حكم السماء بفريضة الصوم؛ وبهذا تعد مقولة نداء المؤمنين أول إشارة سياقية تدل على وجوبية الصوم على الناس في هذه الآية الكريمة.
2- إنَّ مضمون الفعل (كُتِبَ) في آية الصوم ينصُّ على دلالة ثبوت فرض الصيام على الناس(51)؛ لأنَّ الكتابة توحي ببقاء المكتوب ورسوخه على وجه الديمومة فضلاً عن أن الحرف (عليكم) – اللاحق على الفعل- يدل على معنى التسلط والعلو(61)، وهذا يشير من جهة أخرى إلى تلازم حكم الصوم وجوباً مع عقيدة الأداء العبادي للمسلم مطلقاً؛ زيادة على ذلك فإنَّ عملية إبلاغ هذا الحُكم السماوي للمتلقي بهذه التركيبة اللسانية تمثل منحى جلياً لمدى إبداعات النص السماوي في رسم الدلالة التشريعية بحيثية لغوية معجزة إذ أنتج النص دلالة الإنشاء (الأمر الوجوبي) بمبنى إخباري (الجملة الماضية) .
3- يبدو للباحث أنَّ العلة التي تكمن وراء صياغة دلالة فرض الصيام في هذا النص على هيئة الإخبار (الجملة الفعلية) دون الإنشاء (الأمر) إنما مردُّها إلى أمرين الأول (مراعاتي) والآخر (تأصيلي): فإما الأول فيمكن في أنَّ فريضة الصوم من الفرائض الـمُتعِبَة والشاقّة على الإنسان سواء أكانت بالجهد المبذول من الإنسان الصائم أم بطول الوقت الذي يمضيه المرء صائماً؛ لهذا آثرَ سبحانه أنْ يصيغَ عبارته الدالة على الوجوب على صيغة الإخبار حتّى تكونَ أقلَّ حدّة من صيغة الأمر المباشر؛ فكان في هذا مراعاة لمشاعر المخاطَب في صياغة الخطاب، أما الأمر الثاني فيمكن في أنَّ التعبير بالفعل الماضي يوحي بمعنى تأصيل فريضة الصوم على المسلمين؛ فكأنَّ هذه الفريضة قد ثَبَتَتْ وجَرَتْ عليها يدُ التقديرِ منه سبحانه منذ زمن قد مضى؛ وهو الآن في صدد الإخبار عن هذه الفريضة بأنَّها مكتوبة على المسلمين منذ وقت سبق؛ وهذه الدلالة تشدُّ من أزر المتلقي وتشحذ نفسه وتجعله يُسلِّم بالأمر من دون جدل أو نقاش؛ لأنَّ هذا الفرض ليس فرضاً آنياً؛ بل هو مكتوبٌ عليه منذ زمن ساحق؛ لهذا ليس عليه إلا الانصياع والتنفيذ لما تقرر سلفاً من الله تعالى ولا يريد الله بالإنسان إلا الحسنى.
5- لقد وظَّف سبحانه حرف التشبيه في قوله (كما) بحيثية غاية في الروعة؛ إذ وثَّق به فكرة ديمومة فريضة الصوم على سائر الأمم السابقة فكان ثبوتها – والحال هذه- على المسلمين يعدُّ من باب الأولى؛ ذلك بأنَّ الدين الإسلامي من أكمل الأديان وأفضلها على وجه العموم؛ من هنا نستدل على أنَّ الكاف في هذه الآية قد أسهمت في بناء دلالة الحتمية للصوم على كل أصحاب الكتب السماوية وذلك بدلالتها على أنَّ الصوم لم يُفرَض على المسلمين فقط.
6- ربط سبحانه غاية الوصول إلى مرحلة (التقوى) بأداء فريضة الصوم وذلك باستعماله للحرف (كي)؛ إذ دلََّ هذا الحرف على معنى العلية أو السببية دون معنى الترجي الذي ألزمه به النحاة أصالةً في تنظيرهم المعرفي؛ بيد أنَّ النص الكريم قد استعمله بدلالة أخرى وهذا يعدُّ من باب التوسع الدلالي في استعمال اللفظ بغير دلالته الأصل ومعرفة الدلالة المترشِّحة منه بفعل قرائن السياق المحيطة به، فقد بنى النصُّ نفسَهُ بطريقة قرائنية يُفهَم منها معنى (لعل) عقلاً ومنطقاً من دون أنْ نصرفَ (لعل) إلى معناها النحوي (الترجي)، فإذا كان الصوم يُوصِل إلى التقوى وكانت التقوى من الدواعي الإلهية إلى العقل البشري لأنْ يلتزمَ بها صاحبُ ذلك العقل المخاطَب، وجبَ والحال هذه أنْ يكونَ الصومُ واجباً لتتحقق غاية تلك الدعوى؛ ذلك بأنَّ الله تعالى لا يدعو إلى فعل شيء من دون أنْ يكونَ ثمة ما يُستَعان به على أداء ذلك الشيء، فلمّا كانت التقوى مطلباً سماوياً كان الصومُ من هنا لازمًا واجبًا لأداء ذلك المطلب.

نشرت في العدد المزدوج 57-58


الهوامش:
(1) سورة مريم: 26.
(2) الفراهيدي: العين:7/717، وينظر: الرازي: مختار الصحاح:375.
(3) الفراهيدي: العين: 7/717، وينظر: الرازي: مختار الصحاح:375.
(4)الفراهيدي: العين:7/717.
(5) ابن منظور: لسان العرب:12/350، وينظر: ابن قتيبة: غريب الحديث:1/217.
(6) القونوي: أنيس الفقهاء:137.
(7) الجرجاني:التعريفات: 178.
(8) النووي:تحرير ألفاظ التنبيه:123.
(9) أبو عبد الله الحنبلي: المطلع على أبواب الفقه:145.
(01) الطوسي: التبيان: 2/115.
(11) المجلسي: بحار الأنوار:93/254، ومصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق (ع): 135.
(21) الفراهيدي: العين: 6/20.
(31) الإمام علي (ع): نهج البلاغة:4/35.
(41) الطوسي: التبيان: 2/124، وينظر: الطباطبائي: الميزان: 2/4.
(51) العكبري: اللباب في علل البناء والاعراب:1/359، وينظر: الانباري: اسرار العربية: 1/238.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.