إذا كانت حركية السلوك الإنساني بمظاهرها كافة محكومة بنازعين متصارعين منذ الأزل اولهما (الصلاح والأداء الحسن) وثانيهما (السوء والتعدي الظالم) فإنه يمكن – والحال هذه- القول إن من تقنيات حكمة السماء فيمن تنتقيه من اجل إنابته لأداء مهمة الحق وايقاض البشرية من سباتها الأبدي لإخراجها إلى نطاق الهداية أن يتسم بجملة من الوجهات السلوكية والاتجاهات الفكرية التي تؤهله لان تناط به مهمة إنقاذ الإنسانية وتحريرها من قيود الأنانية ونزاعات الذات؛ من هنا كان لابد على وفق مقتضيات المنطق العقلي وبنائيات الحكمة الإلهية من أن يكون النبي المبعوث من قبل الله تعالى إلى الناس متسلحا بماهية العصمة تلك الهبة الإلهية التي تقي المرء من الوقوع في عالم الخطأ أو الخطيئة في وقت واحد؛ ذلك بأن العصمة هي الهوية التي تعينه تملُّكاً على قراءة مجتمعه بحيثية واعية حتى يتوصل على وفق نتاج القراءة (الصحيحة) إلى جملة حلول يعالج بها إشكالات قومه المثارة على ما جاء به إليهم منقذاً وموجهاً ومغيراً إلى عالم جديد.
ذلك بأنه من المحال أن يرسل الله سبحانه نبيا تشوبه الخطيئة أو يعتريه الخطأ إذا لم تكن له حصانة (هدى) تصونه من هذه الشائبة أو ذلك الاعتراء؛ فأنّى له أن يوجِّه قومه إلى الرشاد ويطالبهم بأن يقرأوا حكم السماء وسننها في توجيه سلوكهم إلى الخلق الامثل؛ من هنا كان من الواجب أن يتحقق في المبعوث الإيمان المطلق بالله سبحانه حتى يصل إلى مرحلة اليقين الواقي من أي زلل أو هفوة؛ لأن شدة إيمانه بالله وقوة تمسكه بالذات المطلقة تمنحه تسديدا نحو تسديد البشرية إلى الصواب؛
لذا كان عليه أن يؤمن بما يقول ولا يقول ما لا يؤمن به ابتداءً، ولا يتحقق هذا ما لم يكن قد بلغ المستوى المطلوب من الاحتواء النفسي لليقين والانصهار العقائدي بالذات الباعثة، وهذا يدعوه إلى أن يرأب بنفسه عن أي دعوة هوى أو أية حثيثة من الشيطان.
وتأسيساً على هذه الدرجة العالية من الإيمان فإن النبي ستصل نفسه الى مرحلة (الحكمة)؛ وهي السمة التي تعصمه من الدخول الى نطاق الخطأ او الخطيئة، فلما أوكل الله سبحانه بالنبي إيصال الكتاب إلى الناس وإرشادهم إلى الهدى أودع فيه الداعي على صيانة أداء هذه المهمة بدقة، ومهارة إيصال المراد السماوي بإتقان، فكانت الحكمةُ التي تحلّى بها النبي هي التي تقيه من الخطأ وتعصمه من الزلل؛ بيد أن هذا لا يعني أن الله هو الذي يعصم النبي بالحكمة وليس للنبي دور في ذلك؛ ليس المسألة بهذا التصور البتة، ذلك بان الله تعالى يمنحَ النبيَّ الحكمةَ؛ وعلى النبي ان يتصرف بهذه الحكمة فأما أن يُخطيء وأما أن يُصيب؛
ولكن لما كانت حكمته تمعنه من الخطأ ذاتا لا فرضا من الله تعالى، عُلِمَ بذلك أن تلك الحكمة هي لطف من الله يمنحه للمرء تصرفا لا قسرا لكي يعصم نفسه من الخطأ؛ فـ(العصمة عبارة عن قوة العقل من حيث لا يغلب مع كونه قادرا على المعاصي كلها كجائز الخطأ، وليس معنى العصمة أن الله يجبره على ترك المعصية؛ بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها كقوة العقل وكمال الذكاء والفطنة وصفاء النفس وكمال الاعتناء بطاعة الله تعالى ولو لم يكن قادرا على المعاصي؛ بل كان مجبورا على الطاعات لكان منافيا للتكليف)(1).
غير أن ثمة خلافاً طويلاً وجدلاً واسعاً على امكان وجود العصمة (الحكمة) للنبي؛ إذ وقف الأمر فيها بين مؤيد لها ومثبت إليها وبين رافض لها ومنكر لأصلها، ومن اجل تمحيص الحقيقة والسعي وراء استكشاف الحق واثبات العقيدة الأصل في هذا النطاق الفكري سنلجأ الى قراءة منطق عصمة النبي موسى(عليه السلام) في مسألة صدور (النسيان) منه،فإذا كان النبي موسى(عليه السلام) معصوماً من الخطأ فانه ـ والحال هذه ـ يعد النسيان منه جزءاً من الخطأ لأنه قد يغفل عن شيء مهم ما يفضي إلى ارتكاب خطيئة أو تأخير حق أو الابتعاد عن أداء المنجز الإلهي في وقته المناسب، وهذا كله داخل في نطاق عدم المقبولية منه؛ لأنَّ النسيان ينتمي إلى هوية الهفوة وعالم الوقوع في الزلل بأي حال من الأحول وبأي كيفية من الكيفيات؛ ذلك بأنَّ محصلته هي الإغفال، وهذا الأخير ينقص من سمة العصمة لديه، من هنا آخذ مَنْ يتكلم بلغة الشك – في سمة (العصمة) ـ موسى على نسيانه وذلك تحديداً في قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً)(2) وقوله أيضاً (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)(3).
فوردت لذلك إجابة السيد محمد صادق الصدر عن هذا الشبهة على منحيين بقوله (الأول: يمكن أن يكون تعبيراً آخر عن النسيان العملي يعني أنها حالة تشبه النسيان عملياً وليست نسياناً حقيقياً، ثانياً: ان القاعدة العامة وإن كانت هي استحالة النسيان للمعصومين(عليهم السلام) إلا ان الله سبحانه قد يريد ذلك لهم أحياناً)(4).
نلحظ أن السيد الصدر قد وجَّه مسوغ النسيان بصورة عامة دون ان يحاول مقاربة تفكيك النصين وإعادة قراءتهما تفصيلاً؛ لان النص الأول الذي وظَّفه المعترض على العصمة وقد وسم به موسى بالنسيان لم يكن فيه موسى ـ في حقيقة الأمر ـ هو من خُصَّ بالنسيان البتة؛ لأننا لو عدنا الى تتمة النص كاملاً لوجدنا حقيقة هذه الحقيقة فالنص بتمامه هو (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبا ً* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(5)
بهذا يتضح أنَّ الذي نسي ليس موسى بل فتاه، بدليل ان موسى هو من سأل فتاه عن الحوت في قوله تعالى (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا) ففاعل الفعل (فقال) هو موسى والقرينة ان المفعول به (المخاطَب) هو (فتاه) والحوار في النص كان دائرا بين موسى وفتاه فحسب لا اكثر؛ لهذا أجابَهُ فتاهُ بقوله (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ) بهذا يكون النسيان تابعاً إلى فتى موسى لا إلى النبي موسى؛ لأنَّ (تاء) فاعل النسيان في قوله (نَسِيتُ) تعود لفتى موسى، والدليل ان موسى كان يعلم بأن ثمة موضعاًً ينسى فيه الفتى شيئاً وهو الموضع الذي يشير إلى لقائه مع الرجل الصالح بدليل قوله (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) وتأسيساً عليه نفهم أن النسيان في الآية الأولى الـمُعتَرض بها لم يكن فعل النسيان فيها لموسى؛ وبهذا ينتفي الشيء بانتفاء الموضوع، أما إذا قيل بأن الآية التي نسبت النسيان الى موسى(عليه السلام) هي صريحة في منطقها إذ اسند سبحانه فعل النسيان باستعمال ألف الاثنين إلى موسى وفتاه على حد سواء بقوله (فنسيا)، فإنه يمكن القول فيه بما نص عليه القرطبي في قوله: (إنما كان النسيان من الفتى وحده؛ فقيل: المعنى؛ نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(6) وإنما يخرج من الملح، وقوله (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)(7)، وإنما الرسل من الأنس لا من الجن)(8) فكأن نسبة النسيان الى موسى جاءت من باب التغليب لا من باب الحقيقة الواقعة.
أما الآية الثاني فالظاهر بأنها كانت المستند الذي أسس عليه السيد الصدر كلامه الذي قسمه على منحيين؛ فأما قوله الأول بأنه (يمكن أن يكون تعبيراً آخر عن النسيان العملي يعني أنها حالة تشبه النسيان عملياً وليست نسياناً حقيقياً) فكان يبتغي منه أن فعل موسى مع الخضر(عليهما السلام) حينما أراد منه الصبر وعدم سؤاله لم يكن يدل على نسيان حقيقي ابداً؛ فموسى لم ينس ما قاله الخضر من توصيته بالصبر وعدم السؤال؛ لكن حرص موسى الشديد على معرفة السبب والداعي وراء خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا ثمن، كان هو الدافع الملح وراء إعادة سؤاله المرة تلو الأخرى؛ فكأنَّه نسي وصية الخضر لشدة تعلقه بمعرفة العلة وراء هذه الأفعال الغريبة من منظورهِ، وفي الحقيقة هو لم ينسَ، ودليل على عدم نسيانه هو قوله تعالى (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)(9)
فالخضر(عليه السلام) كان يعلم بأن موسى لا يستطيع الصبر لهذا أوصاه به، ودليل عدم صبر موسى على عدم السؤال هو انه لا يستطيع السكوت على شيء لا يعرف سببه والغاية منه والمنطلق الذي صدر لأجله هذا الفعل؛ وذلك بدليل قول الله تعالى على لسان الخضر (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فهذا ليس سؤالاً حقيقاً بأداة الاستفهام (كيف)؛ بل هو سؤال إنكاري؛ إذ أُحيلَتْ العبارة من السؤال الاستفهامي إلى الأخبار المنفي؛ فالمقصود (انك لا تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) وهذا اعتراف من الخضر على أنَّ موسى لم ينسَ حينما سأله عن سر أفعاله؛ بل كان سبب السؤال هو عدم معرفته بالسبب والعلة لا أكثر، وهذا يعزز القول بأنَّ دلالة الفعل (نسيت) في النص يمكن أنْ ينصرف إلى معنى (الترك) لا إلى معنى الغفلة والسهو؛ وقد ذهب إلى هذا القول غير مفسر(10)،
فكأنَّه (أراد لا تأخذني بما تركت، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)(11) أي ترك، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن أُبي بن كعب عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (وقال موسى لا تؤاخذني بما نسيت) يقول: بما تركت من عهدك)(12)، المراد من النسيان هو معنى الترك وهو الأرجح لدينا.
أما القول الآخر بـ(أنَّ القاعدة العامة وإن كانت هي استحالة النسيان للمعصومين(عليهم السلام)
إلا ان الله سبحانه قد يريد ذلك لهم أحياناً) فإنَّ له نصيباً من الحقيقة؛ بيد أنَّهُ ليس هذا هو موضعه؛ لان موسى(عليه السلام) فيما نحسب لم ينسَ ما عهد به إليه الخضر؛ بل ترك العهد لتعلقه بمعرفة السبب لا أكثر.
من هذه القراءة التحليلية المكثفة والسريعة نصل الى منطق مقنع ينص على أن النبي موسى(عليه السلام) براءٌ من اتهامه بمسألة النسيان على اساس ان صفة النسيان تدخل في نطاق الغفلة والمعصوم لايمكن ان تصدر عنه الغفلة او يعتوره النسيان او يداخله السهو مطلقاً بلحاظ عصمته وإلا خرج من لازمة العصمة الى لازمة الخطأ وامكان حدوثه منه؛ ذلك بان هذه التهمة لم تكن حقيقية لأن حدث النسيان لموسى يمكن أنْ يُحمَل على دلالة (الترك) لحرص موسى(عليه السلام) على معرفة ما كان غريباً عليه من تصرفات الخضر؛ وقد أعان على هذا إحالة دلالة النسيان على معنى (الترك) جملة من القرائن النصية في التعبير القرآني وذلك في عرضه لروايتهما معها وتفاصيل حوارهما مع بعضهما بعضاً.
وتأسيساً عليه نقول إن النبي موسى كان معصوماً وانه لم يرتكب الخطأ ولم تهفُ نفسه إلى الخطيئة، وإذا ما ثبت لنا هذا فانه يمكن القول إن جميع الأنبياء هم معصومون لأنهم يقفون من منظور السماء على مسافة واحدة من حيث المكانة والتعامل والتسديد الإلهي فما يجري على الواحد يجري على الكل بحكم تساوي مناط التكليف واتفاق نطاق المهمة والغاية المراد تحقيقها.
نشرت في العدد 38
(1) صالح الورداني: عقائد السنة وعقائد الشيعة: 102.
(2) سورة الكهف: 61.
(3) سورة الكهف: 73.
(4) السيد الصدر: الأنظار التفسيرية: 602.
(5) سورة الكهف: 60- 65.
(6) سورة الرحمن: 22، انما اراد القرطبي بقوله: ({ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} وإنما يخرج من الملح)، ان اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحر المالح دون العذب، وسند ذلك قوله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} سورة الرحمن:19- 22.
(7) سورة الانعام: 130.
(8) القرطبي: تفسير القرطبي:11/13.
(9) سورة الكهف: 68- 70.
(10) ينظر: الطبرسي: مجمع البيان: 6/474، والشوكاني: فتح القدير: 3/432، والبغوي: تفسير البغوي:1/190، ومحمد رضا المشهدي: كنز الدقائق: 8/115، والعاملي: الوجيز:2/341،
(11) سورة طه: 115.
(12) الشريف المرتضى: تنزيه الأنبياء:121.