الأحد , 24 نوفمبر 2024
الرئيسية » علوم وأدب » المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم –1-

المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم –1-

الجزء الأول

من مجالس جماعة الرابطة الأدبية

المقدمــة

عندما يتشظى القلب حباً أو ألماً وحتى فكاهة أحياناً يعود الأديب فيلملم ما تناثر من جراحه ليصوغها قصيدة، أو مقالة، أو ذكريات أدبية تنقلك مفرداتها إلى عالمه الخاص، ومعاناته في حياته، حتى لتكاد تلمس نبضات قلبه وشفافية روحه من خلال اختياره للكلمات التي يستعملها في حديثه.

وهكذا كان أديبنا النجفي في حاضره وماضيه، مرهف الحس، مشوب بالعاطفة، سخيّ العطاء الأدبي، على الرغم من كونه عاش محاصراً بما سجه على نفسه من أعراف وتقاليد حرمته من ممارسة أبسط مباهج الحياة ومعايشتها مثل غيره من الناس واضطرّته لأن ينكفئ على نفسه وينطوي على ذاته ليدفن همومه وأحزانه تحت ركام من قصائد الغزل، وسيل من المداعبات والطرائف والمفاكهات الأدبية والمساجلات الاخوانية.

وقد طاب لي منذ زمن بعيد أن أتابع مسار حياته لاسيما في مجالسه الأدبية الخاصة التي هي أصدق من يتحدث إلينا عنه، ويكشف لنا عن خصائص أدبية، فكانت حصيلة رفقتي الطويلة معه هذه الصور الممتعة التي تصوّره في بعض مواقفه من حضور البديهية، وسرعة الخاطر واكتمال العدّة الأدبية التي هي ذخيرته في مجلسياته، مضافاً إلى أن لمدينة النجف بالذات تأريخاً علمياً وأدبياً يهم بعض الناس أن يقفوا عليه قليلاً أو كثيراً، وأحسب أن ما كتب عنه من أبحاث وما ألف به من كتب يسد حاجة من يطلبون ذلك، غير أن ناحية واحدة قد أغفلتها الأقلام ولم تتناولها إلا عرضاً تلك هي مجالس النجف الأدبية الخاصة، وما كان يدور فيها من مساجلات ومطارحات قد لا تجد لها نظيراً إلا في القليل من مجالس الأدباء الأخرى، لاسيما فيما يخص سرعة البديهية، وقوة العارضة، في استحضار النكتة الأدبية والإجابات الطريفة المستحسنة.

والسبب في ذلك الإغفال على ما أظن هو كون أغلب تلك المساجلات والمطارحات غير متوفرة في متناول أيدي الكتاب لم يحوها كتاب، أو يجمعها سفر خاص، وإنما هي حكايات وأبيات متناثرة هنا وهناك تتداولها الألسن، وتأتي بها المناسبة ليندّى بها الحديث، ويستظرف الحوار ثم تأخذ طريقها إلى النسيان، والإهمال وقد تكونه هناك أسباب أخرى لست بصدر البحث عنها، وكيفما كان فقد وجدت في نفسي رغبة ملحة في التصدي لتلك المجالس بمتابعة ما يدور فيها مما شاهدته أو سمعته من غيري، أو شاركت فيه مشاركة فعلية، فكانت هذه المجوعة من الطرف الأدبية التي يسرني أن أقدمها إلى القرّاء الكرام كجزء مضاف إلى الكل الذي كتب عن هذه المدينة، وسأبدأ بمجالس جمعية الرابطة الأدبية كجولة أولى، حيث كانت تلك المجالس ذات نكهة خاصة بالقياس إلى بقية مجالس المدينة ومنتدياتها، إذ كانت تظم طليعة أدباء وشعراء النجف في ذلك الوقت، وسأنتقل بعد ذلك في جولات ثانية وثالثة ضمن مجالس النجف الأخرى في الأجزاء القادمة من هذا الكتاب ما اتسع لنا مجال الحديث عنها.

وقد كان في النجف شأنها شأن بقية المدن الأخرى التي تعني بالشؤون الثقافية صراع بين قديم الأدب وحديثه، وربما كان تأسيس تلك الجمعية من إفرازات ذلك الصراع، أو تعبيراً عنه، فقد وجد بعض الشباب أنفسهم بحاجة إلى مؤسسة تلم شتاتهم، وتكون وسيلة للتأكيد على وجودهم فتقدموا بطلب أجازتها، وفتحت أبوابها بتأريخ 30/9/1932م وإذا ما علمنا أنه كان من بين مؤسسيها المرحوم الشاعر السيخ صالح الجعفري الذي وقف ذات يوم في مجلس حاشد من مجالس النجف الأدبية، وخاطب المحافظين من شيوخها قائلاً:

          تبعناكم على خطــــــــــــــــــا سنينا            وأسفرت الحقيقة فأتبـــــــــــــــعونا

ووقف مرة ثانية أمام موكب الحجاج الذين كانوا يوم ذاك يتجمعون في النجف ويسافرون إلى مكة عن طريق الحج البري، ووقف أمام ذلك الحشد الغفير واستعرت حماسته وشرع يخاطبهم قائلاً:

                            حجوا فلسّتُم بالغينَ بحجّكمْ شرف الهنــــــودِ

                            حجّوا إلى استقلالهم، وحججتم خوف الوعيـد

                            وعبادة الأحرار خير من ضـراعات العبيـــــد

 أقول إذا ما علمنا ذلك نكون قد أدركنا موقع تلك الجمعية من نفوس المحافظين من شيوخ ذلك الزمان، وموقع الجعفري وأمثاله ممن سيرد ذكرهم أيضاً كان الجعفري هذا أحد مؤسسيها، وكان الشاعر المرحوم عبد الرزاق محي الدين) الدكتور بعدئذ ( أيضاً، وعبد الرزاق كان هو الآخر لا يقل عن صاحبه جرأة واندفاعاً وصراحة في التعبير عن مكنونات نفسه هذا دون أن يحسب حساب الرأي العام وضرورة مداراته إذ لم يكن متخرجاً في شبابه ولم يتعود أن يخاطب الناس بابن عمّ الكلام كما أصبح شأنه فيما بعد.

وقد يصح هنا أن نتخذ دليلاً على جرأته الأدبية واندفاعه للاّ محدود نظمه لتلك القصيدة الشهيرة (كرة السلّة) التي أحدثت في وقتها ضجة عنيفة في الوسط النجفي، واتهم بسببها بما اتهم فيه، وكادت تطوّح بسمعته الاجتماعية ومن خلاله بالجمعية التي كان هو أحد مؤسسيها مضافاً إلى قصيدة له ثانية أثارت عليه القوم هي الأخرى فاتهموه بالمروق عن الدين وكان عنوان تلك القصيدة)أحلام اليقظة (وقد جاء فيها قوله:

       أحـاديث يوُحيها الخيال مبلّــــــــغاً          ألا إنما تلك الأحاديث بهتــــــــــــانُ                          أرى دين عيسى مثل دين محمـــد             ولكن هذا الاختلاف لمن دانـــــــــــوا

        هما شرعا دين المؤاخاة بيننـــــــــا             وكل بني الإنسان في الأرض أخـوان

إن مثل هذا الكلام قد يقوله الإنسان في هذه الأيام دون أن يجد من يعقب عليه أو يستنكره، غير أنه في مثل ذلك الوقت وفي مدينة مثل مدينة النجف فأنه الكفر بعينه، ولولا الإطالة لذكرت القصيدتين وهما منشورتان ضمن ترجمته في الجزء الخامس ص390 من كتاب شعراء الغري لمؤلفه المرحوم الشيخ على الخاقاني يمكن الرجوع إليهما لمن يرغب في الاطلاع عليهما.

وكان من بين أعضائها المؤسسين أيضاً الأديب محمد حسن الصوري، والصوري هذا كان هو الآخر أكثر تطرفاً واندفاعاًَ من صاحبيه الآني الذكر وقد فصل من الجمعية بعدئذٍ بسبب من تطرّفه، فعلق بعض المشايخ على قرار فصله ساخراً بالجمعية وبه معاً قائلاً: )ويل لمن كفّرهُ النمرود).

هذه التشكيلة من الشباب كانت بالنسبة إلى النجف يوم ذاك ثورة ما بعدها ثورة استطيع أن أجزم أن النجف كانت على استعداد لأن تقف ضدها لولا وجود بعض الأشخاص الآخرين المعتدلين من أمثال المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي، والسيد محمود الحبوبي، والشيخ محمد جواد الشيخ راضي والسيد عبد الوهاب الصافي، ومحمد علي البلاغي، وإلا لطارت الجمعية في مهب الريح قبل أن تجد لها مستقراً ومكاناً في النفوس.

وتقدم الزمن، وبدأ الشباب ينتمون إليها، ويدخلون في هيأتها الإدارية، ويصرفون شؤونها، وقد تهيأ لها فيما بعد أن تؤدي رسالتها على أكمل وجه وأتمه، واعترف لها الجميع بأنها كانت وجهاً ناصعاً للنجف في حينه، واستمرت مواسمها الأدبية ومهرجاناتها الشعرية طوال الخمسين عاماً من حياتها، فما مر عليها عام إلا وكان لها موسم أدبي مميزاً وكانت مشاركتها في المناسبات القومية والوطنية مع كل حدث يمر بالوطن العربي من محيطه إلى خليجه، وذلك من خلال ندواتها ومطبوعاتها التي صدرت منها:

الفلسطينيات، وجهاد المغرب العربي، والجزائر المجاهدة، و14 تموز في الرابطة، وديوان الشيخ محمد رضا الشبيبي، وديوان الشيخ محمد علي اليعقوبي، وديوان السيد محمود الحبوبي، وأربع مجاميع شعرية أخرى لكل من الشعراء صالح الظالمي، وجميل حيدر، وعبد الرسول البرقعاوي، ومؤلف هذا الكتاب مضافاً إلى ما صدر عنها في أخريات أيامها من مجلتها (الرابطة) ولمدة ثلاث سنوات.

وكانت بالإضافة إلى ذلك ملتقى الوفود الأدبية والسياسية التي تقصد العراق وتزور النجف فتقام لها حفلات الاستقبال، والندوات الأدبية حيث يرتجل الشعر ارتجالاً وتنشد القصائد المطولات الشعرية، ويندى الحديث ويعطر بالظرف والنكت الأدبية، وبما عرف به الأديب النجفي من حضور البديهية، وسرعة الخاطر، وتصدية لاقتناص النكتة وحسن صياغتها لها.

ويا طالما التقينا فيها بوجوه لا تزال ذكراها عالقة في نفوسنا من أمثال الحبيب أبو رقيبه، والحاج أمين الحسيني، وعبد الوهاب عزام، وأحمد أمين، وأحمد حسن الزيات وزكي مبارك وعبد الرزاق السنهوري وغيرهم من عمالقة الأدب والسياسة في الوطن العربي ومن الملوك الملك عبد الله، والملك فيصل الأول، والملك غازي، وملك اليمن، ومن الساسة العراقيين ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد وصالح جبر ومحمد مهدي كبّة، وجعفر أبي التمن، وفاضل الجمالي، وسعد صالح وغيرهم.

وكان مجلس الشيخ اليعقوبي، ومجلس السيد محمود الحبوبي، من ألد المجالس التي كانت تعقد فيها، وأكثر متعة وطرافة، حيث كنا نحن الشباب نتحلق حولهما ونلتقط ما يتناثر من حديثهما، من نكتة أدبية، إلى بيت شعر طريف، إلى فكاهة مستملحة، وقد سبق لي أنا الآخر إن وصفت مجلسهم ذاك بأبيات ضمن قصيدة كتبتها في رثاء أستاذنا الجليل الشيخ صالح الجعفري وألقيتها في حفل تأبينه الذي أقامته الجمعية في مقرها، وكان من بعض ما جاء في تلك القصيدة هذه الأبيات:

             كنا إذا ما العيش ضاق بنـــــــــــــا             أو فاض منا الكأس بالقــــــــــــرفِ

             وحياتنا كانت ومعظــــــــــــــــمها               ضيق تراه بكل منعطـــــــــــــــــفِ

             نأوي لها شغـــــــــــفاً بأهلـــــــــها              فتزيدنا شغفاً على شغـــــــــــــــــفِ

             فترى النديَّ يموجُ سامــــــــــــــرُهُ              وذوى النهى كتفاً إلى كتـــــــــــــفِ

             وبكلمةٍ تلقى، ومن خبـــــــــــــــــرٍ              يروى، وهمس في الحديث خفـــــي

             وقصيدةٍ عصماء خالــــــــــــــــدةٍ               تغزو النديَّ لشاعرٍ دنـــــــــــــــــفِ

              دنياً من الآداب تنقلـــــــــــــــــــها              الأجيال، من سلف إلى خلـــــــــــفِ

              تلك المجالس وهي عامــــــــــــرةً              كانت مجالس أديبنا النجفـــــــــــــي

              إن شئت جِداً كنت واجـــــــــــــــدهُ              وإذا مزحت فدونما ســــــــــــــرفِ

              ينمو على الأيام شاعـــــــــــــــرها             عفواً بلا دعوى، ولا صلــــــــــــفِ

تلك هي صورة خاطفة عن بداية تأسيس تلك الجمعية في أوائل أيامها، ومما تجدر الإشارة إليه بأنني في هذه الجولة مع ما تبقى في ذاكرتي من تلك الأيام لا أريد أن أؤرخ لهذه الجمعية وأعضائها تأريخاً عاماً شاملاً فإن مجال ذلك غير هذا الحديث، وإنما هي إلمامة بمجالس الظرف والمفاكهة الأدبية حين كان هؤلاء الناس يخلون لأنفسهم فيمرحون ويمزحون ويتساجلون كغيرهم من الناس حين ترهقهم أعباء الحياة فيحاولون التغلب عليها باستعمال النكتة الأدبية، وبالتندر والتعلق حتى على أنفسهم أحياناً لاسيما عندما لا يجدون في مرماهم أحداً.

الحكاية الأولى

حدثني المرحوم صالح الجعفري أستاذ الأدب العربي في ثانوية النجف وأحد المؤسسين لتلك الجمعية فتذكر جانباً من حياته، ورفاقه الذين رحلوا، وكأنه أحس بأنه يسرع في اللحاق بهم فأخذ يكثر من الحديث عنهم، ويستعيد أيامه التي قضاها معهم، ثم سألني قائلاً:

سمعت أنك مهتم بمتابعة وتسجيل ما بقي في ذاكرتك من أيامنا في الرابطة الأدبية ولئلا يفوتك شيء منها سأنقل لك حكاية طريفة في ذهني أنا الآخر من تلك الأيام، لعلها تفيدك في موضوعك هذا، وشرع في سرد حكايته قائلاً:

في ليلة مدلهمة عاصفة من ليالي الشتاء، اشتد فيها انسكاب المطر حتى كاد يغرق المدينة، وكان عصف الرياح، وقصف الرعد يكادان يقتلعان جدران البيوت من أساساتها، كنا في تلك الليلة مجتمعين في الرابطة الأدبية وبعد أن انتهت جلستنا الاعتيادية، وأزف موعدُ عودتنا إلى بيوتنا، خرجنا من البناية وإذا بنا لم نكد نتبين طريقنا، فآثرنا العودة إليها، والبقاء فيها، ريثما يهدأ الجو، ويخف المطر.

وبعد أن طال انتظارنا بدون جدوى، وقارب الليل إلى نصفه، وكانت بيوتنا بعيدة عن الجمعية، وقد تعذر علينا الوصول إليها بسهولة في ذلك الجو الرهيب، اقترح أحدنا أن نذهب إلى أقرب بيت نعرفه من أصدقائنا، لعلنا نجد عنده بقية عشاء نتبلغ به، ومكاناً دافئاً نستظل فيه، فوقع اختيارنا على بيت صديقنا التاجر (الحاج عبد الله الصراف) لأنه كان أقرب البيوت إلى الجمعية، ولأن صاحبه كان أقرب الناس إلى نفوسنا، فقصدناه تحت قصف الرعد، وانهمار مياه المطر، واحتمال سقوط أحد الجدران علينا، وخضنا إليه الماء والطين إلى أن وصلنا إليه منهكين، وحين فتح لنا الباب فوجئ بزيارتنا في ذلك الوقت المتأخر من الليل وفي مثل ذلك الجوّ العاصف، وقبل أن نبدأه بالسلام التفت إليه الشيخ اليعقوبي وأنشد يخاطبه قائلاً:

               جئناك نسرعُ زائرينـــــــــــــــــــا              تحت الدجى متسللينـــــــــــــــــــــا

               جئنا وقد ملأ الغمـــــــــــــــــــــــام             دروبنا ماءً وطينــــــــــــــــــــــــــا

               جئنا فهيئ مجلســـــــــــــــــــــــــاً              نرتاده حيناً فحيــــــــــــــــــــــــــنا

فبهت الرجل، وحدق بنا في الظلام وقال:

يا ستار سترك.. ثم أردف قائلاً: أهلاً وسهلاً بكم، تفضلوا.. وقبل أن ندخل إلى غرفةِ الاستقبال التفت إليه السيد محمود الحبوبي وقال:

     أأبا عطارد… دام بيتــــــــــــــــك              مجمعاً للسامرينـــــــــــــــــــــــــــا…

     إن غبت عنا ساعـــــــــــــــــــــةً              زدنا إلى اللقيا حنينـــــــــــــــــــــــا

فابتسم وهز رأسه قائلاً:

ـ مضبوط.. (زدتم إلى اللقيا حنينا) لاسيما في هذا الوقت المتأخر من الليل، وفي مثل هذا الجو العاصف ثم شرع في استجوابنا قائلاً:

ـ ما الذي أحوجكم إلى النزهة في مثل هذه الساعة؟!

ـ وأين كنتم في هذا الوقت المتأخر من الليل؟!

ـ أما خشيتم أن ينخسف بكم أحد هذه السراديب، أو يسقط على رؤوسكم أحد هذه الجدران المتداعية؟!

ـ والذي هو أهم من ذلك كله، كيف تبنيتم طريقكم إليّ في هذا الظلام الدامس؟!

فأجابه الشيخ محمد الخليلي على سؤاله الأخير قائلاً:

          كنا نسير بضوء شــــــــــــــــــوق              ساقنا لك مسرعينـــــــــــــــــــــــــا

          خلت الدروب فما نشاهــــــــــــــد              غيرنا من عابرينــــــــــــــــــــــــــا
وما هي إلا لحظات، حتى حضرت صينية الشاي، فالتفت أحدهم إليه قائلاً:

         الشاي أجمل ما يكـــــــــــــــــــون              هديةً للزائرينــــــــــــــــــــــــــــــا

         لكنه قبل العشـــــــــــــــــــــــــــا…             يؤذي بطون الجــــــــــــــــــــائعينا

ولا أطيل عليك ـ والحديث لا يزال للجعفري فقد حضر العشاء بعد ذلك، واصطف المشايخ على المائدة وبعد أن اكتفوا واطمئنوا، اتكأ الحبوبي على الوسادة، وطرح علينا السؤال التالي قائلاً: من منكم يحفظ بقية هذه الأبيات؟! إنها لتعجبني كثيراً:

               سقف بيتي حديـــــــــــــــــــــــــــدْ              أسُّ بيتي حجــــــــــــــــــــــــــــر

                فاعصفي يا ريـــــــــــــــــــــــــاح              وانهمر يا مطــــــــــــــــــــــــــــر

وكأنه أراد أن يعبر فيها عن اطمئنانه بضمان ليلته تلك إلى الصباح في ذلك البيت، فأجابه الخليلي قائلاً:

أنا لا أحفظها، ولكنني أستطيع أن أضيف إليها هذين البيتين، ثم أنشد:

               ليت أنَّ الريـــــــــــــــــــــــــــــاح              ســـــوف تبقى شهـــــــــــــــــــــرْ

               فأنا هــــــــــــــــــــــــــــــــــــهنا…             لا أحس الخطـــــــــــــــــــــــــــر

وكان صاحبنا الحاج يصغي إلينا، وهو يفكر متى سينتهي هذا السيل المتدفق من الكلام المقفّى الموزون، وكيف أن يشارك معنا فيه، وهو بعيد بحكم انشغاله بأعماله التجارية عن مثل هذه الأمور، ولكن بديهيته لم تخنه، فإذا به يعقب على ما سمعه منا بمثله، وكأنّ العدوى قد سربت إليه فقال:

         أيها القادمـــــــــــــــــــــــون……             نحونا في المطــــــــــــــــــــــــــــــــر

               كلّ فعلٍ لكــــــــــــــــــــــــــم……              دائماً مبتكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر

                كنت وحدي هنـــــــــــــــــــــــــــا               جالساً والضجــــــــــــــــــــــــــــــــــــر

                فتفضلتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا                …يا لحسن القــــــــــــــــــــــــــــــدر

                سوف يحلو بكـــــــــــــــــــــــــــم               ليلنا   …… والسهـــــــــــــــــــــــر

وكانت ليلية نابغية من أروع وأجمل ليالينا التي عشناها وظلت ذكراها عالقة في نفوسنا فترة طويلة من الزمن.

الحكاية الثانية

سافر أحدهم مرةً إلى لبنان لقضاء فصل الصيف هناك، وكانت أول سفرة له خارج العراق، ولأنه كان مصفداً ببزته الدينية ووقاره، ولم يشأ أن يتخلى عنهما، فقد عاش أيامه في لبنان وكأنه لم يخرج من النجف، ولم يفارق الرابطة، ولو سألناه في وقتها ماذا رأيت بلبنان في سفرتك تلك؟! وبمن التقيت هناك؟ لما كان جوابه من أنني صليت بالمسجد الفلاني وذهبت إلى المكتبة الفلانية والتقيت بعدد من المشايخ الذين كنت أعرفهم، ممن كانوا يدرسون في النجف سابقاً، فأنست بهم، وقضيت معهم وقتاً ممتعاً.

وتشاء المصادفات أن يجد نفسه ذات يوم محاطاً بجو لبناني لم يعهد له مثيلاً في حياته، إذ بينما كان جالساً في حديقة الفندق، وحوله ثلة من مشايخه هؤلاء، إذ دخل إلى الفندق سرب من الفتيات، وجلس بالقرب منهم، وكانت من بينهن فتاة ترتدي (البنطلون) وكان الناس يومئذٍ لم يألفوا بعد رؤية النساء بهذا اللباس.

فغض بعض المشايخ النظر عنهن، و(حوقل) بعضهم، و(استرجع) آخرون، وغادر المكان قسم آخر، متعوذاً بالله ومبتعداً عن مواطن الريبة والشبهات، أما صاحبنا الرابطي فقد ظل مسمراً في مكانه كاللوح لا يبدي ولا يعيد، وكان بين حين وآخر يختلس النظر إليهن، ويحدق أكثر فأكثر بصاحبة البنطلون، ثم أخذ يفلسف موضوعها في ذهنه، ويفكر في المكان الذي أخفت فيه (السر اللهيب)، ذلك البنطلون كان ضيقاً وملتصقاًَ على جسدها بشكل رهيب، وكان جسدها كما يقول المرحوم حسين مروان (إذا تحركت أو مشت يرتعش بطريقةٍ تخرج النار من الزناد).

وظل صاحبنا طوال جلسته تلك يرتعش مع ارتعاش جسدها، ويطيل التفكير في المكان الذي ظلت عيناه تحومان حوله، وكان من ثمره ذلك الموقف هذه الأبيات التي ابتدأها باستجواب طريف مع صاحبته، وأنها بوصف أكثر طرافةً لنفسه، ولما كان يعانيه من اغترابٍ وحرمان في حياته بسبب من ارتباطه ببزته. ولم يقم من مكانه ذاك حتى كانت القصيدة مكتملة بما يشبه الارتجال، وكأنما أوحى بها إليه إيحاء، ابتدأها والخطاب موجه إلى صاحبة البنطلون، قائلاً:

            فجرُ (عاليهْ) في جبينك إشــــــراق            ولفح الصحراء في البنطلـــــــــون
خبريني،، ولا تخافي، فأيـــــّـــــــارك            في مأمن لدى تشرينــــــــــــــــــي
لا يغرنّكِ اشتعال حديثــــــــــــــــــــي             والتهاب الغرام حول جفونـــــــــي
فثلوج الشتاء ترسبُ في أعمــــــاق             نفسي، في حيرتي، في يقينـــــــــي

وبعد أن وصل إلى هذا الحد، وحيث لم يجد لديها جواباً على أسئلته ولم تلتفت إليه، أو تأبه به، اتجه بالخطاب إلى واحد من أخوانه في الرابطة، كمن يعزي نفسه، ويبرز إخفاقه في حياته العاطفية منسجماً مع طبيعته في اتخاذ المفاكهة والظرف وسيلة للتعبير عن أدق أحاسيسه قال:

             لم أزل يا )أبا رشاد( كما تعهــــــــد            من عفّةٍ، وتقوىً، وديــــــــــــــــن
حاملاً بين حاملي الورد رأســـــــــاً             صدق الله.. إنه من طيــــــــــــــــنِ
وفؤاد ولو رقتْ الصخرة الصمـــاء              ما اهتزَّ نبضهُ بالحنيــــــــــــــــــنِ
وعيوناً.. لو أبدلوني عنهـــــــــــــــا             (بالصلابيخ) لم أقل ظلمونـــــــــــي

              فمتى يكرهُ العماية طــــــــــــــــرف             لا يرى غير كالح العتـــــــــــــــونِ

ثم يستغرق في وصف مجلسه ذاك بين تلك المجموعة من مشائخه وكيف تحولت أجواء لبنان الجميلة، بفضل وجودهم فيها، إلى لون آخر في نظره، لا أريد أن استعجل الشاعر بالإفصاح عنه قبل أن يستكمل عرض مقدماته عنه قائلاً:

      لو تراني، وشُمُّ لبنان طارت بــــــــي               ورويال(مركبي وسفينـــــــــــــــي)
صاعداً في الفضاء من فوق بيـــروت              كأني من ســــــــــــــرب )كاكارين
غير أني طيرٌ جُناحاهُ من علــــــــــــــمٍ               وساقاه من وقارٍ وديـــــــــــــــــــــنِ
أتهادى بمشيتي مثقل الخطـــــــــــــــو               كأني أجر عبء سنينــــــــــــــــــــي
عن يميني من تعرفون وعن يسـراي              من ذكر اسمه يؤذينـــــــــــــــــــــــي
فأحلنا لبنان، وهو جـــــــــــــــــحــيمٌ               من خدودٍ، جنينةً من ذقـــــــــــــــــونِ
هكذا زارت الكوليرةُ لبنـــــــــــــــــــان              ولكن بجبّةٍ، وزبـــــــــــــــــــــــــونِ

الحكاية الثالثة

سافر آخر منهم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وبعد انتهائه من أداء الفريضة أعجبه أن يجعل طريق عودته على لبنان وتركيا لقضاء بعض الوقت فيهما، وأحسّ بمضايقة بزته التقليدية له فخلعها واستبدلها بالسترة والبنطلون طالما هو هناك ليكون أكثر حرية وانسجاماً في حركاته وتنقلاته من مكان إلى آخر.

وقد أثار تصرفه هذا تساؤلات بعض أصحابه وتعليقاتهم عليه، واقتناص المناسبة للتندّر معه، وما إن عاد إلى النجف حتى كان الجماعة باستقباله، وجاء دور الشعر والمفاكهات الأدبية حول ارتدائه السترة والبنطلون بدلاً من بزته الدينية، ومقدار انسجامه مع بدلته الجديدة بعد تعريجه على تركيا ولبنان، إذ أنه قد أراق بعض ما جمعه من ثواب في مكة على شواطئ البسفور، وبلاجات بيروت.

غير أن الأهم من ذلك كله، كان استفسارهم وتطلعهم لمعرفة الأسباب الحقيقية لحجه. وهل هي طاعةٌ خالصة لله؟! أم لأمرٍ يتكتم عليه؟! ذلك ما ستلمسه في ثنايا تلك القصيدة التي استقبلوه بها مازحين، حيث وقف أحدهم يرحب به، ويحييه وبعد أداء مراسيم التحية المعتادة شعراً، استمر في إلقاء بقية أبياتها متسائلاً:

       أخا الفضل قل لي كيف )دعبلك( التقى          إلى بلدٍ وعر السليقةٍ معـــــــــــــــــــــــوجّ
وقد كان عهدي أن ذوقك دوحـــــــــــــةٌ           تعاصت أعاليها على ثورة العـــــــــــــــج
ونحسب أعتدت الرضيَّ وشعـــــــــــــرهُ           فأغراك أن تحضى بأغيد ذي عنــــــــــــجِ
ولكنك استقبلت أوجهَ معشـــــــــــــــــرٍ           أجلُّ رواءً منهم جلدةُ الخُــــــــــــــــــــرجِ
فأخفقت في مسعاك بالخيفِ  من منــى            وقد كان أولى أن تزور )علي الشرجي

والجدير بالذكر أن صاحبهم هذا كان ينحدر من أسرة دينية فاضلة معروفة باستقامتها وقدسيتها، وقد سبق لثلاثةٍ من أخوانه وأقربائه أن ذهبوا إلى مكة المكرمة، وعادوا منها كما يصلوا إليها، قانتين مأجورين، دون أن يغيروا طريق رحلتهم، أو يستبدلوا بزة غير بزتهم، أو يصلوا إلى أماكن ما كان من المناسب أن يصل إليها أمثاله، لذلك التفت إليه الشاعر، وأراد أن يذكره بهذا المعنى، ويسأله لماذا خرج على نهجهم، وكيف فرّط بالثواب الذي اكتسبه من حجه جاء ذلك كله على سبيل المفاكهة والظرف الذي اعتادوه فيما بينهم، قال:

        لقد حجَّ من أهليك صيدُ ثلاثـــــــةٌ               وساروا جميعاً في وضوح النهــــــجِ
فلم يصنعوا في الدردنيل لحــــاهُم               فرنسيّة أو يلبسوا زيَّ إفرنـــــــــــــج
ولم نر قبل اليوم مثلك حـــــــــجياً               أراق ثواب الحج في ساحــــــة البُرجِ
وكان أحد المشايخ الفضلاء حاضراً في المجلس، وهو يصغي إلى حوارهم، ويتابع الاستماع إلى القصيدة باهتمام، فأراد الشاعر أن يتظرف معه فتوجه إليه بهذا السؤال قائلاً:

ـ هل يسمح فضيلة الشيخ فيما إذا كان من المناسب لأمثال هذا الحاج أن يفعل ما فعل، وهو الرجل المتدين المعروف؟! أفتونا مأجورين، فما كان من ذلك الشيخ الوقور إلى أن يبتسم، ويصدر فتواه ويصبها بهذه الأبيات الطريفة التي ارتجلها على البديهية من وزن وقافية أبياتهم قائلاً:(والخطاب موجه إلى صاحبهم الحاج).

        أخا الفاضل لا يعنيك هذا الـــــــذي               سمعت، فأن الراحَ تَحسُنُ بالــــمزجِ
وقد يفسد الماء الكثير مزاجـــــــها              وصرفاً يضيق المرءُ من طعمها المجّ
ويا ليتنا كنا وإياك عـــــــــــــــندما               سعيتَ، وإذ مُتِّعْتَ بالأعين الدعــــج

الحكاية الرابعة

وسافر آخر لأداء الحج أيضاً، كان في بداية حياته متسامحاً في أداء بعض فرائضه الدينية، ثم هداه الله بعد ذلك، وعاد إلى الطريق، راضياً مرضياً، غير أن تلك الفترة من حياته ظل شبحها يلاحقه عند بعض أصحابه، فكانوا يمزحون معه، ويذكرونه بها في كل مناسبة من المناسبات.

وحين عاد من الحج زاره هؤلاء يباركون له حجّه، وحسن توفيقه، وبعد أن خلا المجلس، وتفرق الناس، احتوشوه مداعبين ليذكروه بأيامه الأولى، وكيف تحوّل عنها بعد أن اهتدى وكان أحدهم قد هيأ قصيدة يتسائل فيها عما شاهده في مكة، وما قام به من أعمال وطقوس هناك، وكيف كان شعوره، وهو يقف بين يدي الله في بيته الحرام، وكان غرضه من ذلك المداعبة والمفاكهة والظرف الذي تعود معه من قبل قائلاً:

         أرأيت كيف يهرولـــــــــــــــــــون               ويقرعون كؤوس زمـــــــــــــزم؟!
ويرمَّدون بهامة الشيطــــــــــــــان              جمرهمُ المطـــــــــــــــــــــــــــــهّم
أو ما استشاط أما تــــــــــــــــحرّك              للكماة… أما تكــــــــــــــــــــلم…؟!
وبكلمةٍ قد باع جنــــــــــــــــة ربَّهم              مــــــــــــــــــــــــــــــــن دون مَنْدمْ
ويبدو أن مضمون القصيدة كان قد تسرب إليه قبل إلقائها عليه، وعرف حتى وزنها وقافيتها، فتهيّأ هو الآخر للإجابة عليها، لذلك وبمجرد أن وصل الشاعر إلى قوله: أو ما استشاط؟ أما تحرك؟ حتى قطع عليه كلامه وأجابه بهذه الأبيات كما لو كانت إجابته قد أسعفته بها بديهية قائلاً:

        لا.. ما استشاط ولا تــــــــــــــأذى              أو )تضجور( أو تــــــــــــــــــــــــألمْ
بل إنني شــــــــــــــــــــــــــــاهدته                 قد كان يضحك حين يرجـــــــــــــــــمْ
أومئ إليَّ وقال لــــــــــــــــــــــــي               أهلاً بصاحبنا تقــــــــــــــــــــــــــــــدم
أو لست من أشيــــــــــــــــــــاعنا؟!             أو لست صاحبنا المخضــــــــــــــــرم
أو ما استحيت أتيت ترجمــــــــــني              بنفسك يا أفنـــــــــــــــــــــــــــــــــــدم؟!
وأراد أن يفضحني أمام النــــــــاس              لو لا أنه استثنى فغمـــــــــــــــــــغم
لم أدر كيف استلّنــــــــــــــــــــــي              من ذلك الجيش العرمـــــــــــــــــــــرم
وفُضِحتُ، لو لا رحمت البــــــاري              وهل غير الإله تظــــــــــــــن يرحم

فبهت الجماعة من سرعة بديهيته، ومن استحضاره للإجابة شعراً بنفس الوزن والقافية، وبهذا النفس الطويل، والدقّةِ في الإجابة.

ولكنهم بعد أن اكتشفوا الموضوع كان الطريق قد سد عليهم من الإيغال بمداعبته، وكشف ما استتر من أوراقه، فضحكوا وصرفوا النظر عن قراءة بقية القصيدة، واكتفوا بتهنئته على حسن عاقبته وسلامة عودته.

وشاعت تلك المداعبة الطريفة في وقتها، وحاولت الحصول على أصل القصيدة فوجدت في بعض أبياتها ما لا يستحسن نشره، وهذا بعض ما جاء فيها:

           وقصرت رأسك أم جبينـــــــــــــك              كن عذيري لست أعلـــــــــــــــــــــم
لتفوز بالأنهار من خمــــــــــــــــرٍ               ونحن إلى جهنـــــــــــــــــــــــــــــم
ماذا دهاك أهل تطرّبـــــــــــــــــك              التهيّسُ يا أفنــــــــــــــــــــــــــــــــدم
فركضت خلف الشنفــــــــــــــري               مترجّلاً وعشقت مريــــــــــــــــــــم
وحملت بالولدان حولــــــــــــــــك               ينشدون نشيد )جمـــــــــــــــــــــجم
إنا لنقسم بالحريــــــــــــــــــــــق…              يرفَّ من ردفٍ منـــــــــــــــــــــــعّمْ
ما كان ذلك منك عن تقـــــــــــوى               وهل يغرى يلملــــــــــــــــــــــــــــــم
لكن سمعت بنا هــــــــــــــــــــــــد              جاءت تصلّي بعد أن لـــــــــــــــــــــم
فركضت ترفلُ بالشبــــــــــــــــاك              الماهرات وصحـــــــــــــــــت  عَمْعَم
الحكاية الخامسة

وهناك أديب آخر كان في شبابه ينحو منحى زميله هذا بالنظر إلى مثل هذه الأمور، شأنه شأن كثير من الناس ممن يعجبهم أن يتفلسفوا في بدايات تكوينهم الأدبي، حتى إذا ما انتهى بهم المطاف إلى طريق مسدود عادوا على أعقابهم متعبين.

سافر هذا الأديب إلى مكة المكرمة ذات سنة سفره لم يكن متوقعاً ومتهيئاً لها، إذ انتدب على عجل للسفر ضمن وفدٍ أرسلته الدولة إلى هناك، فأحرم، واعتمر، ولبّى، وأدّى المناسك كلها وفقاً لما هو مطلوب ومعمول به.

وفي غمرة تلك اللحظات العرفانية أثناء طوافه بالكعبة حيث يقف المرء فيها بين يدي الله وجهاً لوجه، وجد نفسه خجلاً من نفسه، ومن ربه في آن واحد، إذا لم يكن متهيأ ـ كما قدمت ـ لمثل ذلك اللقاء العظيم، وتصور نفسه كمن يدعى أحدى الحفلات الكبرى فيذهب إليها عرياناً، أو في ثياب رثّة، حتى استقر في ذهنه بأنه غير جدير لينال من ذلك الفيض السماوي.

وبينما هو غارق بهذا ومثله، طغت عليه روح الظرف المعادة لديهم فكتب لواحدٍ، من أصحابه، في الرابطة، هو الشاعر جميل حيدر )أبو وميض( رسالة يصور له فيه ـ متظرفاً ـ المصادقة الحسنة التي اختارته، وأوصلته إلى هناك، وما قُدّر له من أجر وثواب لم يكن لم يتوقعه، ثم ما قام به من أعمالٍ ومناسك ما كان يخطر بباله أن يقوم بها في يوم من الأيام، جاء ذلك كله بقصيدة نظمها أثناء طوافه بالكعبة، وأرسلها إليه مازحاً قال:

         أبا وميض( أنت تعلـــــــــــــــــــمْ               مالي بمكة أيّ مغنـــــــــــــــــــــــــمْ )
ما كنت أحســـــــــــــــــــــب أنني               يوماً بها أعنى وأهـــــــــــــــــــــــتم
لكن وصلت، وأنت تعــــــــــــرف                قد يثاب المرءُ مرغــــــــــــــــــــــمْ
هرولتُ حتى ضج ســـــــــــــــاقي               وأشــــــــــــــــــــــــــتكي ألماً وورم
وسعيت شأن ســــــــــــــــــــواي ..              سبعاً أو ثلاثاً لست أعـــــــــــــــــــلم
ولقد صعدت على الصـــــــــــــــفا                ولقد هبطت ببئر زمــــــــــــــــــــزم
ولقد وقفــــــــــــــــــــــــــت أمامه                خجلاً فكان بأن تبــــــــــــــــــــــسّم
ما قال لا تدنــــــــــــــــــــــــو إلي               ولا تنكر أو تجـــــــــــــــــــــــــــهّم
ولقد جمعت من الثــــــــــــــــواب               بثقل ما يزن المقــــــــــــــــــــــــطمْ
إن لم يقدني للجنــــــــــــــــــــــان               فقد يخفَّف من جهـــــــــــــــــــــــــنم
وبعد أن عاد إلى النجف، تلقاه صاحبه  )أبو وميض(  بقصيدة من وزن وقافية قصيدته هذه مستكبراً عليه يأسه من رحمة ربه، ومؤكداً له بأن ما جاء على لسانه بقوله  )ولقد وقفت أمامه خجلاً(  هو الثمرة المنشودة من وراء تلك المناسك كلها، والغرض الأسمى من تشريع هذه الفريضة، ثم زاد على ذلك بقوله له:

      يهنيك.. أنك بالضـــــــــــــــــــمير              لثمتهُ، وسواك بالفــــــــــــــــــــــــــم
فلأي شيءٍ رُحت تجـــــــــــــــهل               سرَّ هّدْيك يا أفنـــــــــــــــــــــــــــــدم
وبحلم ذاكرة العشيـــــــــــــــــــرة               كنت منذور المـــــــــــــــــــــــــــطهّم
هرولت من خجلٍ إلـــــــــــــــــــيه              على جوادٍ غيـــــــــــــــــــــــــر مُلّجم
وسرى بك الهمسُ المــــــــــــعنّف             كالعبيــــــــــــــــــــــــر سرى لبرعمٍ
فيكاد يضوي جانحــــــــــــــــــيك               جماله، وتكاد تضــــــــــــــــــــــــــرم
هيهات ما غير الشعور الحــــــــر             حجَّ له، وأســــــــــــــــــــــــــــــــــلمْ
وتحول الموضوع بعد ذلك من مزاح ومفاكهة في بدايته، إلى تفهم وإدراك فيقين وإيمان، لأن الجذور كانت أقوى أن تقتلعها هبات غبارٍ طارئةً

والذي أود أن أؤكد عليه بهذه المناسبة، أن هذا اللون من أدبهم لا يعبر عن رأي يعيشه هؤلاء الناس اعتقاداً وسلوكاً كما هو ظاهر الحال فيه، ذلك أننا لو أمعنا النظر فيما تنطوي عليه بعض فقراته، كقول الأول منهما )وفضحت… لولا رحمت الباري (وقول الثاني  )ولقد وقفت أمامه.. خجلاً ( لتبين أمرهم واضحاً لا غبار عليه، ولو لا ولعهم بالظرف والمفاكهة لكانوا في غنى عن ذلك كله.

وكيفما كان فأنني لست بصدد الدفاع عنهم، أو الانتصار لهم بتأكيد صحة إيمانهم، وسلامة معتقداتهم، وإنما هي حقيقة أحببت أن لا تفوتني الإشارة إليها، وتذكير القارئ بها لئلا يسيء البعيدون عن أجوائهم الظن بهم، فيذهبون بها إلى تفسيرات شتى شأنهم شأن من قرأ خمريات الشاعر السيد محمد سعيد الحبوبي، الذي كان في وقته أمام عصره فظن به الظنون، حتى ليقال أن أحد تلاميذه سأله وهو على منبر الدرس هذا السؤال:

ـ ماذا تفيد قد( إذا دخلت على الفعل الماضي)؟!

مشيراً إلى قول السيد رحمه الله ـ قد شربت الخمر لكن  …..الخ.

ذلك أن قد ( تفيد التحقيق إذا دخلت على الفعل الماضي،) فتنبه السيد لغرضه، وأجابه بعفويته وبراءته قائلاًًً:

ـ وحق جدي ما شربتها.

لذلك أجدني مضطراً لأن أؤكد ـ فيما أعرفه من  حياتهم ـ نزاهة القوم وعفتهم، وبعدهم عن كل ما يسيء الظن بهم، وأن كل ما ورد، أو يرد أثناء هذه الحكايات من شعر وتعليقات حول بعض الالتزامات الدينية، والأخلاقية، وما يدور في فلكها فأنه لا يعدو قول القال منهم: عفّة النفس وفسق الألسن.

 الحكاية السادسة

وهناك أديب آخر جاء إلى النجف من المملكة السعودية لغرض الدراسة وكنا قد عاشرناه فترة طويلة من الزمن فحمدنا عشرته وكان من أبرز صفاته عنفوانه في شعره، وصلابته في عقيدته العربية، وتمرده على الكثير مما تعارف الناس عليه في زمانه وكان مما لاحظناه عليه أن عمامته كانت قلقة على رأسه، وبعد أن أتم دراسته الدينية في النجف، وعاد إلى وطنه في السعودية، وجد نفسه مكبلاً بتقاليد المهنة التي اختارها له أبوه ومقيداً بمدارات التخلف الذي يعيش عليه مواطنوه لذلك سرعان ما طرحه عن رأسه، وهرب منها ومن وطنه كله بعدئذ، وكتب هذه الرسالة الشعرية الممتعة وأرسلها إلى من تركهم وراءه من أصحابه ورفاقه في جمعية الرابطة الأدبية في النجف، واصفاً الجو الذي يعيش فيه، والمجتمع الذي قدر عليه أن يداريه، حين قال متسائلاً:

    ههنا حيث لا يرى الشــــــــــــــوقُ               والحب طريقاً إلى قلوب العــــــــــباد
ويفرُّ الصبـــــــــــــــــاح خوفاً من               الأعين، حتى كأنها من قتـــــــــــــــادِ
وتلوح النجوم كالجثث الشوهـــــاء              حفت بها ثيــــــــــــــــــــــــــاب حدادِ
حيث ينسى الفجر الطــــــــــــــروبُ                تثنّيه فيغريك أنه من جمـــــــــــــــــاد
ههنا حيث يأنـــــــــــــــــف الزهرُ              أن يبدي شذاه أن يغتلي في رمــــــــاد
كل شيء ظامٍ إلى شعــــــلةٍ رعناء            تنفي عنه ظلامَ الرقــــــــــــــــــــــــاد
*   *   *   *

أهنا تربتي؟! أهذي التــــــــــــــي             انسلّت رهافاً من غمدها أجــــــــدادي

ومشت بالضحى يدفّقه قــــــــرآن           تسقي الدنيا كؤوس الرشـــــــــــــــــادِ
أهنا حيث أدمــــــــــــــــــنت نكبةُ              الإنسان من كأس حاصري وتــــلادي
سوف أحيا؟! أعيـــــــــــــش دون               انتظار لبعادٍ، أو شهقةٍ لمــــــــــــــعاد
يا حياتي أركضي فقد ذبـــل النور              وشل العناء صوتَ الحــــــــــــــــادي
لن تنالي قبراً كبيراً يضـــــــــــــمُّ               لنـــــــــــــــــــاس في غير هذه الأبعاد
*   *   *

        أهنا بعد ديمة القبب الحــــــــمراء             تروي تطـــــــــــــــــــــــــلع واعتقادي
وعيونــــــي سكرى تَعُبُّ بلا وعيٍ             رحيق الحــــــــــــــــــــــياة من أولادي
ورفاقي الذين غربـــــــــــــلت هذا             الدهـــــــــــــر حتى زرعتُهم في فؤادي
وانسياب الفرات كالشـــــــــــــاعر              الهيــــــــــــــمان، لم يجن نشوة الميعاد
فتلوّت به الأحــــــــــــــــــــاسيسُ              وانقــــــــــــــــضَّ هديراً مجنحاً بالعناد
ذكرياتي اخطري فأنت بقـــــــــــايا             الكـــــــــــــأس من عمر نشوةٍ وحصادِ
سوف أحنو عليك أصـــــــــــنعُ من            أســـــــــــرابك الجانحات مائي وزادي
ســـــــــــــــوف أجلوك واحةً تتغنىَّ            فــــــــــــــــــــي ذراها قصائدي بالبعاد
ودروباً أمشي بها مثــــــــقل العينين            بالـــــــــــــــــــــــــزهو من ربيعٍ جوادِ
وطيــــــــــــــوراً أفر فوق جناحيها              بعـــــــــــــــــيداً عن غربتي في بلادي

      *  **

         ذكرياتي لا يخجلنك إن كنــــــــــت               عذاباً حيناً لقلبي الصـــــــــــــــــــــادي
ها هي الذكريات أكمام أزهـــــــــارِ               لديها طبيعةُ الأضـــــــــــــــــــــــــداد
زوديني بالحلو منكِ والــــــــــــــمرِّ              إذا ما اقتربت من أسعـــــــــــــــــادي
بحداءٍ يشدُّ خطوى إلــــــــــى النور              ويذكي على الطموح اتقـــــــــــــــادي
ونعيب يعدو ورائي يمنيـــــــــــــني               بآهات أعرق الحسّـــــــــــــــــــــــــاد
وليالي قد كان يُجبنُ حتى الفـــــــجرِ             عن شل ما بها من سهــــــــــــــــــــاد
تتعاطى فيها وقد أنصت الليــــــــــل              كما تشتهي كؤوس الضــــــــــــــــاد
أو نخوض الأنام هذا جديــــــــــــبٌ              أبكمُ ذهنه وذلك شـــــــــــــــــــــادي
وأعيدي حتى الجباه التي لاحـــــــت             عليها كواكبٌ من ســــــــــــــــــوادي
وعثانينها الطوال وقــــــــــــــــــــد               راحت تغذي العيون بالألـــــــــــــحادِ
وأرفقي بي أن تذكري أمـــــــــــــلاً             نهباً، سيبقى شعراً بلا إنشـــــــــــــادِ
صوري لي النديَّ يزخـــــــــــــــــر               بالآذان سالت لشاعرٍ صيّـــــــــــــــادِ
يتغنى بالشعب حتى تـــــــــــرى ما              ألفاظه قبورَ الأعــــــــــــــــــــــــادي
ويثني بالدين فالأرض لا تــــرضى             بمحـــــــــــــــــــرابها سوى الزهادي
وينادي بكل ما يبعث التصــــــــفيق             والحــــــــــــــــــب من جموع الجراد
ثم ماذا.؟ لا شيء. قد نسي الســــامر         واستوحـــــــــــــــــــش النداء المنادي

                                *   *   *   *

وقد استشارت هذه القصيدة الجميلة الخالدة مشاعر وعواطف أحد أصحابه وكان قد اضطر هو الآخر ليعيش مغترباً مثله في وطنه أيضاً لظروف مماثلة مرت بهما، فكتب هذه الأبيات وأرسلها إله مؤاساة في غربته، وتعبيراً عن وفاءه له في كريم صحبته قائلاً:

      أيها الضامي المشوق للنــــــــــاسِ               إلى المخلصين من أصحــــــــــــابك
أيها النازح الغيب لقد شــــــــــــــق               من تحب طول اغتــــــــــــــــــــرابك
أنت يا من تعيش في وهج الذكـرى              ولم يبق غيرها في وطـــــــــــــــــابك
أنت يا من تشكو جفاف لياليــــــــك              وجدب الحياة من حول بــــــــــــــابك
لم يعد في الحياة شيء يســــــــليك              سوى ما ذكرت من أتــــــــــــــــعابك
رفّة النور لم تعد مثلما كانــــــــــت              شعاعاً يرفّ في أهـــــــــــــــــــــدابك
وهديل الهزار بُحَّ بأذنيـــــــــــــــك              ومات الرنين في أعصـــــــــــــــــابك
هكذا بئست الحياة إذا كـــــــــــــان               فـــــــــــــــــــــراق الحياة جل رغابك
هكذا يا أبا وفاء..؟! لقد أرخـــــص               دمعي دمعٌ جرى بكتــــــــــــــــــــابك
قد شجاني ما أنت فيه وأبـــــــكاني               فما بيَّ مثل الذي هو ما بــــــــــــــــك

****************

 ذقت هذا الفراغ قبــــــــلك أعواماً               وجربت فيه كلَّ المـــــــــــــــــــــآسي
فنفظت اليدين من كل أصحابــــــي              فيه، ومن جميع النـــــــــــــــــــــــاسِ
لم أجد بينهم سوى الحاقد المحموم              قد عضَّ نابه لافــــــــــــــــــــــتراسي
أو صديقاً تمكن الخوف مــــــــــنه               فهو للحبِّ والصداقة نـــــــــــــــــاسي
ويحه معشراً يواسيك حــــــــــــيناً               ثم يرتد آسفاً أن يــــــــــــــــــــــواسي
ثم ينصبُّ مثلما يهبط الصــــــــخرُ              عنيفاً من عاليات الـــــــــــــــــرواسي
فإذا الأرض تحت رجليك نـــــــارٌ               وإذا العيش مثل حـــــــــــــزّ المواسي
كنت أهوى تلك العـــــــثانين حتى               صــــــــــــرت أشتاق عمّتي ومداسي
غير أني بلوتها وتحسّســـــــــــــتُ              وما خـــــــــــــــــــــــانني بها إحساسي
فنفضت اليدين منــــــــــــــها لأني              ما تعودت أن طأطئ رأســـــــــــــــي

                               *   *   *   *

  يا أخي لا يروعك الجدب في الصحراء              ما دمتَ أنت غيـــــــــــــــــــــر جديبِ
فالسماء التي تظلك إن غامـــــــــــتْ              فقد تنتهي بغيثٍ صبيــــــــــــــــــــــبِ
والغــــــــــــــروب الذي تعانيه لابدَّ              لصبح يأتيك بعد الغـــــــــــــــــــروبِ
والشتاء الجديب سوف يخـــــــــــلّي              الحقل يوماً إلى الربيع الخصـــــــــــيب
ولقاء الحبيب أجمل في النفــــــــــس              إذا جاء بعــــــــــــــــــــــد صد الحبيبِ
والليالي العجاف أخصب للفــــــــكر             ولاسيما لفكر الأديـــــــــــــــــــــــــــبِ
والوجوه الصفراء حولك مـــــــــهما              ساء عينيك ما بهــــــــــــــا من شحوبِ
هي أحنى من الوجوه التـــــــــــــــــي              خلفــــــــك في قبحها الأصيل الرهيب

                              *   *   *   *

وحين وصلت هذه الأبيات من صاحبه الذي كان هو الآخر مغترباً مثله في وطنه في حينها، حيث ما كان يتوقع أن يتذكره صاحبه هذا دون بقية أصحابه، لما كان في وهمه عنه من اختلافٍ في الرأي معه في بعض قضايا الصراع الذي حصل في العراق بعد ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958م وذيولها، لذلك فقد أجابه بهذه الأبيات العاطفية وكانت بعنوان:

(اعتذار)

     ألف عذرٍ )أبا أياد(  فقد هاجــــــــــر              من فرط يأسه أحاســـــــــــــــــــــــــي
وتمادى بي الضياع إلـــــــــــــــى أن             رحت أدعو قلبي وألمس رأســــــــــــي
لست أدري بعيني هــــــــــــــــــــــل             حلّت على الصخر أم على جــــــــلاّسي
رقدت كل خصلةٍ فيّ حــــــــــــــــتى             صـــــــــــــــرت أشتاق عمّتي ومداسي
وكتابي ذاك الطــــــــــــــــــويل الذي             كـــــــــــــــــان طريقي إلى لذيـذ النعاس

                              *   *   *   *

       يا أخي لم يزل لشـــــــــــــــعراك ثغرٌ              ضـــــــــــــــــــــاحكٌ يطردُ الكآبة عني
ويعيد الكروم جذلي العنـــــــــــــــاقيد              وقــــــــــــــــــــــد أقفرت بصحراء فني
ويرينــــــــــــــــي ضوء الرجال وقـد              راح كثيرٌ منهــــــــــــــــــــــم يليّل ظني
شعرك العبقري نافذة فيــــــــــــــــحاء             حلّت على شواهق سجـــــــــــــــــــــني
فرأيت العراق أحلامي الخضـــــــراء             حيري به تســــــــــــــــــــــــــاؤل عني
ورفاقي وهم على زورق الظــــــــلماء            هـــــــــــــــــــــــــذا يدلي، وذلك يجني
وطني ههنا يقولون، يا طيــــــــــــــــنُ           تناهب قلبي، ويا مــــــــــــــــوت خذني
ها أنا جالس يبعثر أطفـــــــــــــــــــالي             حقلاً من الزهور بعيــــــــــــــــــــــــني
ولعرسي مرَّ السحــــــــــــــــــــابة قلبٌ            طافح بالمنى ولحـــــــــــــــــــــظّ يغنيِّ
وقبيلي بحرّ من الأذرع السمــــــــــــراء           شيــــــــــــــــــــدت من دراريه حصنى
غير أني أعيش في وحشة المـــــــــأسور          قــــــــــــــــــــــــــد فر منه حتى التمنيّ

                                *   *   *   *

    يا أخي )يا أبا أياد( وهل أبقـــــــــــــــتْ            رياحي غير النداء بدّنـــــــــــــــــــــــي
أي شيءٍ يقتاد قلبـــــــــــــــــــــــــــــي إذا             لاح ضياء من العــــــــــــــــراق بذهني
أصــــــــــــــراع الحناجر الصــــــيد؟! هل             يغفـــــــــــــــر ذنبي إذا سمعت المغنّى
أم هدير المثرثرين أعــــــــــــــــــــــــادوا             بربيع الألفاظ جنـــــــــــــــــــــات عدن
لست أدري ماذا يبركن آلامـــــــــــــــــــي             ويقتادني إلى نارِ حزنـــــــــــــــــــــــــي

أما من هو )أبو أياد( هذا، الذي تذكره وراسله، وأعاد لعينيه )ضوء الرجال)، وقد راح كثير منهم يليل ظنه، بما أكد له بأن الدنيا ما تزال بخير، وأن السماء التي تظله،والغروب الذي يعانيه والليالي العجاف التي تكتنفه، وأن الشتاء الجديب سوف يخلي الحقل يوماً إلى الربيع الخصيب، أنه هو ذلك الصديق الذي كان في وهمهِ عنه أكثر من علامة استفهام، وهو باختصار شاعرنا المغترب مثله  في وطنه عن كثير من أخلاقيات مجتمعه )أبو أياد .. محمد حسين المحتصر).

ولكن أو قبل لكن هذه من هو صاحب تلك الرسالة الشعرية الجميلة الذي عاش فلي النجف، وكانت عمامته قلقةُ على رأسه، وكان كتابه الطويل طريق إلى لذيذ النعاس، إنه الشاعر العربي، الشاعر بكل ما تحمل هذا الكلمة من معنى صديقنا الشيخ محمد الهجري، السعودي  الذي اضطر إلى الهرب بعدئذ من العراق خائفاً وفضل العودة إلى وطنه سالماً بعد انقلاب (عبد السلام عارف) (في ردة تشرين( سنة 1963م.

الحكاية السابعة

وظل الهجري يوالي رسائله إلى أصحابه في الرابطة الأدبية، وغير الرابطة ولم يفتر إحساسه بكونه ظل مغترباً حتى  في وطنه الذي ولد ونشأ  فيه، وكان أن طوّح به قدره فرماه في قرية نائية من قرى صحراء شبه الجزيرة العربية ليعيش مضطراً في ذلك الصقع البعيد ويستبدل بتلك الوجوه الباسمة التي عاشرها في العراق، وجوهاً عصرتها الصحراء حتى استنفذت كل حيويتها ورونقها، وظل يدير طره فيما حوله، فلا يرى غير مبارك الإبل ومعاطنها ويرهف السمع فلا يصل إلى أذنيه غير رغائها وعواء كلابها، وسرعان ما استحالت غربته إلى اغتراب، ووحدته إلى انزواء واستيحاش من الناس، وطافت به الذكرى ذات يوم فحملته على أجنحتها إلى أيامه التي عاشها في العراق بين تلك النخبة الفاضلة من أصحابه وخلاّنه، وهم ينهلون من ذلك السحر اللذيذ، ويتطارحون روائع الشعر، ونوادر الأدب، فراح يقارن بين جوه المترف ذاك وبين هذا الجوّ البدوي الغليظ الذي صار إليه، فلم يتمالك نفسه دون أن يذرف ما بقى في أجفانه من دموع، وما تصاعد في جوانحه من ألم جديد، وإذا به يخط على الرمال مطالع هذه الأبيات ثم ينتقل من مكانه باحثاً عن ورقة ليكتبها فيها ويرسلها إليهم قائلاً:

       يا من تغنت حولهم دجـــــــــــــــــــلةُ            أغصاننا غنّت عليها الكـــــــــــــــــــلابْ
واستعجمت عيوننا فهـــــــــــــــــي لا            تبصرُ إلا جملاً أو ســــــــــــــــــــــــرابْ
ألم تزل هناك في أفقــــــــــــــــــــــكم             شميسةُ ولو لنشـــــــــــــــــــــــر الثياب
وذاك لا أذكر ما اســــــــــــــــــــــــمه            يضيء في الليل زوايا العــــــــــــــتاب
فشمســــــــــــــــــــــنا قد نسيت لونها            وبدرنا يحثو علينا تــــــــــــــــــــــــرابْ
ونحن عدنا صورةً تحتـــــــــــــــــمي             أطلالها بالذكريات العـــــــــــــــــــــــذابْ

وحين وصلت رسالته هذه إلى جمعية الرابطة الأدبية في النجف قرر بعض أعضائها أن يكون الجواب عليها شعراً مشتركاً  فيما بينهم على الطريقة التي تعودوها في المفاكهة والمزاح، ولأنهم كانوا في وضع لا يحسدون عليه بسبب الأحداث التي مرت بالعراق بعيد ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958م وقد نالهم بعض رذاذها شرعوا بكتابة الجواب على الشكل التالي

قال الأول منهم:

      يا من يعاني مثلنا الاغتـــــــــــــــــراب            إليك من صحبتك هذا الجـــــــــــــــواب

وقال الثاني:

      إن كنت ترجو الدفء من شمســـــــــنا            فشمسنا قد اختفت ف يا للضبـــــــــــاب
واحدنا أصبح من يأســــــــــــــــــــــــه             وخوفه يرجف في شهــــــــــــــــــر آب

وشرع الثالث في وصف ما انتهت إليه مجالسهم بعد )المد الثوري( الذي اجتاح الناس يومئذٍ وعصف بكل ما أطلق عليه في ذلك الوقت)مخلفات العهد البائد( وكانوا من جملة ما عصف بهم  في حينها، قال:

      لا تسألن يا شيخ عن حالنـــــــــــــــــا             فحالنا .. إنا أكلنا الجـــــــــــــــــــــراب

ومن الجدير بالذكر أن الهجري هذا قد استطاع أن ينسجم بعدئذ مع محيطه الجديد، ويخضع للأمر الواقع، ويسعى لتركيز نفسه حتى أصبح من الوجوه المرموقة هناك، وأغدقت عليه الحياة بعطائها واتسعت أعماله ومسؤولياته وتحوّل من حال إلى أحسن حال:

ومع ذلك فقد ظل يحن إلى أيامه الأولى كان يرفل بجبته الفضفاضة وهيأته الروحانية متنقلاً من مجلس إلى مجلس، ومن ندوةٍ إلى أخرى، وكأن سيارته (الكاديلاك) ومكتبه الأنيق، وشقته الفاخرة، وتنقلاته المستمرة بين عواصم العالم، لم تساور عنده جلسةً من جلسات الرابطة، وساعةً من ساعات لقاءاته مع أصحابه  فظل يحن إليهم، ويكتب لهم باستمرار ومشيراً إلى هذا المعنى  في نفسه فأراد أحدهم أن يمزح معه، فكتب إليه قائلاً:

   أي  شيءٍ تشتاقه من مآسينـــــــــــــــا           ألم تنسى بعدُ تلك المآســــــــــــــــــــي
ثروةٌ لم تعد تهمك حتــــــــــــــــــــــى            رحت تشتاق )جبّتي ومداســـــــــــــي)
يا له من هوى لدينا غريــــــــــــــــب            ليس تلقاه عند باقي النــــــــــــــــــاس
هكذا نحن ما نزال مجانيــــــــــــــــن             ونبقى نحن للأفــــــــــــــــــــــــــلاس

وتذكرني حكايةُ هذا الزميل بحكاية أخرى حصلت لأديب نجفي آخر، تماثل هذه الحكاية بوجهٍ من الوجوه تقريباً من حيث الشعور بالاغتراب، وعنف الشوق إلى الرابطة، ومجالسها التي كانت مجال تظرفهم ومفاكهاتهم أيضاً وهي:

لقد تهيأ للمرحوم محمود الحبوبي في أيامه الأخيرة أن ينتقل إلى بغداد، ويسكن فيها، ويفارق ذلك المجلس الحبيب إلى نفسه، وكان المتوقع أن يجد في مغربات بغداد ما وجده الشاعر علي بن الجهم من قبله، فينسى أو يتناسى جفاف حياته النجفية، غير أنه على ما يبدو قد عاش هناك مغترباً، لا عيون إلمها، ولا خضر الرياض، ولا الصباحات الندية، ولا مساء بغداد الساحر، كان يعادل عنده حفنة رمل من صحراء النجف، أو يعوضه عن ساعةٍ واحدة من ساعات الرابطة، أو يشيع في نفسه من البهجة ما تشيعه نظرة ذكية خاطفة من عين )أبي موسى( الشيخ اليعقوبي، وصاحبه الجعفري، فكتب إليهما متشوقاً قصيدة جاء فيها هذا البيتان:

    أشهى إليَّ من الرصافة والمــــــــــها             ومن الرياض الخضر صحراء الغري
ومن العيون سواهياً وسواجــــــــــــياً            عينا )أبي موسى(وعين )الجعـــفري

                                                *   *   *   *

وحين وصلت تلك القصيدة إليهم، تلاقفها الحاضرون في الجمعية وأخذوا في تشطيرها وتخميسها، كما هي عادتهم في مثل هذا المناسبات وهذه واحدة من تشطيراتهم عليها:

   أشهى إلى من الرصافة والمــــــــــها              بلدي، ومن فيه، وإن يكُ بربـــــــري
وألذ لي من دجلة وصباحـــــــــــــــها              ومن الرياض الخضر صحراء الغري
ومن العيون سواهياً وســــــــــــواجياً              تــــــــــــــــرنو إليَّ بعين جؤذر أحورِ
عينان لا أبغي بديــــــــــــــــــلاً عنهما              عينا أبي موسى( وعين )الجعفري

الأستاذ: محمد حسين المحتصر

المصدر: مجلة افاق نجفية العدد(1)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.