الثلاثاء , 23 أبريل 2024
الرئيسية » علوم وأدب » رسائل الشعائر الحسينية القسم – 2 –

رسائل الشعائر الحسينية القسم – 2 –

رسائل الشعائر الحسينية القسم – 2 –

رسائل اُلّفت حول هذا الموضوع:

تضمّ حوزة النجف الأشرف – التي أسّسها الشيخ الطوسي (ت٤٦٠هـ)، قبل ألف عام تقريباً – علماء كبار، ومراجع دين أتقياء، وكتّاباً لامعين، يصلون الليل بالنهار في عمل دؤوب، لا يعرفون الملل الضجر، همّهم الأوّل والأخير مرضاة اللّه‏ سبحانه وتعالى، وذلك عبر المحافظة على الدين الإسلامي الحنيف وصونه عن أيّ تغيير يطرأ عليه، أو أيّ أفكار دخيلة تصل إليه.

وما إن وصلت إلى النجف الأشرف رسالة «التنزيه» حتّى انقسم الكتّاب فيها إلى معارضين وهم الأكثر، ومؤيدّين وهم القلّة القليلة، فألّف بعضهم رسائل ردّاً على رسالة الأمين، يأتي الحديث عنها مفصّلاً قريباً إن شاء اللّه‏ تعالى.

وأمّا الكتّاب المؤيّدون للسيّد الأمين – وكانوا قلّة قليلة – فقد واجهوا موجةً عارمةً ملتهبة من كلّ حدبٍ وصوب، أدّت إلى ابتعاد بعضهم عن الأنظار خوفاً من الناس.        

ممن كتبوا وردوا على هذا الموضوع:       

(1) المواكب الحسينيّة…..للشيخ عبد اللّه‏ المامقاني

(١٢٩٠هـ – ١٣٥١هـ)

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم

وله الحمد، والصلاة والسلام – على أشرف الخلق محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

السؤال: ما يقول مولانا حجّة الإسلام والمسلمين – أيّده اللّه‏ في العالمين ودام ظلّه العالي – في المواكب المحزنة التي اعتاد الجعفريّون اتخاذها في العشر من المحرّم تمثيلاً لفاجعة ألطف، وإعلاماً بما انتهك فيها من حرمة الرسول صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله‏ في عترته المجاهدين عليهم‏السلام بالتمثيل للشهداء وجهادهم، وما جرى عليهم وعلى الأطفال من القتل والقسوة، بإعلانهم الحزن لذلك الفادح بكافّة أنواعه:

من ندب، ونداء، وعويل، وبكاء، وضرب بالأكفّ على الصدور، وبالحديد على الرؤوس والظهور، إلى غير ذلك ممّا هو معلوم ومشهور، منضمّاً إلى بروزهم بهيئاتهم المعروفة وحالاتهم الموصوفة، فهل هذه الأعمال مباحة في الشرع الأزهر أم لا؟ أفتونا مأجورين، مع بيان المستند ؛ ليكون حجّة على من أنكر أو عاند؟

الجواب: قد سُئلتُ عن هذه قبل شهر تقريباً، فقلت في الجواب: لا ينبغي الشبهة في جواز الأُمور المذكورة في السؤال، بل وإدماء الرأس بالسيف، بل لو أفتى فقيه متبحّر بوجوب ذلك كفاية في مثل هذه الأزمنة – التي صمّم جمع فيها على إطفاء أنوار أهل البيت عليهم أفضل الصلوات والسلام – لم يمكن تخطئته.

نعم، يجتنب الرجل لبس لباس المرأة على وجه لا يتميّز عنها، وبالعكس على الأحوط، ومن ضرب آلات اللهو على الكيفيّة التي تضرب بها لّلهو والطرب، لا على الكيفيّة المرسومة في العزاء الشائعة، واللّه‏ العالم. انتهى.

وحيث إنّك الآن طلبت بيان المستند في ذلك، أقول مستمدّاً من وليّ التوفيق:

إنّه قد تطابق العقل والشرع، ونطق الكتاب(1) والسنّة(2) من الفريقين بإباحة كلّما لم يدرك العقل فيه قبحاً ولا ضرراً، أو لم يرد فيه من المولى نهي ولا تحريم،

____________

1- قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً». البقرة ٢ : ٢٩.

2- من لا يحضره الفقيه ١: ٣١٧ الحديث ٩٣٧ باب «استحباب البكاء من خشية اللّه‏»، وفيه: عن الصادق عليه‏ السلام أنّه قال: «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».

وفيه أيضاً ٣: ٣٤١ الحديث ٤٢٠٨: قال أبو عبد اللّه‏ عليه‏ السلام: «كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

والسنن الكبرى للبيهقي ١٠: ١٢ باب «ما لم يذكر تحريمه…» وفي السنن الكبرى أيضاً: عن أبي الدرداء رضي اللّه‏ عنه، رفع الحديث قال: «ما أحلّ اللّه‏ في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من اللّه‏ عافيته، فإنّ اللّه‏ لم يكن نسياً، ثمّ تلا هذه الآية «وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» مريم ١٩ : ٦٤ ».

                  

بل على ذلك إجماع العقلاء وأهل الملل والأديان، ومن يظهر منه الخلاف بادئ بدئ فهو بعيد التأمّل، منازع في الصغرى أو مشكّك فيه، كما شرحناه سابقاً مستوفىً في محلّه.

ومن البيّن عند كلّ محيط بالأخبار، متطلّع في كلمات فقهائنا الأخيار، عدم ورود آية، ولا رواية ولو ضعيفة أو مرسلة، بحرمة تشبيه شخص بشخص وإيجاد مثال قضيّة شخصيّة سيّما إذا كان لغرض عقلائي.

وهذه زِبرُ(1) الأوائل والأواخر، وكتب الأخبار من الفريقين، ليس فيها مَن منع ذلك عين ولا أثر. ومن ادّعى ذلك فليأتِ بكلام فقيه واحد أو رواية واحدة إن كان صادقاً.

وكيف؟! وأوّل من أسّس أساس تشبيه وقعة ألطف العلاّمة المجلسي قدس‏سره، الذي هو أطلع العلماء بالأخبار والآثار وكلمات الفقهاء الأبرار، وكلّ من أتى بعده من علماء البلاد أمضى قوله وفعله، ولم ينكر ذلك عليه، ولا على المرتكبين له.

فبان أنّ المنع من التشبيه ممّا لا دليل عليه، وأنّ مقتضى الأصل جوازه، ومَن منع منه مُطالب بإقامة دليل عليه مُخرّج عن الأصل، ودون ذلك خرط القتاد(2) ؛ لأنّ غاية ما يتصوّر تمسّكه به – تمسّك الغريق بالحشيش – أمور وهميّة:

أحدها: أنّ ذلك فعل عبث.

____________

1- الزِبْرُ: الكتاب، والجمع زُبُورً. الصحاح ٢: ٦٦٧ «زبر».

2- خرطت العود وأخرطه خرطاً: قشرته. ، وهو أن تقبض على أعلاه ثمّ تمرّ يدك إلى أسفله. وفي المثل: «دونه خرط القتاد». الصحاح ٣: ١١٢٢

والقتاد: شجر له شوك. الصحاح ٢: ٥٢١ «قتد».

         

وضعفه ظاهر عند أولي البصائر:

أمّا أوّلاً: فلأنّه لا دليل على حرمة كلّ عبث.

وأمّا الثاني: فلأن عدّ ذلك عبثاً يلحق قائله بأهل السوداء، ضرورة أنّ من أعظم ما تداول بين العقلاء عند إرادة إفهام شخص كُنه أمر معقول أو منقول، وهو تجسيم ذلك المعقول أو المنقول، حتّى يسارع الطرف الآخر إلى تلقّيه بالقبول، ولا تناله يد الإنكار من معاند أو مغفول.

وذلك أنّ مَن عدا نادر من كملي العقلاء لا يصلون إلى حقيقة الأمر إلاّ بالإحساس بالبصر، ولذا صار من السائر من المثل أنّه: «ليس البيان كالعيان» من حيث إنّ القوة الباصرة أقوى القوى المدركة، فكلّما أراد إفهامه على حقيقته لبسوه لباس التشخّص الخارجي وأخرجوه إلى برج العيان، حتّى يسهل للعموم فهمه وإدراكه والنيل إلى كنهه وعمقه.

بل اللّه‏ سبحانه لمّا أخبر آدم عليه‏ السلام بوقعة الطّفّ، وأراد إفهامه حقيقتها، صوّر له ثالاً(1).

___________

1- بحار الأنوار ٤٤: ٢ الحديث ٤٤ باب «إخبار اللّه‏ تعالى أنبياءه ونبينا صلى اللّه‏ عليه وآله شهادته» وفيه: وروى صاحب الدر الثمين في تفسير قوله تعالى: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ»البقرة(٢:٣٧) أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمة عليهم السلام، فلقّنه جبرئيل قل: «يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ علي، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان».

فلّما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: «يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي»؟

قال جبرئيل: ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال: «يا أخي وما هي»؟

قال: يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصر ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه واقلّة ناصراه، حتّى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان فلم يجبه أحد إلاّ بالسيوف، وشرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحله أعداؤه، وتشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنّان، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى.

 

وكذلك اللّه‏ سبحانه لمّا أراد ستر جسد سيّدة النساء عليها السلام، أمر الملائكة صوّروا لها صورة النعش، فأوصت أمير المؤمنين باتّخاذه لها قائلة: «إني رأيت الملائكة صوّرت لي صورته»(1).

وكذلك لمّا ضجّت الملائكة إلى اللّه‏ سبحانه بالبكاء والنحيب «وقالوا: إلهنا وسيّدنا أتغفل عمّن قتل صفوتك، وابن صفوتك، وخيرتك من خلقك؟! أوحى اللّه‏ عزّ وجلّ إليهم: قرّوا ملائكتي، فوعزّتي وجلالي لأنتقمنّ منهم ولو بعد حين.

ثمّ كشف اللّه‏ عزّ وجلّ عن مثال من ولد الحسين عليه‏ السلام، فسرّت الملائكة بذلك، فإذا الحجّة المنتظر عجلّ اللّه‏ تعالى فرجه قائم يصلّي، فقال اللّه‏ عزّ وجلّ: بذلك القائم أنتقم منهم».

____________

1- روضة الواعظين: ١٥١ «مجلس في ذكر وفاة فاطمة الزهراء» وفيه:

قال أمير المؤمنين عليه‏السلام: «أربعة ليس إلى فراقهن سبيل: أمامة أوصتني بها فاطمة، ثمّ قالت:أوصيك يا بن عم أن تتخذ لي نعشاً فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته».

 

كما نصّ على ذلك مولانا الباقر عليه ‏السلام في وجه تسمية مولانا الحجّة عجل اللّه‏ تعالى فرجه بالقائم، في خبر أبي حمزة الثمالي المروي في العلل(1).

وكذلك اللّه‏ سبحانه لمّا أراد أن يُري الملائكة عبادة عباده له، خلق لكلّ مؤمن مثالاً في العرش، يركع المثال بركوعه، ويسجد بسجوده، فتراه الملائكة ويصلّون عليه، ويستغفرون له.

إلى غير ذلك ممّا يقف عليه الخبير بالأخبار والسير.

فالتمثيل والتشبيه ليس بأمر حادث مبتدع، بل هو أمر عقلائي قديم متّبع، يرتكبه العقلاء لغاية جعل المعقول والمنقول محسوساً، ليرسخ فوراً في ذهن من رآه.

وبالجملة، فالغاية العقلائيّة العظيمة في صنع شبيه ما جرى بالطفّ، هو تجسيم الواقعة لينال عموم الناس إلى حقيقة الحال، فيحزنوا ويبكوا، ليؤجر الباكي ببكائه، ومحدّث الشبيه بإبكائه، إذْ قد ورد في الصّحاح والمستفيض بل المتواتر من أخبار الفريقين، بكاء النبيّ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله‏ وسلم لمصاب الحسين عليه‏السلام عند إخبار جبرئيل به، وبكاء علي عليه‏ السلام وفاطمة عليها السلام معه لذلك(2).

___________

1- لاحظ علل الشرائع ١: ١٦٠ باب ١٢٩.

2- كامل الزيارات: ١٢١ باب ١٦ «ما نزل به جبرئيل عليه‏ السلام في الحسين بن علي أنّه سيقتل»

وفيه أيضاً: ١٢٥:

دخلت فاطمة عليها السلام على رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم وعيناه تدمع، فسألته: مالك؟

فقال: إنّ جبرئيل عليه‏ السلام أخبرني أنّ أمّتي تقتل حسيناً، فجزعت وشقّ عليها، فأخبرها بمن يملك من ولدها، فطابت نفسها وسكنت».

والمستدرك على الصحيحين ٤: ١٩ وفيه:

حدّثني سلمان قال: دخلت على أُمّ سلمة وهي تبكي، فقلتُ ما يبكيك؟

قالت: رأيت رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله‏ وسلم في المنام يبكي وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: مالك يا رسول اللّه‏؟

قال: «شهدت قتل الحسين آنفاً».

ومسند أحمد ٣: ٢٤٢ ومجمع الزوائد ٩: ١٩٠ وصحيح ابن حبّان ١٥: ١٤٢ والمعجم الكبير للطبراني ٣: ١٠٦ وموارد الضمآن ٧: ١٩٨ والإكمال في أسماء الرجال: ١٧٢ واللفظ لمسند أحمد:

وبكاء أمير المؤمنين عليه‏السلام عند مروره بأرض كربلاء في بعض حروبه بعد النبيّ صلى ‏الله‏عليه ‏و‏آله‏ وسلم(1).

____________

1- الإرشاد ١: ٣٣٢ وفيه:

 

وكذا ورد في أخبار الفريقين: «أنّ من بكى للحسين عليه ‏السلام(1)، أو أبكى أو تباكى وجبت له الجنّة»(2).

____________

1- كامل الزيارات: ٢٠١ الباب ٣٢ «ثواب من بكى على الحسين بن علي عليه ‏السلام» وفيه:

2- الأمالي للشيخ الصدوق: ٢٠٥ وفيه:

 

وإنّ «من ذُكر الحسين عليه‏ السلام عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّه‏ تعالى، ولم يرض له بدون الجنّة»(1).

إلى غير ذلك من الأخبار التي لا يسعنا هنا استقصاءها، وفي ما سطّرناه كفاف لمن كان له إنصاف، ومن لا إنصاف له لا يدع الجحد والخلاف.

ثمّ إنّ في التشبيه المذكور واستطراق الشوارع به فوائد أُخر عقلائيّة شرعيّة مترتّبة عليه:

فمنها: ملئ قلوب عموم الناس بوقوع هذه الفاجعة العظمى، حتّى لا يبقى للإنكار مجال ضرورة.

إنّ الثبت في الكتب إنّما ينفع في إلزام العلماء، وأمّا العامّي فليس له من الكتب حظّ، فلولم يكن للوقعة شبيه في الخارج نالتها يد الإنكار، كما أنّ وقعة الغدير نالتها يد الإنكار من عموم العامّة، مع أنّ كتبهم بنقلها وروايتها مشحونة

____________

1- ثواب الأعمال للصدوق: ١١١

 

ولقد عثرت بعد يسير تتبّع في كتب أهل السنّة والجماعة، فضلاً عن كتبنا، على أكثر من أربعين رواية متكفّلة لنقل وقعة الغدير(1).

ولو كان للوقعة مثال في الخارج في كلّ سنة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام، لكانت القضيّة إلى الآن مسلّمة عند عموم الناس، ولم يسع أحّد إنكارها.

____________

1- مسند أحمد ١: ٨٤ و١١٨ و١١٩ و١٥٢ و ج٤: ٢٨١ و٣٧٢ و ج٥: ٣٤٧ و٣٦٦ و٣٧٠ وسنن

ابن ماجة ١: ٤٥ وسنن الترمذي ٥: ٢٩٧ وفضائل الصحابة للنسائي: ١٤ والمستدرك على الصحيحين ٣: ١١٠ و١١٦ و٣٧١ و٥٣٣ ومعجم الزوائد ٧: ١٧ و ج٩: ١٠٣.

ولقد أنتجت التشبيهات في بلاد إيران وقفقاسيا والهند وغيرها تشرّف جمع منهم إلى الإسلام، ونذر الكتابيّين والوثنيّين وعبدة النار والبقر لأهل البيت عليهم ‏السلام، ودفعهم في كلّ سنة أموالاً خطيرة إلى الشيعة ليصرفوها في عزاء سيّد الشهداء أرواحنا فداه.

ولقد نقل لنا متواتراً منذ نشأنا إلى الآن، وشاهدنا في بعض أسفارنا بأبصارنا، أنّ الكفّار – حتّى الوثنيّين منهم – عند مرور التشبيهات في الشوارع يقفون، ويكشفون رؤوسهم احتراماً، ويبكون بمقتضى الرقّة البشريّة، بل يضربون أحياناً بالأيدي على الرؤوس ضرباً خفيفاً.

إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة والشعائر الفخيمة التي تجعل الفعل حسناً ممدوحاً، بعد عدم ورود منع من المولى فيه، ويجزئ اللّه‏ سبحانه منشئ التشبيه،عن أنفسهم، وعنّا، وعن الإسلام خيراً.

أمّا عن أنفسهم ؛ فلإبكائهم الناس واستحقاقهم لذلك الأجر الجزيل.

وأمّا عنّا فبحملهم ما لولاهم لكنّا مكلّفين بتحمّله لتحصيل المقاصد المزبورة.

وأمّا عن الإسلام ؛ فلتشييدهم له، وترغيبهم الكفّار فيه.

 

ثانيها: أنّ ذلك موجب لهتك حرمة رؤساء الدين وأئمّته، وتشبيه الرعيّة بهم.

وأنت خبير بوضوح فساده ؛ ضرورة أنّه ليس الغرض هو تشبيه النفس بالنفس، والشخص بالشخص، بل هو تشبيه محض للصورة والزيّ واللباس ؛ لتذكار أحوالهم، وللتأثرّ ممّا جرى عليهم.

فهو نظير تشبيه أمير المؤمنين عليه‏السلام بالأسد – الذي هو حيوان مفترس –

____________

1- في هامش النسخة المطبوعة ورد: «الحجلة، محركة، واحدة حجال العروس: وهي بيت يزيّن بالثياب والأسرّة والستور، ومنه الحديث: عقولهم كعقول ربّات الحجال». مجمع البحرين ١: ٤٦٥ «حجل». انظر: الكافي ٥: ٦ الحديث٦ باب «فضل الجهاد» وفيه: «يا أشباه الرجال ولا رجال، وحلوم الأطفال وعقول ربّات الحجال، لوددتُ أنّي لم أركم ولم أعرفكم».

 

تارة،وباليعسوب(1) أخرى، وبالزناد القادح(2) – الذي هو جماد – ثالثة، وبالشجرةرابعة(3)، وبالسيف(4) – هو حديد خامسة، وتشبيه الأتقياء بالخيل

____________

1- المعجم الكبير للطبراني ٦: ٢٦٩ وفيه:

واليعسوب: ملك النحل، ومنه قيل للسيّد: يعسوب قومه. الصحاح ١: ١٨١

2- العقد النضيد والدر الفريد: ١٣٤

3- كنز العمال ١١: ٦٠٨ الحديث ٣٢٩٤٣

«أنا وعلي من شجرة واحدة والناس من أشجار شتّى».

4- الأمالي للشيخ الصدوق: ٦١ وفيه:

 

المحجّلة(1)، كلّ ذلك بلحاظ صحيح، فأين التشبيه المبحوث عنه من الهتك المنهيّ عنه؟!

نعم، الإنصاف إنّ جعل المتجاهر المعروف بالفسق شبيه هؤلاء الأطهار، والمعلنة بالفسوق شبيهة الطاهرات، هتكٌ يجب اجتنابه بجعل شبيههم وشبيههنّ الأخيار أو مجهول الحال أقلاً، وجعل المعلن بالفجور شبيه شمر وحرملة وسنان ونحوهم، والمعلنة بالفجور شبيهة نساء الأعداء.

بل الأحوط لزوماً ترك شبيهة حرم أهل الطفّ أصلاً، أو تشبيه رجل بهنَّ بوضع عباءة على رأسه، وستره وجهه بها.

وتوهّم كونه مشمولاً لما دلّ على حرمة تشبّه الرجال بالنساء(2) ولبسهم لباسهن، لا وقع له ؛ لأنّ المراد بالتشبيه الممنوع منه إنّما هو التشبيه التام، بحيث لا يتميّز الرجل عن المرأة، ولا المرأة عن الرجل بوجه ؛ لأداء ذلك إلى مفاسد عظيمة

___________

1- روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ١٠٥ وفيه:

والغرّة، بالضم: بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم. الصحاح ٢: ٧٦٧.

2- روضة الواعظين: ٣١٠ وفيه:

وروي أنّ رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم لعن المشبّهين من الرجال بالنساء، والمشبّهات من النساء بالرجال.

                  

ولعلّ ذلك ونحوه هي أسباب المنع من تشبّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، فتحريم التشبّه بهما إنّما هو للمنع من هذه النتائج التي لا تحصل إلاّ بالتشبّه التام الذي لا يتميّز به عمّن شبّه نفسه به.

وأين ذلك، وكيف هو من لبس الرجل إزاراً أو عباءة على رأسه، فوق ثياب الرجال، وستر وجهه، وركوبه الناقة العريانة ؛ لتجسيم الظلم الوخيم الصادر من أعداء الدين لغرض إبكاء الناس والفوز بالأجر، مع علم الناس بأنّه رجل؟!

ثالثها: أنّ في التشبيه هتكاً لهم من جهة أُخرى، وهي: أنّ إظهار ما جرى عليهم من الذلّ والصغار والاستهانة والاستحقار هتك لهم عليهم السلام.

وفيه: أوّلاً: أنّه استفاضت الأوامر الأكيدة في الأخبار بذكر ما جرى عليهم من الذلّ والصغار والهتك والإضجار في المجامع الكبار، والتفجّع عليهم،بل العقل السليم يقضي بحسن إشاعة ما جرى عليهم، بل لزومه ؛ وذلك أنّ من ضروري مذهبنا أنّ تحمّلهم لما جرى عليهم لم يكن لعجزهم عن الدفع ضرورة، وأنّهم بسبب بلوغهم في العبادة والإطاعة إلى درجة، صاروا بها مصداق قوله سبحانه: «عبدي أطعني تكن مثلي إذا قلت لشيء كن فيكون»(2).

___________

1- الكافي ٤: ٥٨٣ الحديث ١١ باب «فضل الزيارات وثوابها» وفيه:

عن معاوية بن وهب: استأذنت على أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام… فوجدته في مصلاه… فسمعته وهويناجي ربّه ويقول: «… وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا».

والأمالي للشيخ المفيد: ٣٤١

والعوالم في ترجمة الإمام الحسين عليه ‏السلام للشيخ عبد اللّه‏ البحراني

2- إرشاد القلوب للديلمي ١: ١٥٦ , وبحار الأنوار ٩٠: ٣٧٦, وشجرة طوبى للشيخ محمّد مهدي الحائري ١: ٣٣ ا لمجلس الثاني عشر.


وغير ذلك من الحكم، لزم عقلاً إفشاء ما جرى عليهم، حتّى يعمّ التسليّ لأهل المصائب، ويلتفت عموم الناس إلى ما ينبغي تحمّله في مقام إطاعة الربّ تعالى وتقدّس، فإشاعة ما جرى عليهم من الذلّ والصغار، وتحمّلهم في مقام العبوديّة، مع القدرة على الدفع، ما يعجز عن تحمّله أواسط البشر، لازمة عقلاً فضلاً عن النقل.

وبعبارة أُخرى: علّة وقوع هذه الفاجعة هي العلّة في لزوم إشاعتها.

وثانياً: أنّه لو تمّ ما ذكر وجهاً للإشكال، للزم المنع من إظهار ما جرى عليهم حتّى باللسان نظماً ونثراً، مع أنّ جواز ذلك من ضروريّات المذهب.

رابعها: أنّ تشبيه المؤمن الموحّد بالكافر الملحد شمر ونحوه لا يجوز لوجهين:

أحدهما: ما ورد من أنّ «من تشبّه بقوم فهو منهم»(1).

وفيه: أوّلاً: أنّه ليس المبحوث عنه من التشبّه الممنوع منه ؛ لأنّه عبارة عن التشبّه، مع حبّ أن يعدّ من صنف المشبّه به طوعاً ورغبة واستحساناً لشيمه وعمله، كلبس المتفرنجين لباس الإفرنج، والتزامهم بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم وشيمهم.

فحال الخبر المانع من التشبّه حال ما ورد مستفيضاً: من أن «من أحبّ قوماً حُشر معهم، ومن أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم»(2).

وأين ذلك من التشبّه بعدوّ الدين كارهاً له، مبغضاً إيّاه، لغاية الإبكاء رجاء للأجر والمثوبة؟!

ولو سلّم تنزّلاً ومماشاة صدق التشبّه عليه، وقبول سنده ودلالته وعمومه، فلا شكّ في أنّ عمومات الإبكاء أرجح منه سنداً ودلالة واعتضاداً.

ثانيهما: أنّ فيه إذلالاً للنفس واستهانة، وهو حرام.

وفيه ما في سابقه، مضافاً إلى منع حرمة مثل هذا الإذلال الذي فيه غرض صحيح عقلائي، وهو الإبكاء ونحوه، بل يمكن دعوى أنّ هذا الإذلال من أعظم المجاهدات ؛ لأنّه يشبّه نفسه بأبغض الخلق إليه طلباً لمرضاة اللّه‏ سبحانه، واللّه‏ أجلّ من أن يحرم من الأجر من أذلّ نفسه لأجله.

خامسها: أنّ التشبّه سبب لسخرية أهل سائر الأديان والمذاهب على الشيعة، فلا يجوز.

____________

1- عوالي اللئالي ١: ١٦٥ الحديث ١٧٠ الفصل الثامن، وسنن أبي داود ٢: ٢٥٥ الحديث٤٠٣١ باب «في لبس الشهرة» ومجمع الزوائد للهيثمي ١٠: ٢٧١ باب «من تشبه بقوم فهو منهم».

2- بشارة المصطفى: ١٢٦.

وفيه أوّلاً: أنّه دعوى محضة تشهد بفسادها البديهة، ضرورة أنّ أهل سائر المذاهب من فرق الإسلام لا يعقل تمسخرهم بذلك ؛ لأنّ السخرية لا تكون إلاّ من المبغض، ولا يعقل بغضهم لسيّد شباب أهل الجنّة ؛ فإنّهم وإن لم يقولوا بإمامته إلاّ أنّهم يشاركونا في القول بأنّه سبط نبيّهم صلوات اللّه‏ عليه، ولا يعقل أن يكونوا أقلّ من النّصارى الذين كانوا يعظّمون رسول ملك الروم ؛ لكونه من حوافد داود(1).

وقد شحنت كتب أهل السنّة والجماعة بالأخبار الصحاح عن النبيّ صلى الله          عليه و‏آله‏ وسلم

____________

1- مثير الأحزان لابن نما الحلي: ٨٢ وفيه:

عن أبي الأسود محمّد بن عبد الرحمن قال: «لقيني رأس الجالوت بن يهوذا فقال: واللّه‏ إنّ بيني وبين داود سبعين أباً، واليهود تلقاني فتعظّمني، وأنتم ليس بين ابن النبيّ وبينه إلاّ أب واحد وقد قتلتم ولده؟!

 

الناطقة بالملازمة بين حبّ النبيّ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله‏ وسلم وحبّ الحسين عليه‏ السلام(1) ؛ بأنّه سيّد شباب أهل الجنّة(2).

وببكائه صلّى اللّه‏ عليه وآله لمصاب الحسين عليه ‏السلام(3)، وجعله صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله ‏وسلم بأمر من اللّه‏ سبحانه مودّته، ومودّة أبيه، وأُمّه، وأخيه، وأولاده، أجر الرسالة بنصّ الآية(4)، وروايات الفريقين(5).

____________

1- مسند أحمد ٢: ٢٨٨، وفضائل الصحابة للنسائي: ٢٠ والمستدرك ٣: ١٦٦ وفيها:

عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه‏ صلى اللّه‏ عليه وسلم: من أحبّهما فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني، يعني حسناً وحسيناً».

وسنن ابن ماجة ١: ٥١ الحديث ١٤٣ فضل الحسن والحسين وفيه:

«من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».

2- المستدرك على الصحيحين ٣: ٣٨١ وفيه:

عن حذيفة عن النبيّ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله ‏وسلم قال: «أتاني جبرئيل عليه ‏السلام فقال: إنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، ثمّ قال لي رسول اللّه‏ صلى عليه وآله وسلم: غفر اللّه‏ لك ولأمّك يا حذيفة».

ولاحظ مسند أحمد ٥: ٣٩١ – ٣٩٢ وفضائل الصحابة للنسائي: ٥٨ ومجمع الزوائد للهيثمي ٩: ١٨٣ والمصنّف لابن أبي شيبة ٧: ٥١٢ الحديث ٥ ، والأمالي للشيخ المفيد: ٢٣ الحديث ٤ المجلس الثالث، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٣: ١٦٤ باب «إمامة السبطين».

3- كامل الزيارات: ١٢٥ الحديث ٨

4- وهو قوله تعالى: «قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» الشورى ٤٢

5- الكافي ١: ٤١٣ الحديث ٧ , والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٧٢

 

فكيف يعقل سخريّتهم لذلك، وهم محبّون له، ومبغضون لعدوّه؟!وكيف يعقل بغضهم له؟!مع أنّ الإمام الشافعي – الذي هو أحد أعمدة مذهبهم – قد بالغ في حبّهم نظماً ونثراً في وقائع عديدة فمنها:

ما نقله البيهقي عن الربيع بن سليمان أحد أصحاب الشافعي، قال: قيل للإمام الشافعي رحمه اللّه‏: إنّ أُناساً لا يصبرون على سماع منقبة أو فضيلة لأهل البيت الطيّبين عليهم‏ السلام، فإذا رأوا واحداً منّا يذكرها، يقولون: هذا رافضيّ، فأنشأ الشافعي:

إذا في مجلس ذكروا عليّاً               وسبطيه وفاطمة الزكيّة

فأجرى بعضهم ذكراً سواه             فأيقن أنّه لســــــلقلقيّة(1)

____________

1- السلقلق، كسفرجل، والسلقلقية: هي المرأة تحيض من دبرها. كما صرّح به في

القاموس المحيط للفيروز آبادي ٣: ٢٤٦ «سلق».ولسان العرب ١٠: ١٦٣ «سلق».وانظر تاج العروس ١٣: ٢٢٢ «سلق».

        

إذا ذكروا عليّاً أو بنيــــــــه            تشاغل بالروايات العليّـــــــة

وقال تجاوزوا يا قوم هــــذا             فهذا من حديث الرافضيـــــة

برئت إلى المهيمن من أناس             يرون الرفض حبّ الفاطميّة

على أل الرسول صلاة ربي           ولعنته لتلك الجاهليــــــــــّة(1)

ولئن اتّفق بغض نادر منهم للحسين عليه ‏السلام، فهو بمقتضى الأخبار المرويّة من طرقهم صحيحاً – فضلاً عن طرقنا – ابن زنا أو…، بل هو كافر ملحد، بمقتضى

____________

1- نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ١١١

وفي ينابيع المودّة ٣: ٩٧ – ٩٨ باب ٦٢.

 

أخبار الفريقين الناطقة بأنّ من أبغض حسيناً فقد أبغض رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم(1)، فإنّ مبغض الرسول صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم كافر، فكذا مبغض الحسين عليه‏السلام.

وورد أيضاً في أخبار الفريقين صحيحاً مستفيضاً قول النبيّ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله ‏وسلم: «حسين منّي وأنا من حسين»(2).

وعليه فمن أبغض الحسين فقد أبغض الرسول الأكرم صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله ‏وسلم. وقوله: «لا يبغض أهل هذا البيت إلاّ منافق»(3) بضميمة قوله سبحانه: «إِنَّ

___________

1- كمال الدين وتمام النعمة: ٢٥٩ – ٢٦٠ الحديث ٥ الباب ٢٤

والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٦٦

2- الإرشاد ٢: ١٢٧ والعمدة لابن البطريق: ٤٠٦ الحديث ٨٣٩ وذخائر العقبى: ١٣٣ ومسند

أحمد ٤: ١٧٢ وسنن الترمذي ٥: ٣٢٤ الحديث ٣٨٦٤، والمستدرك على الصحيحين ٣: ١٧٧ وتحفة الأحوذي ١٠:١٩٠ والمصنّف لابن أبي شيبة ٧: ٥١٥ .

3- كفاية الأثر للخزاز القمي: ١١٠ وذخائر العقبى: ١٨ وينابيع المودّة للقندوزي ٢: ١١٦ وفيها:عن رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله ‏وسلم: «لا يحبنا أهل البيت إلاّ مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلاّ منافق شقي».

                  

الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»(1).

وبالجملة، فنسبة البغض للحسين عليه ‏السلام إلى أهل السنّة والجماعة بهتان عليهم أجارنا اللّه‏ تعالى منه، وكيف ينسب ذلك إليهم، وهم لا يزالون ينذرون الأموال والتحف لأبي الفضل العبّاس عليه ‏السلام، الذي هو أحد خدّام الحسين؟!

ولقد كان يأتينا قبل الحرب العمومي من اسلامبول من أهل السنّة والجماعة، بتوسط تجار الشيعة نذورات من النقود ومصوغات الذّهب والفضّة لأبي الفضل عليه‏ السلام، لنصرفها عليه، ولعمري إنّي طول عمري ما لاقيت سنيّاً وفتشته إلاّ وجدته محبّاً لأهل البيت عليهم‏ السلام.

وثانياً: إنّ من سخر من أهل السنّة والجماعة على التشبيهات، ننقض عليه تارة بمجالس ذكرهم، وأخرى بما تداولوه من حمل هودج أُمّ المؤمنين عائشة في كلّ سنة من مصر إلى الحجّ(2)، وزيارة النبيّ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله‏ وسلم، وصرف أموالاً خطيرة في ذلك.

____________

1- النساء ٤ : ١٤٥.

2- لاحظ: «أزمة سياسية بين مصر والسعودية بسبب محمل الحجّ» بقلم إبراهيم كامل:

         

وكذلك حملهم لشبيه هودج النبيّ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم من الشام إلى الحجّ(1).

___________

1- في كتابه «دمشق في مطلع القرن العشرين» يوضح «أحمد حلمي العلاّف» ذلك.


فحيث لا مرض في قلوبنا لم نكن نسخر بفعلهم هذا، فمن سخر منهم بتشبيهات الطفّ، فهو مريض لا عبرة بقوله وفعله.

وكذا من سخر من الكفّار، ننقض عليه بما يرتكبونه في عيد الصليب(1).

وثالثاً: إنّ استهزاء أعداء الدين بعمل حسن دينيّ لا يسلب حُسن العمل، ولا يجعله قبيحاً، ولا يلزم تركه، كما أنّ نبح الكلاب لا يمنع من سير القافلة عند العقلاء، وإلاّ للزم الرسول الأكرم صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله‏ وسلم أن لا يظهر نبوّته لسخرية أبي جهل، وأبي لهب، وأمثالهما به، ولزم أن لا يصلّي أحد عند بعض المستهزئين بها من الكفّار والمرتدين.

ولئن كان التمسخر على التشبيه موجب للمنع منه، للزم المنع من مطلق إقامة العزاء والبكاء، وذكر أسماء النساء على المنابر؛ لأنّ من يسخر بالتشبيه يسخر بذلك كلّه.

ولقد اعترض منافق على مؤمن في ذكر أسماء حرم الطفّ على المنابر؟

فأجابه بقراءة قوله سبحانه: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا…»(2) الآية، فإنّه لو كان ذكر أسماء الحرم قبيحاً لمّا سمّى اللّه‏ تعالى مريم في كتابه المجيد.

سادسُها: اقتران التشبيهات بضرب آلات الّلهو من الطبل والمزمار ونحوهما.

____________

1- الكامل في التاريخ ١: ٣٢٩ – ٣٣٠ وفيه:

«ثمّ ملك قسطنطين المعروف بأمه هيلاني في جميع بلاد الروم…

وفي السنة السابعة من ملكه سارت أُمّه هيلاني الرُّهاوية، كان أبوه سباها من الرُّهاء،فأولدها هذا الملك، فسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أنّ المسيح صلب عليها، وجعلت ذلك اليوم عيداً، فهو عيد الصليب، وبنَت الكنيسة المعروفة بقمامة، وتسمّى القيامة، وهي إلى وقتنا هذا يحجّها أنواع النصارى».

2- التحريم ٦٦ : ١٢.

         

وأنت خبير بأنّ المحرّم ليس نفس الآلة، ولا استعمالها بأيّ نحو كان، بل المحرّم إنّما هو ضربها على الكيفيّة الملهيّة، فحال تلك الآلات حال حنجرة الإنسان، فالصوت الذي يخرج منها على وجه الغناء حرام، والخارج منها لا على تلك الكيفيّة ليس بحرام.

وحينئذٍ، فإنْ ضُرِبت تلك الآلات على الكيفيّة الملهّية كان حراماً محرّماً، يجب تركه، والنّهي عنه بكلّ ما يمكن، لكن اقتران هذا المحرّم بالتشبيه لا يجعل التشبيه محرّماً ؛ لأنّهما شيئان متباينان مقترنان في الوجود، لا تلازم بين حرمة أحدهما وحرمة الآخر، ولا مانع من حلّ أحدهما أو حرمة الآخر.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه: أنّ حرمة التشبيه ممّا لا دليل عليه، وأنّ الأصل جوازه، وكذا ضرب الرأس والظهر بسلاسل من حديد، بل وضرب الرأس بالسيف وإخراج الدم مالم يكن فيه خوف الضرر ؛ إذ لا دليل على حرمة إدماء الجسد حتّى يكون ذلك أصلاً ثانوياً معدلاً عن أصالة الإباحة حتّى يحتاج الجواز إلى الدليل المخرج عن الأصل الثانوي، فما صدر مِنْ بعض مَنْ سبق من علمائنا رضوان اللّه‏ تعالى عليهم من التأمل في جواز ذلك(1)، بل جواز اللّطم على الصدور المدمي، لم أقف على مستنده.

وأوهن منه التأمّل في جواز اللطم الموجب لاحمرار الجسد.

ويمكن الاستيناس لجواز التشبيه بما مرّ من تمثيل اللّه‏ سبحانه مثال ألطف لآدم عليه‏السلام، ومثال مولانا القائم عليه‏ السلام للملائكة، وتمثيله مثال المؤمن في العرش وتمثيله النّعش للحوراء الإنسية عليها السلام.

ولإدماء الرأس بالسّيف والسلسلة بضرب زينب جبينها بمقدّم المحمل،

____________

1- في هامش النسخة المطبوعة: «يعني جواز إدماء الرأس بالسيف» منه دام ظلّه.

                  

وسيلان الدّم من تحت قناعها(1) بل استدلّ الفاضل القمي رحمه الله لحلّ التشبيه لإبكاء الناس بعموم: «من أبكى» في ما مرّت إليه الإشارة من الأخبار(2).

ولعلّه بالنظر إلى أنّ شموله لآحاد المبكين يستلزم بعد حذف المتعلّق لشمول الآحاد أسباب البكاء.

وكذا استدلّ لذلك بعموم قوله سبحانه: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(3).

وبهذا التقريب يمكن الاستدلال المطلوب بقوله سبحانه: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ

____________

1- العوالم، الإمام الحسين عليه‏السلام: ٣٧٣ – ٣٧٤

2- الأمالي للشيخ الصدوق: ١٣١ الحديث ٤ المجلس السابع عشر

3- الحج (٢٢) : ٣٢.

                  

عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(1) بعد تفسير «القربى» في المتواتر من أخبار الفريقين بعليّ وفاطمة والحسنين عليهم السلام ; وبالجملة، فرجحان إقامة عزاء سيّد المظلومين سلام الله عليه، والبكاء على مصابه، واللّطم على الرؤوس والصدور في الطرقات والمجامع، وتهيئة التشبيهات، ممّا لا ريب ولا إشكال فيه، ولا في كونه من أعظم الشعائر الإسلاميّة والعبادات المندوبة.

هذا ما وسعه الوقت من الكلام في المقام في اليوم الرابع عشر من صفر١٣٤٥.وأنا الفاني عبد الله المامقاني عفي عنه طبعت في المطبعة المرتضوية في النجف الأشرف على نفقة جمع من إخواننا المؤمنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.