رسائل الشعائر الحسينية القسم – 3 –
رسائل الشعائر الحسينية القسم – 3 –
(2) نظرة دامعة حول مظاهرات عاشوراء
الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي
( ١٣١١ هـ ـ ١٣٩٨ هـ )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
الى أين الفرار ولا مفرّ أما في هذه الدنيا مقرّ
لقد عمّ الفساد فلا صلاح ولكن كلّ ما في الكون شرّ
وطبّق هذه الدنيا ضلال تجرّع سمّه برّ وبحر
وأنكرت النفوس الدين حتّى كأن لم يأتها نهي وأمر
ولا عجب فإن الدين حقّ وطعم الحقّ في الأفواه مرّ
وما دينيّ هذا العصر إلاّ كمسجون على كفّيه جمر
أجل واللّه، إنّه ليجدر بالرجل الدينيّ في عصره الحاضر، أن يثب فؤاده من بين جنبيه جزعاً، وأن ينخلع قلبه عن موضعه أسفاً، عندما يلقي ببصره إلى ما حوله، فلا يجد هنا وهناك إلاّ أضاليل وأباطيل، تتدحرج إلى قومه بين المضائق والمنفرجات، وتتدافع نحوهم خلال الثنايا والعقبات، حتّى إذا اتصلت بأحدهم اتصال الأفعى ببدن السليم، تسلّقت إلى كرة دماغه بسلّم التمويه والخداع، فتربّعت على دسته(1) الرحيب كملك على عرشه، ثمّ أخذت تلعب دورها في روحه وبدنه، فلا تلبث إلاّ كريثما تشرب الصهباء(2)، فتدبّ حتّى تبعث به إلى مركز جيشها المتألّب، كجندي جهّز بآخر طرز من آلات الفناء، وعند ذلك تهجم به في طليعة أنصارها، على سياج دينه الأقوم، وسرادقه(3) الأعظم; لتستطيح منه عمده الرفيع، وتستبيح من حرمته كلّ فظيع وشنيع.
بينما نجد شخص الدين الكريم قد أفرد في ميدانه، واصفرّت كفّه من أنصاره وأعوانه، وهو يدير بعينيه يميناً وشمالاً، فلا يجد إلا من يخزّه(4) بسيفه، أو يركزه(5) برمحه، أو يستهدفه بسهمه، وكلّما احتوشت شخصه الموقر خباشات(6)من البشر، رفع عقيرته بالاستنصار، وصرخ منادياً بالويل والدمار، فلا يسمع من أبنائه إلاّ أصواتاً خافتة، وأنفاساً هافتة، لاتسمن من جوع ولا تؤمن من خوف.
وهكذا أصبح هذا الدين في وسط معترك رهيب، مفعم بالمخاطر والأهوال، مكتظّ بالخيل والرجال، محتشد بالأفاعي والصِلال(7)، مشتبك بالعصي والحبال،
___________
1- الدست، له عدة معاني والمراد به هنا صدر المجلس،
2- الصهباء: الخمر، سمّيت بذلك للونها.
3- السرادق: واحد السرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار.
4- خزّه بسهمه واختزّه: أي طعنه.
5- ركزت الرمح أركزه: غرزته في الأرض.
6- الخباشات من الناس: الجماعة من قبائل شتّى.
7- الصِلُّ: الحيّةُ التي لا تنفع منها ا لرقية، يقال: إنّها لَصِلُّ صَفاً: إذا كانت مُنكرة مثل الأفعى.
في وسط معترك قد زقا(1) فيه الضجيج وعلا منه العجيج، وارتفعت فيه الضوضاء إلى أجواز(2)الفضاء، إلى عنان السماء.
وقد وقف أبناؤه من دونه على كثب، كوقفة المتفرّج، ينظرون إلى ما ينال جسمه الزكي، في كلّ ليل إذا يغشى، أو نهار إذا تجلّى،(3) من جروح وقروح، وتخريق وتمزيق، حتّى لقد كادت تتناثر أشلاؤه أوزاعاً(4)، ويذهب روحه الطاهر شعاعاً.
وهو لا يبرح فيما بين ذلك كلّه يستثير حفائظ أبنائه بذكرى تلك الأعمال الكبيرة والتضحيات الخطيرة، التي قام بها آباؤهم العظام في سبيل نشر دعوته وبثّ تعاليمه، تلك التعاليم العالية التي لم يصدع بها صاحبها صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلاّ لكي يقيل بها هذا العالم من كبوته(5)، وينشله من هوّته(6)، فينهج به إلى سبيل السعادة والخير، ويحيد بأهله عن مهاوي الشقاء والضير.
فهل يا ترى يجدر بنا – ونحن أبناء أُولئك الآباء – أن ندع تلك التعاليم القيّمة تذهب على مشهد منّا ضحيّة لتعاليم الغرب التي اندلعت ألسنتها في بلاد الإسلام، فطفقت تتوصّل إلى تزريق سمومها القتّالة في أدمغة المسلمين بكلّ حيلة
___________
1- زقا، يزقي: صاح، وكلّ صائح زائق.
2- جوز كلّ شيء وسطه، والجمع الأجواز.
3- تجلّى الشيء: أي تكشّف،.
4- يقال: أتيتهم وهم أوزاع: أي متفرّقون.
5- كبا، يكبو، كبواً وكبوة: عثر.
6- الهوة: الوهدة العميقة.
ووسيلة، وتتذرّع إلى بثّ بذورها الفتّاكة بكلّ ما لديها من نخوة وقوّة، حتّى انخدع بها من الشبيبة المسلمة عدد ليس بالقليل ممّن افتتن بحبّ المدنيّة الحاضرة المبهرجة بمظاهرها الخلاّبة، فانقلبوا إلى قومهم يحملون على متونهم ألوية الباطل والضلال، يريدون أن يفيؤا بها على رؤوسهم، بالرغم من كلّ وازع إلهي، أو رادع دينيّ.
فكأنّهم – وهم أبناء أولئك المجاهدين في سبيل هذا الدين – يريدون أن يرجعوا بقومهم القهقرى إلى عهد الجاهليّة الأُولى، عهد الكفر والإلحاد، والجحود والعناد، ذلك العهد المظلم، الذي لم تكد تنجلي غبرته بنور الإسلام، إلاّ بعد أن تكبّد دعاة الحقّ عليهم الصلاة والسلام في سبيل تأييده وتوطيد أركانه من النكبات والمفادات ما يعجز القلم عن تحديده، ويقصر الكلم عن تعديده.
وهذا التاريخ الإسلامي الباهر، لا يزال ماثلاً أمام أعيننا، يذكّرنا بصحائفه البيضاء، بما قام به أُولئك المجاهدون العظام والزعماء الكرام من الأعمال المجهدة، التي خلّدت لهم مدى الدهر أجمل الذكر وأعظم الشكر.
فأواه ثمّ أواه، أين أولئك الآباء الصلحاء عن هؤلاء الأبناء الأعقّاء(1)، لينظروا إليهم كيف خلّفوهم في الوديعة التي تركوها بين أيديهم قائمة على أكداس من أشلائهم الموزّعة، وأوصالهم المقطّعة؟!
وكيف أصبحوا يشنّون الغارة إثر الغارة على معقلها الحصين، ليفتتحوا منه منفذاً يجهزون منه على آخر نفس من أنفاس حياتها العزيزة؟!
فكأنّ الغرب بعدّته وعديده، وسلاحه وكراعه، ودسائسه ووساوسه، لميكفهم مؤنة ذلك الجهاد والجلاد، حتّى برزوا إلى ساحة الوغى منظمين إليه، ومتطوعّين بين يديه، يعبّدون له السبل والسكك(1)، ويقتلعون من طريقه الشوك والحسك(2)، ثمّ لا يأتي عليهم يوم بعد آخر إلاّ ويمدّونه بما شاء من مال ورجال، ويبذلون له من أنفسهم كلّ رخيص وغال، من حيث يشعرون أولا يشعرون، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.
وليت الخطب قد وقف عند هؤلاء الأعقّاء، ولم تضف إلى بليّتنا بهم بليّتنا بالسذج والبسطاء، من الذين يضعون أنفسهم مواضع المصلحين من هذه الأمّة، ثمّ هم يفسدون أكثر ممّا يصلحون، ويهدمون أكثر ممّا يبنون، لا قصداً منهم إلى ذلك، ولكن جهلاً منهم بأسباب الإصلاح الذي يريدون إدخاله على أمّتهم.
وكم بين ظهرانينا من هؤلاء المصلحين الذين لا يميّزون بين سوانح الخير، وبوارح(3) الشرّ، قد منيت بهم هذه الأمّة من حيث ترضى أولا ترضى، فألقت بخطامها(4) إلى أيديهم، أو مدّوا أيديهم فأخذوا بخطامها، ثمّ طفقوا يسيرون بها على الجادة طوراً، وعلى غير الجادة أُخرى; ذلك لأنّ القائد لم يتعرّف الطريق قبل أن يأخذ بخطام ناقته، وقد ارتبكت عليه السبل والمذاهب، فراح يخبط بها
____________
1- السكك، جمع سكّة والسكّة المأبورة: هي الطريق المستوية المصطفة من النخل.
2- الحسك: نبات له ثمرة خشنة، تعلق ثمرته بصوف الغنم ووبر الإبل في مراتعها.
3- سوانح، جمع سانح: وهو ما يتبرك به، والبارح يتشاءم به.
4- الخطام: الزمام: وخطمت البعير، زممته.
الأرض خبط عشواء في ليلة ظلماء، لا يدري ولا ناقته تدري، متى تعترضهما الهوة في الطريق فتبعث بهما جميعاً إلى حيث لا قائد ولا مقود، ولا سائد ولا مسود.
إنّي وأيم اللّه لا أريد بكلمتي هذه أن أزلزل بأولئك النفر في مراكزهم مهما كبر على الأمّة شيء من أقوالهم وأعمالهم، ولكنّى أريد أن يتدبّروا قبل أن يتهوّروا، أريد أن يتعلّموا أكثر ممّا علموا، أريد أن تسعد بهم الأمة أكثر ممّا تشقى، أريد أن يكونوا أكياساً(1) أذكياء، لا بسطاء بلهاء; لئلاّ تنطلي عليهم دسائس الباطل ووساوس الضلال، ولئلاّ تموّه عليهم الحقائق بألسنة المكر والخداع، فكم قد قتل من الحقائق بسيف التمويه الذي لا يزال مسلولاً على هواديها(2)، ينحر منها في كلّ يوم على قدر ما تسنح له الفرصة وينفسح له المجال؟!
فإلى مَ نقابل اليقظة بالسنة(3)، والنباهة بالبلاهة، والكياسة بضعف الرأي وضعة(4)المدار؟!
وإلى مَ لا تثقّف عقولنا التجارب، ولا توقظنا العبر والمثلات، وقد أصبحت ملأ السمع والبصر، وعداد الرمل والحجر؟!
حتّى مَ أيّها القوم نُطمع فينا عادية هذا الدهر، فلا يأتي علينا يوم واحد إلاّ ويوقفنا أمام رزيّة جديدة، وبليّة شديدة.
____________
1- الكَيسُ : خلاف الحمق.
2- الهادي: العنق، وأقبلت هوادي الخيل: إذ بدت أعناقها،والمعنى: أنّ سيوف التمويه لا تزال مسلولة على أعناقها.
3- السنة: النعاس يبدأ في الرأس، فإذا صار إلى القلب فهو نوم.
4- والضّعة: خلاف الرفعة في القدر.
ألم يكفه بالأمس ما أنزله بمشاهد القدس في البقيع(1) من الخطب الفادح،
____________
1- في سنة ١٣٤٤ هـ استفتى قاضي القضاة في الحجاز الشيخ عبد الله بن بليهد علماء المدينة المنوّرة في جواز البناء على القبور، وتقبيل الأضرحة، والذبح عند المقامات، حيث يتناول الزائرون لها تلك اللحوم. فأجاب العلماء – وكان عددهم خمسة عشر شخصاً – بعدم جواز ذلك ووجوب منعه ومعاقبة من يفعله.
وقد نشرت هذه الفتوى في أكثر الصحف الصادرة آنذاك كجريدة أمّ القرى الصادرة في مكّة المكرّمة، وجريدة العراق الصادرة فيه.
وكان الهدف الرئيسي من هذه الفتوى هو تهيئة الرأي العام لهدم المراقد في الحرمين الشريفين. وفعلاً فقد تمّ في الثامن من شوّال من تلك السنة هدم قبور الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) في بقيع الغرقد في المدينة المنوّرة. وفي مقبرة المعلّى في الحجون في مكّة المكرّمة، والمراقد الموجودة في الطائف.
وقد ضمّ بقيع الغرقد في المدينة المنوّرة عشرة آلاف مرقد من مراقد الصحابة والشهداء والأئمّة (عليهم السلام)، وعلى رواية أنّ هناك مرقد الصديقة الزهراء(عليها السلام)، وكذلك مراقد عمّات الرسول(صلى الله عليه وآله)وزوجاته – عدا السيدة خديجة الكبرى والسيّدة ميمونة بنت الحارث – وعقيل بن أبي طالب، وإبراهيم بن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والإمام مالك بن أنس، ونافع شيخ القرّاء، وحليمة السعدية.
كما طال الهدم مرقد عمّ الرسول(صلى الله عليه وآله) حمزة بن عبد المطّلب، وغيره من شهداء أحد مثل مصعب بن عمير، وجعفر بن شمّاس، وعبد الله بن جحش.
وقد امتدّ التدمير إلى مرقد حبر الأمّة عبد الله بن عبّاس في الطائف، وقد كانت عليه قبّة مشادة لا تزال صورتها موجودة على صفحات التاريخ.
وعندما امتدّ الزحف العسكري إلى مكّة المشرّفة عمدوا إلى آثارها فدمّروها، وهدموا المراقد الشريفة في مقبرة المعلّى في الحجون، فهدموا قبّة عبد المطّلب جدّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)، ومرقد عمّه أبي طالب.كما دخلوا إلى مدينة جدّة فهدموا قبّة حوّاء أمّ البشريّة الأولى وخرّبوا قبرها، كما طال الهدم بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومنزل فاطمة الزهراء(عليها السلام)، ومنزل حمزة بن عبد المطّلب، ودار الأرقم ابن أبي الأرقم، ومكان العريش التاريخي الذي أشرف منه رسول الله(صلى الله عليه وآله) على معركة أحد. انظر مقدّمة «دعوة الهدى إلى الورع في الأفعال والفتوى».
والعمل الفاضح، الذي ملأ صدور المسلمين قيحاً، وفجّر عيونهم دماً، ولا يزال الشغل الشاغل لأفكارهم وخواطرهم؟!
حتّى جاءنا اليوم يريد أن يزيد على الإبالة ضغثاً(1)، وأن يذرّ على الجرح ملحاً، فيبتزّ من أيدينا أغلى مجوهراتنا، وأعزّ مقدّساتنا، ألاّ وهي المظاهرات العزائيّة، التي اعتاد الشيعة القيام بها كلّ عام في العشر الأول من شهر محرّم الحرام، حزناً على سبط الرسول، وقرّة عين الزهراء البتول عليه الصلاة والسلام.
وذلك كاللطم على الصدور في الشوارع، والضرب على الظهور بالسلاسل، وإدماء الرؤوس بالسيوف، وتمثيل فاجعة الطفّ بالصورة التي يسمّونها «الشبيه».
وما كان أجدرنا بالتغاضي اتّجاه هذه العادية الطارية، لولا ما اكتنفها من الهتاف العالي، المنبعث عن كثير من الألسن والأقلام، التي أخذت على نفسها أن ترحّب بكلّ عادية تأمل من ورائها القضاء على شيء من المقدّسات الدينيّة مهما كبر ذلك بعين اللّه وعين رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
1- ضغث على إبالة: أي بليّة على أخرى كانت قبلها.
وما أدري، وليتني كنت دريت، ما الذي يؤلم أولئك الهاتفين من تلك الشؤون، ولمّا يلطم لهم صدر بين الصدور، أو يقرع لهم ظهر بين الظهور، أو يدم لهم رأس بين الرؤوس؟!
أفلغيرهم تراهم يرثون ويتوجّعون، أم ران (1)على قلوبهم ما كانوا يعملون؟!
عبثاً يحاول أولئك الهاتفون أن يقضوا على ذلك الروح الدينيّ، في الوقت الذي أدركت فيه الطائفة نجاح تلك الأعمال بالنظر إلى مقصدها الأسمى وغايتها الوحيدة التي ترمي إليها من وراء تلك المظاهرات والتمثيلات.
فلقد يحسب الغبيّ أنّ جلّ ما يقصده المتظاهرون من تلك الأعمال ليس إلاّ إيلام أجسامهم وأرواحهم، ولم يعلم بأنّ لهم في تلك الأعمال أسراراً ورموزاً تعود عليهم بأكبر الفوائد، وتتقدّم بهم في جميع شؤونهم الأدبيّة والاجتماعيّة والسياسية.
كيف لا، وهذا التذكار الحسينى ليلقي عليهم في كلّ سنة من دروس التضحية والمفاداة في سبيل الحقّ ما يهبط بسعر الحياة في سوقهم الاجتماعيّة إلى درجة الصفر.
حتّى لقد أدرك فلسفة ذلك التذكار كثير من مستشرقي فلاسفة الغرب، وكتبوا عنه في مؤلّفاتهم فصولاً طويلة ومقالات ضافية.
____________
1- الرين: الطبع والدنس.
منهم ذلك الدكتور «جوزف» الفرنسوي في كتابه «الإسلام والمسلمون»، فقد ذكر في جملة كلام له مسهب يتعلّق ببيان فلسفة مآتم الحسين(عليه السلام) وأسرار شهادته عليه السلام ما نصّه مترجماً إلى العربيّة عن الترجمة الفارسيّة بقلم أحد العلماء:
«ومن جملة الأمور السياسيّة التي أظهرها أكابر فرقة الشيعة بصيغة مذهبية منذ قرون، وجلبت لهم قلب البعيد والقريب، هي قاعدة التمثيل باسم الشبيه في مآتم الحسين(عليه السلام).
وقد قرّر حكماء الهند التمثيل لأغراض ليس هذا موضع ذكرها، وجعلوه من أجزاء عباداتهم، فأخذته أوربا وأخرجته بعامل السياسة بصورة التفرّج، وصارت تمثّل الأمور المهمّة السياسية في دور التمثيل للخاصّة والعامّة، وجلبت القلوب بسببه، وأصابت بسهم واحد غرضين معاً: تفريج النفوس، وجلب القلوب في الأمور السياسيّة.
والشيعة قد استفادت من ذلك فوائد كاملة، وأظهرته بصيغة دينيّة، ويمكن القول بأنّ الشيعة قد أخذت ذلك من الهنود.
ومن المعلوم أنّ تواتر إقامة المآتم، وذكر المصائب الواردة في فضل البكاء على مصاب آل محمّد صلى الله عليه وآله، إذا انضمّت إلى تمثيل تلك المصائب، تكون شديدة الأثر، وتوجب رسوخ عقائد خواصّ هذه الفرقة وعوامها فوق حدّ التصور، وهذا هو السبب الذي أوجب أن لا نسمع من ابتداء ترقّي مذهب الشيعة إلى الآن أنّ ترك بعضهم دين الإسلام أو دخل في سائر الفرق الإسلاميّة.
هذه الفرقة تقيم التمثيل على أقسام مختلفة، في مجالس خصوصيّة وأمكنة معيّنة، وحيث إنّ الفرق الأخرى قلمّا تشترك معهم في المجالس، اخترعوا تمثيلاً
خاصاً، وصاروا يدورون به في الأزقة والشوارع أمام جميع الفرق المختلفة، فتتأثر قلوب جميع الفرق من القريب والبعيد عين الأثر الذي يحصل من التمثيل.
ولم يزل هذا العمل يزداد إليه توجّه الأنظار من الخاصّ والعامّ، حتّى قلّد الشيعة فيه بعض الفرق الإسلامية والهنود واشتركوا معهم في ذلك، وهو في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة، كما أنّ سائر فرق الإسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد.
ويغلب على الظنّ أنّ أصول التمثيل بين الشيعة قد تداول من زمن الصفويّة(1) الذين هم أوّل من نال السلطنة بقوّة المذهب، وأجاز العلماء والرؤساء الروحانيّون هذه الأصول.
ومن جملة الأمور التي أوجبت رقيّ هذه الفرقة وشهرتهم في كلّ مكان، هو تعرّفهم، بمعنى أنّ هذه الطائفة قد جلبت إليها قلوب سائر الفرق من حيث الجاه والقوّة والشوكة والاعتبار، بواسطة المآتم والمجالس والشبيه واللطم والدوران، وحمل الألوية والرايات في عزاء الحسين(عليه السلام).
ومن الأمور الطبيعيّة المؤيّدة لفرقة الشيعة في تأثير قلوب سائر الفرق، هو إظهار مظلوميّة أكابر دينهم، وهذا التأثير من الأمور الفطرية; لأنّ كلّ أحد بالطبع يأخذ بيد المظلوم ويحبّ نصرة الضعيف والمظلوم على القوي، والطبائع البشريّة أميل إلى الضعيف والمظلوم ولو كان مبطلاً من الظالم ولو كان محقّاً لاسيما إذا مرّت عليه السنون والأعوام.
وهؤلاء مصنّفوا أوربا – مع أنّهم لا يعتقدون بهم – يذعنون بالمظلوميّة لهم،
____________
1- سيأتي منّا أنّه أقدم تاريخاً من ذلك، و أنّه كان متداولاً عند الشيعة منذ المائة الرابعة «المؤلف».
ويعترفون بظلم وتعدّي قاتليهم، وعدم رحمتهم، ولا يذكرون أسماءهم إلاّ مشمئزين، وهذه الأمور الطبيعية لا يقف أمامها شيء، وهذا السرّ من المؤيّدات الطبيعيّة لفرقة الشيعة».
ومنهم ذاك الحكيم الألماني المسيو «ماربين»، فقد ذكر في جملة كلام له طويل في كتابه «السياسة الإسلاميّة»(1) ما نصّه معرّباً عن الترجمة الفارسية أيضاً:
«إنّ عدم معرفة بعض مؤرّخينا بحقيقة الحال، أوجب أن ينسبوا في كتبهم طريقة إقامة الشيعة لعزاء الحسين إلى الجنون، ولكن جهلوا مقدار تغيير هذه المسألة وتبديلها في الإسلام.
فإنّا لم نر في سائر الأقوام ما نراه في شيعة الحسين من الحسّيات السياسيّة والثورات المذهبيّة، بسبب إقامة عزاء الحسين.
وكلّ من أمعن النظر في رقيّ شيعة علي، الذين جعلوا إقامة عزاء الحسين شعارهم في مدّة مائة سنة، يذعن بأنّهم فازوا بأعظم الرقيّ، فإنّه لم يكن قبل مائة سنة من شيعة علي والحسين في الهند إلاّ ما يعدّ بالأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة من حيث الجمعيّة إذا قيسوا بغيرهم، وكذلك هم في سائر نقاط الأرض.
____________
1- في الذريعة ٢٢: ٢٤: «مقتل أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) للسيّد ميرزا حسن ابن السيّد علي القزويني… وفي آخره تعريب كلام موسيو ماربين الألماني في فلسفة شهادة الإمام الحسين(عليه السلام)».
وفي معجم المطبوعات النجفية: ٢١٥: «السياسة الحسينيّة: مسيو ماربين والدكتور جوزيف. المطبعة العلوية سنة ١٣٤٧هـ ، بحجم الكفّ، اللغة فارسية، ٥٨ صفحة.
وفي الأعلام للزركلي ٢: ٢٤٣: «وللفيلسوف الألماني ماربين كتاب سمّاه «السياسة الإسلامية» أفاض فيه بوصف استشهاد الحسين».
وإذا قسنا دعاتنا مع تلك المصارف الباهظة والقوّة الهائلة بالشيعة، نرى دعاتنا لم يحظوا بعشر ترقيات هذه الفرقة وإن كانت قسسنا تحزّن القلوب بذكر مصائب المسيح، ولكن لا بذلك الشكل والأسلوب المتداول بين شيعة الحسين،
ويغلب على الظنّ أنّ سبب ذلك هو أنّ مصائب الحسين أشدّ حزناً وأعظم تأثيراً من مصائب المسيح.
وإنّي اعتقد بأنّ بقاء القانون الإسلامي، وظهور الديانة الإسلاميّة، وترقّي المسلمين هو مسبّب عن قتل الحسين وحدوث تلك الوقائع المحزنة.
وهكذا ما نراه اليوم بين المسلمين من حسن السياسة وإباء الضيم ما هو إلاّ بواسطة عزاء الحسين، وما دامت في المسلمين هذه الملكة والصفة لا يقبلون ذلاًّ ولا يدخلون في أسر أحد.
ينبغي لنا أن ندقّق النظر في ما يذكر من النكات الدقيقة الحيويّة في مجالس إقامة العزاء، ولقد حضرت دفعات في المجالس التي يذكر فيها عزاء الحسين في إسلامبول مع مترجم، فسمعتهم يقولون:
الحسين الذي كان إمامنا ومقتدانا، ومن تجب طاعته ومتابعته علينا، لم يتحمّل الضيم، ولم يدخل في طاعة يزيد، وجاد بنفسه وعياله وأولاده وأمواله في سبيل حفظ شرفه، وعلوّ حسبه ومقامه، وفاز في قبال ذلك بحسن الذكر والصيت
في الدنيا، والشفاعة يوم القيامة، والقرب من اللّه، وأعداؤه قد خسروا الدنيا والآخرة.
فرأيت وبعد ذلك وعلمت أنّهم في الحقيقة يدرّس بعضهم بعضاً علناً، بأنّكم إن كنتم شيعة الحسين وأصحاب شرف، إن كنتم تطلبون السيادة والفخر، فلا تدخلوا في طاعة أمثال يزيد، لا تحملوا الذلّ، بل اختاروا الموت بعزّة عن الحياة بذلة، حتّى تفوزوا بحسن الذكر في الدنيا والآخرة، وتحظوا بالفلاح.
ومن المعلوم حال الأمّة التي تلقى إليها أمثال هذه التعاليم من المهد إلى اللحد، في أيّ درجة تكون من الملكات العظيمة والسجايا العالية.
نعم هكذا أمّة تحوي كلّ نوع من أنواع السعادة والشرف، ويكون جميع أفرادها جنداً مدافعين عن عزّهم وشرفهم، هذا هو التمدّن الحقيقي اليوم، هذا هو طريق تعليم الحقوق، هذا هو معنى تدريس أصول السياسة».
هذا ما ذكره ذانك المستشرقان الغربيّان عن فلسفة تلك المظاهرات العزائيّة، التي تقوم بها الطائفة الشيعيّة من عام إلى آخر، تذكاراً لذلك الإمام الشهيد.
وأنتترى أنّهما قد فطنا إلى كثير من أسرارها الخفيّة، ورموزها المختبئة حتّى عن كثير من أبنائها وأصدقائها.
وليت فلاسفتنا الأقربين قد أدركوا ولو طرفاً يسيراً ممّا أدركه أولئك الفلاسفة الأبعدون، كي يعلموا بأنّ تلك المظاهرات هي من أهمّ المقدّسات الطائفيّة والنواميس المذهبيّة التي لايمكن القضاء عليها بقوّة التمويه مهما أفرغ عليه من مبرقشات(1) الثياب.
____________
1- البرقشة: شبه تنقيش بألوان شتّى.
وأنّى للموهّين أن يقضوا على عادة يمتدّ بها التاريخ منذ عهد البويهيين إلى اليوم؟!
أي منذ عشرة قرون تقريباً، كما يرشدك إلى ذلك ابن الأثير، في ما ذكره من
حوادث بعض السنين على عهد ملوك آل بويه في المائة الرابعة(1).
ومن ذلك تعرف أنّ الإنكار على تلك العادة بكلمة «لم تكن» لم ينبعث في الحقيقة إلاّ عن الجهل بالتاريخ، ولا ريب أنّ تلك الكلمة لم تدخل العراق إلاّ عن طريق نجد، الذي اعتاد الإنكار بها على أيّ عمل مستحدث، بالرغم ممّا عليه طريقة عامة المسلمين وكافة أهل الدين – إلاّ من شذَّ – من التمسّك بالبراءة في كلّ مشتبه الحكم إلى أن يقوم الدليل على تحريمه.
وليت شعري متى أصبح التمثيل عادةً سيئةً، وهذه الطوائف الإسلامية كلّها كانت تحترم بالأمس «المحمل» الذي كان يمثّل به الشاميّون محمل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم،(2) كما أنّها تحترم اليوم «الهودج» الذي يمثّل به المصريون كلّ
____________
1- قال: «في هذه السنة ٣٥٢ ه عاشر المحرّم أمر معزّ الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء، منشّرات الشعور، مسوّدات الوجوه، قد شققن ثيابهنّ، يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههنّ على الحسين بن علي رضي اللّه عنهما.
ففعل الناس ذلك ولم يكن للسنيّة قدرة على المنع منه، لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم» الكامل في التاريخ ٨: ٥٤٩، ذكر عدّة حوادث فى سنة ٣٥٢ ه .
وقال في موضع آخر: «في هذه السنة ٣٥٣ عاشر المحرّم أغلقت الأسواق في بغداد يوم عاشوراء، و فعل الناس ما تقدّم ذكره، فثارت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنية جرح فيها كثير ونهبت الأموال» المصدر السابق، ذكر عدّة حوادث لسنة ٣٥٣.
ويقول في حوادث السنة ٣٥٨: «في هذه السنة عاشر المحرّم عمل أهل بغداد ما قد صار لهم عادة من إغلاق الأسواق وتعطيل المعايش وإظهار النوح والمآتم بسبب الحسين بن علي رضوان اللّه عليهما.
2- في كتابه «دمشق في مطلع القرن العشرين» يوضح «أحمد حلمي العلاف» كيف كانت ترتّب شؤون الحجيج أيام الدولة العثمانية، والتفاصيل الدقيقة لكلّ مراسم المحمل الشامي بدءاً من الإعداد له، ومروراً بمسيرته، وانتهاء بالاحتفالات التي يقيمها الدمشقيّون بعد عودة الحجّاج من الأراضي المقدّسة، وكانت هذه التفاصيل قد عرضت في أحد الأعمال الدرامية السورية «الخوالي» لبسام الملاّ، واتكأت على هذا المرجع لتقديم صورة عن حياة الناس، عاداتهم وطقوسهم في أيام الحجّ البعيدة تلك.
تبدأ مراسم المحمل في اليوم الأول لعيد الفطر، وتسمّى «مراسم الزيت والشمع والمحمل»، حيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي، وتؤدّي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وبعض كبار الموظفين، وبعد الانتهاء تجري حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحجّ إلى الحرمين الشريفين.
التشرف بإمارة الحجيج: من هنا كان يبدأ المحمل رحلته.
يعتبر «آل سعد الدين» من أعرق العائلات الدمشقية، وأكثرها ارتباطاً بطقوس محمل الحجّ الشامي، حيث كان لشيوخ الأسرة السعديّة موقعهم المميّز في احتفالات المحمل ؛ لأنّ دارهم كانت المحطة الأهم لاستراحة المحمل الشريف، الذى كان شعاراً لسيادة السلطان العثماني على الحرمين الشريفين.
يوضع (المحمل) على ظهر جمل جميل الشكل قوى وعال لا يستخدم لأي عمل سوى الحجّ، ويحمل إضافة للمحمل الكسوة السلطانية إلى الكعبة الشريفة.
وحين كان المحمل يتوقّف في دار سعد الدين يتقدّم شيوخ الأسرة ووجهاؤها ليلقموا الجمل قطعاً من اللوز والسكر، فيتهافت الناس على التقاط الفضلات من فم الجمل تبركاً وتحببّاً؛ لأنّه يحمل أعظم شعار يجتمع إليه المسلمون عند ذهابهم إلى الحج.
وبعد وصول المحمل إلى العسالي، ينتظر تجمّع الحجاج يوماً أو يومين، حيث تسير قافلة أمير الحجّ في طريقها إلى مدينة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
كانت الدولة العثمانية تتحمّل نفقات الحجّ، وتعهد بإمارته لواحد من كبار العسكريين في دمشق، أو من زعماء العشائر العربية في فلسطين، ويتهيّأ هذا الأمير للخروج بالحجّ قبل حلول الموسم بثلاثة أشهر، فيقوم أولاً ب «الدورة» أي زيارة المناطق الجنوبية من دمشق لجمع المال اللازم، وقد يكون الوالي نفسه أمير الحجّ، وهى مهمّة صعبة وخطيرة؛ لأنّ من واجباته أن يدفع عن الحجاج اعتداءات القبائل التي تنوي بهم شراً، وقد تولّى أسعد باشا العظم – والي دمشق – إمارة الحجّ مدة ١٤ عامّاً، وكان الباشاوات في مختلف أنحاء السلطنة العثمانية يتوقون إلى هذا اللقب.
تتكون قوافل الحجّ الشامي من عدّة فئات تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم.
كان أمير الحجّ يخرج من سراي الحكم «المشيرية أو العسكرية» على رأس موكب الحجّ بين ١٥ – ١٧ شوال، ويتّخذ طريقه: الميدان، مجتازاً باب المصلّى، ثمّ الميدان الفوقاني، إلى باب اللّه أو بوابة مصر، في ممرّ يمتدّ نحو ثلاثة كيلومترات متّجهاً إلى قرية مزيريب، وبعد خروج الحجّ ببضعة أيام «من يومين إلى خمسة» تخرج قافلة الحجّ الشامي من الطريق نفسه، يتلوها قافلة الحجّ الحلبي، ومعهم حجاج العجم، ويبقى الجميع في مزيريب حتّى يتمّ خروج الموكب بأجمعه، وكانت رحلة الحجّ الشامي تستغرق أربعة أشهر من شوال حتّى صفر.
الحبوب والمحبوب:
بعد انتهاء مناسك الحجّ، يتجمّع الحجاج في المدينة المنوّرة حول المحمل والسنجق ويعودون في نفس الموكب الذي ذهبوا به، وحين يقارب وصولهم إلى دمشق، تستعد الحكومة والأهالي لاستقبالهم باحتفالات كبرى.
وكان معروفاً عند الناس قولهم أثناء مغادرة الحجاز: «يأكلون الحبوب ويفارقون المحبوب»، والحبوب نوع من الحلوى تطبخ فيه الحبوب المتنوعة كالحمص والقمح واللوبياء والفاصولياء مع السكر، وعادة ما يصنع يوم عاشوراء في العاشر من محرّم، والمحبوب هو الرسول صلى الله عليه وآله .
سنّة هودج أمّ المؤمنين عائشة (1).
___________
1- لاحظ «أزمة سياسية بين مصر والسعودية بسبب محمل الحجّ» بقلم إبراهيم كامل:
المحمل الشريف؛ فهو عبارة عن هودج من عدّة قطع من القماش المزخرف بالآيات القرآنية يحمل على جمل خاصّ، وكان يسير من بلاد مصر وتركيا وسوريا متزامناً مع مناسك الحجّ، ابتداءً من عصر المماليك، حين خرجت «شجرة الدر» قاصدة الحجّ، واستمرّ حتّى ملك آل سعود، وتحديداً في عهد الملك عبد العزيز آل سعود.
في عهد الملك عبد العزيز وقعت حادثة تقاتل بعض الحجّاج النجديين المنتمين للإخوان (فرقة عسكرية وهابية مناصرة لآل سعود) مع عساكر المحمل المصري في عام ١٣٤٤ ه .
وليس في حجّاج المسلمين من لم يشاهد أبّهة ذلك الهودج الموقّر، حينما يسير بين الجماهير محاطاً بالجند والسلاح، وقد تقدّم أمامه الموسيقي يعزف له بألحانه المطربة، حتّى لقد قتل الجند المصري في هذه السنة عند «وادي منى» ثلاثة من الوهابيين دفاعاً عن موسيقي الهودج.
وإذا كان التمثيل عادة سيئة، فلماذا تنكره الألسن والأقلام على ممثّلي فاجعة الطفّ خاصّة، ولا تنكره على ممثّلي «المحمل» و«الهودج»؟
لماذا لا تنكره على الإفرنج، وقد غصّت مدنهم بقاعاته وساحاته؟
لماذا لا تنكره على النصارى في اتّخاذ الصلبان؟ وليست هي إلاّ تمثيلاً للخشبة التي صلب عليها المسيح عليه السلام.
وها أنّي وإن كنت أعترف للمنكرين بوجود شيء ما من السخافات في ضمن التمثيل الحسيني، غير أنّي لا أرى أنّ ذلك ممّا يدعو إلى حظره وتحريمه، بل اللازم على محبّ الإصلاح أن يدعو أولئك النفر الذين يقومون بتنظيم ذلك التمثيل إلى تهذيبه وتنزيهه ممّا يشوّه صورته أو يشين سمعته؛ ليبرز إلى الناس بصورة محتشمة تروق الناظرين إليه، وتعجب الواقفين عليه.
وهكذا القول في مواكب اللطم التي تتجوّل في الأزقّة والشوارع، فإنّها وإن تجاوزت حدود الآداب الشرعيّة أحياناً، غير أنّ ذلك لا يوجب تحريم التجوّل عليها في السبل والمذاهب، فإنّ اللازم الاتّفاقي لا يكاد يغيّر حكم الملزوم إذا خالفه في الحكم بضرورة العلم.
ولماذا لا نعذر أولئك اللاطمين – وجلّهم من الشباب – إذا دفعهم الغرور الشخصي في سنة ما إلى الملاكمة مع بعضهم؟! في الوقت الذي نقرأ فيه على صفحات الجرائد أنباء الملاكمات المدهشة، التي تجرى بتوسّط الكراسي والمناضد في أهمّ المجالس النيابيّة المنعقدة في عواصم أوربا، وهي تلك المجالس التي لا تضمّ إليها إلاّ الصفوة المنتخبة من عقلاء الأمّة ومفكّريها، وهم على الأغلب يؤمون مقصداً واحداً وينتمون إلى ديانة واحدة، ولا يبعثهم على ذلك التلاكم إلاّ الانشطار الحزبي.
وبهذا الانشطار عينه ينبعث أولئك اللاطمون إلى التلاكم فيما بينهم أحياناً، عندما يتزاحم فريقان منهم لدى جادّة واحدة، طلباً للسبق في ذهاب أو إياب، مهما كان المقصد واحداً والديانة واحدة.
فهلّم معي أيّها الصديق لأضع يدي في يدك، فنذهب جميعاً إلى أولئك المفنّدين فنسأل منهم: لماذا استباحوا تفنيد ذلك الفريق اللاطم، ولم يستبيحوا تفنيد الفريق المنتخب، وكلاهما يتلاكمان ويتشاجران؟!
لماذا ينتقصون العمل شرقيّاً، ولا ينتقصونه غربيّاً، والعمل واحد من كلّ وجه؟!
لماذا يرحّبون بعادات الغرب على هنّاتها وعلاّتها، ثمّ ينكرون على الشرق كلّ عاداته وأخلاقه؟!
أليس ذلك كلّه من تأثير القوّة على الضعف، والرفعة على الضعة، وتلاشي نفسيّة الشرقي إزاء نفسية الغربي؟!
على أنّ الشيعة لوا أرادوا أنّ يحبسوا اللطم بين جدران البيوت وحيطان الدور، لخسروا أكثر أغراضهم التي يرمون إليها من وراء تلك المظاهرات، لذلك فإنّي لا أعتبر المنع عن سير تلك المواكب إلاّ خطأً فاحشاً في العلم، وبالأخص إذا جعل الوجه في منعه سخريّة بعض المتفرّجين من أولئك اللاطمين.
فإنّ سخرية الأغيار لو صحّ لنا أن نتخذّها وجهاً للمنع عن مثل هذا العمل العبادي، لصحّ لنا أن نتخذّها وجهاً للمنع عن كثير من العبادات، التي يسخر منها من لا يعرفها من الأجانب.
ولا سيّما مثل الحجّ، الذي لا يكاد يعزب عن فكر المانع ما يوجد فيه من الأعمال المستغربة، التي لا يمكن لشخص ما أن يقف على حكمها الكبيرة، بعقليّتة الصغيرة.
ولا شكّ أنّ المانع لا يرضى للرجل المسلم أن يتمنع عن الحجّ، أو عن التظاهر بشيء من عباداته المشروعة؛ محتجّاً بما يجلبه عليه من سخرية الأعداء أو استهزاء الغرباء.
كيف، والأنبياء عليهم الصلوات والسلام لم ينهضوا بنشر دعوتهم الإلهيّة إلاّ بين هزؤ المستهزئين وسخريّة المستسخرين؟! وما من ملّة على وجه الأرض إلاّ ولها من الأعمال والشعائر ما تسخر منه سائر الملل الأخرى.
فهل بلغك لحدّ اليوم أنّ ملّة من تلك الملل، أضربت عن القيام بشيء من أعمالها وشعائرها فراراً من سخرية الآخرين واستهزائهم؟
إذاً فلماذا لا نثبت على المبدأ أمام أولئك الجهلاء، ثمّ نقول لهم كما قال نوح لقومه: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ»(1) «اللّهُ يَسْتَهْزِىُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(2).
____________
1- هود ١١: ٣٨.
2- البقرة ٢: ١٥.
أجل، إنّ على محبّ الإصلاح أن يتحرّى مواضع النقص من تلك الأعمال، ثمّ يسعى جهده في ملافاتها بكلّ ما أوتي من قوّة ورباطة جأش، وليس له في أيّة شريعة سماويّة أو وضعيّة أن يقذفها بالكراهة، بل التحريم، سيّما وأنّ القيام بتلك الأعمال من القيام بواجب المودّة في القربى التي أمر اللّه بها في صريح كتابه المجيد(1)، ومن الحزن لحزنهم عليهم السلام الذي ندب إليه أشياعهم وأتباعهم في جملة من الروايات المستفيضة عنهم(2).
وزد إلى ذلك قول صادقهم عليه السلام، فيما رواه عنه خالد بن سدير «لقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي عليهما السلام، وعلى مثله تلطم الخدود وتشقّ الجيوب»(3).
على أنّ في السيرة المستمرة على مشهد ومسمع من أكابر أهل الدين، غير متبرّمين ولا منكرين، لغني عن إقامة الحجج وإدلاء البراهين.
ومن الرواية المتقدّمة آنفاً المرويّة عن صادق أهل البيت عليهم السلام يمكنك أن تعرف الحكم في إدماء الرؤوس إشعاراً بالحزن على شهيد الطفّ، فإنّ إطلاق الأمر باللطم على الخدود لما يقضي باستحبابه ورجحانه وإن استلزم الخدش والإدماء.
بل إنّ انبعاث الدم من الخدّ بسبب توالي اللطم عليه يكاد يعدّ لازماً عاديّاً له على الأغلب، بالنظر إلى رقّة جلدته وطراوة بشرته.
____________
1- قال تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة فى القربى»، الشورى ٤٢: ٢٣.
2- راجع وسائل الشيعة ١٤: ٥٠٨، باب استحباب البكاء لقتل الحسين وما أصاب أهل البيت عليهمالسلام.
3- تهذيب الأحكام ٨: ٣٢٥، حديث ١٢٠٧.
وما ضرّ المسلمين أن يسفحوا قليلاً من دمائهم على أبدانهم مواساة ً لتلك الأبدان الطاهرة، التي تضرّجت بدمائها فداءً لقضيتّهم وخدمة لمصلحتهم؟
أو ليس من الجفاء الممقوت أن يتحمّل أولئك الشهداء في سبيل أمّتهم كلّ تلك المصائب والنوائب، ولا تتحمّل هي في سبيلهم ما يريق من أبدانها ملء محجمة دماً؟!
ولئن احتجّ المانع عنه بكونه إضراراً بالنفس، فإنّ جُلّ أولئك الذين يدمون رؤوسهم بحدّ السيف لا يعترفون له بتلك الحجّة، وإن شاء فليحفهم السؤال وليستخبرهم الحال، فسوف لا يجد بينهم إلاّ منكراً للضرر، أو مدّعياً للانتفاع.
ولا غرو، فإنّ كثيرين في الناس، من لا تستقيم صحّتهم إلاّ بإسالة كمية وافرة من دمائهم، وربما أسالوا منه في السنة أكثر من مرّة واحدة.
على أنّ الإضرار بالنفس في سبيل مواساة ذلك الإمام الشهيد ممّا تحمّله كثير من أكابر رجال هذا الدين، ومنهم العبّاس ابن أمير المؤمنين عليهما السلام، وهو أفضل أولاد أبيه بعد أخويه الحسنين، فإنّه بعد أن اخترق بسيفه صفوف أهل الكوفة، ووصل المشرعة من شطّ الفرات، وكان قد أخذ منه العطش مأخذاً لا يوصف، مدّ يده إلى الماء فاغترف منه غرفة، فلمّا أدناها من فمه ليشرب، ذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيته، فرمى الماء من يده، وقال: يا ماء لا ذقتك وأخي الحسين وعياله عطاشى(1).
إذاً، فما يمنع سائر أفراد المسلمين من قبول الضرر على أنفسهم في سبيل تلك المواساة، بعد أن قبله على نفسه مثل ذلك الرجل الكبير، أعني العبّاس بن علي عليهما السلام، وهو من لا تجهل مكانته السامية في العلم بدين اللّه وأحكامه، وتمييز حلاله من حرامه.
____________
1- لم نعثر على هذا النصّ بخصوصه وهناك نصّ مشابه له في ينابيع المودّة وهو: «واللّه لا أذوق الماء وأطفاله عطاشى و…» ينابيع المودّة ٣: ٦٧، مقتل العبّاس.
ولو أردنا غضّ النظر من هذه الوجهة، فإنّه لا يسعنا أن نتغاضى عن إطلاق الحكم بالتحريم، بعد أن لم نقف له في أصول الشرع وقواعد العلم على أيّ مبرّر يذكر.
وهنا أودّ أن أوقفك على بضعة كلمات لبضعة رجال من كبار رجال الدين، لتكون لك بمثابة نموذج لنظرية سائر العلماء الأعلام في الموضوع:
قال شيخنا الأكبر المرحوم الشيخ جعفر في كتابه «كشف الغطاء»، بعد أن ذكر الأعمال التي تصنع في مقام عزاء الحسين عليه السلام من دق طبل إعلام، أو ضرب نحاس، وتشابيه صور، ولطم على الخدود والصدور، ما لفظه:
«وجميع ما ذكر وما يشابهه إن قصد به الخصوصيّة كان تشريعاً، وإن لوحظ فيه الرجحانيّة من جهة العموم فلا بأس به»(1).
وقال شيخنا المحقّق الميرزا القمّي رحمه اللّه في كتابه «جامع الشتات»، بعد ذكره ما ورد إليه من السؤال عن حكم تلك الأعمال والمظاهرات، ما ترجمته:
«إنّي لا أرى وجهاً للمنع عن ذلك، ويدلّ عليه عمومات رجحان البكاء والإبكاء والتباكي على سيّدالشهداء عليهالسلام، ولا شكّ أنّه من الإعانة على البرّ»(2).
___________
1- كشف الغطاء ١: ٥٤، نهاية مبحث القواعد المشتركة بين المطالب الفقهية.
2- جامع الشتات ٢: ٧٥٠.
وقال شيخنا الإمام الفقيه المتبحّر الشيخ زين العابدين الحائري عليه الرحمة في كتابه «ذخيرة المعاد» بعد ذكره السؤال الوارد إليه عن حكم التمثيل
الحسيني بما يشتمل عليه من تشبه الرجل بالمرأة، ما ترجمته:
«لا بأس بذلك، بل هو من المرغوب فيه، ما لم يشتمل على محرّم خارجي كالغناء ونحوه»(1).
وقال أيضاً في جواب السؤال عن حكم استعمال الطبل والصنج في عزاء الحسين عليهالسلام مع كونهما لا يستعملان إلاّ في مقام العزاء، ما ترجمته:
«لا بأس به، بل هو من الأمور المطلوبة المحبوبة»(2).
وفي الكتاب المذكور أسئلة كثيرة تتعلّق بالمقام، ضربنا عنها صفحاً طلباً للاختصار(3).
____________
1- ذخيرة المعاد: ٣٦٨.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- ورد في كامل الزيارات: ٢٢٧، الباب ٤٠ (دعاء رسول اللّه وعلي وفاطمة والأئمّة لزوّار الحسين عليهالسلام). روايات عديدة تشير إلى هذا الأمر، منها عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه قال: قال لي: «يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين عليهالسلام لخوف…»، الحديث ١ – تسلسل٣٣٥.
وخلاصة القول: أنّ حجج المانعين التي تترآى لنا من خلال مقالهم، لا تزيد على أربع مواد، نفهرسها لك في ما يأتي، مشفوعة بخلاصة ما قدّمناه من الملاحظات عليها، لتقف على حقيقة ما ورد في الموضوع من النقد والردّ بصورة منتظمة:
المادة (١): إنّ التمثيل وما يتّصل به من مظاهرات عاشوراء ممّا لم يكن عند الشيعة في الأعصر الغابرة، فهو بدعة محرّمة.
والجواب عن ذلك: إنّ التمثيل وما يتّصل به كان متداولاً عند الشيعة منذ عصر البويهيين، أي منذ عشرة قرون تقريباً.
ولو قدّر أنّه أمر مستحدث، فلا يلزمه أن يكون بدعة محرّمة، كيف والبدعة كما قد تكون معروضة للكراهة أو الحرمة، كذلك قد تكون معروضة للوجوب أو الاستحباب، فهي في الحقيقة من الأمور التي تنقسم إلى الأحكام الخمسة، ويكفي في استحبابها أن تتناولها عمومات بعض المستحبّات.
ولا يجب أن تكون من المنصوص عليها بالخصوص، كما هو الشأن في قضيّة التمثيل وما يتّصل به من مظاهرات عاشوراء، فإنّها مضافاً إلى ما ورد في بعضها من النصوص الخاصة، لا تكاد تعدوها العمومات الحاثّة لتابعيهم على البكاء والإبكاء عليهم، والجزع لمصابهم، وإظهار أمرهم، والقيام بواجب مودّتهم، إلى غير ذلك من الأدلّة العامة الشاملة لتلك الشؤون وغيرها، ممّا ينطبق عليه شيء من تلك العناوين الراجحة.
ولو قطع النظر عن جميع تلك الأدلّة الخاصّة والعامّة، فلابدّ عند ذاك من المصير إلى المرجع الوحيد، ألا وهو الأصل في المسألة، ومن المعلوم لدى الأصوليّين أنّ مقتضاه حينئذٍ البراءة ليس إلاّ.
المادة (٢): إنّ التمثيل يشتمل على كثير من السخافات والأمور المستهجنة.
الجواب عن ذلك: إنّ اشتماله على تلك الأمور لا يسوّغ المنع عنه بتاتاً،وإنّما اللازم – بناء عليه – هو الاهتمام بتنزيهه عمّا فيه.
المادة (٣): إنّ تجوّل مواكب اللطم في الأزقة والشوارع مدعاة للخروج عن حدود الآداب الشرعيّة، ومجلبة لسخرية الأغيار واستهزائهم.
والجواب عن ذلك: إنّ خروج اللاطمين عن تلك الحدود بسبب تجوّلهم ليس إلاّ أمراً اتّفاقياً؛ فلا سبيل إلى اتّخاذه وجهاً لمنعهم عن التجوّل شرعاً.
وأمّا ما يجلبه عليهم من سخرية الأغيار واستهزائهم، فقد عرفت أنّه من لوازم المغايرة في الديانة، وكم لاؤلئك الأغيار من الأعمال ما يجلب عليهم سخريتنا واستهزائنا، إذاً فليسقط الاحتجاج بالسخرية والاستهزاء.
المادة (٤): إنّ إدماء الرؤوس بالسيف موجب لإدخال الضرر على النفس، والإضرار بالنفس حرام بلا كلام.
والجواب عن ذلك: إنّ أولئك المدمين لرؤوسهم لا يعترفون بدخول الضرر عليهم من قبل ذلك الإدماء،فلا وجه للإنكار عليهم بعمل لا يكون ضرريّاً بالقياس
إليهم، ولو قدّر أنّ فيهم من يتضرّر بإدماء رأسه اختصّت الحرمة به دون غيره.
هذا، ومن المرجّح عندي أنّ بعض المانعين ممّن أحترم شخصيّتهم، لم يقصد المنع عن القيام بتلك الأعمال مطلقاً، وإن شفّ عن ذلك ظاهر كلامه الذي أرسله على عواهنه، لأنّ علمنا بحسن نوايا ذلك البعض ليضطرّنا إلى تأويل كلامه بالرغم من ظهوره في خلاف التأويل، واللّه الموفّق للصواب، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
(3) كلمة حول التذكار الحسيني
الشيخ محمد جواد الحچّامي
(١٣١٢ هـ ـ ١٣٧٦ هـ)
بسم اللّه ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه
لقد أوقفني الحبّ الصميم والولاء الصادق لسيّد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام وآله النُجباء موقفَ الحُزن والأسى، أنا وفوج, من صَفْوَة إخواني,« بحالٍ للنواظر غير حال» (1) قلوب واجدة, و أنفاس هامدة, وعيون
____________
1- عجز بيت للشاعر معروف الرصافي ت ١٣٦٤ هـ من قصيدة له بعنوان «إلى كم أنت تهتف بالنشيد».
مُغرورقة، وذلك حيث يقام التذكار الحسيني للحادثة الكبرى، والكارثة العظمى، التي حيّرت العقول والحواس، فضربت أخماساً لأسداس.
ولا غرو، فقد ميّزت تلك الواقعة ـ ببوتقة الامتحان والاختبار ـ التبر(1) من الصفر، والإيمان من الكفر، مثّلت للعالم بأسره أخلاقاً محمديّة، إلى شجاعة حيدريّة، إلى إباء عربيّ، وتصلّب دينيّ، أبى(عليه السلام) أن يضرع (2) إلى الدنيّة فيمدّ يد المبايعة إلى ملحد بغيض، لا يعرف من الحقّ موضع قدم، ولا مغرز إبرة.
فجاد بنفسه ونفيسه، وآله وعياله، تضحيةً للدّين، وفداءً لشريعة جدّه سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله وسلم)، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة﴾(3).
فأبانَ وأظهرَ لمن تعامى وتبصّر ما أبطنه هؤلاء المعاندون، من حسيكة (4) النفاق والإلحاد في الدّين، وباطنة المروق عمّا انتحلوه من الإسلام ذريعةً لأطماعهم، ووسيلةً لأغراضهم.
____________
1- التِبْرُ : ما كان من الذهب غير مضروب، فإذا ضُرب دنانير فهو عين، ولا يقال تبرٌ إلاّ للذهب، وبعضهم يقوله للفضة أيضاً.
2- ضَرَعَ الرجل ضَرَاَعةً : أي خضع وذلَّ.
3- الأنفال: ٤٢
4- أي ضِغنٌ وعداوة.
وإليك شاهداً على ذلك ما ارتكبوه منه ومن عياله من الهمجيّة القحّة(1)، والوحشيّة الفاضحة التي يتحامى عرينتها(2) ويتقاصر دونها وحوش الزنج والبربر.
وبينا أعوم في تيار الأفكار في فوائد تلك التضحية والفداء، وعوائد هذا التذكار، المعيد للذاكرة غيضاً من فيض(3)، وبَرْضَاً من عِدّ(4)، الجدير بأن يجدّ المعادي جدّه، ويجهد جهده في إطفاء مناره ومحو آثاره، إذ همزني(5) بعض أصحابي الوقوف، فأشرفني على العدد المحزن (١٦٦١) من جريدة «الأوقات العراقيّة»، فتطلّعت على مقال عنوانه «يوم عاشوراء».
فازددتُ على ما أنا فيه من الوجد والكآبة، فتصاعدت لذلك حسراتي، وتصوّبت عبراتي، فإنّ العنوان يرمز غالباً إلى المعنون، فأطلقتُ عنان النظر رغبةً بذلك العنوان في مضمار ذلك المقال برويّة وإمعان، وسبرتُ غوره(6) من مبدئه إلى منتهاه، وإذا جلّ مغزاه بل كلّه لا يتجاوز صريح الكذب، وقبيح المين(7) على العلم وحملته على العلماء الأعلام، والقصد إلى إلقاح فتنة عمياء، وبث بذور التعصّب المذهبي بين إخواننا المسلمين، وإليك ذلك فاضحك أو فابكي.
قالت الجريدة ـ ولا أنقل إلاّ عنها، ولا أنتقد إلاّ عليها، حيث لا يهمّني مَن قال، وإنّما يهمّني المقال ـ بعد أن ذكرت اعتياد الجعفريين في هذه الأيام ـ أي في العشرة الأولى من محرّم الحرام ـ على إقامة المآتم والتعازي، وتنظيم المواكب المخترقة للشوارع، حاملة للأعلام والمشاعل ليلاً، وتدفّق الجماهير عراة الصدور، حاسرة الرؤوس، تندب ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله):
____________
1- القُحُّ : الخالص من اللؤم والكَرم ومن كلّ شيء
2- العرين والعرينة : مأوى الأسد الذي يألفه.
3- أي قليل من كثير.
4- البَرْضُ: الماء القليل.
5- أيّ أشار عليَّ ودفعني للاطلاع على هذه الجريدة.
6- سَبَرْتُ الجُرحَ أَسْبُرُهُ: إذا نظَرت ماغَوْرُه.
7- المَيْنُ : الكذب.
«وقد شعر أصحاب السيادة حضرات العلماء الأعلام (1) حفظهم الله تعالى بهذه الحقيقة، وأدركوا بثاقب بصرهم وما وهبهم الله من عقل راجح وعلم غزير، ما لهذه الأعمال من التأثير في سمعة الإسلام في العالم، وفي نظر الأجانب، فقاموا يستنكرون إتيانها، وينهون عنها»(2).
فهلمّ معي أيّها القارئ نسأل من الجريدة : ما مرادها من الأعمال التي قام العلماء باستنكار إتيانها والنهي عنها:
1 – أهي المآتم والتعازي؟
2 – أم هي المواكب المنظّمة، الحاملة للأعلام والمشاعل ليلاً.
3 – أم هي الجماهير المتدفّقة، العراة الصدور، الحاسرة الرؤوس؟
فإن قالت : الأوّل، فغفرانك اللهمّ غفرانك من هذه الجرأة على العلم والعلماء والعقل، والفريّة(3) الصريحة. وهذه العرب ببابك من النجف، إلى بقيّة العراق، إلى
____________
1- إشارة للسيّد محمّد مهدي الموسوي القزويني البصري (ت ١٣٥٨ هـ) صاحب رسالة « صولة الحقّ على جولة الباطل ».
2- انظر رسالة «صولة الحقّ على جولة الباطل (المطبوعة ضمن هذه المجموعة).
3- أي الكذب.
إيران، إلى الهند، إلى سورية، إلى سائر الأقطار الإسلاميّة، تُقيم المآتم الحسينّية، وتأمر بإقامتها، وتتسابق إليها، وتتنافس فيها، ولم نسمع بمنكر ولا مستنكر لها، فضلاً عن محرّم ناه عنها.
وكيف؟! وهذه كتبهم مشحونة بالأحاديث المستفيضة عن أئمّتهم (عليهم السلام) الحاضّة على إقامة العزاء، والحاثّة على البكاء وإظهار الحزن والأسى بما هو غنيّ عن البيان، يظفر به مَن له أدنى إلمام بكتبهم ومجاميعهم في ذلك الموضوع.
وحسبك من واضح الدلالة، وقاطع البرهان على ذلك حديث دعبل (1)
____________
1- أبو علي، وقيل : أبو جعفر، دعبل بن علي بن رزين الخزاعي. وقيل : إنّ دعبلاً لقبه واسمه الحسن، وقيل : عبد الرحمن، وقيل : محمّد. وهو شاعر مطبوع مفلّق، من أهل الكوفة، ولد فيها سنة ١٤٨ هـ ، وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر إلى غيرها من البلدان كدمشق ومصر وخراسان.
كان رحمه الله متفانياً في حبّ أهل البيت (عليهم السلام) وهو الذي يقول : حملتُ خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لستُ أجد أحداً يصلبني عليها.
قتل رحمه الله وهو شيخ كبير سنة ٢٤٦ هـ ، وسبب قتله أنّ مالك بن طوق بعث رجلاً ليقتله وأعطاه عشرة آلاف درهم، فلحقه في الأهواز وقتله هناك.
المشهور المسطور في غالب كتب الشيعة، وبعض كتب أهل السنّة كمعاهد التنصيص(1)، يوم وفوده على الرضا(عليه السلام) وبكائه البكاء الغزير عند إنشاده تائيّته المشهورة(2).
____________
1- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص ٢ : ١٩٨.
2- وهي قصيدة شعريّة رائعة، تعتبر من أحسن الشعر وأسنى المدائح، قالها دعبل في أهل البيت(عليهم السلام)، وأنشدها أوّل مرّة بحضور الإمام الرضا(عليه السلام).
وذكر العلاّمة الأميني في الغدير ٢ : ٣٤٩ أنّ عدد أبياتها هو مائة وواحد وعشرون بيتاً، والموجود في ديوانه المطبوع: ١٢٤ ـ ١٢٥ مائة وخمسة عشر بيتاً.
قال الأصفهاني في الأغاني ٢٠ : ١٦٢: قال دعبل : دخلت على علي بن موسى الرضا(عليه السلام) بخراسان فقال لي: «أنشدني شيئاً ممّا أحدثت» فأنشدته : (مدارسُ آيات…) حتّى انتهيت إلى قولي :
إذا وُتِروا مدّوا إلى واتريهُمُ أَكُفّاً عنِ الأوتارِ مُنْقبضاتِ
فبكى الإمام حتّى أغمي عليه، وأومأ إليّ خادم كان على رأسه: أن اسكت. فسكت ساعة. ثمّ قال لي: «أعد», فأعدتُ حتّى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً، فأصابه مثل الذي أصابه في المرّة الأولى ـ وأومأ الخادم إليّ: أن اسكت, فسكتُ، ومكثت ساعة أخرى، ثمّ قال لي: «أعد»، فأعدت حتّى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: «أحسنت» ثلاث مرات.
وما رواه الماوردي الشافعي ـ المتوفّى سنة ٤٥٠ هـ في كتابه أعلام النبوّة ـ عن عائشة، قالت : دخل الحسين بن علي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يوحى إليه، فبرك على ظهره وهو منكب ولعب عليه، فقال جبرئيل: يا محمّد إنّ أمتك ستفتن بعدك ويقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه الأرض يُقتل ابنك، اسمها الطفّ.
فلمّا ذهب جبرئيل، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أصحابه والتربة بيده ـ وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وحذيفة وعمّار وأبو ذر ـ وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال : «أخبرني جبرئيل أنّ ابني الحسين يُقتل بعدي بأرض الطّف، وجاءني بهذه التربة فأخبرني أنّ فيها مضجعه»(1).
هل ترى أنّ علياً(عليه السلام) لم يشارك النبيّ(صلى الله عليه وآله) بالبكاء، وكلّ منهما ثكلى؟!
أمّ أنّ باقي الصحابة يحجمون عنه مع فعل النبيّ وعلي له؟!
بل من الضروري المحقّق أنّ الكلّ اشتركوا في البكاء.
وهل هذا إلاّ عين إقامة العزاء، عزاء وأيّ عزاء؟! المقيم له النبيّ المختار،
____________
1- أعلام النبوّة : ١٠٨.
والباكي فيه كبار الصحابة .
وإذا ثبت رجحان البكاء عليه، وإقامة العزاء له في حياته، فيثبت بالأولوية القطعيّة رجحانهما بعد وفاته، إذاً فكيف يجسر عاقل ـ فضلاً عن عالم فقيه ـ على استنكار مثل ذلك أو النهي عنه؟! أعاذنا الله من مفتريات الأنقال، ومحرّمات الأقوال.
وإن قالت الجريدة: مرادي الثاني ـ أي المواكب المنظّمة، الحاملة للأعلام والمشاعل ـ زد على ذلك التمثيل والتشبيه، المعبّر عنه بلسان العامّة بالسبايا والشبيه، فإنّ الجريدة وإن أغفلت ذكر تلك الزيادة أوّلاً، وتعرّضها أخيراً عند نقلها تحريم المحرّم، حيث قال : «فإنّه حفظه الله لم يكتفِ بتقبيح إقامة السبايا في الشوارع وتنظيم المواكب، بل حرّمها تحريماً باتاً»(1).
فهو من سوء التعبير وإدماجه، وإلاّ فهي الجديرة بالذكر أوّلاً وآخراً، ولكنّا لسنا بصدد انتقادها من هذه الوجهة، أو من وجهة الخروج عن القواعد العربيّة، كخفضها «الجعفريين» وهم مرفوعون، وغير ذلك ممّا لا يخفى على الناقد البصير.
___________
1-قال في رسالة «صولة الحقّ على جولة الباطل» (المطبوعة ضمن هذه المجموعة) ١:١٨٠ «ما زلت بحمد الله سبحانه وحُسن توفيقه صادحاً ـ منذ دخولي البصرة من شهر شعبان إلى اليوم ـ في الناس بالنهي لهم عمّا قد تعوّدوه من الإتيان بضروب المحرّمات والمنكرات والسخافات والحماقات، وجعلهم إياها من جملة الديانات الشرعيّة، خصوصاً مسألة التشبيهات التي يمثّلونها في عاشوراء، فصرت مُنوّهاً برفضها ومصرّحاً بما فيها من التحريم، لأني أراها مجلبةً لسخرية الملل الخارجة وداعياً من دواعي الاستهزاء.
فحرّمتها علناً منادياً بذلك بين الخلق، هادياً لهم إلى سبيل الحقّ والرشاد، ومقدّساً للدّين القويم عمّا جعله منه جماعة الجاهلين».
فنقول: التمثيل والتشبيه ـ بما هو حكاية عن شيء غابر بشيء حاضر، بتمثيل حركاته وسكناته وتنقّلاته وكلماته، مشاهدة بالعيان والحاسّة البصريّة، بعد ما لم تكن مشاهدة إلاّ بالقوّة الخياليّة ـ أمر عاديّ قديم، تستعمله غالب الفرق، من مسلمين وأجانب.
فهؤلاء المسلمون، من مصريّين وشاميّين، مازالوا ينفقون الأموال الطائلة الجسيمة، والحلل الفاخرة الثمينة، في سبيل تذكار هودج أو محمل عائشة أم المؤمنين، حتّى يُساق بكلّ حفاوة واحترام، أمام موكبهم الموقّر إلى بيت الله الحرام وحرم النبيّ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
وناهيك اهتمام الأجانب في عقد المحافل والمحاشد والاجتماعات الضخمة الفخمة لرواياتهم التمثيليّة، فالتمثيل ليس بأمر حادث مُبتدع، بل عاديّ قديم متّبع.
ونحن وإن تحاشينا عن القول بوجود آية أو رواية تندب إليه، وتحضّ عليه، فلا نتحاشى عن القول بجوازه وإباحته بالنظر إلى ذاته وعنوانه الأوّلي، أي بما أنّه تمثيل وتشبيه، وإلاّ فقد يكتسي الحرمة والمبغوضيّة أو الرجحان والمحبوبيّة بالنظر إلى العناوين الثانوية.
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾(1) والقيام بواجب المودّة في القربى المسؤول عنها بقوله تعالى: ﴿قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى﴾(2).
ومن ذلك يهون الخطب، ويسهل الأمر لو قالت الجريدة : مرادي الثالث، أي تعرية الصدور، وحسر الرؤوس. فإنّ الصدور العارية، والرؤوس الحاسرة، تفجّعاً وتوجّعاً، وتذكاراً لصدور مرضّضة، ورؤوس مقطّعة، لَمِنْ أوّل مراتب القيام بواجب المودّة في القربى المسؤول عنها، ومن أدنى تعظيم الشعائر السالف ذكرها.
وبعدئذ فهل يحسن للجريدة ويجمل بها أن تنسب للعلماء الأعلام ـ افتراءً
___________
1- الحجّ (٢٢): ٣٢.
2- الشورى (٤٢): ٢٣.
3- أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت ٥٣٨ هـ) قال في تفسيره «الكشّاف عن حقائق التنزيل» ٣ : ٤٦٧ في تفسير قوله تعالى (قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى) الشورى (٤٢) : ٢٣ : والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة. والمراد: في أهل القربى، وروي أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودّتهم؟ قال : «علي وفاطمة وابناهما».
وتزويراً ـ استنكارَ الإتيان بتلك المشروعات الراجحة والنهي عنها، وهي بمرأى منهم ومسمع ومنتدىً ومجمع، لم يَفه أحد منهم بكلمة، ولم ينبس ببنت شفة.
كيف، وهذه فتاواهم بين يديك معربةً عمّا قلناه، مصرحةً في ما ادّعيناه، فإليك اللهمّ نبرأ من هذه الفريّة، الذاهبة بالعار والويلات على مفتريها.
ثمّ إنّ الجريدة بعد ما خلطت الحابلَ بالنابل، ونقضت ما أبرمَت، وحرّمت ما حلّله الشرع ورجّحه اجتهاداً في مقابلة النصّ، دخّلت المسألة في صورة سياسيّة، وتحكّكت تحكّكَ العقرب بالأفعى, فكانت كالساعي إلى حتفه بظلفه، فقالت ـ بعد أن ذكرت أنّ أمنيتها الوحيدة هي إعلاء كلمة الإسلام، وإزالة التعصّب المذهبي ـ : «إنّ هذه المواكب هي عامل من عوامل التفرقة ورمز يشير إليها».
ولم تحسّ ولم تبصر ـ ولا عجب، فإنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ـ أنّ الحسين بن علي(عليهما السلام) مجمع علاقات وانتسابات لكثير من العالم البشري، فالعربي يتعلّق به وينتسب إليه بعربيّته وإن جحدَ رسالة جدّه ودعوته، والمسلم بسائر ملله
ونحله يتعلّق به وينتسب إليه برسالة جدّه ونبوّته عليه، ولا اختصاص للشيعي عن غيره إلاّ باعتقاده إمامته، وهذا لا يقضي له بالميّزة والاختصاص عمّن سواه من أولئك المنتسبين، بل الجدير بالجميع الاشتراك في إقامة تذكاره ونصب عزائه، حزناً على مصابه، وتقديراً لمساعيه المشكورة، وتخليداً لخدماته المحمودة.
اللهمّ إلاّ أن يسبق إلى القيام بواجب تلك العلاقة الحسينيّة بعض ذويها، فيفوز بفضيلة السبقة إليها، وحلاوة الشكر والثناء، من بقيّة المشاركين له بها على كفايته مؤونة القيام بواجبها، فإنّ الحسين(عليه السلام) ـ كما علمت ـ حسين الجميع: العربيّ، والسنيّ والشيعيّ. يعود فخره وشرفه إليهم على حسب تعلّقهم به وانتسابهم إليه، فهو جامعة من جوامعهم، ورابطة أكيدة من روابطهم، فكيف يكون تذكاره الشريف «عاملاً من عوامل التفرقة بينهم، ورمزاً مشيراً إليها»؟! كما زعمته الجريدة ودلّسته اختلاساً للحقّ والحقيقة، ودسّاً للسمّ في الدسم، وهل يكون الجامع مفرِّقاً؟!
وإلاّ فالناقد البصير أجل من أن يخدع بمثل هذه الأساطير، أو يطرب على
مثل هذه التصدية(1) والمُكاء(2)، ولا يمتعض أو يتمعّر(3) من تقدير نابغة من نوابغ قومه على فضيلة جديرة بالتقدير وإن خالفه بالنحلة والمذهب.
فهذا السَمَوْأل(4) حيث وافقنا بالقوميّة العربيّة وإن خالفنا بالنحلة الدينية، نقدّر وفائه المشهور، حتّى اُقيمت له رواية تمثيليّة في بعض مدارسنا النجفيّة.
ثمّ إنّ الجريدة لم تقنع بذلك حتّى زادت في الطين بلّة، وفي الطُنبور نغمة، فقالت : «إنّني استفظع هذه المواكب، كما استفظع أعمال الوهّابيّين في الحجاز».
فليتها ضربت صفحاً، وطويت كَشْحَاً(5)، عن ذلك التشبيه الهائل، الآخذ بضبع التطرّف والتزلّف والتمايل عن قيل الحقّ إلى الباطل، فاكتفت بما زخرفته من قوارع كلامها التي أسكتت لهول دويّها الأسماع، فأينَ الصلاح والإصلاح اللذان سعت الجريدة بتمام سعيها إليهما، وأوقفت حياتها عليهما؟ فعليها وعلى صلاحها وعلى إصلاحها السلام.
___________
1- الصَدَى : الذي يُجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها.
2- المُكاءُ : الصَفير، وقد مَكَا يَمْكُو مَكْواً وَمُكَاءً: صَفَرَ.
3- تَمَعَّرَ لونُه عند الغضب: تغيَّر. الصحاح ٢ : ٨١٨ «معر».
4- قال السيوطي في شرح شواهد المغني ٢ : ٥٣٥: السَمَوْأل، بفتح المهملة والميم وسكون الواو وبعدها همزة مفتوحة ولام: اسم عبراني، وقيل: عربي مرتجل، وهو منقول من اسم طائر، واسمه فعوعل بن عريض بن عاديا ـ بالمد والقصر ـ ابن قبا. والسموأل بن غريض بن عاديا اليهودي، صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء، وبه يضرب المثل بالوفاء; لأنّه أسلم ابنه ولم يخن أمانته في دروع أودعها عنده امرؤ القيس لمّا صار إلى القسطنطينية يطلب منه معونة القيصر،وقد توفّي نحو سنة ٥٦٠.
انظر : الأغاني ٢٢: ١٢٢، العقد الفريد ١ : ٩٣،
5- طويتُ كَشحي على الأمر : إذا أَضمَرْتَهُ.
2013-02-28