على الرغم من أن العراق يحتوي على عدد كبير من الآثار الظاهرة والشاخصة للعيان، فضلا عن الآثار الموجودة في باطن الأرض والتي لم تصل إليها أيدي الآثاريين حتى الآن باعتباره كان مهدا لأقوى وأكبر الحضارات في العالم، إلا أن العديد منها لم تلق الاهتمام. ويرى الآثاريون أن ما تم استخراجه من أرض العراق اقل من 9 % من هذه الآثار لذا فان العراق يعتبر قطعة أثرية نادرة.
ومحافظة النجف جزء من أرض العراق وتحتوي على آثار قيّمة وحضارية تدل على جهد تراثي لأبناء هذه المدينة، ومنها بناء الأسوار الستة للمدينة وكذلك المراقد المقدسة والمساجد الموجودة في ضواحيها، فضلا عن عدد آخر من الآثار.
من هذه الآثار قلعة تدعى خان (الشيلان),
تاريخ الخان
شيد هذا الصرح التراثي في أواخر العهد العثماني سنة 1899م ووجوده في شارع الخورنق وسط مدينة النجف الأشرف القديمة، وبالتحديد في محلة البراق عند نهاية الطرف الشرقي لها، وهي ملاصقة تماما للسور السادس للمدينة، ولها تاريخ قديم يمتد إلى 200 سنة، أي إلى بدايات القرن التاسع عشر الميلادي. والجدير بالذكر أن الخانات في الماضي تعد من المؤسسات الخدمية المهمة لما كانت تقدمه من خدمات في المبادلات التجارية وتوفير الأمن للبضائع والأفراد وتسهل المعاملات المصرفية، حيث تؤدي نشاطا كما نشاط البنوك اليوم، وفي داخله حوانيت للصيرفة إلى جانب توفيرها السكن اللازم للتجار والزائرين.
ويتألف خان الشيلان، الذي بني على أرض مساحتها 1500 متر مربع، من قبو وطابقين علويين بغرف كثيرة ومتداخلة، تتقدمها أواوين مقوسة، بنيت بأسلوب معماري جميل، وعلى الجدران نقوش وزخارف إسلامية، أما السقوف، فمبنية على شكل أقواس من الطابوق والآجر.
وقد اختلفت الروايات حول من بناه، حيث يرى بعض المؤرخين أن هناك روايتين حول الشخص الذي بنى هذه القلعة حسب روايات أهل المدينة, الأولى: انها بنيت عن طريق شخص يدعى الحاج (معين)، والثانية: شخص يدعى أغا محمد البو شهري. أما الغرض والهدف من البناء هو إيواء الزائرين القاصدين مرقد الإمام علي (ع) حيث لم تكن الفنادق ودور الضيافة مقامة في المدينة القديمة التي كانت تقتصر على أربعة أحياء فقط هي البراق والمشراق والعمارة والحويش وعندما تقدم الزمن واستحدثت الفنادق أصبح وجود هذه القلعة حضارياً آثارياً مقر للحكومة واستطاعت الحكومة العثمانية خلال فترة حكمها للعراق أن تجعل من خان الشيلان مقراً حكومياً لإدارة النجف وتسيير الأمور الإدارية والعسكرية في المدينة وبعد الضعف الذي حل بالسلطة العثمانية والهزيمة التي لحقت بهم من قبل القوات البريطانية، استغل أهالي النجف الوضع وسيطروا على الخان وأقاموا فيه حكومة أهلية امتدت لسنتين وبعد سيطرة الجيش البريطاني على العراق تحولت تبعية الخان إلى القوات البريطانية وأصبح ثكنة للجيش البريطاني ومعتقلا لأغلب الشخصيات الثورية، حيث ذكره احد الشعراء (إبراهيم أبو شبع) عندما اقتادوه الجنود الانكليز إلى المعتقل وقال قولته الشهيرة (إلي ما يزور الشيلان عمره خسارة) لأن أغلب وجهاء النجف كانوا محجوزين فيه.
وعند اندلاع ثورة العشرين حول الثوار الخان بالعكس إلى معتقل ضم العديد من الضباط البريطانيين والجنود الإنكليز والهنود ممن وقعوا أسرى بيد الثوار في معركة الرارنجية شمال شرق مدينة النجف ولازالت جدران الخان تحتفظ بكتابات الأسرى الانكليز ذكريات الجنود وفي قرار قضائي أعادت محكمة بداءة النجف خان الشيلان التاريخي إلى هيئة الآثار في المحافظة، حيث كسبت الدعوى القضائية ضد المساطح لخان الشيلان الأثري الذي قام بتأجير الخان على طريقة المساطحة لمدة عشرة سنوات مقابل الحفاظ على المعالم التاريخية والأثرية للخان، هذا ويعد عمره أكثر من مائتي سنة، ويحمل ذكريات الجنود والأسرى البريطانيين أثناء احتلالهم العراق في عام 1914.
ويبدو أن وقفية الخان لم تنفذ بالشكل المرسوم لها، إذ استطاعت الدولة العثمانية، خلال حكمها في العراق، أن تهيمن على هذا الخان، وتجعله تحت سيطرتها وتحوله إلى إدارة عثمانية تحكم النجف، من خلال هذه الإدارة أنشئت في الخان ثكنة عسكرية تابعة إلى الحكومة العثمانية، في الحرب العالمية الأولى، وقد انهزم العثمانيون في معركة الشعيبة في البصرة حينها استغل النجفيون فترة الضعف العثماني والهزيمة العسكرية التي لحقت بهم، فسيطر النجفيون على الخان، وطردوا السلطة العثمانية منه، وأقاموا حكومة أهلية امتدت لسنتين، من عام 1915، حتى 1917، وفي هذه السنة سيطر الإنكليز على العراق بشكل كامل.
وعندما دخل الجنرال البريطاني مود إلى بغداد، قام بإرسال قوة عسكرية للنجف، وسيطرت على خان الشيلان، وعندها انتهت الحكومة الأهلية وأصبحت الحكومة بريطانية في عام 1918 حيث قامت أول حركة ثورية ضد البريطانيين، وقتل فيها الحاكم البريطاني، الكابتن مارشال، فقامت القوات البريطانية بتطويق المدينة لمدة 40 يوما، ومن بعدها هيمن الإنكليز على المدينة، وأعادوا خان الشيلان إلى السلطة البريطانية للحفاظ على الأثر، ويمكن أن يتحول إلى متحف أثري لثورة العشرين، تجمع فيه الأسلحة والرايات والكتابات وكل ما يتعلق بثورة العشرين، ويمكن أن يتحول إلى معلم تاريخي يعيد الحياة إلى الخان المهم.
وشهد الشيلان عند اندلاع ثورة العشرين 1920 (ضد الإنكليز) حدثا كبيرا، إذ أودع فيه العديد من الضباط البريطانيين والجنود الإنكليز والهنود ممن وقعوا أسرى بيد الثوار في معركة الرارنجية شمال شرق مدينة النجف كما ذكرنا وان 80 من الأسرى كانوا بريطانيين، بينهم ضابطان، فضلا عن 66 هنديًّا بين مسلم، ووثني، وسِيخِيّ وان عدد الأسرى وصل إلى 167 أسيراً، بعد أن أضيف لهم أسرى آخرون.
وتجدر الإشارة إلى انه تم تشكيل لجنة خاصة لرعاية الأسرى من قبل مكاتب المرجعيات الدينية في النجف.
وجبة الأرزاق التي توزع على الأسرى تضمنت الخبز والتمر والخيار والسكر والشاي والتبغ والكبريت وظروف رسائل، كي يكتب الأسرى رسائل إلى أهلهم ومدة مكوث الأسرى في الخان كانت قرابة الأربعة أشهر، سلموا بعدها إلى ممثل الحكومة البريطانية حيث أن جدران خان الشيلان لا زالت تحتفظ بكتابات الأسرى الإنكليز، ومذكراتهم ورسومهم ومنها «سننال الحياة بمعنى الحرية»، «والصبر فضيلة». إضافة إلى أن هناك نحتا على الجدران بآلة حادة، عبارة عن جدول أشاروا فيه إلى التواريخ، حيث يبدأ بيوم الأحد 25 يوليو (تموز) 1920 وينتهي بأكتوبر (تشرين الأول)، وبالتحديد عند يوم الاثنين الرابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فلم يؤشر ذلك التاريخ حيث كان موعدا لإطلاق سراحهم وعلى الجدران أيضا خطت أسماء الأسرى، وأرقام ورموز بعض القطع العسكرية، ورسوم تخطيطية، منها صور لحماية عسكرية يحرسها أحد الجنود، وصورة جندي هندي من السيخ بلحيته الطويلة، وأخرى ترمز إلى مدينة النجف، ومرقد الإمام علي عليه السلام، إذ هي عبارة عن قبة وأمامها بوابة، وصورة طائرة وهي تحلق في سماء النجف، وتحت احد الشجرات صاحب بندقية، وهو يرمي على الطائرة، وكذلك صورة كابتن بريطاني بقبعته العسكرية والطريف ما كتبه أسرى على الجدران، ومنها رسالة حب كتبها أحد الأسرى إلى خطيبته يقول «مع كل تمنياتي للوطن.. أنتهز الفرصة مع أصدقائي وبين هول الموت من الغرفة الصغيرة لأبعث بويلاتي لعروستي المفضلة، وإني الآن في مصير مجهول، ولا أدري هل يتم اللقاء بيني وبينك, أنا الآن في وضع لا أعلم منه ماذا سيحدث لي».
ونتيجة لسوء الاستخدام انهار احد القوسين الكبيرين للخان وتسبب في تشويه كبير لهذا المعلم الأثري الذي يختزل الكثير من تاريخ المدينة الثقافي والسياسي.
وأخيرا عادت ملكية الخان إلى دائرة آثار النجف التي سبق وان كان الخان بعهدتها وقد قررت وزارة الثقافة وبأمر من رئيس الوزراء تحويل خان الشيلان إلى متحف لمدينة النجف ليكون احد معالم مشروع النجف عاصمة الثقافة 2012.
النجف نيوز /رسول عبد الزهرة الكعبي
|