النجف تواصل المسيرة:
إن فشل ثورة النجف عام 1918م ــ 1337هـ لا يعني مسح فكرة التحرر من أذهان الأحرار، بل تبلورت الفكرة أكثر وكثر أنصارها ومريدوها. وبدأ العمل لتهيئة الفرصة المناسبة للانقضاض الفترة التي سبقت ثورة العشرين وما بعدها.
لقد عارضت هذه المدينة وبشدة الاستفتاء الذي أرادته سلطة الاحتلال لاختيار الحاكم في العراق. وكان لعبة مفضوحة أريد منها تكريس الاحتلال وتسلط الانكليز لحكم العراق حكماً مباشراً.
(وعندما نشرت الصحف البغدادية في 3مايس 1920م ــ 1339هـ بلاغاً رسمياً يشعر بوضع العراق تحت الانتداب البريطاني… طبعت النجف على عجل عشرات ألوف المناشير في مطابعها الحجرية والحديثة تحض على الثورة ضد الانكليز وجرى توزيعها في جميع أنحاء العراق([1]).ونشط التحرك السياسي ضد الانكليز، وكان للميرزا محمد رضا نجل الإمام الشيرازي دور بارز في الحركة الوطنية في كربلاء، مما اضطر الانكليز لإلقاء القبض عليه (فقامت في كربلاء والنجف مظاهرات صاخبة… وقد استمرت هذه المظاهرات عدة أيام اشتد السخط خلالها على الانكليز)([2]).
ولما صدرت فتوى الإمام محمد تقي الشيرازي التي جاء فيها: (المطالبة بالحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الانكليز عن قبول مطاليبهم) جندت هذه البلدة طاقاتها وطبعت آلاف النسخ وأودعتها بأيدي الأحرار من أبنائها لنشرها في أنحاء العراق([3]).
وشفعتها بحملة واسعة من الدعاوى ضد الانكليز وحرضت العشائر على عدم الرضوخ لأوامر المحتلين.
وفي 30حزيران عام 1920م ــ 1339هـ، اعتقلت القوات الانكليزية رئيس عشيرة الظوالم شعلان أبو الجون الذي اختلف في وصفه المؤرخون فمنهم من استبعد علمه المسبق بالثورة([4]) ومنهم من عدّه من الأقطاب الذين أقسموا على الاشتراك في الثورة ضد الانكليز([5]) فثارت الرميثة بعد إخراج شعلان من المعتقل وكانت عشائر الشامية على اتفاق مع الثوار([6]) وكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى التي انطلقت منها ثورة العراق الكبرى([7]).
وعند وصول خبر الرميثة إلى النجف قامت بطرد الحامية الانكليزية وتبعتها إلى الكوفة وحاصرتها هناك وصارت النجف عاصمة الثورة منذ البداية حتى النهاية([8]).
وتلاحمت قوى الثورة الخيرة في ساحات الشرف، وامتدت حركة التحرير في طول البلاد وعرضها، إلا أن ظروفاً خاصة رافقت الحركة أدت إلى انهيار بعض الجبهات وانسحاب أثر ذلك الانهيار على الجبهات الأخرى، وسلوك الانكليز مختلف أساليب الغدر والخيانة وشراء الذمم، وبالتالي ألقي السلاح قبل إتمام المهمة والوصول إلى الغرض الذي من أجله روت دماء الشهداء أرض العراق الحبيب.
ولعبت الدبلوماسيات دوراً مهماً، وأغدقت الأموال والمناصب على الأصدقاء والمساندين، وألجمت الأفواه، وأخمدت النيران، وأصبح في العراق حكم مغلف بالوطنية والعروبة.
وبالرغم من جميع النتائج المعاكسة وجثوم كابوس الاحتلال على صدر المدينة الباسلة، لم تهن ولم تيأس وساهمت مساهمة فعلية في تبديل الحكم الانكليزي المباشر للعراق بحكام عرب.
لقد سادت أفكار متضاربة في اختبار شكل الحكم والإدارة في البلد.حتى أن المحتلين أنفسهم اختلفوا في ذلك. فهل يخضع العراق للحكم الانكليزي المباشر أو يقوم فيه حكم جمهوري أو ملكي أو شكل آخر يمكن أن يكون حلاً وسطاً يرضي الثوار والمحتلين؟ وكان لكل فكرة أنصار ومؤيدون.
ومن خلال ذلك الصراع، تمت الموافقة على أن يحكم العراق ملك عربي مسلم، وانتهت الطبخة باختيار (فيصل) لعرش العراق. وكان للنجف ــ تحت تأثير أجواء خاصة ذكرها الأستاذ حسن الأسدي([9])ــ أكبر الأثر في اختيار أحد أنجال الشريف حسين ملكاً على العراق.
وكان مندوب الثورة للشريف حسين نجفياً. ولما وصل فيصل العراق عن طريق البصرة، ووصول ركبه إلى الحلة اتجه لزيارة النجف([10]). ثم أن اختيار فيصل ليوم تتويجه كان بتأثير من النجف ــ حسب الظاهر ــ.
ومهما يكن من أمر فيصل، فإن تحرك هذه المدينة بتلك الصورة كان مقبولاً آنذاك من وجهة النظر القومية والدينية. فالملك الجديد عربي ومسلم. إلا أن تعيينه ملكاً على العراق قد تقرر في مؤتمر القاهرة في آذار 1921م ــ 1340هـ الذي عقده المستر تشرشل لحل مشاكل الشرق العربي([11]) وخلال الحكم الملكي في العراق حدثت عدة مفارقات وحوادث كان الأحرار لها بالمرصاد. وكان لهذه البلدة صوت مسموع في الأوساط السياسية والشعبية في القطر.
(ففي 4آب 1922م ــ 1341هـ، قامت مظاهرات في النجف ومدن الفرات تطالب بالاستقلال التام. وعقد اجتماع كبير في المشخاب حضره زعماء الفرات الأوسط ورؤساء قبائله وتداولوا في قضية الانتداب والمعاهدة فقرروا إرسال برقيتين واحدة إلى فيصل الأول والثانية إلى المندوب السامي غير أن زعماء الحركة الوطنية قرروا القيام بمظاهرة كبرى في النجف في يوم الغدير فانعقد مجلس كبير في دار العلامة السيد أبي الحسن الأصفهاني في 12آب واستدعى (محافظ) كربلاء عبد العزيز القصاب لحضور الاجتماع… وفي نهاية الاجتماع تقرر الاكتفاء بتأييد ما جاء في البرقيتين اللتين أرسلتا إلى الملك والمندوب السامي في 4آب 1922م ــ 1341هـ)([12]).
(أما بخصوص انتخابات المجلس التأسيسي، ولما لم تستجب الحكومة لشروط زعماء الحركة الوطنية فقد تأزم الوضع عندما أعلن رجال الدين في النجف وكربلاء والكاظميين تضامنهم واتحادهم مع زعماء الحركة الوطنية وقرروا مقاطعة الانتخابات ما لم تستجب مطالب الحركة الوطنية. وأصدرت الهيئة العلمية في النجف فتوى جاء فيها: لا يجوز الانتخاب ومن انتخب خرج من ربقة الإسلام([13]) وكان تأثير الفتاوى كبيراً على الجماهير فقد توقفت الانتخابات في النجف وكربلاء والحلة والكوفة وأعلن الموظفون في الكاظمية عن فشلهم في تأليف اللجان الانتخابية كما انتشرت المقاطعة في الموصل والعمارة والمنتفك)([14]).
وفي مؤتمر لوزان عام 1923م ــ 1342هـ، طلبت تركيا إلحاق الموصل إلى أراضيها باعتباره خارج النفوذ البريطاني حين إعلان الهدنة عام 1917م ــ 1336هـ، واستمرت المشكلة فترة من الزمن وكان للنجف دور في هذه القضية حيث هيأت الرأي العام وأبرقت البرقيات الاحتجاجية إلى مختلف الأوساط والمقامات العليا تطلب حسم القضية وعدم التلاعب بالنار وإلحاق الموصل الحدباء بالعراق حتى قال الشاعر المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي مخاطبا المجلس التأسيسي:
يا أيها النواب صوتوا شعبكم بالاتحاد وبالحجى والبـــــأس
الموصل الحدباء رأس بلادكم والجسم يفنى بعد قطع الرأس([15])
وشاركت هذه المدينة أحرار العراق في الوقوف بوجه الأحلاف والمعاهدات الجائرة، فنظمت التظاهرات، وأرسل علماء الدين الفتاوى لتأييد الأحرار. وبرقيات الاحتجاج إلى السلطة الحاكمة: وكان لكل ذلك أثر واضح في حدوث التغيرات وتتابع الوزارات والمجالس النيابية.
لقد وقفت هذه المدينة بوجه معاهدة 1930ـ 1349هـ وساندت الحركة التحررية عام 1941م ـ 1360هـ، وشاركت في وثبة كانون عام 1948م ـ 1368هـ وكان لها دور نشط في انتفاضة تشرين عام 1952م ـ 1372هـ. ونظمت تظاهرات الاحتجاج والاستنكار ضد (حلف بغداد) الاستعماري عام 1954/ ــ 1374هـ وفي عام 1956م ــ 1376هـ وعلى أثر الاعتداء الثلاثي على الشقيقة مصر العربية (كانت مدينة النجف الأشرف السباقة إلى المعركة([16]) … في الثالث والعشرين من تشرين الثاني انطلقت مظاهرة صاخبة يتقدمها رجال الدين. وفي صباح اليوم الثاني زحفت مظاهرة طلابية من مدرستي الخورنق والسدير جابهتها الشرطة بالرشاشات واستمر إطلاق الرصاص على التلامذة الصبيان عشرين ديقيقة سقط على أثره عدد من القتلى والجرحى)([17]).
واستمرت المظاهرات على الخروج إلى شوارع المدينة وساحاتها عدة أيام (ووزع الوطنيون في صباح 28/11 بيان حجة الإسلام كاشف الغطاء (محمد حسين) يندد فيه بسياسة الحكومة أحدث صدى عظيماً بين أبناء المدينة وبين عشائر الفرات الأوسط القريبة منها وعند العصر تجمع الناس في الصحن الشريف حيث تلي عليهم نص البيان ثم انطلقوا في مظاهرة صخمة جداً اشترك فيها نحو عشرين ألف شخص([18]).
لقد ناضل أبناء العراق نضالاً بطولياً، وقدموا أجسم التضحيات، إلى أن حان وقت جني الحاصل فكان وفيراً ثميناً حيث حقق الجيش العظيم اليوم العظيم يوم الخلاص من التسلط والتبعية يو الرابع عشر من تموز عام 1958م ــ 1387هـ.
لقد خرج الشعب العراقي كله إلى الشوارع والساحات ليعبر عن فرحته بيوم النصر وكانت النجف كذلك تعيش أعراس النصر بالتظاهرات الضخمة ولعدة أيام.
ولا تزال هذه المدينة إلى يومنا هذا قاعدة صلدة من قواعد النضال الثوري في القطر العراقي ورافداً غنياً للحركة الثورية العربية.
[1] حسن الأسدي/ ثورة النجف، ص381.
[2] نفس المصدر السابق، ص383.
[3] نفس المصدر والصفحة.
[4] فراتي/ على هامش الثورة العراقية الكبرى، ص16.
[5] حسن الأسدي/ ثورة النجف، ص383، وانظر الحسني/ الثورة العراقية الكبرى ص100، وفريق المزهر/ الحقائق الناصعة1: 104
[6] المس بيل/ فصول من تاريخ العراق القريب، ط2،ص448 ترجمة جعفر خياط.
[7] محمد علي كمال الدين/ معلومات ومشاهدات في الثورة العراقية الكبرى سنة 1920، ص121.
[8] حسن الأسدي/ ثورة النجف، ص384.
[9] ثورة النجف، ص377 ــ 380.
[10] عبد الشهيد الياسري/ البطولة في ثورة العشرين، ص349.
[11] حسن الأسدي/ ثورة النجف، ص380.
[12] د. عبد الأمير هادي العكام/ الحركة الوطنية في العراق 1921 ــ 1933، ص80 ــ 82.
[13] قال الأستاذ صالح شمسة: كان نص الفتوى هكذا: (من اشترك فيها “يعني الانتخابات” فقد حاد الله ورسوله).
[14] د. عبد المير هادي العكام/ الحركة الوطنية في العراق، ص 118ـ 120.
[15] د. عبد الرحيم محمد علي/ البيان المفيد في رسم الخط القرآن المجيد، ص9.
[16] المقصود بالمعركة هنا المعركة الاحتجاجية ضد حكم نوري السعيد.
[17] أحرار العراق/ انتفاضة العراق الأخيرة، ص52ـ 53.
[18] نفس المصدر، ص55.
المصدر: النجف الأشرف عاداتها وتقاليدها- طالب علي الشرقي.