الخميس , 21 نوفمبر 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » النجف في كتابات الغربيين » النجف في المراجع الغربية القسم -2-

النجف في المراجع الغربية القسم -2-


هجمات الوهابيين

najaf_in_gharb29

في الربع الأخير من القرن الثامن عشر انتشرت الدعوة الوهابية في نجد وما جاورها من الأصقاع المتاخمة للعراق، وصار الوهابيون بما عرف عنهم من عنف وتعصب يهاجمون المناطق المطلة على البادية من هذه البلاد بين حين وآخر خلال مدة طويلة من الزمن. وكان نصيب النجف وكربلاء، بحكم موقعهما القريب من البادية وصبغتهما الدينية المعروفة وما فيهما من قبب ونفائس، شيئاً غير يسير من هجماتهم المدمرة وغزواتهم الصاعقة العنيفة.

وكان أعنف ما شنه الوهابيون من غزوات على العراق الغزوة التي هاجموا فيها مدينة كربلاء في يوم الغدير من سنة 1216 للهجرة، المصادف لليوم الثاني من نيسان 1801 حينما كان معظم سكانها يؤدون الزيارة في النجف. ويقول المستر (لونكريك) في هذا الشأن إن وصول الكهية المتأخر إلى كربلاء لم يجدها نفعاً ولكنه قصد النجف بعد ذلك ونقل ما كان في خزينتها من نفائس وتحف إلى بغداد خوفاً من أن يعود الوهابيون اليها فينهبوها كما فعلوا في غزوتهم لكربلاء، والكهية المقصود في هذه الرواية هو عليّ باشا كهية والي بغداد المملوك سليمان باشا الكبير. وتقول مراجع أخرى إن الوالي أمر بنقل النفائس التي كانت موجودة في خزانة النجف إلى خزانة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وعهدبذلك إلى الحاج محمّد سعيد بك الدفتري. وأمر كذلك بتعزيز حامية النجف فأبقيت فيها ثلة من عسكر الموصل وشرذمة من العقيليين. 200px-History

وبعد هذا الحادث بسنتين أي في 1803 م (1218 هـ)، هاجم الوهابيون النجف، وشنوا عليها غزوة عنيفة. ويقول المستر لونكريك في هذا الشأن ان الغزو الوهابي للنجف في الأيام الأخيرة من تلك السنة كان بقوة أشد من القوى الاعتيادية، وان قبة عليّ بن أبي طالب بقيت ثابتة الأركان في داخل سورها المنيع وحينما خفت اليها قوات عليّ باشا الكهية عاد الغزاة من حيث أتوا واختفوا عن الأنظار. والمعروف في المراجع النجفية الموثوقة ان الوهابيين حينما وصلوا إلى البلدة وجدوا أبواب السور مغلقة، ومن بقي فيها من السكان قد تهيئوا للدفاع عنها حتى النفس الأخير. وقد تولى هذا الدفاع والاشراف عليه سماحة الشيخ جعفر كاشف الغطاء(1) بنفسه، واشترك فيه عدد من العلماء والأعلام وغيرهم.

وفي ربيع 1806 هاجم الوهابيون العراق من عدة جهات من جملتها النجف كذلك. ومما يذكر لونكريك بهذه المناسبة ان جماعاتهم الغازية ظلت تغزو قرى الحدود من الطف ولكن من غير أن تنال نجاحاً في غزواتهم. وكان سكان البلدان من الزبير إلى السماوة مع حلفائهم من القبائل يصدون هجماتهم بسهولة. وقد أوشكوا أن ينجحوا في غارتهم المفاجئة على النجف الأشرف لولا أن عاجلهم النجفيون من السور فكسروهم شر كسرة(2). ويؤيد ذلك ما جاء في (تاريخ العراق بين احتلالين) من انّ سعوداً سار بجيشه إلى المشهد وأحاط بها ثم أمر رجاله بتسوّر السور ومهاجمة البلد.

___________

 – 1ص 327 ماضي النجف وحاضرها، ط2.

 2 – ص 218 من الترجمة العربية، ط 2.

 

لكن وجود الخندق العميق حوله حال دون نجاحهم في ذلك. وقد جرت مناوشات عنيف وقتال بين الطرفين ورمي الوهابيون من السور وأبراجه فقتل عدد غير يسير منهم فردوا على أعقابهم.

ومما ورد على ألسنة الشيوخ وتداولته الألسن: انه حينما ضيق الوهابيون الحصار على النجف وانقطع بذلك طريق تموين البلدة بالطعام واقتصر شرب الماء على الآبار المالحة وضاق بالناس الحال أفتى العلماء هناك بالجهاد، ودعوا الناس إلى الاجتماع في الصحن الشريف وهناك تليت عليهم فتوى الجهاد التي توجب على كلّ مسلم مستطيع أن يقوم بقسطه من الدفاع عن المدينة المقدسة وساكنيها خصوصاً بعد أن يئس الناس من وصول الجيوش العثمانية لنجدة المدينة، وقد صنف المجاهدون إلى أصناف، صنف يتقدم الجموع المهاجمة وهم حملة البنادق والذين يجيدون رمي الحجارة بالمقاليع، وصنف يتولى محاصرة هؤلاء المهاجمين بنفس السلاح، وصنف يناط به حفظ أسوار المدينة وأبوابها وتسهيل عودة المهاجمين إذا ما اقتضى انهزامهم، وصنف عليه تموين المحاربين بالحجارة الصالحة، ولم تكن البنادق يومذاك معروفة إلاّ نادراً والحرب كانت حرب سيوف ورماح في الغالب وكانت في النجف بندقية هي بين المدفع والبندقية وصفاً، وكانوا قد نصبوها فوق نقطة معينة من السور وكانوا يحشونها بالبارود والخرق وكرات الحديد والحصى ثم يولعون الفتيل بطريق قدح الزناد فتقذف هذه البندقية بمقذوفاتها في مسافة ربما لا تتجاوز المائتي متر وتسبب سخرية الوهابيين وضحكهم أكثر مما تسبب خوفهم.

وبعد أن تم تصنيف المجاهدين من قبل الزعماء من أولي الخبرة بالحرب تقرر أن يفتحوا باب المدينة بعد منتصف الليل من الليلة التالية وعلى غفلة من الوهابيين الرابضين فيحملون عليهم حملة رجل واحد في جنح الظلام وهكذا كان، وكانت الليلة من الليالي الحالكة وكانت مفاجأة غير منتظرة أشاعت الذعر في الإبل الباركة فهبت من مراحها لا تدري أين تولي وجهها، وتساقط الرصاص والحجار كالمطر على البدو النائمين المطمئنين فإذا ببعضهم يضرب بعضاً وإذا بعدد كبير من الوهابيين يسقط قتيلا وجريحاً. وحين عاد المهاجمون عادوا ومع الكثير منهم أشياء من الأواني والأعمدة والرماح والسيوف، لقد عادوا وأغلقوا أبواب المدينة من جديد خلفهم، وحين طلع النهار رأى الوهابيون ان الحصار لم يعد نافعاً خصوصاً وقد مرت عليهم أيام طوال عادت عليهم بكثير من خسارة النفوس سواء في أثناء محاولتهم تسلق السور أو من هذا الهجوم المفاجئ الذي تجاوز حدود القتلى والجرحى فيه الحد المعقول على ما روى الرواة وهذا العدد الكبير من الإصابات الواقعة على الجمال فارتحلوا عن البلدة في صباح تلك الليلة، ومنذ ذلك اليوم والنجف تعنى عناية خاصة بتدريب أبنائها على رمي الحجارة بالمقاليع ولم تمح هذه الرياضة إلاّ مؤخراً.

الناجم عنها، سبباً مهماً من الأسباب التي أدت إلى انتظام سكانها في جماعات وأحزاب تستهدف تنظيم الدفاع عن البلدة والعمل على صد الخطر الوهابي عنها. وكانت أهم هذه الجماعات جماعتي الزكرت والشمرت المعروفتين. وقد تطورت الأحوال بين هاتين الجماعتين بمرور الزمن واشتد النزاع بينهما زمناً طويلا. وإلى ذلك يشير (لونكريك) إشارة مختصرة يفهم منها ان هذا النزاع العريق في القدم قد اشتد في أيام الوالي سعيد باشا (1815) حتى انقلب الى عراك علني. وتطور إلى أكثر من هذا بعد ذلك حتى تحدى فيه عباس الحداد رئيس الزكرت الحكومة، وظلم الناس واعتدى عليهم، فاضطر داود باشا في السنة الثانية من حكمه (1818 أو 1234) إلى تجريد قوة خاصة لتأديبه. ويقول صاحب دوحة الوزراء(1) ان صالح أغا الاندروني انتدب لهذا العمل وكلف بأن يأتي بعباس الحداد حياً، غير انه تعذر عليه ذلك فقتله في معركة جرت بينه وبين الجيش التركي وقتل صاحبه (دبيس) معه، ثم جيء برأسيهما إلى بغداد فانتهت الفتنة بين الزكرت والشمرت. ويؤيد ذلك في مذكراته التي كتبها بالفرنسية تاجر أرمني من أهالي استانبول كان مقيماً ببغداد آنذاك يدعى أوانيس مراديان(2)

 

النجف في 1824 ـ 1852

وفي سنة 1824 (1240 هـ) مر المسيوفونتانييه(3)، نائب القنصل الفرنسي في البصرة يومذاك، ببغداد وزار واليها داود باشا. وقد كتب في وصفها ما يشير به إلى النجف كذلك; فهو يقول “.. إن بغداد وقد مررت بها في 1824 لم تكن بغداد الموصوفة في ألف ليلة وليلة وإنما لها طابعها الشرقي، فانها أصبحت مجمعاً للمسلمين نظراً لوجود ضريح الإمام عليّ على مسافة منها، ولا شك ان وجوده

____________

-1  الص 289 من الترجمة العربية عن التركية.

2- ذكر نص اليوميات يعقوب سركيس في “مباحث عراقية” ج 2.

V.Fontanier Voyage dans L’lnde et le Golfe Persique.-3

 

داود باشا
داود باشا

يدعو شيعته إلى زيارته والقدوم إليه.. ويقال ان مئة ألف أجنبي يمرون سنوياً بمدينته (أي بغداد) للذهاب إلى زيارة ضريح الإمام عليّ. وهذا الازدحام يجعل من أية نقطة في البر وسطاً تجارياً كبيراً” ولابد من الإشارة بهذه المناسبة هنا إلى السائح الفرنسي أدريين دوبريه كان قد مر ببغداد أيضاً في 1807 وأقام فيها مدة من الزمن فوصف أشياء كثيرة فيها بالتفصيل. وكان من جملة ما أشار إليه قوله ان عدد الزوار الذين كانوا يمرون ببغداد سنوياً في طريقهم إلى الزيارة في النجف وكربلاء كان يتراوح بين خمسة عشر ألف وعشرين ألف نسمة، وكان مرورهم من بغداد بهذا الشكل يؤثر على تجارتها ومصنوعاتها بطبيعة الحال(1). غير إن هذه الأحوال لابد من أن تكون قد تبدلت حينما داهم بغداد والعراق الأوسط والجنوبي بأجمعه الطاعون الكبير في 1831، فدمرها وقضى على معالم الحياة فيها. فتسنى لعلي رضا باشا على أثره القضاء على داود باشا وتنحية المماليك عن الحكم إلى الأبد. وقد زار بغداد هذه الفترة الرهيبة، أي في 1834، الرحالة الانكليزي المستر بيلي فريزر فشهد آثار الخراب فيها ووصف في رحلته الطاعون وما خلفه في أرجائها وصفاً مخيفاً(2). ومما يقوله فريزر في الرحلة عن زوار العتبات المقدسة ان الطرق ما بين بغداد وبينها قد سدت في وجوههم، وانهم صاروا يتعرضون للسلب والنهب بكثرة وبصورة مؤسفة. وهو يقول كذلك ان الكثيرين منهم كانوا يجازفون بالسفر إليها فيعودون إلى بغداد بعد أيام معدودة وقد سلبوا إلى حد العري، ومن دون أن يتسنى لهم الوصول إلى العتبات. ويشير إشارة عابرة إلى انقطاع حبل الأمن في النجف نفسها في أيام داود باشا واضطراره إلى سوق الجيش عليها. ولا شك أنه يقصد بذلك عصيان عباس الحداد وقتله مما أتينا على ذكره قبيل هذا.

____________

1 –ص174 ج1

Adrien Dupre – Voyage en Perse Fait dans les annees 1807.9 en traver – sant la Natolie et le Mesopotamie (Paris1819).

2 وقد ترجمه كاتب هذه السطور إلى العربية بعنوان (رحلة فريزر)

J.B. Fraser -Traveis in Koordistan & Mesopotamia, (London1840) .

 

 وحينما تولى الحكم في بغداد نجيب باشا (1842) كانت الخطة التي ابتهجها في تصريف شؤون البلاد تستهدف القضاء على العشائر من دون رحمة وتفكيك كيانها بقدر المستطاع; ولذلك عرفت أيامه بالحملات العشائرية المتالية، وقد سار في إحدى حملاته هذه إلى النجف كذلك فقمع اضطراباً كان ناشباً فيها على حد قول المستر (لونكريك)، وكان ذلك في عام 1845. على اننا لاحظنا ان بعض المراجع العربية عن مثل (ماضي النجف وحاضرها) تجعل سير نجيب باشا لقمع الاضطرابات في لنجف سنة 1258 هـ (1842)، أي بعد أن انتهى من تنكيله بكربلاء وسكانها. لكن (لونكريك) يعود فيذكر حادثة مماثلة في النجف يومذاك لم تكن أحسن مما كانت في كربلاء، لأن فريقيها المتخاصمين، وهما الزكرت والشمرت، لم يعبأ بالباشا ولا بالسلطان، وكان كلّ شيء في المدينة يتم بموجب فتاوى المجتهدين النافذة ورغبات الرؤساء وقد أدى نزاع اعتيادي في البلدة سنة 1852 إلى ثورة فخفت القوات التركية اليها; وبعد عراك شديد في الشوارع دام يوماً واحداً تمكن الأتراك من إنزال العقاب بالبلدة. ووقع مثل هذا الحادث في 1854 كذلك، حينما بعث الوالي نامق باشا ضابطاً من قبله فدخل البلدة بالرغم من قوة الفريقين الموحدة.

 

النجف في رحلة لوفتس

 وفي 1853 زار النجف رحالة انكليزي يدعى لوفتس، وقد كان عضواً من أعضاء لجنة الحدود التي تجولت في منطقة الحدود العراقية الإيرانية في 1849 فعملت على تثبيتها. وفي سفرة ثانية إلى العراق لأغراض علمية آثارية تجول في البلاد فكتب رحلته(1) المعروفة في وصف الموصل فبغداد فالفرات الأوسط فالبصرة فعربستان. وقد جاء إلى النجف الأشرف في صيف 1853 من الحلة وفي معيته درويش باشا متصرف الحلة وطاهر بك الحاكم العسكري فيها، مع ثلة من الجنود الأتراك.

____________

 ( 1 )ص 46، الفصل السادس.

 Loftus, W.k.-Travels & Researches in Chaldeae & Susiaua,London 1857 

 

ولذلك نراه يذكر شيئاً عن الكوفة التي وصل إليها من الكفل قبل وصوله إلى النجف بطبيعة الحال. فيورد عدداً من الروايات عنها، منها، أن موقع الكوفة كان هو الموضع الذي نزل فيه جبرائيل إلى الأرض فصلى لله عزّ وجلّ، ومنه انبثقت مياه الطوفان الطاغية على عهد نوح (عليه السلام) فاستقل فلكه هرباً منها. ويزعم العرب بالإضافة إلى ذلك ان الحيّة حينما أغوت حواء نفيت إلى هذا المكان عقوبة لها; ومن هذا نشأت فكرة اتصاف أهالي الكوفة بالمكر والخداع. وبعد ذلك يأتي على ذكر الكوفة في أيام العرب، وأهمية الخط الكوفي، ومقتل الإمام (عليه السلام) فيها من قبل الخوارج، ثم يشير إلى أنها لم يبق منها في وقت زيارته لها (أي في 1853) سوى عدد من التلول وبقايا جدار من جدرانها مع أنها كانت تمتد على ما يقال إلى ما يقرب من كربلاء (مسافة 45 ميلا.(

وحينما ينتقل إلى ذكر النجف يقول أنها أسست على أنقاض مدينة الحيرة القديمة، التي نشأت الأسر العربية المالكة المعروفة فيها، ولا شك أنه يشير بذلك إلى المناذرة. وكانت الحيرة على حد قوله قد التجأ اليها خلال القرن الثالث للميلاد كثيرون من النصارى اليعاقبة هرباً من الاضطهاد والفوضى التي انتابت أحوال الكنيسة. وبهذه الوسيلة اعتنق ملك الحيرة ورعاياه الديانة المسيحية قبيل مولد النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). ويتطرق إلى فتح خالد بن الوليد للحيرة ويقول أنها فتحت بسهولة بعد قتل ملكها في المعركة، وبذلك فرضت عليها الجزية التي كان مقدارها (7000) قطعة ذهب في السنة. وتعد الحيرة أول بلد فتحه المسلمون خارج الجزيرة العربية; كما تعد الجزية التي فرضته عليها أول جزية فرضوها على أي بلد من البلاد الأجنبية.

ويصف لوفتس موقع النجف الجيولوجي وشكلها العام كذلك فيقول أنها تقع فوق هضبة من الحجر الرملي الميال إلى اللون الأحمر، وترتفع إلى أربعين قدماً فوق السهول المحيطة بها.

  وقد وجد أسوارها عامرة ممتازة، يحيط بها خندق عميق خال من الماء. ثم يتطرق إلى بحر النجف فيقول انه يمتد نحو الجنوب الشرقي إلى مسافة أربعين ميلا، وينشأ من نهايته السفلى نهران يقال لهما: شط الخفيف (Khuff) وشط العطشان. وحينما يطغى الفرات طغيانه السنوي 3543_546368835408477_1064032450_nالمألوف يفيض إلى بحر النجف فتصبح المسافة الممتدة بينه وبين السماوة كلها قطعة واحدة من المياه، يطلق عليها “خور الله” أما ماء هذا البحر فيكون عذباً صالحاً للشرب حينما تصب فيه مياه الفرات، ويصبح ملحاً أجاجا حينما تنقطع عنه، وعند ذلك يضطر الأهالي إلى جلب الماء من الكوفة.

ويبدو مما كتبه لوفتس انه دخل الصحن الشريف بمعية درويش باشا وطاهر بك; وبحراسة من الجنود الأتراك المدججين بالسلاح. وهو يقول في هذا الشأن انه كان من النادر أن تسنح لأي مسيحي الفرصة للدخول إلى أماكن عبادة المسلمين ولا سيما في مكان مقدس مثل مشهد الإمام عليّ. وحينما أبدى فكرة الدخول إلى طاهر بك وجد تشجعياً منه على ذلك. ولما مرت جماعتهم بالسوق المؤدي إلى الصحن كان الناس على عادتهم الشرقية ينهضون للتحية; فيردونها لدرويش وطاهر لكنهم كانوا ينظرون شزراً إلى (الأفرنج). وقد تجمع حشد من الناس وراءهم، وحينما قاربوا باب الصحن كانت النظرات التهديدية والهمسات الخافتة تدل على انهم كانوا أناسا غير مرغوب فيهم. لكن الجند اصطف في مدخل الصحن فاجتازوا من بينهم دون تردد.

ويقول لوفتس انه لا يمكن أن يصف الشعور الذي يخالج الناظر إلى جميع ما كان في داخل الجامع من زينة في البناء وتناسق في الألوان، لأن ما يراه كان لابد من أن يولد انطباعاً خالداً في نفسه. ويصف شكل الصحن الشريف والضريح المطهر الموجود في وسطه، مشيراً إلى زينة القاشاني المحتوية على الرسوم المتناسقة للطيور والأوراق النباتية والكتابات المذهبة ثم يذكر ان أركاناً ثلاثة من أركانالصحن كانت تقوم فوقها مآذن ثلاث كسيت الاثنتان الأماميتان منها بالآجر المغلف بالذهب الذي يكلف تذهيب الواحدة منه مبلغ تومان واحد، أو ما يعادل باونين استرلينيين. وهذه مع القبة كانت تؤلف منظراً فخماً يعجز عنه الوصف. وكانت القبة الكبرى المكسوة بالذهب وهي تتوهج في نور الشمس تبدو للرائي من بعيد وكأنها تل من الذهب يقوم من البراري الممتدة من حوله. كما كانت توجد بين يدي الضريح المطهر بركة من النحاس تزيد في جمالها أشعة الشمس المتراقصة فوق سطحها الصقيل اللماع الذي يكاد يحاكي سطح القبة نفسه في بهائه وتلألؤه.

ولم يدخل لوفتس إلى الحضرة، لكنه يذكر ان داخليتها كانت على النمط نفسه من البهاء والرونق الأخاذ. لأنه علم ان أرضيتها كانت مبلطة بقطع منتظمة من الأبريز المصفى، وان عدداً غير يسير من الأعلاق الفنية المهداة من المسلمين المؤمنين كانت تزين الداخل كله.

ويذكر كذلك ان الصحن كانت تباع فيه أشياء وحاجات كثيرة، فيقارن ذلك بالمعبد في بيت المقدس الذي دخل اليه المسيح قبل ثمانية عشر قرناً فوجد الناس يبيعون فيه الثيران والأغنام، والصرافين يتاجرون بالعملة. ولقد لفتت نظره على الأخص طيور الحمام الكثيرة كذلك.

ويقول لوفتس انه حينما خرج مع جماعته بعد مدة غير طويلة لاحظ في السوق ان الوجوه كانت مكهفرة والجو مكهرباً، فأدرك السبب الذي حدا بطاهر بك إلى أن يأتي بالجند المسلح معه.

ولقدسية النجف هذه كان يقصدها الزوار الشيعة من جميع الأنحاء على حد قوله، وعلى هؤلاء كانت تعيش البلدة بأجمعها. وهو يقدر معدل عدد الزوار الذين كانوا يفدون عليها في كلّ سنة بمقدار (80,000) شخص، كما يقدر عدد الجنائز التي كان يؤتى بها للدفن بشيء يتراوح بين (5000) و (8000) جنازةفي السنة وكانت الجثث تنقل من بعيد على ما يقول بصناديق مغلفة باللباد الخشن، وتحمل على ظهور البغال، ولذلك كانت كلّ قافلة تصل إلى بغداد من إيران على الأخص لابد من أن يكون من بين أجمالها عدد من هذه الصناديق التي كان منظرها مألوفاً في الطرق المؤدية إلى النجف.

وكانت الأجور التي تفرض على دفن الجنائز تتراوح ما بين عشرة توامين ومئتي تومان (خمسة إلى مئة باون استرليني)، وأكثر من ذلك أحياناً. وكثيراً ما كانت الجنائز تتكدس خارج السور مدة من الزمن حتى يتم الإنفاق على الأجرة التي يتحتم على الأقارب دفعها.

ثم يذكر ان توارد الزوار على النجف بكثرة قد أغناها غناء غير يسير في تلك الأيام، كما يستدل من التوسع التي طرأ عليها في تلك السنين والسور الجديد الذي اُنشيء لها. وكذلك يشير إلى انه وجد أن نهراً كان يحفر لإيصال الماء إلى البلدة من الفرات، وحل مشكلته، وإلى فضول أهالي النجف وتجمعهم حول الأجانب القادمين من الخارج إلى حد أن البعض منهم كان يأتي بأهله ونسائه للتفرج عليهم.

 

في أواسط القرن التاسع عشر

ومما يذكره ريتشارد كوك(1) صاحب كتاب (بغداد مدينة السلام) عن النجف في هذه الحقبة من السنين ان الحكومة التركية مدت شبكة التلغراف اليها فربطتها وكربلاء بخط الفرات التلغرافي. وكانت قد تعاقدت في 1857 مع الحكومة البريطانية على قيام المهندسين الانكليز بإنشاء خط تلغرافي على نفقة الحكومة التركية. وبعد أربع سنوات ربطت بغداد بالعالم الخارجي بواسطة الخطوط التلغرافية، ثم أضيفت خطوط أخرى في السنوات التي أعقبت تلك المدة ما بين بغداد والخليج عن طريق الفاو، وما بينها وبين خانقين. وكان الفاو يمر بطريق الفرات، فمُد فرع منه إلى النجف وكربلاء.

____________

1 – Richard Coke – Baghdad the City of Peace,London 1935

 

وقد زار بغداد في 1855، أي في عهد الوالي كوزلكلي رشيد باشا، سائح ألماني مشهور ومستشرق يجيد العربية وقواعدها، يدعى (بيترمان)(1) فأقام فيها مدة تناهز الخمسة أشهر، وكتب كثيراً عما شاهده فيها فضمنه رحلته التي طبعها بالألمانية في لايبزيغ سنة 1864. وهو يذكر فيها ان زوار النجف وغيرها من العتبات المقدسة كانوا يتواردون من ايران إلى بغداد باستمرار، وقد بلغ عددهم في تلك السنة حوالي ستين ألف زائر كما يستنتج من عدد التذاكر التي أصدرتها السلطات التي كانت مسؤولة عن الحجر الصحي يومذاك في خانقين.

وفي 1869 (1286 هـ) تعين في ولاية بغداد الوالي المصلح مدحت باشا، فعمل على تجديد الولاية وحكومتها وإدخال الحياة العصرية إلى البلاد. غير أنه اصطدم بأشياء كثيرة كانت تحول دون اقتران الكثير من أعماله بالنجاح الذي يعود بالمنفعة على البلاد، فقد كانت العقبة الكبرى في طريقه هذا عدم تيسر المال اللازم لمشاريعه، ولذلك فكر في جمعه بطرق ووسائل شتى. فكان من جملة ما فكر به في هذا الشأن أن يبيع النجف والنفائس الموجودة في خزانة النجف وغيرها من العتبات المقدسة، غير انه لم يستطع تحقيق ذلك بطبيعة الحال. ويقول المستر لونكريك(2) في هذا المقام انه لم يكن قادراً على تحقيق مشروع كان عزيزاً عليه، وهو بيع خزائن النجف وإنفاق مبالغها على الأشغال العامة. ويمكن أن نذكر بالمناسبة ما ورد في المراجع العربية عن بعض محاولاته المماثلة في الإصلاح.

___________

1- H. Peterman.

 2 – ص 285 من الترجمة العربية، ط 2.

 

ناصر الدين شاه
ناصر الدين شاه

 فقد أعلنت(1) الحكومة التركية على عهده في أوائل محرم الحرام سنة 1287 إعلانا يمنع فيه إخراج مواكب العزاء الحسينية المعتادة ويحدّد نطاقها. وحينما قدم إلى بغداد ناصر الدين شاه في طريقه لزيارة النجف وسائر العتبات سنة 1870 (28 شعبان 1287) مكث في العراق حوالي ثلاثة أشهر، وقد جرت خلال هذه المدة مفاوضات بينه وبين مدحت باشا حول الكثير من المسائل التي كانت معلقة بين البلدين. فكانت من جملة النقاط التي تم الاتفاق عليها قضية نقل الجثث من مسافات بعيدة ودفنها في النجف الأشرف. فقد اشتُرط في ذلك، دفعاً للمحاذير الصحية، أن لا يسمح بنقل الجثث للدفن إلاّ بعد أن تكون قد قبرت في موطنها أوّلا ومرت عليها هناك سنة واحدة على الأقل(2).

وبمناسبة ذكر الجنائز والزوار أرى من المناسب أن أثبت هنا ما ذكرته الرحالة الفرنسية المعروفة مدام (ديو لافوا) في رحلتها، وكانت قد جاءت إلى العراق في ولاية تقي الدين باشا الثانية على العراق سنة 1881 (1299هـ) مع زوجها عالم الآثار الفرنسي المسيو (مارسيل ديو لافوا) فهي تقول عن الجنائز “.. وفي حوالي الغروب ظهرت من بعيد بناية كبيرة من الآجر هي خان كبير شيده المحسنون بجهودهم ومالهم، وفيه بضع حجر واسعة معدة لاستراحة زوار العتبات المقدسة… ولما كان الجو بارداً لم نرَ بداً من اختيار إحدى تلك الحجر للنزول فيها، ولكننا ما كدنا نترجل من جيادنا حتى علت إلى أنوفنا عفونة أوشكت أن تزكمها، ولفتت نظري أشياء مركومة بعضها فوق بعض فتقدمت منها أتفحصها، وما كدت أمد يدي حتى ارتدت إليَّ وكأ نها قد مسها تيار كهربائي واضطربت أشد الاضطراب، فقد كانت هذه الأشياء المحترمةالمركومة جثث موتى بعضها قد لفت في بساط أو سجاد وحزمت بحبال وبعضها في توابيت خشب يبدو من بين شقوقها اللحم الناشف المسود لهؤلاء الموتى.

_________

 -1 جريدة الزوراء 4 محرم 1286.

 -2الص 243 تأريخ العراق بين احتلالين ج 7.

 

 وعلى أثر هذا خرجنا سريعاً تاركين هذا الخان الغريب ونزلنا في محل يبعد عنه كثيراً لنقضي فيه ليلتنا.. وعلى رغم ابتعادنا عن الخان بمسافة ليست قليلة كانت رائحة العفونة تضايقنا كلما هب النسيم من جانبه.. والواقع ان دفن الموتى في النجف وسائر المراقد المقدسة أصبح عادة لفريق من المسلمين منذ أوائل عهد الإسلام.

وتقول عن الزوار أنهم كانوا يتواردون من ايران على بغداد في طريقهم إلى الكاظمية والنجف، وكانوا عند دخولهم اليها من باب الشرقي يتعرضون إلى الكثير من عبث الأطفال وهرجهم، وإلى الرمي بالحجارة في أغلب الأحيان. ومع جميع الأذى الذي كان يصيبهم من ذلك كانوا لا يفكرون في يوم من الأيام بتقديم الشكوى إلى السلطات التركية أو إقامة أية دعوى في المحاكم، لأنهم كانوا يعلمون انهم لا يحصلون على نتيجة ملموسة يتجنبون المصاعب بها. فالمسؤولون الأتراك كانوا يشجعون هذه الأعمال على حد قولها، وكانت كلّ شكوى تقدم من الزوار اليهم تقابل بالهزء والسخرية.

 

جون بيترز في النجف

على ان أهم من كتب عن النجف من الغربيين في تلك السنين الاُستاذ الأمريكي (جون بيترز)(1) رئيس بعثة بنسلفانيا للتنقيب عن الآثار القديمة في نفَّر (منطقة عفج)، الذي زارها في سنة 1890. فقد جاء إلى النجف من السماوةبعد أن كتب منها إلى (شاؤول) الصراف اليهودي في الحلة بتدبير شؤونه المالية وموافاته فيها.

____________

1- 1958) Madame J. Dieulafoy.La Chaldee,et la Susiane (Paris 1887)  1888- 1890 London & New york 1897, Vol,ll

 

وهو يروى قبل أن يذهب إلى النجف حادثاً يتعلق بوضع الزوار في الطرق العامة في تلك الأيام. فبينما كان المستر بيترز يزور قائمقام السماوة خليل بك في دائرته الرسمية إذ دخل عليهما رجل من زوار الهنود وهو نصف عاري، وأخذ يشكو بتوسل وخضوع ما فعل به رجال الأمن “الضابطية”، فقد مسكوه في قارعة الطريق وسلبوا منه جميع ما كان عنده من مال ومعظم ألبسته وحاجاته.

ونظراً لمخاطر الطريق البري ما بين السماوة والنجف قرر المستر (بيترز) أن يسلك الطريق النهري برغم ما فيه من متاعب وصعوبات. فاستأجر طرادة من السماوة واستقلها مع خدمه وجماعته، وبعد أن سارت بهم في الفرات بضع ساعات سلكوا طريق شط العطشان حتى وصلوا إلى الشنافية. ومن هناك دخلوا بحر النجف، وبعد ساعات عشر وصلوا إلى جزيرة صغيرة في وسطه يقال لها “اُم الرغلات” وفيها شاهدوا عدداً من الزوارق كانت تقل الكثيرين من الزوار الايرانين الذين نزلوا للمبيت. ثم أقلعوا منها قاصدين ساحل البحر المذكور حيث كانت توجد مزرعة صديقه الحاج (طرفه) شيخ مشايخ (عفج) ومن هناك دخلوا جدول المشرب، ثم نزلوا بعد ساعات في أبي صخير.

وحينما ركبوا الدواب وتوجهوا إلى النجف مروا في طريقهم بخرائب مدينتين كان اسم إحداهما “طعيرزات”، وهي على ما يعتقد موقع الحيرة القديمة. ويفهم من كتابات بيترز ان النجف كانت تسد أبوابها عند الغروب، ولذلك أجهدوا أنفسهم في السير لئلا يتأخروا في الوصول اليها فتوصد أبوابها في وجوههم. لكن المكاري طمَّنهم من هذه الناحية لأنهم كان بوسعهم أن يدخلوا إلى النجف منثلمة يعرفها في السور فيما لو تأخروا في الوصول على أنهم يضطروا إلى ذلك في الأخير، لأنهم وجدوا عند وصولهم ان الأبواب كانت ما تزال مفتحة وعلموا من شاؤول الصراف، الذي كان ينتظرهم عند الباب، بأنه كان قد عرف بوصولهم إلى أبي صخير ورجا القائمقام بأن يوعز بإبقاء الأبواب مفتحة حتى يتم وصولهم إلى النجف.

وأول ما يدوّنه بيترز عنها انه كان يتوقع ان يلاقي صعوبة في الدخول اليها والتجول في أنحائها، بالنظر لما قرأه عنها وعن تعصب أهلها في رحلة لوفتس (المار ذكرها) لكنه وجد ان الأمر بعكس ما كان ينتظر، لأنه استطاع التجول في البلدة بكل حرية وتمكن من تصوير مناظر عدة من بينها منظر الجامع الكبير نفسه.

وكان في معيته شخصان أرمنيان يدعيان: (آرتين) و (نوريان)، وقد استطاع خدامه العرب إدخالهما معهم إلى داخل الصحن والحضرة المطهرة كذلك، أحدهما بصفة زائر إيراني والآخر بصفة تركي من اسطنبول. ثم قص عليه (نوريان) جميع ما شاهده في الداخل. إذ قال له انه اُجبر على تقبيل السلسلة الكبيرة وجانبي الباب الكبير. وحينما دخل إلى الصحن المحاط بالأروقة ألقى الجدران مزينة بالقاشاني، والمرايا المنزلة بالفضة. ووجد أن مئذنتين كانتا مكسوتين بالذهب من علو قامة واحدة إلى القمة، كما وجد الضريح في الداخل تعلوه القبة الكبرى المذهبة بذهب يأخذ بالأبصار. وبعد أن خلع هو ومن كان معه أحذيتهم دخلوا إلى الحضرة المطهرة يصحبهم عدد من الجنود، ويتقدمهم سيد بعمامة خضراء. ثم يصف الزينة الفاخرة والقاشاني والفضة والمرايا التي كانت تدل كلها على فخامة بربرية على حد تعبيره. وتأتي كذلك كيفية أداء الزيارة وراء المزوّر ومسك الشباك، لكنه يقول انه كان على درجة متناهية من الاضطراب والخوف من افتضاح أمره. ولذلك لم يستطع ملاحظة جميع ما كان يريد أن يلاحظه بالتمام، وكذلك كان الآخرون ومن أجل هذا عزم على الدخول إلى الزيارة في اليوم الثاني، لكنه صادف في السوق رجلا من تجار بغداد يعرفه تمام المعرفة فخشي من أن يشي به فلم يفعل.

figure_2.jpg
الحمير تنقل الجنائز والطابوق

ويقول (بيترز) أنه وجد النجف مدينة مزدهرة، يتراوح عدد نفوسها ما بين العشرين والثلاثين ألف نسمة وقد ألفاها محاطة بسور متداع، مشرف على السقوط. وكانت البيوت، مثل السور، مبنية بالطابوق المستمد من خرائب الكوفة، ولذلك كانت الحمير تشاهد وهي تنقل هذا الطابوق يومياً من الكوفة إلى النجف. وكان ماء النجف أحسن ماء شربه (بيترز) في هذه البلاد! وقد كان يؤتى به اليها بقناة تمر من تحت الأرض. على أنه يقول ان طعم الماء المستقى من الآبار كان يغلب فيه طعم الكلس.

وبعد أن يشير إلى المساحة الكبيرة التي كانت تحتلها القبور فوق الهضبة الرملية في خارج السور، يأتي على ذكر الجنائز أيضاً ونقلها من مسافات بعيدة فيقول ان النجفيين مع كثرة ما يرد إلى بلدتهم من الجنائز على الدوام فانهم لا تتسرب اليهم عدوى الأمراض، كما لوحظ بالفعل في أثناء انتشار الهيضة في العراق سنة 1879. ويعلل ذلك بحصول نوع من المناعة عندهم مستنداً في ذلك على أقوال الأطباء. وهذا قول غير صحيح من الناحية العلمية بطبيعة الحال، لكن (بيترز) معذور فيه لأن نظرية العدوى والميكروبات العلمية لم تكن قد اكتشفت في تلك الفترة من الزمن.

ولما كان (بيترز) عالماً من علماء الآثار القديمة فانه يعتقد بأن العرب في المنطقة الجنوبية يعيشون عيشة تشبه عيشة البابليين قبل أربعة آلاف سنة في كثير من الأشياء.ويقارن بين الطقوس الدينية القديمة والحالية، وبين ما يلاحظ في الوقتالحاضر من نقل الموتى ودفن جثثهم في الأماكن المقدسة، ومن وجود (الأكشاك) في أبواب الصحن لبيع الكثير من الحاجات واللوازم، وما كان يحصل في أبواب معبد (بيل) في (نُفَّر) من قبل.

وقد زار (بيترز) الكوفة أيضاً. وهو يقول ان الرحالة الذين جاءوا اليها في بداية القرن التاسع عشر يشيرون إلى وجود الكثير من آثار البلدة العربية القديمة فيها لكنها لم يبق منها حينما زارها هو سوى بعض التلول والأساسات لأن طابوقها قد نقل كله للاستفادة منه في بناء أبنية النجف نفسها. ويذكر في كتابه ان هناك في غربي الكوفة نهراً مندرساً كبيراً يسمى “كري سعده”. ويروي الخرافة التي تروى عن تسميته بهذا الاسم، وهي ان تاجراً غنياً من تجار البصرة كان قد أحب امرأة جميلة اسمها “سعده” من أهالي المنطقة الكائنة ما بين هيت وعانة في شمال البلاد. وكانت هذه المرأة تهوى ضفاف الأنهر المظللة، فاشترطت عليه حينما خطبها من أهلها أن تنقل إلى البصرة في طريق النهر الذي يمر بالأماكن التي يجللها الظل. فما كان منه إلاّ أن يحفر لها هذا النهر ويغرس الأشجار على ضفافه. ويعتقد بيترز ان “كري سعده” هو الجدول الكبير الذي حفره (نبوخذ نصر) فمده من موقع يقرب من هيت إلى الخليج ليحي به مساحات شاسعة من الأرض الموات.

وقد توجه بعد ذلك إلى كربلاء، بعد أن دفع أجور الخان وقيمة أكواز الماء التي شرب فيها لأنها قد تنجست بعد أن استعملها فاقتضى كسرها والاستغناء عنها. وفي خان الحماد الذي نزل ليستريح فيه وجد رجلا من أهالي النجف يصطحب عدداً من الزوار الإيرانيين معه. فعلم منه ان خزائن النجف التي لا تقدر بثمن كانت تتألف في الحقيقة من خمس خزائن: واحدة للجواهر الثمينة والأعلاق النفيسة، وأخرى للأموال، وثالثة للسجاد والطنافس، ورابعة للأسلحة الفاخرة، وخامسة لأنواع “البهارات“.

 

 في أوائل القرن العشرين

وفي أوائل القرن العشرين جاءت إلى هذه البلاد سائحة انكليزية تدعى المسز (رولاند ويلكنس) فلفت نظرها حينما كانت في طريقها من بغداد إلى الحلة لزيارة أطلال بابل سفر الزوار الإيرانيين بجماعات وقوافل خاصة. فهي تقول في كتابها(1) عن الرحلة إلى هذه الجماعات أنها مرت في طريقها إلى بابل بجماعات الزوار الإيرانيين الذين كانوا في طريقهم لزيارة الإمام الحسين في كربلاء، والإمام عليّ في النجف. وكان الكثيرون منهم يأتون من بلادهم مشياً على الأقدام، لكن بعضهم كان يركب البغال ويحمل معه فوق ظهورها حاجاته القليلة في إخراج سفرية خاصة. وتقول كذلك ان هؤلاء الزوار كانوا يأتون معهم بالجنائز مشدودة بصورة مستعرضة فوق أظهر الحمير; لأن أمنية المؤمن الحقّ هنا أن لا يقتصر في أيام حياته على زيارة الأئمّة فقط بل يطمح أيضاً في أن تقبر رفاته بسلام بعد الموت في الأرض المقدسية التي اُستشهد فيها الحسين وأبوه (عليهما السلام(

وفي تقرير(2) عسكري مكتوم، أعدته رئاسة الأركان البريطانية العامة في 1911، عن المنطقة الممتدة من بغداد إلى الخليج، يرد ذكر النجف بتفصيلات تفيد الأغراض العسكرية عنها. فقد ورد فيه ان النجف، أو مشهد عليّ، بلدة يبلغ عدد نفوسها زهاء (12000) نسمة منهم عدد من الهنود المسلمين. وتصل اليها حوالي ستة آلاف جثة في السنة لتدفن في مقابرها نظراً لقدسية المكان ويرد في التقرير كذلك أنها تقع على مسافة ثلاثين ميلا عن الحلة، وتقوم على هضبة

____________

1 –  Louisa Gebb (Mrs Roland Wilkins) -by Desert Ways toBaghdad, London 1908.

2 – ص 30 و80 –   Military Report on the Rehion between Baghdad and thePersian Gulf – Prepared bythe General Staff,1911 (A 1551)

 

من الحجر الرملي ترتفع عن السهول المحيطة بها بحوالي مئة وخمسين قدماً,  وهي محاطة بأسوار يبلغ ارتفاعها خمسة وعشرين قدماً، وسمكها خمسة إلى ستة أقدام, وماؤها قليل يؤتى بالعذب منه بقرب من الجلد من فرع الهندية (الفرات) الكائن على بعد أربعة أميال عن البلدة، ويعتبر ماء الآبار ماءً أجاجا. وتعتمد البلدة في حاصلاتها على قبائل بني حسن . وتوجد فيها حامية عسكرية تتكون من فوج واحد.

أما طريق بغداد ـ النجف فقد كانت الأزواد وفيرة فيه على ما يرد في هذا التقرير ويبلغ عدد الزوار الذين يمرون فيه ما يزيد على الألفي زائر في اليوم خلال موسم الزيارة الذي يمتد لأربعة أشهر في السنة على ما يقول. وفي التقرير بعض التفصيلات عن الطريق الممتد ما بين النجف وكربلاء، ولا سيما عن الخانات المعروفة فهناك منزل خان النخيلة الذي يقول انه يتألف من ثلاثة خانات وستة مقاهي، وآبار عذبة للماء، وعدد من الأكواخ البسيطة من دون أن تكون فيه بيوت. وكان منزل خان الحماد يتألف من عشرة خانات ومئة بيت وعدد من الآبار التي يصلح ماؤها للشرب. أما منزل خان المصلى فكانت فيه ثلاثة خانات وستة مقاهي من دون بيوت.

وفي اليوم السادس من آذار 1911 كانت المس (غيرترود بيل) تتجول في البادية على مقربة من النجف في طريقها إلى بغداد. وكانت المس (بيل) هذه، التي أصبحت فيما بعد سكرتيرة دار الاعتماد البريطاني في بغداد وتحكمت بمقادير العراق مدة من الزمن، قد تجولت كثيراً في نجد وسوريا وبادية الشام والعراق فكتبت كثيراً عن جولاتها هذه ومما جاء في رسائلها(1) المعروفة عن جولتهافي هذه الجهة أنها بينما كانت في طريقها إلى النجف في هذا التاريخ خطر ببالها ان تستقصي آثار اللخميين في تلك الجهات وتشاهد الكهوف الغريبة التي قيل لها أنها موجودة في الأجراف المحيطة ببحر النجف من بعض الجهات، فاصطحبت معها إلى هناك

___________

1- The Letters of Gertrude Bell – Selected & Edited by Lady Bell,London.

 

 الشيخ سلمان(1) أحد شيوخ بني حسن. لكنها لا تذكر شيئاً عما عثرت عليه في هذا الشأن.

وفي يوم 7 مارت 1911 وصلت إلى النجف بعد أن مرت في قسم من طريقها بقاع بحر النجف الجاف. وهي تصف في رسالتها المؤرخة 10/3/1911 البلدة بكونها بلدة مسورة تقوم على حافة الجرف المرتفع بجنب البحر الجاف، وتشير إلى القبة والمآذن والمقابر وقدسية البلد من دون أن تذكر شيئاً يستحق التدوين. لكنها تقول أنها نصبت خيامها خارج البلدة في الجهة الخالية من القبور، وذهبت لزيارة القائمقام التركي الذي أمر مدير الشرطة بأن يرافقها للتجول فيها. وحينما عادت إلى خيمتها زارها عدد من المعممين(2) والرجال الرسميين على حد قولها. ولأجل المحافظة على مخيمها في الليل وضع ثلاثون جندياً لحراستها غير أنها لم يرقها ذلك فاحتجت بشدة وانسحب الجند. وهي تذكر في هذا الشأن ان الحراسة كان لابد منها نظراً للحوادث الكثيرة التي كانت تحدث خلال الليل في منطقة القبور. لأن بعض الناس، ومنهم أفراد القبائل كانوا يأتون بالجنائز ويحاولون دفنها تحت جنح الظلام تهرباً من الليرات العشر التي كانت تفرضها سلطات البلدة رسوماً للدفينة وكانت الدورية تطلق عليهم النار بسبب ذلك فيردون عليها بالمثل. وقد سمعت هي وجماعتها إطلاق النار في تلك الليلة مع ما صحبها من صراخ النساء وعويلهن عن بعد ثم خرجت في اليوم الثاني مع رجل من “الضابطية” لمشاهدة خرائب الخورنق فلم تجد فيها على ما تقول سوى بعض التلول، لكنها سرها أن تشاهد الموقع وما يحيط به.

____________

 -1يغلب على الظن انه الشيخ سلمان آل زجري.

2- أكثر الظن ان هؤلاء المعممين هم متلك الفئة التي تستغل زيارة الأشخاص البارزين للنجف فتقصدهم على سبيل الاستجداء متدرعة بالشعر أو المسكنة فيسخون عليهم بالعطاء ظناً منهم انهم من حملة العلم ومن رجال الدين.

 

وقد مرت المس بيل بالنجف مرة أخرى يوم 23 آذار 1914، حينما كانت عائدة من نجد في طريقها إلى بغداد. ولا تذكر شيئاً هنا عن النجف لكنها تقول أنها حينما خرجت من حائل كان بودها أن تسلك طريق الحجّ القديم اليها غير أنها علمت أنه لم يكن طريقاً آمناً فعدلت عن رأيها فسلكت الطريق الآخر وهو الطريق الغربي.

وفي صبيحة 27 نيسان 1912 زار النجف الأشرف الأستاذ النمساوي ألواموسيل(1) لدراسة الأحوال الطبوغرافية في المنطقة كلها، فكتب شيئاً عن البلدة وما شاهده فيها. وقد دخلها من الباب الشمالية فألفى فيها سوقاً كبيرة تمتد في اتجاه جنوبي حتى تصل إلى الجامع الكبير، وهو يقول ان المنطقة الواقعة في غرب السوق كانت تعود إلى الشمرت والمنطقة الواقعة إلى الشرق منها كانت لفريق الزكرت. وعلم في البلدة ان أبرز رجل وأقوى شخصية فيها كان كليدار الحضرة المطهرة السيد جواد. ومما يذكره كذلك أن الأتراك كانوا قد شيدوا في النجف ثكنتين عسكريتين واحدة منهما في البلدة نفسها وأخرى في الضاحية الجنوبية الشرقي التي تسمى (الحويش) على حد تعبيره. وكان في الثكنتين معاً حينما زارها المسيو (موسيل) حوالي (250) جندياً راجلا وبغالا من قوات الدرك (الجندرمة). أما البلدية فقد بنيت بنايتها فيما يقرب من الباب الشمالي الغربي. tromwayوحينما استقل “الترامواي” وذهب إلى الكوفة شاهد المدافن على وقد كتب المقيم البريطاني في بغداد سنة 1912 عن انتعاش الروح الوطنية في العراق بين مختلف الطبقات، وانتشار فكرة القومية العربية في بغداد والنجف وغيرهما فهو يقول إن الذي يلفت النظر هو الحرية المتزايدة التي أخذ يعرب عن نفسه فيها الشعور المعادي للاتحاد والترقي وللأتراك هنا، حيث كان هذا يعد خيانة عظمى من قبل.

___________

1- Alois Musil – The Middle Euprates, New York 1927.

 

جهتي الخط، وهو يقول بالمناسبة ان المجلس البلدي في النجف هو الذي بنى خط الترامواي على حساب البلدية نفسها في سنة 1909(1).

ويذكر كذلك ان الابن الأكبر للكيلدار في النجف(2) وعبد الرحمن الباجه جي كانا يرحبان بتشكيل حزب جديد يدافع عن مصالح العرب. ويقول المستر (فيليب آيرلاند) كذلك في كتابه عن العراق (الذي سنشير إليه كثيراً بعد هذا) ان مؤتمراً عربياً عقد في المحمرة خلال شهر مارت 1913، فحضره شيخ المحمرة نفسه، وشيخ الكويت، والسيد طالب النقيب، وموظف تركي كبير فدار البحث فيه حول مستقبل العراق والحكومة الموجودة فيه، فتم الاتفاق على قيام الرؤساء المذكورين ببذل الجهود لتحقيق مطاليب العراق في الاستقلال. ثم أوفد الرسل إلى النجف وكربلاء لاستمداد التأييد منهما وتهيئة الناس للحركة، كما أخبر القوميون العرب في بغداد واستانبول وسورية ومصر وغيرها بقرارات هذا المؤتمر.

 

 النجف في أيام الحرب العالمية الأولى

وفي خلال 1914 تطورت الأحوال في العالم تطوراً جذرياً وأعلنت الحرب العالمية الأولى ما بين الحلفاء والدول المركزية. فانحازت الدولة العثمانية التي كان العراق بولاياته الثلاث ينضوي تحت لوائها، إلى جانب الدول المركزية وعلى هذا الأساس أعلنت بريطانيا العظمى الحرب عليها في 29 تشرين الأول 1914، وفي اليوم السادس من تشرين الثاني نزلت القوات البريطانية التي كانت محتشدة في البحرين إلى البر في مصب شط العرب وتقدمت لاحتلال البصرة فدخلت اليها في الثاني والعشرين منه.

___________

1 – والمعروف ان الخط الحديدي قد أقامته شركة أهلية.

2 – وهو يقصد به السيد محمد حسن الرفيعي الكليدار.

 

وتلت ذلك عدة معارك محلية بين الجيشين العثماني والبريطاني، وكان أهم هذه المعارك ما جرى في موقعة الشعيبة التي وقعت في يوم 12 نيسان 1915. وكانت قد اشتركت مع الجيش العثماني في القتال قوات المجاهدين الذين هبوا للجهاد من النجف وغيرها بقيادة المغفور له محمّد سعيد الحبوبي بعد أن أفتى هو وغيره من العلماء الأعلام به انتصاراً للإسلام وعلى أثر هذه المعركة التي اندحرت فيها القوات العثمانية اندحاراً شنيعاً انتحر بسببه قائدها سليمان عسكري باشا، حدثت تطورات مهمة في أنحاء العراق كافة ومن جملتها النجف. وقد شرحت هذا الموضوع بإسهاب، تتطرق فيه إلى ما وقع في النجف أيضاً، المس (غيرترودبيل) في تقرير رسمي مفصل رفع إلى الحكومة(1) البريطانية عن الوضع العام في العراق خلال سني الاحتلال البريطاني التي انتهت ببداية عهد الانتداب على العراق في صيف 1920.

فهي تقول(2) ان الحكومة العثمانية كانت قبل دستور 1908 تعترف بأن المدن المقدسة تختلف اختلافاً بيناً عن سائر ممتلكاتها، ولذلك فد منحتهابعض الامتيازات التي كان أهمها إعفاء سكانها من الخدمة العسكرية. وبعد موقعة الشعيبة التجأ عدد من الفارين من الخدمة العسكرية إلى النجف الأشرف، فأعلن الأتراك عن عزمهم على إعادة الفارين إلى الخدمة وهددوا بفرض التجنيد على السكان الأصليين فيها كذلك

____________

1- Review of Civil Administration of Mesopotamia (CMD 1916) – Prepared by Gertrude L.Bell C.B.E.

وهذا التقرير هو محتوى الكتاب الذي نشره كاتب هذه السطور لعنوان (فصول من تاريخ العراق القريب) 1949.

 -2 الص 28 من الترجمة العربية.

 

 وقد علم بالإضافة إلى هذا ان الأتراك كانوا قد قرروا مصادرة محتويات “الخزائن” الموجودة في العتبة المقدسة للإنفاق على شؤون الجهاد منها. وراحوا يجبرون الشبان على الخدمة في الجيش، ومن أجل هذا فتشوا البيوت خلال الليل، وتعرضوا بالنساء بحجة ان الرجال كانوا يتخفون بزي النساء للتهرب من الجندية. ثم فرضوا “بدلات” باهظة للإعفاء منها، فهب الناس واستحكموا في الشوارع والدور، ثم وضعوا القوات المدافعة في صحن العتبة المقدسة. فوجه الأتراك مدافعهم نحو الثوار وأنزلوا أضراراً بالمآذن سهواً أو على سبيل التقصد. وعند ذاك طير السيد كاظم اليزدي برقية احتجاج إلى اسطنبول، فكان جوابها اليه أنه يجب أن ينصرف إلى مهنته كدرويش متعبد وأن لا يتعرض لشؤون الحكومة، وقد تلا ذلك قتال دام ثلاثة أيام استسلم بعدها الجنود الأتراك للأهلين الثائرين فجردهم الرعاع من سلاحهم. ثم نهبت بنايات الحكومة واُحرقت، وهدم بيت القائمقام التركي وطرد هو نفسه.

وتعود المس بيل فتذكر ان النجف صار يحكمها بعد حوادث نيسان هذه الشيوخ الأربعة: سيد مهدي السيد سلمان (الحويش)، والحاج عطية أبو كلل (العمارة) وكاظم صبيّ (البراق)، والحاج سعد الحاج راضي (المشراق)، بأنفسهم وبمشورة السيد كاظم اليزدي الذي كان يمثله عندهم ابنه Untitled-12السيدمحمّد(1). ولذلك تأزم الوضع على الأتراك في الفرات بحيث عمدت السلطات التركية إلى تغيير سياستها والالتجاء إلى المسالمة والصلح. فتألفت لجنة من الوجهاء لتسوية الاُمور، وتم الاتفاق على أن يعود القائمقام إلى وظيفته في النجف مع حرس هزيل للحماية. على ان السطوة في البلد بقيت في أيدي الثوار، لأن القائمقام أصبح ألعوبة في أيدي الشيوخ المذكورين ولأن الناس أخذوا يهزأون بحراسه علناً في الشوارع.

 

غير ان التهدئة هذه لم تكن إلاّ نصراً أجوف للأتراك على حد تعبير (المس بيل) لأنها ما لبثت قليلا حتى أخذ الحاج عطية، بمؤازرة السيد كاظم اليزدي، يتصل سراً برئيس الحكام السياسيين المرتبط بقوات الاحتلال(2). وقد عرض عليه استعداد النجف والقبائل المحيطة بها للانضمام إلى الانكليز لقاء احترامهم للعتبة المقدسة وعدم التعرض بها. وكان رد رئيس الحكام السياسين على ذلك أنه أشار عليهم بالاطلاع على البيانات التي كانت السلطات البريطانية قد أذاعتها على الملأ عند أول نشوب الحرب وادعت فيها بأنها لم تكن في خصام مع العرب ولا مع المسلمين. وذكّرهم كذلك بالمعاملة الحسنة التي لقيها من الإنكليز رجال الدين الذين وقعوا في أيديهم.

____________

 -1لم يكن للسيد كاظم اليزدي في هذا المكان ولا في غيره أكثر من كونه مرجعاً دينياً، ولم يعرف انه تدخل في شؤون الإدارة.

2- والشيء الثابت أو الذي أخذ على السيد كاظم اليزدي هو سلبيته وعدم تدخله في السياسة وليست قضية المشروطة التي أبى أن يزج نفسه بها بعيدة عن الأذهان.

 

وبعد ذلك تسنى للانكليز أن يثأروا لأنفسهم عن الاندحار الشنيع الذي أصابهم على يد خليل باشا في سلمان باك، وحصار الكوت الذي استسلم فيه الجنرال (طاونزند) مع قواته المحاصرة في 29 نيسان 1916، فاسترد الجنرال مود الكوت في نهاية 1916 وتم له احتلال بغداد في 11 آب 1917. وعلى أثر ذلك بعث علماء النجف وكربلاء، على ما ترويه المس بيل في تقريرها هذا، برقية تهنئة إلى صاحب الجلالة البريطانية فأجابهم عليها معترفاً بتسلمها ومبدياً ان رغبته الخالصة هي انتعاش العراق وسكانه والمحافظة على عتباته المقدسة واستعادته إلى رخائه القديم. ولا شك أنها تعني بذلك بعض المعمين الذين كان يسيئهم تصرّف الأتراك وموظفيهم المتعجرفين، أو الذين كانوا يمالئون الانكليز فصاروا يعرفون بعد ذلك بعلماء “الحفيز(1)

____________

– 1   علماء الحفيز والحفيز بمعنى الأوفيس هو (المكتب) وهم أربعة أشخاص مالئوا السلطات المحتلة ومشوا في ركبهم فنعتوهم بعلماء الحفيز (الأوفيس) تمييزاً لهم عن رجال الدين.

 

ثم تشير إلى أن مكتب رئيس الحكام السياسيين في بغداد قد ازدحم في الأيام القلائل الأولى من أيام الاحتلال بالزوار من جميع الطبقات بدون أن يستثنى منهم حتى أبناء الأسر المسلمة البارزة. وفي أثر وجهاء بغداد جاء شيوخ القبائل الصغيرة المجاورة لزيارته متعجبين من انهيار العهد القديم المفاجىء ومستبعدين دوام العهد الجديد. وكان من بين الأوائل الذين قدموا من الأماكن البعيدة (محمّد عليّ كمونة) من كربلاء والحاج (عطية أبو كلل) من النجف، وأعقبهما بعد ذلك بقليل شيوخ بلدة النجف الآخرون. فعينت لهم المخصصات، ورجعوا إلى أهلهم مخولين بالمحافظة على الأمن حتى يكون بإمكان السلطة المحتلة معالجة شؤون المدينتين المقدستين بصورة مباشرة.

 

زيارة السر رونالد ستورز للنجف

وبينما كان الوضع الحكومي في النجف على مثل هذا زار بغداد رجل من رجال الانكليز الذين كان يتألف منهم “المكتب العربي” في القاهرة، المشرف على شؤون الاستخبارات البريطانية الخاصة بالبلاد العربية جمعاء، وهو (السر رونالد ستورز) الذي تعين فيما بعد حاكماً في القدس بمعية (هربرت صموئيل) المندوب السامي الصهيوني في فلسطين بعد احتلال الانكليز لها. وأصبح بعد ذلك حاكماً عاماً في قبرص حينما نفي إليها الملك حسين على أثر إبعاده عن الحجاز، وفي روديسيا الشمالية كذلك. وكان الجنرال ستورز، وهو ملم بالعربية تمام الإلمام، قد زار النجف في 19 مايس 1917 قادماً من كربلاء فاتصل ببعض وجوهها وعلمائها، ودوّن في كتابه(1) المعروف بأشياء مهمة عنها في هذا الدور.

فهو يبدأ بوصف الطريق ما بين كربلاء والنجف ويقول انه كان طريقاً سهلا،وبعد أن تجاوز منتصفه مع صحبه بانت له من بعيد القبة المذهبة وهي تتوهج بلمعانها في نور الشمس.

____________

Sir Ronald Storrs – Orientations, London, 1945. -1

 

وحينما وصل إليها بعد الظهر وخرج الألوف لاستقباله على ما يزعم، لا سيما وقد كانت الأسواق مغلقة بمناسبة حلول يوم المبعث(1). وقد مر بعد ذلك في السوق المؤدية إلى العتبة المقدسة، ومن هناك توجه إلى دار السيد عباس الكليدار. ويأتي على وصف البيت فيخص بالذكر منه السرداب الكبير الذي تنخفض الحرارة فيه بمقدار عشر درجات عن الخارج. وحينما صعد وقت الغروب إلى سطح الدار القريبة من الحضرة المطهرة شاهد منه القبة والمآذن وبرج الساعة في الصحن عن قرب، وصوّر مناظر عدة من هناك على ضوء الشمس الغاربة، ثم استراح حتى دقت الساعة مشيرة إلى الثانية عشرة غروبية. وقد تذكر حينذاك ساعة كيمبرج أو “بيك بين” المشهورة. وبعد ان مل من مقابلة أعضاء المجلس البلدي وكبار الشيوخ على حد تعبيره ذهب إلى الفراش في التاسعة والنصف.

وقد استدعى اليه في صباح اليوم الثاني (20 أيار) تجار الحرير والسجاد، ثم أحضر فتاح الفال الذي نفحه بعشر روبيات برغم عدم براعته في مهنته. وتحدث مدة من الزمن مع الشيخ هادي(2) أحد شيوخ الجعارة فأنبه على ما كان يسمع عنه من تهريبه الطعام والأرزاق بواسطة عشائره إلى ابن رشيد حليف الأتراك في نجد، وهو يقول أنه فاتح شيوخ العشائر الآخرين بالموضوع نفسه وهددهم. وقد توجه إلى الكوفة على أثر هذا فقصد مع جماعته دار علوان الحاج سعدون شيخ بني حسن الذي يسيطر على الطريق الممتد من النجف إلى المسيب على حد تعبيره. وقد حرضه خلال حديثه معه هناك على مهاجمة ابن رشيد ونهب العشرة آلاف جمل التي يملكها فتعهد هو ومن كان معه من الشيوخ الآخرين على تنفيذ ذلك.

____________

 -1أغلب الظن ان يوم وروده كان يوم ذكرى وفاة النبيّ أو أحد الأئمّة وإلاّ فلم تجر العادة في اغلاق الدكاكين في الأعياد.

 -2المقصود به السيد هادي زوين.

 

 وبعد تناول الغداء مروا بجامع الكوفة وشاهدوا ما فيه من آثار ومواقع مهمة، وفي معيتهم السيد عباس الكليدار، ثم عادوا إلى النجف ليرتاحوا في السرداب البارد. وفي الساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم توجه السر (رونالد ستورز) مع رفيقه المستر (غاربوت)، لزيارة العلامة الأكبر السيد كاظم اليزدي الذي يمتد نفوذه من العراق إلى أصفهان. ويذكر ستورز في هذا الشأن أن الإنكليز لم يكونوا مطمئنين من موقف السيد تجاههم، وانه كان قد رفض مبلغ المئتي باون الذي قدم اليه على سبيل الهدية من قبل. وكان المستر غاربوت الذي رافقه في السفرة من بغداد قد طلب اليه في هذه المرة أيضاً أن يتحايل على السيد اليزدي فيقدم له رزمة بألف باون هدية من الحكومة. فاستثقل هذه المهمة الصعبة، وكلف السر (رونالد ستورز) نفسه بأن يتولى المهمة عنه، فقبل بتحفظ. ودس الرزمة في جيبه ثم توجها إلى دار السيد، وهناك انتظر برهة من الزمن في خارج حجرته ريثما يخبر بحضورهما. فخرج لهما، وإذا به رجلا متقدماً في السن يلبس “زبوناً” أبيض ويعتمر بعمة سوداء وقد تخضبت لحيته وأظافره بحنة حمراء لماعة. فحياهما من بعيد وأجلسهما على الحصيرة بجنبه خارج الحجرة. ويقول (ستورز) بعد أن تبحر في وجه السيد أنه أدرك في الحال السر في شهرته ونفوذه. فهناك قوة في سيمائه الواضحة وعينيه الرماديتين المتعبتين، وسلطان في وجوده وحديثه الخافت مما لم يجد له مثيلا في أي مكان آخر من بلاد المسلمين.

ويذكر كذلك أنه بعد أن أثنى عليه وعلى مواقفه المشرفة، أخذ يسأله عما إذا كان هناك أي شيء يريد أن يفعله الإنكليز له فبادره بقوله “حافظوا على العتبات الشريفة، حافظوا على العتبات الشريفة”. فاعتبر (ستورز) أنه يقصد بذلك المحافظة على العتبات ومن فيها من جماعة العلماء والمجتهدين بوجه عام. ثم عاجله السيد بجملة أخرى طلب اليه فيها أن لا يعينوا في المدن الشيعية إلاّ الموظفين من أبناء الشيعة،وأن يطلقوا سراح بعض الشيعة الذين كانوا معتقلين ومنهمالدكتور مظفر بك، وأن يعينوا المرزا محمّد (وهو المحامي محمّد أحمد الموجود حالياً في البصرة) قائمقاماً في النجف(1). وفي هذه المرحلة بدا السيد اليزدي للسر (رونالد) وكأنه قد نزل من عليائه بعض الشيء، لأنه أنعم عليه كما يقول بجملة ثناء أعقبها بكلمة فارسية خاطب بها عالماً آخر كان موجوداً في مجلسه، وقد علم بعد ذلك أنه قال له ان الأتراك لو كانوا يسلكون مثل هذا السلوك لما أضاعوا تعلق العرب بهم مطلقاً. فما كان من السر إلاّ أن يعده بنقل توجيهاته ومشورته هذه إلى السر بيرسي كوكس في بغداد. وبعد تردد وإحجام طلب إلى السيد أن يختلي به وحده لمدة ثلاث دقائق فقط، ثم ذكّره بوجود عدد لا يحصى من الفقراء الذين كانوا ينظرون اليه في اعاشتهم على الدوام، واسترحم منه بأن يمد يد المساعدة للأنكليز في هذا الشأن. وحينما مد (ستورز) يده لتقديم رزمة الباونات إلى السيد في هذه الأثناء دفع السيد الرزمة برفق مقرون بالعزم الأكيد وهو يعتذر عن قبولها. فلم يجد (ستورز) من اللياقة الإلحاح على تقديمها، وعمد إلى فتح موضوع الشريف معه. وهو يقول ان السيد كان من المعجبين (بالشريف) والمؤيدين له. وبعد ساعة انقضت على هذا المنوال عزم السر (رونالد) على توديع السيد والعودة إلى المنزل، غير أنه قبل أن يفعل ذلك حاول تقديم الألف باون مرة ثانية اليه، لكنه رفضها من جديد بكل مجاملة وأدب. وهو يعتقد ان الشيء المهم الذي كان يعبأ به السيد هو الأنفة والإباء لا المال، وأنه لابد أن يخضع في الأخير بطريقة مناسبة حينما يكون الدافع لذلك شيئاً لا مطعن فيه. وهذا موقف بعيد تمام البعد عما يحدث في مصر والحجاز في ظروف مماثلة على حد تعبيره.

___________

 -1كان المرزا محمّد قد اشتغل مع الانكليز قبل الحرب في منطقة الخليج، وجاء مع الحملة إلى العراق فعين معاوناً للحاكم السياسي في كربلاء.

 

وحينما عاد ستورز بعد ذلك إلى منزل مضيفه السيد عباس الكليدار طلب اليه أن يشاركه في تناول العشاء ويضحي بآداب المجاملة التي تدعوه إلى الوقوف في خدمة الضيف في أثناء الطعام وهو يذكر بإعجاب ان السيد عباس وقف بعد ذلك للعناية بتقديم العشاء للسواق أيضاً على المائدة نفسها. ثم آوى إلى فراشه بعد مدة وقضى ليلة خالية من النسيم تماماً فوق السطح، وقد تسنى له خلالها أن يعجب بالهدوء التام والصمت الغريب الذي كان يلف النجف ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد منتصف الليل وقبيل الفجر كذلك.

وقد غادر السر (رونالد) النجف صباح اليوم الثاني (21 أيار 1917) بعد أن وزّع حوالي مئة وخمسين روبية على الخدم فيها. فمر عند خروجه منها الى طريق كربلاء بالمقابر التي يدفع فيها الناس ستين باوناً لقاء السماح لهم بدفن موتاهم وهو يقول انه سرّ تمام السرور لأنه ابتعد عن ضيق البيوت التي كانت تحتشد بالخمسين ألف نسمة من سكانها المحصورين بين جدرانها الضيقة من دون أن تتهيأ الفرصة لأن يقع نظرهم على أي نبات أخضر أو تشم أنوفهم الهواء النقي.

 

ترجمه وكتبه
جعفر الخياط
الحائز على درجة اُستاذ علوم M.SC. من جامعة كليفورنيا
ومدير التعليم الثانوي، والمفتش الاختصاصي، في وزارة التربية سابقاً

 

 

مؤسسة الحكمة للثقافة الاسلامية – المركز الوثائقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.