النجف في كتابات الغربيين
مقدمة: كانت النجف ولم تزل، منذ أن قبرت في ترابها الزكي رفات الإمام أبي الحسن الطاهرة، من المراكز الدينية المقدسة التي ترنو إليها أبصار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويقصدها الزوار من كلّ حدب وصوب. ولم يكن زوارها في كثير من الأحيان من المسلمين والشرقيين فقط، وإنما كان يزورها بين حين وآخر أناس من غير المسلمين ممن كانت تدفعهم إلى شد الرحال في البلاد والتطويح في الآفاق عوامل شتى منها: السياحة وحب الاستطلاع، أو الدراسة والتتبع، أو المجازفة والتمرس بالأخطار، أو التجارة والمصالح المادية. على أن هذه المصالح والغايات كان لابد من أن تتطور بمرور الزمن فتصبح باحتلال الانكليز للبلاد في أعقاب الحرب العالمية الأولى مصالح وأغراضاً سياسية واقتصادية، لأن السلطات المحتلة التي كانت تريد تثبيت أقدامها في العراق وجعله مرتبطاً بعجلة الإمبراطورية البريطانية المترامية الأطراف سرعان ما ارتطمت سفينتها بصخرة النجف الشماء للدور القيادي الذي ظلت تلعبه في العراق والعالم الإسلامي في مختلف العصور والأدوار. ويعزى هذا الدور الذي تضطلع به النجف بطبيعة الحال إلى وجود العلماء الأعلام فيها وحرصهم الشديد على رعاية المسلمين وخيرهم، وإلى الوعي المتوثب الذي لم تنطفئ جذوته أو يخمد أواره ما بين سكان هذه العتبة المقدسة في كلّ عصر أو زمن، وفي شتى الظروف والأحوال.
ولذلك يلاحظ أن عدداً غير يسير من الغربيين الذين زاروا النجف، أو مروا بها، أو الذين تصدوا للكتابة عن تاريخ المسلمين ومعالجة شؤونهم، قد تطرقوا إلى ذكرها بالقليل أو الكثير أو عالجوا شؤونها بشيء غير يسير من البحث و التفصيل. وسأحاول في بحثي هذا أن أجمع ما يتيسر لي العثور عليه فيما كتبه الغربيون عنها مقتبساً، بطبيعة الحال، ما يجمع بين الطرافة والفائدة التاريخية في الغالب.
النجف قبل سنة 1500 م:
وعلى هذا فإن أقدم ذكر للنجف في كتابات الغربيين يرد في عدد من الكتب الانكليزية المعروفة التي تستند في معظم ما تورده على المراجع العربية في الأعم الأغلب. ومن أهم هذه الكتب كتاب (شيعة الهند) لمؤلفه الدكتور جون هوليستر(1). فهو يذكر خلال بحثه عن الإسماعيلية وأئمتهم إن الإمام الحسين بن أحمد بن عبد الله المستور (أو المكتوم) كان مقره السري في السلمية بالقرب من دمشق، وقد زار في سنة 296 للهجرة قبر الإمام عليّ (عليه السلام) في النجف الأشرف. وهناك اتصل بأبي القاسم الحسن بن فرح بن حوشب أحد الشيعة الإمامية المعروفين، الذين كانوا على اتصال دائم بالإمام الحسن العسكري (عليه السلام). واتصل في النجف أيضاً بعلي بن الفضل فأقنعهما بالذهاب إلى اليمن والعمل على نشر الدعوة الإسماعيلية فيها.
____________
1- The Shi’a of India – John Norman Hollister’London 1953
ومن أهم الكتب كذلك كتاب (بلدان الخلافة الشرقية)(1) الذي ألفه البحاثة المعروف كي لسترانج في 1905 وأعيد طبعه في 1930. فهو يبدأ بالقول إن النجف فيها مشهد الإمام عليّ الذي يقدسه الشيعة، وأنها ما تزال مدينة عامرة حتى اليوم. ويتطرق بعد هذا إلى رواية المستوفي المعروفة عن كيفية دفن الإمام وإخفاء القبر عن الأمويين، وعثور هارون الرشيد عليه حينما خرج للصيد في ظاهر الكوفة، ثم يشير إلى رواية ابن حوقل عن الأمير الحمداني أبي الهيجاء الذي حكم الموصل في سنة 904، ويورد قول المستوفي عنه بأنه “ابتنى على القبر قبة” عظيمة مرتفعة الأركان من كلّ جانب لها أبواب، وسترها بفاخر الستور وفرشها بثمين الحصر السامانية، وجعل عليها حصاراً منيعاً”. ويضيف إلى ذلك ما ذكره المستوفي من أن عضد الدولة البويهي قد شيد الضريح في سنة 977، وقامت حوله من بعد ذلك بلدة صغيرة يبلغ محيطها 2500 خطوة. ثم يورد ما ذكره ابن الأثير من خبر دفن عضد الدولة فيها تنفيذاً لما جاء في وصيته، ودفن ابنيه شرف الدولة وبهاء الدولة من بعده كذلك.. وهو يقول أيضاً ان ملكشاه السلجوقي قد زار المشهد مع وزيره نظام الملك في 1086، وان السلطان غازان الايلخاني بنى فيه مبنى خاصاً للسادة سمي “دار السيادة”، وشيد فيه تكية خاصة للصوفية “خانقاه”. ويورد لسترانج بالإضافة إلى ذلك وصف ابن بطوطة لمدينة النجف التي زارها في 1326 م فأعجب بها واعتبرها “مدينة حسنة”.
على أنه من الملاحظ ان المستر (ريتشارد كوك(2)) صاحب كتاب (بغداد مدينة السلام) يذكر ان البويهيين الذين خلفوا معز الدولة كانوا أقل ميلا إلى الشيعة ومنهم عضد الدولة الذي ذهب في ذلك إلى حد فرض الجزية عليهم ومساواتهم بغير المسلمين في ذلك.
____________
1- The Lands of Eastern Khaliphate _ G. Le Strange,CanpridgeUniver sity Press, London 1930 وقد ترجمه الاستاذان كوركيس عواد وبشير فرنسيس وطبع على نفقة المجمع العلمي لعراقي ببغداد.
2- Richard Coke – Baghdad The City of Peace,London 1935.
ويقول كذلك انه عمد إلى اضطهاد أغنى شيعي من شيعة بغداد في أيامه، وهو أبو القاسم محمّد الذي كان دخله السنوي يقدر بمليون ونصف المليون من الدراهم. فقد غرمه في يوم من الأيام مليون دينار ذهب، وغرمه من بعده البويهيون الآخرون مثل هذه المبالغ أيضاً.
ويستند كاتب البحث الموجز عن النجف في (دائرة المعارف الإسلامية)(1) على النبذة التي كتبها (لسترنج)، فيورد الروايات والاقتباسات نفسها. ثم يرد ذكر النجف في كتاب (تاريخ إيران) الذي كتبه السر بيرسي سايكس(2) بالانكليزية، ولا سيما في الجزء الثاني منه. فقد جاء فيه إن الأيلخان الكبير غازان خان حينما انتقل إلى دار البقاء سنة 1315 خلفه في الحكم أخوه محمّد خدابنده الملقب بلقب “أولجايتو”. وكان السلطان محمّد أحد أخوة ثلاثة ولدوا لأرغون خان من زوجته المسيحية، وقد أنشأته أمه على ديانتها وسمته نقولا بعد أن أجرت له مراسيم التعميد المعتادة. لكنه اعتنق الديانة الإسلامية حينما تقدم به العمر بتأثير من زوجته، وأصبح محباً للمناقشات الدينية التي صار يعقد مجالس كثيرة من أجلها. وقد أسمعه أعداء الدين الحنيف في يوم من الأيام ان الإسلام يبيح للمسلم التزوج بأمه أو أخته أو ابنته فارتعدت فرائصه، وصدّق ما قيل له حينما هبت من بعد ذلك بالصدفة عاصفة رعدية شديدة قتل فيها عدد من رجال حاشيته وحسب حدوثها دليلا على غضب السماء عليه لأنه اعتنق الديانة الإسلامية. ثم أخذت تحدّثه نفسه بترك الإسلام والعودة إلى التمسك بديانة المغول القديمة، لكنه قصد النجف الأشرف في تلك الأثناء لزيارة الضريح المطهر فيها، فحلم في إحدى الليالي حلماً اطمأنت به نفسه وقرر اعتناق المذهب الجعفري على أثره.
____________
1- Encyclopedia of Islam – Kramers & Gibie.
2- Sir percy Sykes – A History of Persis, Mc Millan, London 2 Vois 1953
ومما يذكره (سايكس) عن السلطان خدابنده أيضاً انه أنشأ في سنة 1305 م مدينة السلطانية على بعد مئة ميل من غرب قزوين، فكانت أهم مدينة مهدها الايلخانيون المغول في إيران وغيرها. وقد كان في نيته أن يحقق بذلك مشروعاً ظل يحوم في مخيلته ردحاً من الزمن، وهو مشروع نقل رفات الإمامين عليّ والحسين (عليهما السلام) من النجف وكربلاء إلى المدينة الجديدة هذه. ولذلك أنشأ فيها عتبة محكمة البناء بشكل مثمّن تقوم فوق كلّ زاوية من زواياه مئذنة رشيقة عالية، وتحيط هذه المآذن كلها بقبة ضخمة جميلة يبلغ طول قطرها أربعة وثمانين قدماً. غير ان أمنيته لم تتحقق بطبيعة الحال وأصبح المرقد المذكور مدفناً فخماً له بعد أن توفي في سنة 1316. ومما يذكر من الحوادث التي جرت في أيامه ما يورده ريتشارد كوك في (بغداد مدينة السلام(1) من إن السيد تاج الدين محمّد نقيب بغداد يومذاك اتهمه السادة فيها بتهم خطيرة، منها تهم أخلاقية شائنة وتهمة بقتل عدة أشخاص معروفين وجمع أموال وفيرة تقدر بثلاثمائة ألف قطعة ذهب بطرق غير مشروعة. وقد سلم على أثر ذلك إلى أهل النجف الأشرف لمعاقبته والاقتصاص منه، فأخذوه إلى شاطئ الفرات وظلوا يضربونه حتى قضى غير مأسوف عليه.
وما دمنا في بحث الايلخانيين لابد من أن نورد هنا ما يذكره المستر كوك كذلك عن مشروع يختص بإيصال الماء إلى ما يقرب من النجف. فهو يقول(2) إن الطاغية هولاكو حينما مات في 8 شباط 1265 م خلفه في الحكم ابنه أباقا (جدّ أولجياتو الأعلى) فأقر في حكم بغداد المؤرخ علاء الدين شقيق رشيد الدين وزير هولاكو ومؤلف كتاب (جامع التواريخ) المشهور. وفي أيام علاء الدين هذا انتعشت الحالة في بغداد والعراق أجمع، وحفر نهر جديد يستمدماءه من الفرات ويمر بالكوفة والنجف على حد قوله. ويعتقد المستر كوك ان هذا النهر هو الفرع الغربي الحالي نفسه.
____________
1- الص 166.
2- الص 157.
ويتكرر ذكر النجف مرات عديدة أخرى في كتاب (شيعة الهند)، في معرض البحث عن اهتمام الملوك المنتمين إلى الأسر الشيعية الحاكمة، التي حكمت الدكن، وكشمير، وأوده، برجال الدين والعتبات المقدسة وبذلهم السخي من أجل ذلك. فمما ورد في هذا الشأن ان فيروز وأحمد الأول من ملوك المملكة البهمنية في الدكن كانا ميالين جد الميل إلى العناية بالسادة ورجال الدين الذين كانوا يردون عليهما من النجف وكربلاء، وان الأمير أحمد أوقف على عهد أخيه فيروز (1397) مقاطعة خانه بور وما جاورها على تعمير العتبتين المقدستين المذكورتين وصيانتهما الدائمة.
وقد ورد في الكتاب نفسه عن يوسف عادل شاه مؤسس المملكة العادل شاهية في بيجابور سنة 1489 انه مرض في إحدى حملاته العسكرية التي كان يجردها لتوطيد حكمه في المملكة، وحينما شفي من مرضه بعث بمبلغ ستين ألف روبية ليوزّع على السادة ورجال الدين في النجف وكربلاء والمدينة. والمعروف عن يوسف عادل شاه انه حينما استتب له الأمر في بيجابور، عقد اجتماعاً حافلا شعبياً ذات يوم وأعلن فيه تمسكه بالمذهب الجعفري ـ الاثنى عشري على ملأ من الناس. وطلب إلى رجال الدين وأشراف البلد من أمثال المرزا جهانكير وحيدر بك والسيد أحمد الهروي، وهم من رجال الشيعة المعروفين هناك، أن يعملوا على نشر هذه العقيدة لأنه نذر أن يفعل ذلك بعد أن رأى النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فأمره بذلك. ثم ارتقى المنبر بأمر منه سيد من سادات النجف يدعى نقيب خان فأذن في الناس، وأدخل في ضمن الأذان الشهادة بأن “علياً ولي الله”، وقرأ الخطبة باسم الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام). فكان أول عاهل هندي يجرأ على اجراء المراسيم الدينية هذه بصورة علنية.
النجف في أوائل القرن السادس عشر
وفي سنة 1507 استولى الشاه إسماعيل الصفوي على بغداد فأصبح العراق معظمه خاضعاً لإيران. ويشير المستر ستيفن لونكريك(1) في كتابه (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) إلى إن دخول العراق في حوزة العرش الشيعي الجديد جاء بالشاه مسرعاً لزيارة العتبات المقدسة في الفرات، فزار النجف وأصلح نهراً من الأنهار بقربها فسماه باسمه. ولا شك انه يقصد بهذا ما كان يعرف يومذاك بنهر الشاه، وهو النهر الذي أمر الشاه إسماعيل بحفره من الفرات وإيصال مائه بقناة خاصة تمتد تحت سطح الأرض إلى النجف لارتفاع موقعها عن مستوى الفرات. ثم يضيف لونكريك قوله إن السنين المنحصرة ما بين زيارة الشاه إسماعيل ووفاته في 1524 كانت تأثيرات العتبات المقدسة القوية خلالها تؤيد الحكم الجديد، فتقاطر التجار الإيرانيون على بغداد وجذب نفوذ الصفويين الديني حتى العشائر النهرية المتمردة اليهم(2).
وفي أواخر 1534 استطاع السلطان سليمان القانوني أن يسترد العراق من الإيرانيين ويعمل على إصلاح الأحوال فيه، فزار كربلاء والنجف قبل عودته إلى اسطنبول. ويقول المستر لونكريك في هذا الشأن أن السلطان سليمان اهتم اهتماماً خاصاً بزيارة العتبات المقدسة في الفرات الأوسط، وتقصّد أن يفعل فيها أكثر مما فعله الشاه الصفوي من الخيرات. ولذلك أصلح جدول الحسينية في كربلاء ووسعه، ثم زار قبر الإمام عليّ في النجف ورجع إلى بغداد. وهذه بلا شك الزيارة التي تقول بعض الروايات فيها إن رجلا من رجال حاشيته الكبار حينما شاهد القبة المباركة من بعيد ترجّل عن فرسه، وحينما سأله السلطان عن السبب أجابه بأنه ترجّل إجلالا لخليفة من الخلفاء الراشدين الأربعة.
____________
1- Iraq, of Modern Stephen H. Longrigg – Four Centuries 1925. London وقد ترجمه إلى العربية كاتب هذه السطور وطبع عدة طبعات في بيروت وبغداد.
2- الص 18 من الترجمة العربية، ط 2 بيروت.
فما كان من السلطان إلاّ أن يترجل هو أيضاً بعد أن تردد في ذلك واستخار القرآن الكريم فإذا به يلاحظ في الصفحة التي فتحها الآية الكريمة (فاخلع نعليك إنّك في الوادي المقدس طوى). وتروى هذه الرواية عن السلطان مراد كذلك حينما زار النجف الأشرف.
بدء اتصال النجف بالغرب
وحينما تطورت الأحوال في أوربا بعد ذلك، واتسع نطاق النهضة الحديثة فيها، بتأثير الكثير من العوامل والمؤثرات المعروفة في التاريخ اتجهت الأنظار إلى الشرق وراح البحارة البرتغاليون والتجار البنادقة يمخرون عباب البحار ويطوفون في البراري والقفار للوصول إلى الهند وما حولها من البلاد. ولم ينته القرن السادس عشر للميلاد حتى أخذ عدد غير يسير من الأوروبيين، ولا سيما البنادقة، يتجهون إلى هذه الجهات بقصد المتاجر والتبشير ويمرون بالعراق باعتباره جسراً أرضياً يربط الشرق بالغرب. وكانوا في طريقهم هذا ينزلون في خانات بغداد أو “بابل”، ويمرون بالنجف، أو يتلبثون في الزبير. وكانت النجف بحكم موقعها الكائن على حدود البادية، ومركزها الديني والاجتماعي الفريد في بابه، تقع في طريق الكثير من القوافل التي تأتي من الغرب عن طريق حلب وتستهوي الكثير من المسافرين في تلك الأيام فيمرون بها أو يتوقفون فيها مدة من الزمن. ويبدو مما جاء في كتابات عدد من الرحالة الأوروبيين يومذاك ان القوافل التي كانت تسير بين حلب وأصفهان كان بوسعها أن تسلك خمسة طرق عامة معروفة، غير الطريقين اللذين كانا يمران بالأناضول فيربطان بين اسطنبول (أو أزمير) وأصفهان(1).
____________
1- The Siy Voyages Of Favernier Through Turkey into Asia.
رحلة جان بابتيست نافيرنييه، التي ترجم ما يخص العراق منها الأستاذان كوركيس عواد وبشير فرنسيس.
وقد كان أول هذه الطرق يبدأ بحلب، ويقع إلى يسار المتجه في الاتجاه الشمالي الشرقي، لكنه يمر بديار بكر وتبريز. وكان الطريق الثاني يتجه من حلب إلى الشرق رأساً فيحاذي بلاد ما بين النهرين، ويمر بالموصل فهمذان. أما الطريق الثالث فقد كان ينحرف أكثر من ذلك نحو الجنوب، ويجتاز بادية صغيرة ثم يمر بعانه والنجف وبغداد والبصرة. وكان الطريق الرابع يقع إلى يمين الذاهب إلى الجنوب الشرقي فيمر بالنجف وبغداد أيضاً، وكان هناك طريق خاص يخترق البادية الكبيرة بطولها نحو البصرة، وكانت القوافل التي تسلكه تمر بالنجف أحياناً، لكنه لم يكن يسلك إلاّ مرة واحدة في السنة أي حينما كان يقطعه تجار تركيا ومصر لشراء الإبل.
ولاشك إن هذه الطرق هي التي كان يسلكها الرحالون الغربيون الذين اُخذ تواردهم على هذه الجهات بكثير بحلول القرن السابع عشر، ولا سيما بعد أن ثبّت البرتغاليون أقدامهم الاستعمارية في الخليج بإنشائهم قلعة هرمز العظيمة في 1597.
الرحالة تكسيرا في النجف
ومن أشهر الرحالة الذين زاروا النجف في تلك السنين الخوالي الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا الذي كتب رحلته بالبرتغالية في وصف الخليج والبصرة والنجف وكربلاء وبغداد وعانة. وقد ترجمت هذه الرحلة إلى الانكليزية(1) وطبعت في لندن سنة 1902. وكان تكسيرا قد وصل إلى البصرة من الخليج في يوم 6 آب 1604، وبعد أن أقام فيها مدة تناهز الشهر غادرها متوجهاً إلى بغداد مع قافلة من القوافل عن طريق البادية. وبعد أن غادر البصرة بسبعة أيام وصل إلى موقع في الباديةيسمى “عيون السيد”، وهو يقول أنهم وجدوا في هذا الموقع آثار بلدة قديمة كبيرة مع عدد من النخيل وبعض الشجيرات. وبعد أن تركت قافلته (عيون السيد) وتابعت السير ثلاثة أيام أخرى بانت لهم من بعيد بحيرة واسعة الأرجاء متكونة من مياه الفرات في وسط البادية، ولا يخفى أنها “بحر النجف” على حد تعبير الناس في يومنا هذا.
____________
1- The Travels Of Pedro Teixeira – Tr. by W.F.Sinclair &Ferguson London 1902.
وبعد مسيرة يومين مرت في أثنائهما القافلة بأماكن تتوفر فيها المياه الغزيرة وتمتد من حولها حقول الشعير والقمح والقطن والخضروات كما يقول تكسيرا، بانت لهم مدينة النجف من بعيد وكأنها تطل من موقعها العالي على بحر النجف نفسه. ثم وصلت القافلة إلى مكان في رأس البحيرة ونزلت في موقع مناسب يقرب منه، فاستضافها هناك رجل يقال له الشيخ علاوي، وقد أصبح صديقاً حميماً لتكسيرا على ما يظهر لأنه يسميه “صديقي العظيم”. وفي هذه المرحلة يصف بحر النجف بقوله انه يستمد ماءه من الفرات، ولذلك يلاحظ ازدياد مقاديره في مواسم الطغيان، وليس لهذه البحيرة شكل معين لكنها تمتد بطولها حتى يبلغ محيطها خمسة وثلاثين إلى أربعين فرسخاً. وهناك فيما يقرب من منتصفها ممر ضحل تستطيع الحيوانات اجتيازه خوضاً في المواسم التي يقل فيها ماء البحر، ويقول كذلك ان هذه البحيرة كانت شديدة الملوحة، ولذلك كان يستخرج منها الملح الذي يباع في بغداد والمناطق المجاورة، ومع ملوحتها هذه كان يكثر فيها السمك بحجومه وأنواعه المختلفة، ولهذا يسميها الناس هناك بحيرة الرهيمة.
وقد وصلت قافلة تكسيرا إلى النجف مساء السبت 18 أيلول (23 ربيع الثاني 1013) فقصدت خاناً من الخانات الكبيرة التي كانت تشبه في شكلها ومنظرها العام الصوامع الموجودة في البلاد الأوربية على حد قوله. وبعد أن يأتي في رحلته على الجوانب التأريخية المعروفة للمكان وكيفية دفن الإمام (عليه السلام) في هذه البقعة يأخذ بوصف الروضة المقدسة وبنائها وزخرفتها، لكنه لا يشير إلى القباب والمآذن بشيء وإنما يذكر ان البلدة كلها كانت تبدو فيها إمارات الخراب والإهمال بوضوح. فبعد أن كانت تحتوي على ستة آلاف إلى سبعة آلاف دار مبنية بأتقان في الغالب أصبحت حينما زارها لا يزيد عدد بيوتها على الستمائة فقط. وقد علم من بعض الناس ان إهمالها وانحطاط شأنها كان قد حصل بعد وفاة الشاه طهماسب الصفوي (توفي في 1576 م أو 984 هـ) الذي كان يرعاها ويعنى بشأنها عناية كبيرة.
ويقول أيضاً إن البلدة كانت محاطة بسور امتدت إليه يد الإهمال كذلك، فأصبحت تلاحظ فيه الثغرات في عدة أمكنة، وقد كانت البلدة تستقي ماءها من الآبار كما هو معروف، لكنه لم يكن عذباً يستسيغه الشارب، ولذلك كان على الذين يريدون الماء العذب الفرات أن يأتوا به من جدول خاص كان السلطان سليم قد حفره لإيصال الماء من الفرات إلى البلدة بواسطته، لكنه لم يصل إلاّ إلى مسافة عنها بالنظر لارتفاع موقعها. على إن (تكسيرا) يقول إنهم لم يستطيعوا استساغة هذا الماء أيضاً حينما وصلوا إليه لأنه كان كدراً متعفناً. ويقول كذلك إن البلدة كانت بها حاجة ماسة إلى الكثير من الأشياء المهمة كالخشب والأغنام والدجاج والحنطة والشعير والفاكهة والخضراوات، ولذلك كان يؤتى بها من الخارج على الدوام. وعلى هذا كان طعام السكان معظمهم ينحصر في التمر والحليب وخبز الحنطة والشعير. ومع إن بحيرة النجف يتيسر فيها السمك فإن سكان البلدة لم يكونوا يستفيدون منه إلاّ بمقدار قليل.
ومما يذكره عن النجف في تلك الأيام أيضاً إن أهاليها ذو سحنة بيضاء في الغالب، وأنهم يحرمون الاختلاط بالنصارى واليهود. ويقول كذلك إن آثار الأسواق العامرة المبنية بالطابوق كانت ما تزال شاخصة للعيان، وان الروضة الحيدرية كان فيها الكثير من النفائس الثمينة ومنها ثلاث ثريات من الذهب المطعم بالأحجار الكريمة. وكان عدد من الأمراء المسلمين والملوك قد أهدوها إلى الحضرة المطهرة. وليس من المستبعد أن تكون معالم العمران في الأسواق وغيرها، التي يشير إليها هذا الرحالة، ناشئة عما كانت عليه حالة النجف في 1325م حينما زارها الرحالة المغربي المشهور ابن بطوطة فوجدها مكتظة بالسكان وعلى أحسن ما يكون عمراناً وازدهاراً، ووجد أسواقها جميلة نظيفة. فقد كان فيها من جهة باب الحضرة الخارجية أسواق للعطارين والطباخين والقصابين والخياطين، فضلا عن “القيصرية” وأسواق العطور والفواكه.
ثم يتطرق (تكسيرا) في رحلته إلى ذكر الحكم في البلاد ويقول ان النجف كانت تخضع في تلك الأيام إلى الأتراك الذين كان يدفع لهم أميرها العربي شيئاً من الأتاوى. ولعله يقصد بذلك ناصر المهنا أمير جشعم الذي يقول عنه أنه كان يقيم بالقرب من كربلاء. ويذكر كذلك ان النجف كانت فيها حامية عسكرية قوامها خمسون جندياً من الأتراك، وأن هؤلاء لم يكونوا موجودين في البلدة يوم زارها هو لأنهم كانوا قد سحبوا إلى بغداد بسبب الحرب التي كانت ناشبة مع الإيرانيين، ولذلك كان السكان أحراراً فيما يفعلون، حتى إن قسماً منهم كان يرتكب الكثير من أعمال العنف والتعدي على الناس من دون خوف أو حياء. ويلاحظ إن المستر لونكريك(1) يتطرق في كتابه إلى ذلك الشيء نفسه عن نوع الحكم هذا. فهو يقول “.. غير ان قوات البادية التي يهمنا أمرها أكثر من هذه كانت لا تخرج عن كونها حلفين بدويين يمر من مناطقهما المسافرون من الخليج إلى حلب بعدة مراحل من طريقهم. فكان الأمير ناصر المهنّا في 1604 (1013 هـ) “ملك” القسم الجنوبي الممتد من النجف إلى الفلوجة.
____________
1- أربعة قرون الص 37 من الترجمة العربية، ط 2، ويؤيد هذا كذلك ريتشارد كوك في كتابه (بغداد مدينة السلام) الص 194.
وكانت بلدة النجف، ذات العصبية الدينية الدائمة، التي أفقدها انقطاع الخيرات عنها منذ موت الشاه طهماسب، معترفة بسلطة حاكم البادية هذا. وكانت كربلاء، وهي أوسع وأكثر حركة وليست بأقل من أختها تعصباً، مركز ديرته الخاصة. وكان يلاقي المسافرين ـ من بغداد إلى الفلوجة، على بضعة أميال من العاصمة ـ وكلاؤه الذين يقبضون “الخاوة” له. وقد اعترف ناصر بولائه للسلطان. ومن المحتمل إن شيئاً من الهدايا التي كانت تقدم إلى الباشا في بغداد بين حين وآخر كانت تذكره بوجود مثل هذا “العبد الحقير”. غير إن أوتوقراطيته في البادية، وجمعه للخاوة، والشدائد التي كان يصادفها المسافرون المارّون بديرته، وإرهابه للزوار كانت تقص لنا قصة اُخرى، وكانت الحاميات التركية الصغيرة ترابط كالعادة في العتبات المقدسة، غير ان مكثهم فيها لم يكن إلاّ بسماح من الشيخ نفسه”.
تعليق على أقوال تكسيرا
وتعليقاً على ما يذكره الرحالة تكسيرا عن مشكلة ماء النجف وصعوبة الحصول عليه في تلك الأيام، وعن الخراب الذي أصابها بسبب ذلك، لا أرى بداً من الإشارة هنا إلى ان المرحوم يعقوب سركيس كان قد نشر في العدد الثاني من مجلة الاعتدال النجفية للسنة 1937 عريضة قديمة كان والي بغداد سنان باشا جيغالزاده قد رفعها في أوائل القرن السادس عشر للميلاد إلى السلطان مراد الثالث يذكر فيها له ما يقاسيه سكان النجف من قلة الماء الصالح للشرب وشرائها الحمل منه بخمس أو ست بارات، ويخبره بأن الكثيرين من النجفيين يومذاك قد اضطروا إلى الجلاء عن بلدتهم المقدسة لهذا السبب. ويذكر الوالي في العريضة قوله “.. وبعد أن كان في النجف ثلاثة آلاف دار عامرة لم يبق منها إلاّ عشرها وشربه الماء الأجاج وأكله خبز الشعير، مفضلا هذه الحالة على الجلاء. فليس في النجف إلاّ الخطيب، والإمام، والفراش، والخدام، والموظفون وقليل غيرهم. ومن أسباب الهجرة ان هذه القصبة بعيدة عما هو معمور، وان الأعراب المجاورين لها عتاة، وان سورها قديم أكثره قد تهدم فأصبح كلّ أحد بوسعه دخولها من حيث أراد. فلا أمن من دخول الأعراب اليها على حين غرة، ومن غارتهم على القناديل الذهب والفضة وغيرها من التحف والنفائس..” وقد ناشد سنان باشا السلطان بأن ينقذ النجف من محنتها بحفر نهر خاص لها كما أنقذ السلطان سليمان القانوني مدينة كربلا بحفره جدول الحسينية من قبل. وقد ذكر له بهذه المناسبة ان الخبراء والمهندسين بينوا له ان النهر يمكن حفره بسهولة، وانه سيروي عدداً كبيراً من المزارع والحقول التي يمكن أن تنتج في ثلاث سنوات محصولا يفيض على النفقات. على أن تشبثات الباشا المذكور لم تكن مثمرة على ما يظهر لأن مشكلة ماء النجف بقيت مستعصية إلى سنة 1682. ومن جملة المستندات التأريخية التي تشير إلى ذلك الحجّة الشرعية التي نشرها يعقوب سركيس في المقال المشار اليه آنفاً، وهي مؤرخة بتاريخ 11 شعبان 1093 هـ (1682م). فقد ورد فيها ما يلي: “أما بعد… فقد حضر مجلس الشرع الخطير شيوخ النهر الشهير المسمى النهر الشاهي الآخذ من مراد (أي الفرات في التعبير التركي) وحضر سكان قصبة الإمام عليّ كرّم الله وجهه بأسرهم فقالوا بدون جبر ولا إكراه: “كانت أراضي هذا النهر قد غدت بمثابة الموات بمرور الأيام والسنين لعدم عناية الحكام السالفين وقلة رغبتهم في أمور الخير، ولتسلط أهل البوادي على رعايا هذا النهر فأشرف على الخراب وتضرر أهله وكانوا على أهبة الهجرة. فقام والي بغداد إبراهيم باشا بتطهيره وحفره من صدره إلى مدينة الكوفة والمسافة بينهما اثنتا عشرة ساعة فجاء بأهاليه النازحة عنه وأسكنهم محالّهم وقطع دابر أهل التعدي. وقد أنفق على ذلك اثني عشر ألف غرش وخمسة وأربعين غرشاً فنجّى قصبة رابع الخلفاء عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه من محنة الظمأ العظيمة، وذلك بتقريب الماء إليهم فكانوا في رفاهية. وسكان قصبة الإمام عليّ هم مشغولون صباحاً ومساء بالدعاء للسلطان.”. شهود الحال: السيد عبد الرسول أفندي متولي قصبة الإمام عليّ، السيد منصور أفندي بن السيد حسين كمّونة، خطيب الجامع ملا حسين، الكليدار ملا محمود بن ملا طاهر، الشيخ إبراهيم بن فرج الله، الحاج إبراهيم بن خير الله، الخادم ملا حسين أفندي، المؤذن ملا عليّ رضا، محمّد جلبي بن عليّ جلبي، السيد محمّد كمال الدين، ملا.. بن ملا عليّ، ملا عليّ بن ملا محمود، الخادم الحاج حسن، السيد إبراهيم بن كمال الدين، وغيرهم” ولم يذكرهم.
النجف بين الصفويين والعثمانيين
وفي 1619 استأثر بالسلطة في بغداد بكر الصوباشي وطرد واليها يوسف باشا، ثم أخذ يساوم البادشاه في الباب العالي على تعيينه والياً فيها. واتصل بالشاه في إيران فساومه على الشيء نفسه ليفك عنه الحصار الذي ضربته على بغداد الجيوش التركية. وسرعان ما التقت جيوش الدولتين على أبوابها، وبعد كثير من المناورات السياسية والعسكرية وعدد من الوقائع استطاع الصفويون الاستيلاء على بغداد في ليلة 28 تشرين الثاني سنة 1623، فعاد احتلالهم للعراق، ووضعت الحاميات الإيرانية في النجف وكربلاء وغيرهما، من مدن الفرات الأوسط.
وفي خلال حكم الإيرانيين للعراق هذا مر بالنجف وكربلاء، قادماً من البصرة إلى بغداد، الرحالة البرتغالي ديلافاله(1). وهو يقول إن النجف كانت في أيدي (القزل باش) أي الإيرانيين بعد أن كانت في أيدي الأتراك الذين يحكمون بغداد، وهو لا يذكر شيئاً في رحلته يمكن أن يدون عن النجف وإنما يشير إلى بحر النجف فيسميه (البحيرة الكلدانية)، ويذكر انه مر مما يقرب من النجف في 26 حزيران 1625 فلم يجد للكوفة وجوداً. ويشير كذلك إلى سيطرة الأمير ناصر المهنا على المدينتين المقدستين، ويذكر ابناً له يسمى أبا طالب.
ولم يثن ذلك الاحتلال من عزم العثمانيين، فقد كان طموح البلاط العثماني ملحاً في استعادة بغداد منذ اللحظة التي أضيعت منهم على حد قول المستر لونكريك في (أربعة قرون من تأريخ العراق الحديث). وعهد بتحقيق ذلك إلى حافظ أحمد باشا الذي كان قد أشغل الصدارة العظمى من قبل. وحينما سارت الجيوش العثمانية إلى العراق من جديد في 1625 كان أول اصطدام لها مع جيش الصفويين في موسم من مواسم زيارة النجف ومما يكتبه لونكريك في هذا الشأن قوله “.. وقضى الوزير الرئيس الصيف في المعسكر، حيث وردت أنباء تفيد ان جند حامية بغداد الإيرانية رخص لهم في زيارة النجف بمناسبة إحدى الزيارات الكبرى، فظلت بغداد مفتقرة إلى معظم المدافعين عنها وبناء على هذه الأخبار أرسل الياس باشا، بحكربكي الأناضول، مع قوة خفيفة ليقطع طريق بغداد – النجف ويمنع المدافعين عن الرجوع. ففشلت المحاولة، غير انه مما لا شك فيه إن ذلك العمل أضاف إلى ضعف ثبات الإيرانيين في الفرات وطرد حاميتهم منه مدة من الزمن”.
وقد أعقبت ذلك وقائع واشتباكات كثيرة في بعضها الشاه عباس بنفسه فآلت إلى فشل الحملة التركية في مهمتها من جديد.
____________
1- Sufte des Fameux Voyages de Pietro della Valle (Paris 1663,4Vols).
وكانت قد تخللت ذلك كله اتصالات عدة بين الفريقين المتناحرين للوصول إلى حل نهائي للنزاع المرير، فكانت النجف من أهم مواضيع البحث والمناقشة في هذه المفاوضات. فيذكر لونكريك عن المفاوضات النهائية قوله “.. وبعد مضي أسبوعين اقترح الشاه عوداً على بدء الدخول في مفاوضات فبعث حافظ أحمد رئيس مرافقيه وجماعة من الضباط الآخرين إلى المعسكر الإيراني، ثم عادوا مع سفير الشاه فجدد الإيراني ادعاءه ببغداد، وفي جلسة متأخرة جلسوها قبل إبقاء بغداد على الترك إذا ما أعطي النجف في مكانها. فكان جواب الوزير العثماني “ان كلّ حجر من النجف يعادل عنده ألف إنسان، وما بغداد إلا حماها” ولم يجدِ بحث التوافق نفعاً في تقريب وجهات النظر..” وهكذا بقيت بغداد، والعتبات المقدسة، بأيدي الايرانيين حتى تسنى للسلطان مراد الرابع أن يفتحها بنفسه ويتقبل خضوعها في يوم عيد الميلاد من سنة 1638 على حد قول المستر (لونكريك).
الرحالة الفرنسي تافيرنييه في النجف
وبعد عشرين يوماً من هذا التأريخ كان الرحالة الفرنسي الشهير المسيوجان بابتيست تافيرنييه(1) نازلا في منزل من منازل السفر في البادية يبعد عن حلب بمسافة عشرين يوماً، في طريقه إلى البصرة. وهناك علم من ثلاثة أعراب نزلوا في المنزل نفسه إنهم كانوا قد أرسلوا إلى حلب وغيرها من المدن بأخبار استيلاء السلطان مراد على بغداد. وقد مر هذا الرحالة في أثناء رحلته هذه بالنجف الأشرف، وكان آخر منزل له في البادية قبل وصوله اليها موقعاً يعتقد انه (خان العطشان)
____________
1- Jean Babtiste Tavernier.
الذي يصفه وصفاً تفصيلياً طريفاً يشير فيه إلى أنه يبعد عن الفرات بمسافة تزيد على العشرين فرسخاً، وهو يقول إن قافلته واصلت السير من هناك في اتجاه شمالي شرقي لمدة خمسة أيام وصلت بعدها إلى “بلدة صغيرة كانت تدعى سابقاً الكوفة والآن تعرف بمشهد عليّ”(1)، ولاشك انه يخلط بقوله هذا بين النجف والكوفة. وهو يذكر شيئاً عن الضريح المطهر ويقول بأنه كانت تشاهد من حوله أربعة شمعدانات مضاءة، وقناديل مدلاة من السقف، من دون أن يشير إلى كونه استطاع الدخول إلى الحضرة أم لا، وفيما عدا القناديل والشمعدانات التي كانت تضاء في الليل والنهار، كان هناك قارئان يتلوان القرآن الكريم على الدوام.
ثم يتطرق إلى ماء الشرب في البلدة فيقول انه ماء غير عذب يستقية الناس من آبار أربع موجودة فيها، ويشير كذلك إلى وجود قناة جافة يظن إن الشاه عباس الصفوي كان قد مدها من الفرات إلى النجف، والأصح في كثير من المراجع ان القناة المذكورة كان الشاه إسماعيل الصفوي قد أمر بحفرها في بادئ الأمر غير إن الشاه عباس أمر بتطهيرها، ويقول المسيو تافيرنييه أيضاً إن الطعام كان شحيحاً في البلدة، وانه لم يجد فيها غير شيء قليل من التمر والعنب واللوز مما كان يباع بأسعار عالية. ومما يذكره كذلك أن الزوار حينما كان يكثر وجودهم في مواسم الزيارات كان الشيخ يوزع عليهم عند الحاجة الرز المطبوخ بالماء والملح، والمضاف اليه شيء قليل من السمن.
ويشير تافيرنييه إلى موضوع يتطرق اليه عدد غير يسير من المؤرخين الأجانب والرحالة الآخرين، وهو موضوع منع الزوار الايرانيين من زيارة النجف وغيرها من العتبات المقدسة في العراق من قبل الشاه عباس الصفوي، لأن الزوار كان لابد لهم من أن يمروا ببغداد قبل الوصول إلى النجف، وهناك كان يترتب على كلّ منهم أن يدفع رسماً قدره ثمانية قروش.
_______
1- العراق في القرن السابع عشر ـ كوركيس عواد ـ وبشير فرنسيس، وهو ترجمة يختص بالعراق من رحلة تافيرنييه.
وكان هذا الرسم في نظر الشاه تحدياً وإهانة لرعيته وحكومته، ولذلك عمد إلى تعمير ضريح الإمام الرضا (عليه السلام) في مشهد خراسان ليكتفي الايرانيون بزيارته وينصرفوا عن زيارة العتبات الأخرى، وقد اقتدى به ملوك إيران الذين جاءوا من بعده أيضاً في كثير من الظروف والأحيان.
ويقول السر بيرسي سايكس في (تأريخ إيران)(1) إن عبقرية الشاه عباس وبراعته قد ظهرت في اضطلاعه بمهمة توحيد القبائل والأقوام المختلفة التي كانت تسكن ايران. وقد فعل ذلك في الغالب عن طريق تشجيع فكرة أن مشهد الإمام الرضا في الحقيقة المركز القومي الذي يجب أن يقصده الزوار الإيرانيون، وانه فخر العالم الشيعي ومحط آماله. وليقرن القول بالعمل كان يكثر الزيارة هو نفسه لهذه العتبة المقدسة. وقد قطع في إحدى زياراته المسافة الطويلة الممتدة بين أصفهان والمشهد (800 ميل) مشياً على الأقدام. وكان يقوم بمهمة إسراج آلاف الشموع التي كانت تضيء الروضة المقدسة وتنظيفها. ومن بين الهدايا التي قدمها الشاه عباس هذا للمرقد الشريف قوسه الذي يحمل اسمه، وهو هدية لا يقدرها الإيرانيون حقّ قدرها على ما يقول سايكس. وقد كان يزور النجف أيضاً ويتولى كنس الحضرة المطهرة التي تعود لجده الأكبر.
ويورد تافيرنييه كذلك، في معرض وصفه الحالة في بغداد، قوله “.. وتجارة المدينة رائجة، ولكنها ليست بما كانت عليه في أيام ملك ايران. لأنه عندما استولى عليها الترك اغتالوا كثيراً من أثرياء التجار، ومع ذلك فإن الناس ماالوا يتوافدون على بغداد من كلّ حدب وصوب. ولا أدري أكان ذلك للتجارة أم للعبادة، فإن شيعة عليّ يعتقدون ان علياً عاش في بغداد.
____________
1- الص 181، ج 2.
وان كلّ من يرغب في الحجّ إلى مكة براً عليه أن يمر ببغداد، وعلى كلّ حاج أن يدفع إلى باشا بغداد أربعة قروش”(1).
في أواسط القرن السابع عشر
ومما تذكره بعض المراجع الأجنبية إن السلطان مراد حينما تم له فتح بغداد كتب أماناً لسكان النجف على يد أحد قواده بإشارة من الشيخ مدلج، لأن الفتح كانت قد أعقبته في بغداد وما جاورها فوضوية غير يسيرة قتل خلالها مئات عديدة من الناس. ومدلج هذا هو الذي ورد ذكره في رحلة الأب (ياسيفيك(2) الكبوشي) الفرنسي (الص 239) حينما غادر حلب متوجهاً إلى بغداد في 28 حزيران 1628 (24 شوال 1037)، ويسميه فيها ملك العرب والمعروف إن هذا الأمير العربي هو ابن أبي ريشة أمير البادية الذي ظل مسيطراً على نواحي بغداد والموصل ردحاً طويلا من الزمن في تلك الأيام. هذا وقد ورد في بعض المخطوطات التركية إن السلطان مراد نفسه رحل من بغداد يوم الاثنين 18 رمضان 941 هـ لزيارة الإمامين عليّ والحسين (عليهما السلام) وبصحبته السر عسكر والباشوات والأغوات جميعهم(3).
وهناك رحّالة آخرون مرّوا في هذا العهد بالنجف في أثناء رحلتهم من حلب إلى بغداد فإيران، من دون أن يذكروا شيئاً مهماً عنهما في رحلاتهم. ومن هؤلاء (بيترو ديلا فاله) الرحّالة الإيطالي الذي تزوج امرأة مسيحية من بغداد(أشير اليه من قبل)، والأب الكرملي الفرنسي فيليب (1629) والمسيو تيفنو الذي تتضمن رحلته وصف شاهد عيان لاستيلاء السلطان مراد على بغداد في 1638.
____________
1- العراق في القرن السابع عشر.
2- Relation du Voyage de Perse Par le Pere Pacifique & Provins.Paris 1631.
3- الص 338 يعقوب سركيس ـ مباحث عراقية.
ويرد ذكر النجف بعد هذا فيما كتبه (لونكريك) أيضاً في أثناء وصفه (لخاصكي محمّد باشا) الذي انتهت مدة ولايته ببغداد في منتصف صيف 1659 (1070 هـ)، ولبعض الولاة الآخرين. فهو يذكره بقوله:… “وكان خاصكي محمّد، وهو المتدين من الطراز القديم، قد بعث بالذهب إلى المدينة لتزيين القبة، ثم أضاف منارة إلى مشهد النجف، وقوبل بثناء أعظم عندما هدم كنيسة نصارى ليشيد في موقعها جامعاً”. وهو يقصد بذلك جامع الخاصكي المعروف اليوم ببغداد. وفي خريف 1667 (1078 هـ) جرّد والي بغداد (قره مصطفى باشا) حملة كبيرة على البصرة لتأديب حسين باشا أفراسياب وإرجاعها إلى حظيرة الحكم العثماني. فكان سيره بطريق الفرات، وحينما وصل إلى الحلة تأخر فيها عن الجيش وتوجه منها إلى النجف الأشرف لزيارة الإمام (عليه السلام) مع البعض من أمرائه وقادة جيشه، ثم تابع سيره فلحق بالجيش الزاحف. وفي أواسط عام 1671 (1082 هـ) قصد الوالي (حسين باشا) السلحدار النجف، وكربلاء، لأداء الزيارة والترويح عن النفس، ثم عاد إلى بغداد بعد أيام قلائل. وكذلك فعل الوالي قبلان مصطفى باشا سنة 1677 (شعبان 1088 هـ)، وقد اشتهر بولعه في زيارة الأئمة والأولياء وبتشييده لجامع القبلانية المعروف ببغداد.
ويقول (لونكريك) كذلك ان الأشهر الأولى من القرن الثامن عشر ظهرت فيها عناصر جديدة للفوضى في العراق بحدوث فيضانات عظيمة في الفرات الأوسط والجنوبي، لأن ذلك أدى إلى انعزال البلدان والمراكز المهمة ومن جملتها النجف الأشرف. فاستغلت القبائل هذا الوضع وهبّ رؤساؤها للإفادة مما حدث. وكان أهم هؤلاء سلمان بن عباس شيخ الخزاعل الذي استولى على الرماحية وكبشه، وحسكه، ومنطقة نهر الشاه، ثم استولى على النجف كذلك. والمعروف في المراجع الاُخرى ان الحكومة لم تستطع الوقوف في وجهه وتخليص العتبة المقدسة من شره حتى حينما عمدت إلى سد نهر ذياب عن القبائل المنضوية تحت لوائه.
النجف ومسلمو الهند
إن مما يمكن أن يذكر هنا من كتابات الغربيين مما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالنجف الأشرف، وسائر العتبات المقدسة، ما يتطرق اليه بالتفصيل الدكتور جون هوليستر مؤلف كتاب (شيعة الهند) من البحث عن ظهور مملكة (أوده) الشيعية في شمال الهند، وتوالي حكامهم وملوكهم على الحكم في لكناو. فقد استقامت هذه المملكة من سنة 1722 (1135 هـ) إلى 1856 (1273 هـ) حين عمد الانكليز إلى تنحيتهم عن الحكم، فكانت حلقة الوصل ما بين الإمبراطورية المغولية ووضع الشيعة في الهند وباكستان في يومنا هذا.
ويأتي المؤلف في بحثه هذا على الأعمال التي قام بها كلّ واحد من نوابي هذه المملكة الذين ظلوا يعترفون بالتابعية إلى الإمبراطور المغولي في دلهي حتى تولى النواب غازي الدين حيدر فتتوج ملكاً في مملكة (أوده) يوم 29 تشرين الثاني 1819. ومما جاء في هذا الكتاب عن ملوك ونوابي (أوده) جميعهم تعلقهم بالمذهب الشيعي وصرفهم الباذخ على الطقوس ومظاهر العبادة، وعلى إقامة الشعائر الدينية ومساعدة السادة والعلماء. ويذكر المؤلف عن عساف الدولة مثلا (1775) أنه كان مبذراً تمام التبذير،وانه كان يصرف على الشعائر والمراسيم في شهر محرم من كلّ سنة خمسة أو ستة لكات(1) من الروبيات.وكان يصرف ما يكاد يساوي هذا المبلغ في كلّ سنة أيضاً على تعمير المساجد والحسينيات (إمام باره) وتجيهزها ويذكر عن باهو بكم زوجة شجاع الدولة أنها بعثت تجلب شيئاً كافياً من تراب كربلاء والنجف ليفرش في قبرها حينما تدفن فيه، وقد تم ذلك بالفعل وصرف على بناء هذا القبر مبلغ يناهز ثلاثة ألكاك من الروبيات، وظل ألف رجل من القراء يقرئون القرآن الكريم حوله خلال الليل كله لعدة أيام.
____________
1- واحدها اللك وهو 10 ملايين على ما جرى عليه اصطلاح المولدين، على ما جاء في (المنجد) ويذهب البعض الآخر إلى ان اللك يساوي 100 ألف في الحساب.
ويتطرق المؤلف كذلك إلى ذكر الحسينيات الثلاث المشهورة في لكناو فيقول أنها كلها تستحق الزيارة والمشاهدة، وان كلّ واحدة منها تختلف عن الأخرى وتسمى أحداها (شاه نجف) لأن الملك غازي الدين حيدر بناها بحيث يكون الضريح الموجود فيها مشابهاً لضريح الإمام (عليه السلام) في النجف. ويشير الدكتور (هوليستر) كذلك إلى مجالس التعزية التي تقام في محرم الحرام وغيره ويقول إن إقامة هذه المجالس قد تتجاوز مدتها الأيام العشرة الأولى من هذا الشهر، وان البعض من ملوك (أوده)، مثل ناصر الدين (1827) كانوا يقيمون هذه المجالس لمدة أربعين يوماً من كلّ سنة. على إن أهم ما يذكر في كتاب (شيعة الهند) مما يختص ببحثنا هذا منشأ وقف (أوده) الذي توزع وارداته في كلّ سنة على مستحقيه في النجف وكربلاء. فيقول المؤلف إن ملوك (أوده) كانوا قد وضعوا للاستثمار في قروض حكومية مبلغاً يقدر بثلاثة ملايين ونصف المليون باون استرليني، ليصرف على أفراد أسرهم ومتعلقيهم. وظل نسل هؤلاء يتقاضون ربح ذلك المبلغ بالنسبة الأصلية بحيث يبلغ مجموعه في كلّ سنة شيئاً يزيد على أربعة عشر لكاً من الروبيات. وقد كان البعض من مستحقي هذا الوقف متعودين على توزيع بعض المبالغ في العتبات المقدسة الموجودة في مكة والمدينة وكربلاء والنجف الأشرف، ونظراً لأن قسماً منهم لم يخلّف وريثاً أو وصية خاصة في هذا الشأن فقد ظل ما يستحقونه يبعث كله إلى العتبات المذكورة. وتورد المس (غير تردودبيل) سكرتيرة دار الاعتماد البريطاني ببغداد،في تقريرها(1) عن الإدارة المدنية في العراق أيام الاحتلال البريطاني (1914 ـ 1920)، تفصيلات أخرى في هذا الموضوع. فهي تقول أنهم قد تعرفوا بالنجف وكربلاء ومركز زعمائها الروحانيين قبل الحرب بمدة طويلة لأن الحكومة الهندية في 1849 كانت لها علاقة بهاتين المدينتين فيما يختص بوقف (أوده) فقد كان (غازي الدين حيدر) ملك أوده قد أوقف مبلغاً قدره (000/121) روبية في السنة لتصرف صدقات إلى مستحقيها في المدينتين المقدستين. فوجدت حكومة الهند، التي ورثت مسؤوليات، شركة الهند الشرقية، نفسها في موقف الناظر على هذا الوقف. وكان توزيع هذا المبلغ في كلّ سنة يثير عدة مشاكل، لكنه انتظم في عام 1910 بإجراء ترتيبات خاصة أصبح التوزيع فيها يجري عن طريق لجنتين خيريتين، واحدة منهما في كلّ من النجف وكربلاء، وتتألف كلّ منهما من مجتهدين واُناس محترمين آخرين، بعد أن يحول المقيم البريطاني في بغداد المبلغ لهما رأساً. على إن السر أرنولد ويلسن يورد في كتابه(2) (بين النهرين 1917 ـ 1920)، الذي ستأتي الإشارة إليه بالتفصيل في مواضيع قادمة، عن هذا الموضوع رواية أخرى تختلف عن الروايتين المذكورتين في أعلاه. فهو يقول إن الانكليز ما إن دخلوا بغداد في آذار 1917 حتى لُفت نظر السر بيرسي كوكس من جهات ذات تأثير ونفوذ في النجف وكربلاء إلى إن واردات وقف (أوده) لم توزع منذ أن أعلنت الحرب العامة، وطُلب منه أن يتخذ الإجراءات العاجلة ليستأنف تحويل المبالغ التي كانت تحول في أثناء السلم عن طريق القنصل العام البريطاني في بغداد. وكان منشأ هذا الوقف إن اللورد (أمهرست)، حاكم الهند العام، كان قد استقراض مبلغاً جسيماً من ملك (أوده) بمناسبة الضائقة المالية التي حصلت بنشوب الحرب في بورما سنة 1825. وكان القرض بقيمة عشرة ملايين روبية، لكن ملك (أوده) قد اشترط بدلا من تسديده إليه أن تقوم حكومة الهند بصرف الربح المستحق عليه إلى الأبد، بنسبة 5%، على جهات خاصة منها بعض الناس والطبقات في النجف وكربلاء. وقد حصلت بعد ذلك تعقيدات كثيرة بسبب غموض الوقفية والشروط المدرجة فيها وخشي الأتراك من أن تتخذ مدفوعات هذا الوقف لأغراض تخريبية تتجاوز حدود الوقفية. ثم نشأت صعوبات أخرى في كيفية توزيع هذه المبالغ التي كانت تثير الضغائن والأحقاد في كثير من الأحيان. على إن واجب اتخاذ ترتيبات مناسبة وقع على عاتق النواب محمّد حسين خان في الغالب، فبرهن في هذا الشأن على كونه رجلا حكيماً كثير التعاون مع الموظفين الإداريين المتعاقبين، ودبّر توزيع هذه الهبات بأقل ما يمكن من الاحتكاك والتصادم.
____________
1- Review of the Civil Administration of Mesopotamia,1920. وهو محتوى الكتاب المترجم باسم (فصول من تاريخ العراق القريب) الذي نشره كاتب هذه السطور، 1949. 2- الص 89.
النجف بين نادر شاه والعثمانيين
وحينما ظهر اسم (نادر قلي خان) أو نادر شاه فيما بعد، على مسرح الحوادث الجارية في العراق وايران في أواسط القرن الثامن عشر، صار اسم النجف الأشرف يتردد في كلّ فرصة أو مناسبة. فقد اصطدم مع الدولة العثمانية ما بين سنتي 1731 و1746 اصطدامات متكررة عنيفة، وحاصر بغداد والموصل حصارات طويلة مخيفة، ونازل الجيوش التركية على أسوار بغداد والموصل وفي ميادين القتال الأناضولية والعراقية الاُخرى وكان يعقب تلك الاصطدامات والحروب كلها مفاوضات ومطاليب كانت تدور معظمها حول الحدود المشتركة بين البلدين من جهة، وحول الاستيلاء على النجف وكربلاء والاعتراف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً من جهة أخرى. وتوجد تفصيلات هذه الحوادث في كتابي السر بيرسي سايكس عن تاريخ إيران، والمستر لونكريك عن تاريخ العراق الحديث، المار ذكرهما، وكتاب الدكتور لوكهارت(1) عن حياة نادر شاه نفسه. وأهم ما حدث من المطاليب والمفاوضات في هذا الشأن ما حدث على أثر انتصاره في معركة (بغاوند) بالقرب من قارص، وقضائه على (عبد الله باشا كويريللي) وجيشه فيقول (لونكريك) في هذا الشأن.. “فتحرك إلى ارضروم، وسار السفراء فوق العادة بين الفريقين، فاشتط نادر بمطاليبه وطلب الدية زيادة على معاهدة بغداد السابقة، ولذلك لم يتوصل الطرفان إلى نتيجة ما مدة أشهر عديدة… وقد أوضح في الاحتفال الذي اُجري لذلك إصلاحاته المهمة التي أشار اليها من قبل في كتاباته إلى البلاط التركي. فأعلن تمسك الشيعة بالعقائد الدينية الأصلية وانضمامهم اليها باسم المذهب الخامس وهو المذهب الجعفري. وقد كان يرمي بذلك إلى تسهيل معاملاته مع تركيا وإيجاد أهمية لأسرته السنية، ثم تم توحيد العناصر التركمانية والكردية والأفغانية التي في جيشه ليعادل بها العناصر الشيعية التي فيه وما زالت مقيمة على ميلها إلى الصفويين”. وكان ذلك في سنة 1736. وحينما عاد نادر شاه مرة أخرى إلى العراق وحاصر الموصل في 1743 لم يستطع الاستيلاء عليها بعد أن قصفها وحاصرها مدة تناهز الأربعين يوماً ولذلك اضطر لعقد الصلح مع واليها (الحاج حسين باشا الجليلي) بشروط خفيفة، وإلى أن يعود إلى بغداد فيديم محاصرته لها، ثم توجه من هناك إلى النجف الأشرف لأداء واجب الزيارة وطلب منها إلى والي بغداد (أحمد باشا) الذي كان واقفاً في وجهه طوال هذه المدة، أن يبعث اليه بوفد من العلماء السنّة للبحث في قضية التوفيق بين الفريقين المسلمين. فندب اليه (الشيخ عبدالله السويدي) وذهب إلى النجف وجرت فيها مناظرات ومناقشات في عدة جلسات ترأسها الشاه بنفسه.
____________
1- Lokhart L. – Nadir Shahm London 1938.
ويقول (لونكريك)(1) ان المناقشات الطويلة مع العلماء في النجف لم تثمر شيئاً. وفي الأخير اضطر الشاه وقد انتبه لاستفحال السخط والفتنة في بلاده وللاستعدادات التركية في الشمال، إلى عبور الحدود والرجوع من دون أن يضرب ضربة ما أو يوقّع على شيء من العهود. وتقول بعض المراجع الاُخرى، ومنها الدكتور لوكهارت في كتابه عن نادر شاه، ان محضر المناظرات قد حفظت نسخة فارسية منه في خزانة الإمام (عليه السلام) في النجف.
ثم جرت حروب أخرى بين الشاه والأتراك في أرمينية وأذربايجان، فأحرز انتصاراً جديداً عليهم في صيف 1745 (1158 هـ) ويذكر (لونكريك) في هذا الشأن أنه أعقب هذا الانتصار بشروط صلح لا تطاق. فقد طلب الاعتراف بالمذهب الجعفري، وتسليم (وان) وكردستان والعراق بأجمعه وفي ضمنه العتبات المقدسة. ثم تنازل عن قسم من ذلك، لكنه أصرّ على المطالبة بالنجف وكربلاء.
وكان نادر شاه قد بعث في 1740 (1153 هـ) بهدايا نفيسة إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء، وإلى مرقد الإمام الأعظم في بغداد. وقد أمر بتذهيب القبة والإيوان، والمآذن، في النجف سنة 1742، ولم ينته العمل فيها إلاّ في 1743، وهي السنة التي عقدت المناظرة فيها ـ المناظرة بين العلماء ـ ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة ان الترجمة الفرنسية (المطبوعة سنة 1780) لرحلة الرحالة الألماني (نيبور) فيها حاشية تنص على انه ورد في (جهانكشاي نادري) لمحمّد مهدي خان المنقول إلى الألمانية بأن الشاه أنفق مبالغ طائلة على تغليف القبة بالذهب.
____________
1- الص 144 من الترجمة العربية، ط 2.
وان السور قد أمرت بترميمه الامبراطورة (كوهرشاه بكم) فأنفق عليه مبلغ يناهز المئة ألف نادري، أو ما يساوي حوالي ستين ألف وستمائة (أيكو) ألماني. وأنها أهدت مبخرة مرصعة بالأحجار الكريمة، وإناءً من الذهب الخالص ليحرق فيه البخور في الروضة المقدسة(1).
على انني لابد لي من أن أذكر هنا إتماماً للبحث حقيقة موقف نادر شاه من جميع ما تفاوض به مع الأتراك عن النجف والمذهب الجعفري وما أشبه. إذ يظهر مما يذكره (سايكس) في كتابه عن تاريخ ايران، والنبذة الأخيرة المقتبسة من (لونكريك) في البحث، ان نادر شاه لم يكن مخلصاً في إنفاقه على الروضة الحيدرية والعناية بها، ولا في الدعوة إلى اعتراف السنّة بالمذهب الجعفري، وإنما اتخذ ذلك وسيلة لتثبيت عرشه ومركزه في ايران الشيعية بعد أن اغتصبه من الصفويين. ويذهب سايكس(2) إلى أبعد من هذا فيقول انه حينما طلب اليه أن يقبل العرش الايراني (بعد أن خلع آخر الملوك الصفوية) سنة 1736 (1148 هـ) اشترط في قبوله إياه على القادة والوجوه، بعد أن رفض الطلب عدة مرات، ان تبادر الاُمة الإيرانية إلى نبذ العقيدة الشيعية التي أدخلها مؤسس الدولة الصفوية إلى ايران وتعود إلى العقيدة السنّية. ويذكر كذلك ان المجتهد الأكبر الذي كان حاضراً في حفلة التتويج نهض محتجاً في الحال، وأشار عليه بأن يحصر جهوده في شؤون الحكم وغيرها من الشؤون الدنيوية، لكن موته المفاجىء أخرس المعارضة التي كان يمكن أن تصدر من زملائه. ويستنتج سايكس من ذلك ان التبديل المطلوب في العقيدة قد صودق عليه في ذلك الجمع الحافل بصورة رسمية فقط ولأجل أن يجعل نادرشاه هذا التبديل الجديد للعقيدة شيئاً مستساغاً أعلن عن عزمه على أن يضيف إلى المذاهب السنّية الأربعة مذهباً خامساً هو المذهب الجعفري نفسه. وقد كان يؤمل من ذلك بطبيعة الحال أن ينسى الايرانيون ما قامت به الاُسرة الصفوية المالكة من أعمال.
____________
1- الص 332، مباحث عراقية ليعقوب سركيس.
2- الص 254، ج 2.
وربما كانت تداعب أطماعه كذلك أحلام السيطرة على العالم الإسلامي وتوحيده في امبراطورية إسلامية واحدة تضم في حظيرتها الممتلكات العثمانية كلها أيضاً. يضاف إلى ذلك ما نجده فيما كتبه سايكس في مناسبة اُخرى(1) من ان نادرشاه وافق في المفاوضات التي أعقبت انتصاره على كويريللي باشا في بغاوند على التخلي عن مطالبته بالاعتراف بالمذهب الجديد، وعقد الصلح بالشروط التي كان قد تم الاتفاق عليها بين الدولتين في أيام السلطان مراد من قبل. ويضيف إلى ذلك كله ما يكاد يكون غريباً جد الغرابة. فهو يقول(2) في أثناء تحليله لشخصية نادر بأنه لما كان قد نشأ سنّياً في عقيدته فقد أظهر عداء شديداً لرجال الدين الشيعة، وصادر الأموال الطائلة التي كانت ترد إليهم. وقد حاول توحيد المسلمين بإلغاء المذهب الجعفري لكنه فشل فشلا ذريعاً في مسعاه. ثم راح يحلم بابتداع ديانة جديدة، ومن أجل هذا الأمر بأن يترجم له توراة اليهود وإنجيل المسحيين (العهد الجديد). وفي ربيع 1764 تربع على دست الحكم في ولاية بغداد الوالي عمر باشا بعد أن اشترك في مؤامرة قتل فيها سلفه عليّ باشا الذي كان مملوكاً من أصل فارسي. وفي أيام هذا الباشا ساءت العلاقة مع إيران التي كان على رأسها الوصي كريم خان زند، وازدادت التعرضات بالزوار الإيرانيون وفرضت الرسوم الفادحة عليهم، حتى انقطع سيل الزوار على النجف وغيرها من العتبات. وفي هذا الشأن يقول (لونكريك)(3) “.. غير ان أسباب الاحتكاك والتصادم كانت تعمل طي الخفاء. فقد أثارت منذ سنين خلت حفيظة الايرانيين المعاملات القاسية التي كان يعامل بها زوار العتبات المقدسة في الفرات.. وكانت العتبات نفسها قد وصلت أخطار السفر فيها إلى الأوج بالتعديات المزعجة والتكاليف الجشعة التي كانت تفرض على الزوار”. فكانت هذه من أهم الأسباب التي أدت إلى التصادم بين البلدين المتجاورين، لأن كريم خان جرد في الأخير حملة قوية على البصرة في 1775 بقيادة أخيه صادق خان بعد أن بعث يهدد عمر باشا باحتلال العراق ويطالب برأسه ثمناً لتعدياته المتكررة على زوار النجف وسائر العتبات على حد قول السر بيرسي.
____________
1- الص 269. 2- الص 269. 3- الص 167، ط2.
مشاهدات الرحالة نيبور في النجف
على أن أهم ما يرد ذكر النجف فيه من كتابات الغربيين خلال تلك السنين ما كتبه الرحالة الألماني الشهير كارستن نيبور في رحلته(1) التي كتبها على أثر تجواله في البلاد العربية وسائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية آنذاك. فقد جاء إلى العراق عن طريق الخليج سنة 1765، بمناسبة اشتراكه في بعثة استكشافية علمية جهزها فردريك ملك الدانمارك وبعث بها إلى هذه الجهات. وقد وصل البصرة في خريف تلك السنة، وتوجه منها إلى الحلة في إحدى السفن الصغيرة بالطريق النهرية. غير انه ما وصل (لملوم)، التي كان يقيم فيها شيخ الخزاعل حتى ارتأى أن يترك السفينة ويسلك الطريق التي تذهب من لملوم إلى النجف الأشرف مارة (بالرماحية) وبعد مسيرة سبع ساعات ونصف على ظهور الخيل وصل (نيبور) وجماعته إلى (الرماحية) التي يقول عنها أنها بلدة تحتل رقعة كبيرة من الأرض، وتضم في داخل أسوارها العالية المبنية باللبن ما يقرب من أربعمائة بيت. وقد شاهد فيها جامعاً يؤمه الناس للصلاة، وحماماً عاماً بحالة جيدة جداً، وللبرهنة على ازدهار الحالة الاقتصادية فيها يشير إلى إن شيخ الخزاعل كان يتقاضى رسوماً كمركية طفيفة على البضائع التي كانت ترد إليها.
___________
1- C.Neibur – Voyage en Arabe et en d’autres payscircoconvoisins (Amesterdam 1776).
وقد توجه من الرماحية إلى النجف، التي يطلق اسم “مشهد عليّ” عليها لا غيره في يوم 22 كانون الأول فوصل اليه مع خادمه وأحد (الملالي) بعد مسيرة سبع ساعات على ظهور الخيل، خلال حقول ومزارع معمورة. ويذكر في رحلته أنه صادف في طريقه ما بين الرماحية والنجف أربع جنائز تنقل للدفن في وادي السلام، وهو يورد بالمناسبة إحصاء عن عدد الجنائز التي كانت تصل اليها من مختلف الأنحاء، فيقول إنه كان يتجاوز الألفين في السنة أي بمعدل سبع جنائز في اليوم الواحد. ويضيف إلى ذلك قوله ان الذين كانوا يريدون الدفن بالقرب من الروضة المقدسة كان عليهم أن يدفعوا مبالغ كبيرة من المال، وان الذين يدفعون مبالغ معتدلة كان يسمح لهم بالدفن في داخل أسوار البلدة، أما الذين كانوا يدفعون مبالغ زهيدة فقد كانوا يدفنون موتاهم في خارج السور، وهؤلاء كان يتراوح ما يدفعونه عن الجنازة الواحدة بين أربعة وثمانية “ستوفرات”. وكانت ستون ستوفر تعادل “تالير” ألماني واحد، والتالير يساوي ثلاثة ماركات.
وبعد أن يأتي (نيبور) على ذكر الروضة والجامع وتعلق الشيعة المنتشرين في البلاد الإسلامية كلها بهذه البقعة المقدسة، يقول أنها تقع في منطقة مجدبة لا يتيسر فيها الماء بسهولة. ثم يشير إلى أن الماء الذي كان الناس يحتاجونه للطبخ والاغتسال كانوا يستقونه من قنوات خاصة تمتد في باطن الأرض، لكن الماء الصالح للشرب كان يؤتى به محملا على ظهور الحمير من مسافة ثلاث ساعات. ومما يذكره عن عمران البلدة ان جهة من جهاتها يكثر فيها الكلس، الذي كان يحرق للحصول على مادة البناء منه، وان الخشب كان يندر وجوده ويرتفع ثمنه فيها.
ولذلك كانت البيوت تشيد كلها بالطابوق والجص وتعقد سقوفها على شكل قبب وعقود، فتكون متينة البنيان عادة. ويشير كذلك إلى وجود منطقة منخفضة متسعة الأرجاء في خارج البلدة، يكسوها الملح، كان يسميها الناس “بحر النجف” وهو الاسم الحالي نفسه بطبيعة الحال.
ومما يتطرق اليه نيبور عن طبقات السكان قوله ان بعض سكانها كانوا من أهل السنّة، وإن العلاقة بين أهل السنّة والشيعة في النجف وكربلا كانت علاقة حسنة إلى حد غير يسير. على انه يقول من جهة اُخرى ان الشيعة كان لابد لهم من أن يلتزموا جانب الهدوء لئلا يغضب عليهم الباشا في بغداد فيعمد إلى منع الزوار الإيرانيين من زيارة العتبات المقدسة، أو يفرض أتاوى باهظة عليهم. ويقدر (نيبور) عدد الزوار الذين كانوا يقصدون العتبتين المقدستين في المشهدين يومذاك بحوالي خمسة آلاف زائر في السنة. ومع ان العدد يبدو قليلا للقارىء في يومنا هذا، فإنه غير بعيد عن الحقيقة بالنسبة لظروف السفر الشاقة وغيرها في تلك الأيام الخالية. ومما يذكره (نيبور) في هذا الشأن كذلك ان الزيارة ليس لها أيام معيّنة كما هي الحالة في الحجّ إلى مكة المكرمة، ومع هذا فإن الشيعة يعتقدون بأن دعاءهم تزداد الإجابة له في أوقات وأيام خاصة. ولذلك فهم يؤدون الزيارة في أيام رمضان المبارك، والعاشر من محرم الحرام، والسابع والعشرين من رجب، وغير ذلك.
ولم يفت (نيبور)، وهو الرجل العالم المدقق، أن يرسم مخططاً خاصاً لمشهد عليّ كما يسميه يشير فيه إلى معالم البلدة المهمة وشكلها العام فهو يشير قبل كلّ شيء إلى أنها كانت في تلك الأيام محاطة بسور غير عامر يمكن الدخول إلى البلدة من عدة فجوات فيه، وان هذا السور كان فيه بابان كبيران هما “باب المشهد” و “باب النهر” وباب ثالث يسمى “باب الشام” لكنه يقول ان الباب الأخير كانت قد سدت فتحته بجدار خاص من دون أن يذكر السبب في ذلك. ويضيفإلى هذا قوله ان الشكل الخارجي للبلدة يشبه شكل مدينة القدس، وان سعتها تقارب سعة القدس أيضاً.
ويقول كذلك ان النجف كان فيها، عدا الجامع الكبير المشيد حول الضريح المطهّر، ثلاثة جوامع صغيرة اُخرى. وقد عمد (نيبور) إلى تخطيط رسم خارجي عام للجامع الكبير، كما يسميه، وهو يذكر ان سقفه قد صرفت مبالغ طائلة على تزيينه وطليه بالذهب بحيث لا يمكن أن يوجد مبنى آخر في العالم أجمع يضاهيه بكلفة تسقيفه الباهظة. ولا شك انه يقصد بذلك القبة العظمى المذهبة التي يقول ان نادر شاه الطاغية قد أنفق تلك المبالغ عليها ليكفر بها عن الأعمال الشريرة التي ارتكبها في ايران. فقد بلغت كلفة لوحة النحاس المربعة بالذهب مبلغاً يزيد تومان ذهب واحد (عشر تاليرات ألمانية). وهو يشيد كذلك بالمنظر الأخاذ الذي يبين للناظر إلى القبة المذهبة، ولا سيما حينما تسقط أشعة الشمس عليها، أو حينما تبين للرائي من بعد ستة أميال ألمانية على حد قوله. ومما يذكره بالمناسبة ان القبة كان يعلو قمتها “كف عليّ” بدلا من الهلال الذي كان يشاهد فوق القباب الموجودة في الجوامع التركية عادة.
ويستمر في وصف المظاهر الخارجية فيقول ان الجامع الكبير هذا كان محاطاً بساحة واسعة يقام فيها السوق كلّ يوم. وكان هناك بين يدي الباب الكبرى شمعدان كبير جداً يحمل عدداً كبيراً من الأضواء. وقد كانت تطل على هذه الساحة من جميع الجهات بيوت السادة والخدم التابعين للحضرة المطهرة، الذين كان يتجاوز عددهم المئة على ما قيل له.
أما بالنسبة لداخلية الحضرة وزينة جدرانها وسقوفها فهو يقول انه لم يستطع التقرب كثيراً من الجامع والدنو منه بحيث يشاهد شيئاً منها بنفسه. لأنه كان يخشى أن يجبر، لو فعل ذلك، على اعتناق الإسلام جرياً على العادة التي كانت متبعة مع غير المسلمين في هذا الشأن، ولم يكن يرغب أن يكلفه حب الاستطلاع مثل هذا الثمن الغالي على حد قوله. على انه يذكر إن (الملاّ) رفيقه في السفر، وعدداً من شيعة النجف، قد أكدوا له إن الحضرة كان فيها أشياء ثمينة جداً ينبهر بها الناظرون. فقد كان هناك عدا القبة المذهبة والآيات القرآنية المطعمة بالميناء وكتابات كثيرة مكتوبة بحروف من ذهب، وعدد غير قليل من (الشمعدانات) الفضية والشمعدانات الذهبية المطعمة بالأحجار الكريمة. ويشير ما خاصة إلى بصورة قيل له عن خنجر من الطراز الهندي كان معلقاً في شباك الضريح المطهر، فإنه كان مرصعاً بأحجار كريمة نادرة لا تقدر بثمن. وقد قيل له ان أحد أسلاف (أورنك زيب) إمبراطور المغول في الهند كان قد أهداه على سبيل التبرك قبل بضع مئات من السنين. لكن الملاحظ في التأريخ إن أورنك زيب (وهو شاه جهان) نفسه تولى الحكم في 1659 وتوفي في 1707، وان إمبراطورية المغول قد أسسها (بابير شاه) في الهند سنة 1529. ولم يغفل نيبور عن الإشارة في رحلته إلى انه كان من المعتاد في كلّ سنة أن يوفد والي بغداد رجلا من كبار ضباطه الى النجف الأشرف للتحقق من وجود هذه الأعلاق النفيسة والتحف الثمينة التي كان يؤتمن عليها الكليدار، ويسأل عنها الباشا الوالي كذلك.
نيبور في الكوفة
ويظهر من رحلة نيبور انه كان قد قصد الكوفة أيضاً وزار معالمها خلال مدة وجوده في النجف. فانه يشير إلى أهمية الكوفة القديمة في تأريخ الإسلام، ويقول أنها كانت خالية من السكان تقريباً حينما زارها. وقد شاهد في طريقه اليها مجرى كري سعده الجاف، الذي يعتقد انه (اليالاكوباس) الذي حفره سكان العراق الأقدمون. لكن الذي لفت نظره بطبيعة الحال مسجد الكوفة الذي قتل فيه الإمام (عليه السلام). وهو يقول ان هذا الجامع الكبير لم يبق منه شيء يذكر سوى الجدران، وبعض المعالم المشهورة، وقد عمد إلى رسم مخطط خاص له نشره في الرحلة وأشار فيه إلى الأسماء كما استقاها من الدليل النجفي الذي كان بصحبته.
ومن المواقع التي يشير إليها في الجامع باب الفيل، والسفينة، (والسقاخانه) والموقع الذي كان الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) يصليان فيه، والمحراب الذي كان يصلي إزاءه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام). كما يشير إلى الأعمدة الدالة على مقامات الأنبياء عيسى وموسى وإبراهيم الخليل، والموضع الذي من عادة الإمام السجاد (عليه السلام) أن يصلي فيه، والمكان الذي شيد فيه نوح أول بيت له بعد مغادرته السفينة على ما يُعتقد، ومقام الإمام الصادق (عليه السلام)، وضريحي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة. وقد علم نيبور من الكتابة التي كانت منقوشة على البناء المشيد فوق قبري مسلم بن عقيل وهاني إن (محمّداً بن محمود الرازي) و (أبا المحاسن بن أحمد التبريزي) هما اللذان شيداه سنة 681 للهجرة.
ومما يذكره أيضاً ان السيدة عادلة خاتون بنت أحمد باشا الحاج حسن باشا، وزوجة الوالي سليمان باشا أبي ليلة، وكانت قد توفيت قبل وصول (نيبور) ببضع سنوات فقط، هي التي شيدت جدران مسجد الكوفة من ناحية الشمال الغربي، وهي التي أنشأت على حسابها الخاص بناية صغيرة ذات قبة قرب الجامع تخليداً لذكرى النبيّ نوح (عليه السلام). وقد زار (نيبور) جامع السهلة أيضاً; وهو يقول إن الدليل قص عليه قصة تختص بالجامع لم يفهم شيئاً منها.
وقد غادر (نيبور) النجف في يوم 25 كانون الأول 1765 متوجهاً إلى الكفل بعد أن بقي فيها ثلاثة أيام. وآخر ما يذكره في هذا الشأن إن (مشهد عليّ) لم يصل إليه أي أوربي قبله هو. ولا شك انه مخطئ في قوله هذا لأن الرحلات المطبوعة تشير إلى إن عدداً من الرحالين الأوربيين قد زاروا النجف قبله أو مرّوا بها، وأهمهم تكسيرا البرتغالي 6 آب (1604) و (بيترو ديلافالة) الإيطالي (1619) ونافيرنييه الفرنسي (1639). لكنه في الحقيقة كان أحسن من كتب عنها، وان المعلومات التي أوردها كانت أوسع مما كتبه غيره كما يلاحظ مما أوردناه في هذا البحث.
ترجمه وكتبه
جعفر الخياط
الحائز على درجة اُستاذ علوم M.SC. من جامعة كليفورنيا
ومدير التعليم الثانوي، والمفتش الاختصاصي، في وزارة التربية سابقاً
[Edit]
الشيخ أحمد بن درويش محمد الطريحي النجفي السيد أحمد بن السيد درويش ابن السيد محسن الخرسان