تاريخ بِدْعَة الحميدية
التي أجريت من الجعارة السنية إلى النجف الأشرف سنة 1305هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
محاولات إيصال الماء إلى النجف:
تقوم مدينة النجف الأشرف على رابية مرتفعة فوق أرض رملية فسيحة ترتفع عن سطح البحر حوالي 70 متراً.
وقد منع موقعها المرتفع هذا من وصول الماء الجاري إليها، فلم تكن واقعة على نهر أو مجري لماء عذب، فكان أهلها يعانون, وقد مرت مرحلة التزود بالماء عن طريق الآبار والقنوات والأنهار، وأخيراً إسالة الماء.
آبار النجف:
أرضية النجف كلسية البنية في بعض أنحائها، ورملية التركيب في الجهات الأخرى ويرتفع سطحها عن مصب الفرات الحالي في الكوفة بـ 34 متراً.
وممن ذكر التأريخ أسماءهم بالشكر والمديح بنو بويه، فإنهم طلبوا الماء إلى سكان مدينة النجف في أعماق الصخور فثقبوها حتى بلغوا أحشاءها وحفروا فيها آباراً واسعة بعيدة الغور حتى وصلوا فيها إلى 60 متراً، ولكن لما رأوا أن الماء لم ينبط وإنه وراء تلك الصخور بمئات من الأذرع بقيت تلك الجياب الفارغة من بين الأدلة على ما لبني بويه من بعد الهمة، فكانت قناة آل بويه وسيأتي ذكرها.
ومن المشهور على ألسن الناس في النجف يتناقله الخلف عن السلف أن السلطان عضد الدولة فناخسرو بن بويه الديلمي أراد إجراء الماء إلى النجف من الفرات سنة 369هـ، فعثر في أثناء حفره شمالي النجف على عين غزير ماؤها، فمنعه ذلك الماء من متابعة الحفر، فاكتفى بإجرائه إلى النجف تحت الأرض في قناة محكمة تتخللها آبار مبنية بناء محكماً، متصلة بعضها ببعض تخترق دور المدينة، ويصب ماؤها في المكان المنخفض خارج البلد. ولذلك كانت أغلب آبار النجف يعد ماؤها من الماء الجاري، ولا تعد آبار شرعية أي نابعة وراكدة، ولكن هذا الماء كان مالحاً لا يصلح للشرب، فاكتفى الناس به لحوائجهم، وجعل أهل الثروة يجلبون الماء بالروايا من الفرات من ناحية ذي الكفل، والفقراء يشربون من ذلك الماء المالح، وربما كان ماء بعض الآبار أقل ملوحة فيتزاحم عليه الناس، وتسمى مثل هذه العين عند النجفيين بـ (أم البيار)، ولا تزال باقية إلى اليوم.
فآبار النجف على قسمين:
الأول: نابعة لا تتصل بشبكة القنوات وتسمى الآبار الشاهية، وهي مرة المذاق.
الثاني: آبار جارية متصلة بالقنوات، ماؤها يتجرّعه الظمآن بخلاف النابعة.
ولما كانت الأنهر والقنوات التي شقت إلى النجف وما يرتبط بها من آبار جارية تتعرض بشكل دائم لسد مجاريها وانقطاع مياهها لأسباب متعددة كهبوب الزوابع الرملية، أو نزول برد ومطر كثيف تحرف معه الرمال تلك المجاري والآبار كما حصل عام 1303هـ وعام 1307هـ، أو تخريبها بصورة متعمدة كوسيلة لمحاربة المدينة، كما قام بذلك الجيش الانكليزي المحتل أثناء الحصار الكبير الذي ضربه على النجف عام 1918م، والذي لم ينته إلا بعد خمسة وأربعين يوماً عمل خلالها على ردم ألآبار وقناتها التي كانت تصل إلى النجف بالفرات، كل ذلك جعل من الآبار الشاهية مصدراً مهماً لسد حاجة السكان من المياه وإنقاذهم من الشدائد.
وقد دأب أهل النجف على المحافظة على آبارهم وتنظيم مجاريها المائية، كما كان بعض الأمراء يتعاهدون تلك الآبار بالعناية، وممن ذكر لنا التاريخ قيامهم بتنظيف آبار مدينة النجف الجارية هو النواب أحمد خان بأمر السلطان علي مراد خان عام 1197هـ، كما عمر النواب أحمد خان السقّخانة الواقعة في الصحن الشريف.
وكان أهل النجف يفتحون من آبار بيوتهم النوافذ للسراديب والمجاري الهوائية من بئر لأخرى تحت طبقة السن بين طبقات الرمال، كما ينحتون في طبقة الطين وفي قعرها مجاري لاتصال الماء من بئر لأخرى. ويختلف عمق الآبار باختلاف المواقع المرتفعة والمنخفضة ويتفاوت عمقها بين 50 إلى 70 ذراعا، ويستخرج منها الماء بالدلاء والأرشية للشرب وغيره.
أنهار النجف وقنواتها
1 ـ نهر الحارث بن عمرو الكندي ملك الحيرة:
كان أول ماء أجري في أرض النجف قبل الإسلام, وكان ذلك في عصر قبّاذ بن فيروز الساساني.
حكي المراغي عن كتاب تجارب الأمم لأحمد بن مسكويه، أنه قال: في زمن الجاهلية شق الحارث بن عمرو الكندي من ملوك العرب في عصر قباذ الساساني بإشارة أحد تبايعة اليمن نهراً من شط الفرات إلى أرض الحيرة وحوالي أرض النجف.
وقال الطبري: إن الحارث بن عمرو الكندي ملك الحيرة المعاصر لقباذ بن فيروز الساساني أرسل إلى تبع وهو باليمن: إني قد طمعت في ملك الأعاجم، فأجمع الجنود وأقبل، فجمع تبع الجنود وسار حتى نزل الحيرة وقرب من الفرات فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق نهراً إلى النجف، ففعل، وهو نهر الحيرة.
ونقل النويري عن المسعودي، أنه قال: وقد كان الأكثر من ماء الفرات ينتهي إلى بلاد الحيرة، ثم يتجاوزها ويصب في البحر الفارسي، وكان البحر يوم ذاك في الموضع المعروف بالنجف في هذا الوقت، وكانت مراكب الهند والصين ترد على ملوك الحيرة فيه. قال: والموضع الذي كان يجري فيه بيّن إلى زمن وضع هذا الكتاب يعني مروج الذهب سنة 335هـ، ويعرف بالعقيق (العتيق) وعليه وقعة القادسية.
ويسمى نهر الحيرة بالكافر، وقيل: هو اسم قنطرته. وهو ما يظهر من أبيات للمتلمس الشاعر، قالهما لما رأى كتاب ملك الحيرة عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين يأمره فيه بقتل المتلمس، في قصة معروفة قال المتلمس:
قذفت بها بالثني من جنب كافرٍ كذلك أقنو كل قط مضلل
رضيب لها بالماء لما رأيتهـــــــــــــــــــــــــــــا يجول بها التيار كل جـــــــــدول
ولعل هذا النهر هو الذي عناه أحد شعراء الكوفة، بقوله:
وبالنجف الجاري إذ زرت أهلـــــــــــــــــــــه مها مهملات ما عليهن سائس
خرجن بحب اللهو في غير ريبـــــــــــــــــــــــــة عفائف باغي اللهو منهن آيـــس
يردن إذا ما الشمس لم يخش حـــــرّها ظلال بساتين جناهن يابــــــــــــــــــــــس
إذا الحرّ آذاهن لُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذن بغَيــــنَةٍ كما لاذ بالظل الظباء الكوانس
لهن إذا استعرضتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن عشية على ضفة (النهر المليح) مجــالس
يفوح عليك المسك منها وإن تقف تحدّث وليست بينهن وســــــــاوس
ولكن نقيات من اللؤم والخـــــــــــــــــــــــــــــنا إذا ابتزّعن أبشارهن المبـــــــــــــــــلابس
2ـ قناة سليمان بن أعين:
وهو أول ما أجري في أرض النجف سنة 250هـ بعد بزوغ الإسلام في ربوع العراق، وسليمان أخو زرارة بن أعين المحدث الثقة الجليل.
قال أبو غالب الزراري في رسالته في آل أعين عند مخلفات سليمان المذكورة ما نصه: (… وخلّف ضيعة في بساتين الكوفة المعروفة بالحواشة، وقرية في الفلوجة تعرف بقرية هي منير أيضاً واسعة، وجميعها في النجف مما يلي الحيرة، لا أعرف أي قرية هي، وكان قد استخرج لها عيناً يجريها في قناة يحملها من حد قبة تعرف بقبة السنيق.
قال وقد رأيت أنا أثر القناة وأدركت شيخاً كان قد قام له عليها.
وكان سبب استخراجه العين أن بعض أهل زوجته من خراسان ورد حاجاً فاشتهى أن يرى الحيرة، فخرج معها إليها، وكان قبة السنيق أحد الأشياء التي يقصدها الناس للنزهة، وكانت مما يلي النجف، وقبة عظين مما يلي الكوفة وهي باقية إلى هذا الوقت، ولا أعرف خبر قبة السنيق هل هي باقية أم لا؟ فلما جلسوا للطعام. قال الخراساني: ها هنا إن استنبط ظهر.
ثم ساروا فرأوا النجف وعلوّه على الأرض التي أسفله، فقال: يوشك أن يسبح ذلك الماء على هذه الأرض، فابتاع سليمان تلك الأرض وجمع منها ما أمكن، ثم عمل على استنباط العين، فأنفق عليها مالاً، فظهر له من الماء ما ساقه في القناة إلى تلك الأرض، وكان له حديث حدثت به فذهب عني في أمر العين، إلا أن الذي رزق من المال كان يسيراً، فلم تزل تلك الضياع في يده إلى أن مات، ثم خرج ولده كلهم عن قرية منير وعن الأرض التي في النجف، وجمع جدّي رحمه الله مع ما خصه من الضيعة في (الحواشة) بعض أموال أخوته فكانت تأتيه في ذلك إلى أن مات وخلّفه لي ولأختي، فلم تزل في أيدينا إلى أن امتحنت في سنة أربع وثلاثمائة وما بعدها، فخرج ذلك عن يدي في المحن وخراب الكوفة بالفتن,.
3- قناة آل بُويه
من المشهور الذي تناقلته الخلف عن السلف في مدينة النجف الأشرف أن السلطان عضد الدولة فناخسرو بن بويه الديلمي أراد إجراء الماء إلى النجف من الفرات سنة 369هـ، فعثر في أثناء حفره شمالي النجف على عين ماء غزيرة، فمنعه ذلك الماء من متابعة الحفر، فاكتفى بإجرائه إلى النجف تحت الأرض في قناعة عالية محكمة تتخللها آبار بناء محكماً، متصلة بعضها ببعض تخترق دور المدينة، ويصب ماؤها في المكان المنخفض خارج البلد.
وفي بعض المصادر: أن عضد الدولة أصلح القناة السالفة، قناة آل أعين، فاشتهرت بقناة عضد الدولة أو قناة بويه، وبنى المهدم منها، وأحكم وأحكمها أشد من الأول، وما زالت تسقي النجف وأهلها أعذب ماء حتى أبلى الدهر جدتها بعد مئات من السنين وخربت.
وفي (كتاب النوادر) للعلامة البحاثة الشيخ محمد حرز الدين وقف دقيق هذه القناة وكيفية القناة بنائها، قال رحمه الله: وأرض القناة مسرّحة كل مئة ذراع بذراع، ومن القناة إلى القناة ما يقرب من أربعين ذراعاً بالذراع الشاهي, وقد أدلى حبل برأسه ثقل في بئر خارج مدينة النجف قرب سورها فبلغ قعره أربعين ذراعاً، وأدلي فيما بعد عنه بفرسخ فبلغ ستة عشر ذراعاً، فالتفاوت بينهما أربعة وعشرون ذراعاً. والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، لكل ألف ذراعان تسريحاً.
ولهذه القنوات طريقان: طريق يحوي فيه الماء، وأعلاه طريق للهواء. وطريق الماء منهماً نحت في صلد من الأرض يعرف بالسن، وعليه غطاء من فخار، ومنه ما جعل في أسفله قطع خزفية إذا مرت القناة بأرض رملية رخوة.
وكان طول الخزف المسمى عندهم بـ (الكوي) قدر شبر يدخل بعضه في الآخر، وعلى حد تعبيرهم (ذكر وأنثى) وسمك اللبنة المطبوخة والمطلية بماء الخزف القاشي أربعة أصابع مضمومة, أما شكل القناة فكان كالمثلث المقطوع الزاوية. أسفله بمقدار وضعي إنسان بسعة، أيضاً بحيث يستطيع أن يمشي فيه الرجل محدودباً، وفي البعض يمشي حبواً, وعلو القناة من الأسفل إلى الأعلى، وهو معدل مجري الماء والهواء على الغالب ذراع شاهي, وعلى رأس كل قناة فوهة عليها غطاء كغطاء التنور يرفع ويوضع لينظر إلى مجرى الماء وما وقع فيه من شيء لو احتاج إلى تنظيف، فإنه قد يسد طريق الماء بعض الحيوانات الدارجة والزاحفة، وما يصيب جدران الطريق ومجراه من هدم، فيصلح الخزف المعبد به النهر وجوانبه,وربما تركوا الأرض الرخوة فداروا بالنهر في أسفل الآبار يمنة ويسرة إلى أن يقع على الخط المستقيم والمجرى المتعارف، وربما صنعوا دوارتين للماء يمنة ويسرة فيجري الماء من ثلاثة طرق ثالثها العمود الأوسط، وذلك مما يقرب من منبع الماء وبئر الفرسخين, كما جعلوا على ظهر الخزف طيناً، وفوق الطين رمل، وفوق الرمل قطع مما نحتوه من طبقة السن ليكون ذلك كله جُنّة للخزف مما يقع على ظهره.
وطريق الهواء مختلف الارتفاع كما أشرنا إليه حسب قوة الأرض ورخاوتها، فإن كانت قوية نحت مقدار جلسة إنسان فما فوقها إلى قامة إنسان.
وفي الصحراء الشمالية الشرقية للنجف وعلى جنبتي مجري الماء وضع مقدار أربعة آلاف قطعة من هذا الحزف في أنبار لوقت الحاجة إليه، وبقي في موضعه إلى يومنا هذا، إلا أن هبوب رياح الشمال ونسف الرمال عليه غطاء وضعية. وكذا الطابوق المربع كبير الحجم لم يزل مخزوناً في مخازن عديدة، كان قد خزن لتعمير طرق المياه في القنوات، وقد عثر على بعضه والكثير لن يعثر عليه وبقي تحت الرمال في الصحراء.
وقال رحمه الله: حدثني بعض الثقاة عن قدماء سكنة مدينة النجف الأشرف: أن عدد القنوات التي جري فيها الماء لساكني النجف كانت خمس عشرة قناة أظهرها وأفخمها قناة آل بويه، وما زاد عليها شُعب من هذه أو إصلاح واحدة منها.
وفي اليتيمة الغروية للسيد حسون البراقي (ت 1333هـ) يذكر: إن الماء انقطع من هذه القناة، و(كان ذلك عند ابتداء كتابنا لهذه الأوراق), فضجت البلد وعجت لعدم استقامتها بغير الماء لاستعمالها له فعند ذلك تصدى الشيخ عباس بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء، فوجه العمال والبنائين لكشف القناة وإصلاح ما فسد منه فأصلحوا ما أمروا وأخبروا بإحكام بنائه.
ولم يوجد مثله قط، ولا مثل ارتفاع وحسن نقش آجره، وربما يوجد في بعض الأمكنة آيات قرآنية، وإنه لم يتهيأ أن يعمله أحد.
وإن تلك العين على مسيرة من النجف أربعة أميال تقريباً أو أكثر بشيء يسير, وهذه العين تجري جدياً عن النجف وعكس القبلة، وتجيء من تحت الأرض على مقبرة وادي السلام، وتخرج من تحت مقام زين العابدين وقبر صافي صفا وتسيل على وادي النجف.
4ـ نهر السلطان ملك شاه السلجوقي:
وفي سنة 479هـ ـ 1086م زار السلطان أبو الفتح ملك شاه بن ألب أرسلان بن دواود بن ميكائيل بن سلجوق الملقب جلال الدولة ووزير نظام الملك مرقد الإمام علي عليه السلام وأصدر أمره باستخراج نهر من الفرات يطرف فيه الماء إلى النجف، فبدأ فيه العمل بنفس السنة.
5ـ نهر سنجر السلجوقي:
وممن أجهد نفسه في جلب الماء إلى النجف الأشرف السلطان سنجر بن ملك شاه، فقد شق نهراً من الفرات فلم يتفق له، وله آثار البناء باقية.
قال ابن فندق المتوفى سنة 565هـ، في كتابه (تاريخ بيهق): إن الذي رغب السلطان سنجر في أن يشق نهراً من الفرات إلى النجف هو السيد الأجل الزاهد العالم فخر الدين أبو القاسم علي بن زيد، فكان يعد من مآثره حيث قرر السلطان ذلك، ثم كتب السلطان كتاباً إلى وزيره جلال الدين الحسن بن علي صدقه، وهذا نص الكتاب:
(بسم الله الرحمن الرحيم حسن توفيق الوزير الأجل العالم يدعو إلى أن يكون وفود أحمادنا إليه مسوقة، وعقود مخاطباتنا إليه منسوقة، وبحسب ذلك استظهر السيد الأجل العالم الزاهد فخر الدين مجد السادة أبو القاسم علي بن زيد الحسيني بهذا المثال، وهو ممن سالت على صفحة نسبه الشريف غرّة السداد، وبوّأه استحقاقه كنف العناية موطأ المهاد، وحكمت له موالاته المرعية، ووسائله المرضية بأن يتلقى داعية رجائه بالإجابة، ويقابل ظنه بجميل الإصابة، وقد همّ بأن يسعى في أن تشق إلى الكوفة فرضه من الفرات، ليحيى بها معالم أرضها الموات، ولا غنى في تحصيل مراده وإدراك مرامه على حسن مسعاة الوزير الأجل جلال الدين، وصدق اعتنائه وإرشاده، ورأي الوزير الأجل في ذلك موفق رشيد إنشاء الله تعالى.
6ـ نهر التاجية أو (نهر علاء الدين الجويني):
في سنة 661هـ /1253م، في أيام أباقا خان بن هلاكو، صار صاحب ديوان الدولة الإيلخانية عطاء الملك علاء الدين بن بهاء الدين محمد الجويني حاكماً على بغداد وعلى ولايتها، فأمر عطاء الملك بحفر نهر من الفرات إلى الكوفة، كما أمر ببناء قناة من الكوفة إلى النجف تحت الأرض لارتفاع أرض النجف، وكان القائم على حفره السيد تاج الدين بن الأمير علي الدلقندي الحسيني، وكان من أعلام ذلك العصر، فسمي النهر باسمه، وقيل لتلك الأرض التي تستقي منه (التاجية)، وبقي هذا اسمها إلى اليوم، وكان الابتداء بحفره سنة 672هـ، وجرى الماء حول النجف في رجب سنة 676هـ. ثم خربت هذه القناة، وردمت الرياح السافيات النهر.
وغير نهر التاجية الذي أدركه ياقوت الحموي المتوفى سنة 626هـ.
وذكر المؤرخ محمد بن خاوند شاه: أن عطاء الملك الجويني أنفق على النهر الذي حفره إلى أرض النجف مما يزيد على مئة ألف دينار أحمر، وقد وصل الماء إلى مسجد الكوفة، وسبق ذلك أن عمل الجويني بركة في مسجد الكوفة، ابتدئ العمل بها في ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة سنة 667هـ، وفرغ منها سنة 669هـ.
قال العلامة البحاثة الشيخ محمد حرز الدين: حدثني أهل الآثار من مشايخ النجف الأشرف عن أشياخهم: أن القناة العظمى التي تجيء إلى النجف من طريق من طريق كربلاء مما بين الشمال والشرق وتدخل فيه لها مدخل وطرق مخصوصة. بدأ العمل بها كما هو مرسوم في كتيبة فخار فيه سنة ستمائة وإحدى وستين، وتم العمل بها سنة ستمائة وإحدى وسبعين فمدة العمل كانت عشر سنين، وأن المؤسس الأول لحفر هذه القناة هم آل بويه.
وليس ببعيد أن هذه القناة جاءت على أسس حفريات البويهيين المندرسة، وأعيد فتحها في عصر الإيلخانيين في القرن السابع بأمر الصاحب عطاء الملك بن محمد الجويني صاحب ديوان الدولة الإيلخانية.
وجاء في موسوعة العتبات المقدسة): إن من عمارات الصاحب علاء الدين الجويني أنه أجري نهراً من قصبة الأنبار إلى النجف الأشرف, وصرف له مبالغ وافرة قدّرها بمائة ألف دينار ذهباَ، فتأسست عمارات وقرى في جانبيه عددها مئة وخمسون قرية، فانقلبت تلك الأراضي القاحلة إلى مزارع متصلة، والظاهر أن النهر المذكور هو النهر المعروف اليوم بكري سعد، كما أنه أسس رباطاً في النجف.
7ـ نهر الشهُبْ:
ذكره الدكتور شيرين بياني، قال: وفي سنة 662هـ، قام حاكم بغداد كانالدي الجلائري بشق نهر الفرات إلى النجف الأشرف وسماه (نهر الشُّهُب).
8ـ نهر وقناة الشاه إسماعيل الصفوي الأول:
عند قيام الدولة الصفوية في إيران واشتداد ساعدها أخذ الصفويون يشيدون المباني والمعاهد والدور السكنية في النجف الأشرف، وانشئوا الصحن والحضرة لمرقد الإمام علي عليه السلام على الطراز الحالي. وفي مستهل القرن العاشر استولى إسماعيل على بغداد وأصبح معظم العراق خاضعاً لحكمه، وما أن استقر الوضع حتى جاء الشاه لزيارة العتبات المقدسة فزار النجف الأشرف سنة 914هـ/ 1508م وعند قدومه أمر بحفر نهر من الفرات سمي بالنهر الشاهي، وأوصله إلى مدينة النجف بقناة جوفية لارتفاع أرضها عن الفرات، كي تمد السكان بالماء الكافي للشرب، وهي نفس القناة التي كان قد حفرها علاء الدين عطاء الملك الجويني سنة 676هـ في شهر رجب وجرى بها الماء حول النجف. إلا أنه لم يجيء سائغاً عذباً لأن ماء الفرات كان يختلط بماء الآبار فيأخذ منه شيئاً من الملوحة ويصبح أجاجاً.
وقد جرى فيه الماء سنة 926هـ -1519م، وأحدث على نهر الشاه إسماعيل الصفوي ضياع وبساتين، وجعلها الشاه وقفاً على المحقق الكركي وأولاده. فلم تزل النجف تستسقي من قناة النهر إلى زمن محاصرة العثمانيين النجف أيام السلطان سليم، فطمت. وتراكمت الرمال في النهر وسدت مجراه، وهو المعروف الآن بنهر الهندية نسبة إلى آصف الدولة أحد أمراء الهند في لكنهور الذي كراه عند مجيئه إلى العراق لزيارة قبور الأئمة سنة 1209هـ.
وفي سني تولية والي بغداد سنان باشا جغالة زاده، رفع الوالي عريضة إلى السلطان مراد الثالث (ت 1003هـ/ 1594م) حاكياً فيها مأثرة السلطان سليمان في حفره لنهر الحسينية الذي أجراه إلى كربلاء فأحياها به وأحيا الأراضي التي اجتاز بها النهر وشكا إليه ما يقاسيه أهل النجف من قلة ماء الشرب وشرائهم الحمل منه بخمس بارات وست بارات ما جعلهم يضطرون إلى الجلاء عن مدينتهم. وقال: (وبعد أن كان في النجف ثلاثة آلاف دار عامرة لم يبق منها إلا عشرها شربه الماء الأجاج وأكله خبز الشعير مفضلاً هذه الحالة على الجلاء. فليس في النجف إلا الخطيب والإمام والفراش والخدام والموظفون وقليل غيرهم. ومن أسباب الهجرة إن هذه القصبة بعيدة عما هو معمور وأن الأعراب المجاورين لها عند وأن سورها قديم أكثره قد تهدم فأصبح كل أحد بوسعه دخولها من حيث أراد فلا أمن من دخول الأعراب إياها على حين غرة ومن غارتهم على القناديل الذهبية والفضية وغيرها من النجف والأدوات الثمينة المخزونة في الأستانة المباركة منذ زمن سلاطين السلف. وبعد أن رغب هذا الوالي ثانية في حفر نهر للنجف استدراراً للخير والبركة على غرار ما كان فعله السلطان سليمان في حفره لنهر الحسينية قال أنه (كشف بواسطة الخبراء بعلم المساحة والهندسة على النهر المنوي حفره من الفرات إلى النجف فظهر له أنه فضلاً عن سهولة إجرائه وإتمامه بنفقات قدرها مائة وعشرون ألف فلوري ستظهر مزارع تنتج في ثلاث سنوات محصولاً يفيض على النفقات، وختم الوالي كتابه طالباً صدور الأمر ليشرع في الحفر.
وسيأتي في حوادث القرن الحادي عشر سنة 1093هـ صورة عريضة مرفوعة إلى والي بغداد إبراهيم باشا من قبل رجال مدينة النجف الأشرف في ذلك العصر يطلبون من الحكومة العثمانية كري النهر الشاهي وتطهيره، لأن ساكني النجف أصبحوا يشكون الظمأ، وكذا القبائل العربية النازلة عليه.
9ـ نهر الطهماسية:
أمر الشاه طهماسب الأول بن الشاه إسماعيل الأول الصفوي، بحفر نهر من الفرات إلى النجف فحفر ولم يتم، وسقيت منه بعض الأراضي بنواحي الكوفة، وهي اليوم تابعة إلى بابل (الحلة)، وتعرف هذه الأرض اليوم بالطهمازية (الطهماسية) نسبة إليه.
10ـ نهر المكرية:
عند زيارة الشاه عباس الأول بن الشاه محمد خدا بنده بن طهماسب بن إسماعيل الأول إلى النجف الأشرف سنة 1032هـ، أمر بتنظيف النهر الذي حفره جدّه الأعلى الشاه إسماعيل فحفر وعمّر، وعملت فيه عساكر الشاه وجرى الماء فيه حتى دخل مسجد الكوفة، وهو المعروف بنهر المكرية، ويعرف عند عشائر المنطقة بمجرية علي.
ولما كانت أرض النجف مرتفعة كثيراً عن أرض الكوفة، أمر الشاه بحفر قناة توصل الماء إلى النجف، فحفرت ووصل الماء إلى الروضة المطهرة، ومنها إلى بحر النجف وعمل له بركة في النجف ينزلون إليها ويستقون منها، ثم خربت هذه القناة.
وذكر الرحالة الفرنسي (تافرنييه) هذه القناة بعد جولته في العراق ومسيره من مدينة كربلاء إلى النجف الأشرف مروراً بخان العطشان، قال: ومن ذلك القصر واصلنا سيرنا نحو الشمال الشرقي، وبعد أن تمادى بنا السير خمسة أيام انتهينا إلى بلدة صغيرة كانت تدعى سابقاً الكوفة والآن تعرف بمشهد علي، حيث أن علياً صهر النبي محمد صلى الله عليه وآله يرقد هناك في جامع فسيح، ويرى حول الضريح أربعة شمعدانات مضاءة، وقناديل فوق الرأس مدلاّة من السقف… وليس في بلدة النجف غير ثلاث أو أربع آبار ذات ماء آجن وقناة جافة يقولون إن الشاه عباس مدها ليجلب فيها ماء الفرات إلى البلدة لأجل الحجّاج والزوار. أما الطعام فلم نجد منه في هذا البلد غير التمر والعنب واللوز، وهذه يبيعونها بأسعار غالية وعندما يؤمها الزوار، وقليل ما هم، يوزّع الشيخ عليهم عند احتياجهم إلى الطعام الرز المطبوخ بالماء والملح وشيء من الدهن يصب فوقه. ونظراً لعدم وجود مرعى للمواشي فلا يتوفر عندهم الطعام.
11ـ نهر الشاه صفي:
وفي سنة 1042هـ زار الشاه صفي الصفوي مرقد الإمام علي عليه السلام وسائر المراقد المقدسة في العراق، وبعد أن أدى ما عليه من النذور والإكرام والإنعام وإطعام أرباب الحاجات، رجع إلى بغداد فأمر بتجديد القبة المرتضوية وتوسعة الحرم، وأمر بشق نهر عميق عريض من شط الفرات، من حوالي الحلة إلى مسجد الكوفة، ومنه إلى الخورنق، فقاموا بالعمل وأوصلوه إلى بحر النجف بقناة، كانت محكمة البناء يبهر الناظر إحكامها، وترتب المساطب المتينة في داخلها، وأحدثوا هناك بحيرة يجتمع فيها الماء، ثم بواسطة القناة أوصلوا الماء إلى داخل السور وباستعماله الدولاب جرى الماء على وجه الأرض والشوارع والصحن الشريف المرتضوي، وأرخ ذلك بعض شعراء الفرس فقال:
شاه إقبال قرين خسرو دين شاه صــفي انكه خاك قدمش زيورافس امـــــــــــــــــــــــــــــــــــد
يافت توفيق كه ارد بنجف آب فــــــــــرات واتين بشارت بشه از حيدر صفدوا مد
ساكنان نجف از تشنكي آزاد شدنـــــــــــــــد رحمت حق همه را شامل وباور آمـــــــــــــــــد
سال تاريخ جوبر سيدم از ايشان كفتند (آب ما از مدد ساقي كوثر أمـــــــــــــــــــــــــد)
وقد قام بتنفيذ الأمر وزيره الميرزا محمد تقي المازندراني، فعمّر القبة المنورة، ومكث في النجف ثلاث سنين.
تمر هذه القناة من الشمال الشرقي لمسجد الكوفة، وقد رآها بعض المعاصرين للشيخ الكبير، وكانت تمر بمرقد هاني بن عروة,كما ظهرت عند عمارة هذا المرقد ـ، وتصل إلى وسط المسجد في المكان المعروف بـ (محل التنور) وكان الوارد إلى مسجد الكوفة في ذلك العهد يتوضأ منها.
ولعدم وفور الأسباب المكملة للعمران والغفلة في أن نضوب ماء الفرات في وقت يستدعي انعدام الماء بالكلية عن القناة التي هي كساقية منه طمت وخرب مجراها.
وقد اطلع صاحب مباحث عراقية على وثيقة مؤرخة في 11 شعبان 1093هـ / 1682م على حجة شرعية باللغة التركية بمقدمة عربية حول ماء النجف، وقد أورد نص المقدمة وملخص المضمونة كما يلي:
الأمر حسبما حرر فيه والشأن على ما سطر فيه.
الفقير إليه سبحانه درويش المولّى بقصبة إمام علي كرم الله وجهه.
الحمد لله الذي جعل إحياء الأراضي الميتة سبباً لانتفاع الناس من صنوف الأمم, ووسيلة إلى طريقة المعاش والهمم, والصلاة والسلام على أشرف الخلق من طوائف بني آدم وعلى آ له وأصحابه وأزواجه وسلم وكرم.
انتهى الكلام العربي
أما بعد… لقد حضر مجلس الشرع الخطير شيوخ النهر الشهير المسمى النهر الشاهي الآخذ من مراد وحضر سكان قصبة الإمام علي كرم الله وجهه بأسرهم فقالوا بدون جبر ولا إكراه:
كانتا أراضي هذا النهر قد غدت بمثابة الموات بمرور الأيام والسنين لعدم عناية الحكام السالفين وقلة رغبتهم في أمور الخير ولتسلط أهل البوادي على رعايا هذا النهر فأشرف على الخراب فتضرر أهله وكانوا على أهبة الهجرة فقام والي بغداد إبراهيم باشا بتطهيره وحفره من صدره إلى مدينة الكوفة والمسافة بينهما اثنتا عشرة ساعة فجاء بأهاليه النازحة عنه وأسكنهم محالهم وقطع دابر أهل التعدي وقد أنفق على ذلك اثني عشر ألف غرش وخمسة وأربعين غرشاً فنجّى قصبة رابع الخلفاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من محنة الظمأ العظيمة وذلك بتقريب الماء إليهم فكانوا في رفاهية. هذا فضلاً عن إحيائه للأراضي الواقعة على النهر المذكور. فرعايا هذا النهر وسكان قصبة الإمام وسكان قصبة الإمام علي هم مشغولون صباحاً ومساءً بالدعاء للسلطان.
وقد كتبت هذه الحجة على الوجه الذي أقروا به.
شهود الحال:
السيد عبد الرسول أفندي متولي قصبة الإمام علي.
السيد منصور أفندي ابن السيد حسين كمونة.
خطيب الجامع ملا حسين.
الشيخ إبراهيم فرج الله.
الحاج إبراهيم بن فرج الله.
الخادم ملا حسين أفندي.
المؤذن ملا علي رضا.
محمد جلبي ابن علي جلبي.
السيد محمد كمال الدين.
ملا .. (؟) بن ملا علي.
ملا علي ابن ملا محمود.
الخادم الحاج حسن.
السيد إبراهيم بن كمال الدين وغيرهم ولم يذكرهم.
12ـ كري الشيخ صاحب الجواهر:
لما رأى العلامة الشهير الشيخ محمد حسن صاحب جواهر الكلام رحمه الله اشتداد الأمر على أهالي النجف وتحقق عدم صلاحية الاستسقاء من ماء البحر الغير صالح للاستهلاك، قام في سنة 1263هـ بجمع المهندسين وبذل الأموال الطائلة مستعيناً ببعض ملوك الهند وهو السلطان محمد أمجد علي شاه الهندي المتوفى في 21صفر سنة 1263هـ، فأرسل له ثمانين ألف تومان، وأرسل له غيره من أهل الهند أموالاً طائلة، فحفر نهراً من نهر آصف الدولة (نهر الهندية) إلى سور مدينة النجف. ولما جرى الماء فيه وقف في موضع يقال له الطبيل، وذلك لعدم كون الحفر على هندسة فنية، إذا لم ينتبه القائمون على العمل بأن طرف النهر من جهة مدينة النجف يعلو كثيراً عن أول المجري، وأن المقدار الذي حفر لا يكفي لجريان الماء بل يحتاج إلى عمق أضعاف ذلك، وإنه أمر غير ممكن بهذه الصفة وما لبث الشيخ صاحب الجواهر قدس سره يحث على العمل بهذا المشروع الخيري حتى وافاه الأجل سنة 1266هـ، فتوقف العمل على ذلك ولم يتم.
وذكر الشيخ علي آل كاشف الغطاء: أن السيد حسين بن السيد دلدار علي اللكهنوي أرسل إلى الشيخ صاحب الجواهر لكّاً وخمسين ألف روبية لأجل حفر النهر. كما هزت الحميّة أحد رجال إيران الذين يهمّهم أمر النجف المدعو فرهاد معتمد الملك (وهو عمّ السلطان ناصر الدين شاه القاجاري) على بذل الأموال الجسيمة في إرواء تربة النجف وساكنيها بالماء العذب.
وللشيخ عبد الحسين محيي الدين المتوفى سنة 1271هـ قصيدة طويلة يهني فيها الشيخ صاحب الجواهر على شق النهر وإتمامه كتاب الجواهر، جاء فيها:
حبر الشريعة رحب الجانبـــــــــــــــــــــين إذا لاذت به الملة البيضاء من حـــــــــــــــــــــــــرب
أرى المكارم أفلاكاً بجملتهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تدور من مجده السامي على قطــــــــــــب
(محمد الحسن) الأفعال والعلـــــــــــــــــــــــــــــــم المفضي بأفعاله الحسنى إلى عـــــــــــــــــــــــجب
فكم على يده البيضاء قد ظــــــــــــــهرت كرامةً خصّ في إظهارها وحُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبي
منها العلوم التي في الأرض قد نشرت كالصحف تنبئ عن صحفٍ وعن كتب
شروحهنّ انشراحٌ للصـــــــــــــــــــــــــــدور وفي متونهنّ جلاء الــــــــــــــــــــــــشكّ والريــــــــــــــــــــــــــب
وشق نهر بكوفان به وقعـــــــــــــــــــــــــــــــــــت علامة لترجي خير مــــــــــــــــــــــــــــــــــــرتقــــــــــــــــــــب
وسوف يجري بعون الله جاريـــــــــــــــــــــــــه وفق الحديث به ســــفن من الخـــــــــــشب
مولى أراه بما أولى هدىً ونــــــــــــــــــــــدى أولى وأعلى يـــــــــــــــــــداً من كل منتـــــسب
مخلداً ذكره في الدهر دام لنــــــــــــــــــــــــــــــا مخلداً ذكـــــــــــــــــــــــــــــره يا رب فاستـــــــــــــــــجب
13ـ قناة أمين الدولة:
أرسل أمين الدولة عبد الله خان وزير فتح علي شاه القاجاري خمسين ألف تومان، بعد أن استغاثة النجفيين لإصلاح قناة النجف، وعين المهندس ميرزا تقي مشرفاً على العمل.
وقد ابتدءوا المكان المعروف بخان أبو فشيكة شمال شرق النجف إلى (كري سعد) شرقي النجف, وأقاموا على هذا الكري القنطرة المائلة اليوم سنة 1395هـ/ 1975م (أبو فشيكة)وقد أطلق الماء في الكري وحرى حيناً ووقف، فساقوه من حيث وقف إلى النجف في قناة قديمة، وقد قيل من صنع أمين الدولة وأنه شارف على العمل بنفسه، إلا أنه لم يطل عمر هذه القناة حيث عادت فانطمرت بعد وقت قليل.
14ـ نهر الهندية:
كان الفرات في أيام الفتوحات الإسلامية يجري في نفس الاتجاه الذي يجري فيه نهر الهندية الحالي، فيمر بقريه برس ثم بالكوفة التي أسسها المسلمون سنة(17هـ/ 638م) وينتهي في بلاد الحيرة ثم يتجاوزها ويصب في البطائح. وبقي يجري في نفس الاتجاه المذكور عدة قرون ومن ثم بدأ مجراه بصورة تدريجية إلى مجرى نهر سورا (شط الحلة الحالي) وذلك بنتيجة تراكم الترسبات الغرينية في حوضه. وتدل الروايات التأريخية أن هذا التحول بدأ في زمن البويهيين (334- 447هـ) وتم نهائياً في أواخر الحكم العباسي.
أما النهر الذي أشار إليه ابن جبير في كلامه عن الكوفة عند زيارته لها سنة 580هـ بقوله: (والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ مما يلي الجانب الشرقي …إلخ)، فالمراد به نهر التاجية المتفرع من فرات الحلة وهذا عُمي في أواخر القرن الثامن الهجري، وهو نهر قديم ذكره ياقوت الحموي المتوفى سنة 626هـ في معجمه وقال عنه ما نصه: والتاجية نهر عليه كور بناحية الكوفة.
وتدل عليه الروايات التأريخية أيضاً على أن مجرى الفرات بعد تحوله إلى جهة شط الحلة بقى فيه نحو ستة قرون ثم غادره في القرن الثالث عشر الهجري راجعاً إلى مجراه الغربي الذي يسير في اتجاه الكوفة، وكان أهم عامل لذلك التحول هو المشروع الذي قام به آصف الدولة وزير محمد شاه الهندي لإيصال الماء إلى مدينة النجف، وذلك بشق جدول يأخذ من الضفة اليمنى لنهر الفرات (بلدة المسيب) فيجري في اتجاه نهر الكوفة القديم، وقد عرف هذا الجدول بعد توسعه بنهر الهندية.
وقد شرع في حفر نهر الهندية المذكور سنة 1205هـ/1793م، أي بعد ثلاث سنوات بالعمل وقد أرخوا سنة جريان الماء في النهر بجملة (صدقة جارية) هكذا ذكر الشيخ محمد المهدي بن الشيخ علي الفتوني النجفي في كشكوله محمد بن الحاج عيسى كبه المعاصر للشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء في تاريخه المسمى (درر منثورة في فوائد من أبواب غير محصورة) والشيخ خضر الهنداوي المتوفى سنة 1305هـ في مجموعته التأريخية، والسيد حسون للبراقي المتوفى سنة 1333هـ في كتابيه (اليتيمة الغروية) (وقلائد الدار والمرجان) والشيخ عبود الكوفي النجفي المتوفى في حدود سنة 1350هـ في كتابه (نزهة الغري).
ومن المعاصرين السيد جعفر آل بحر العلوم في (تحفة العالم)، والشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها)، ومن كتاب بغداد الأستاذ البحاثة يعقوب سركيس في (مباحث عراقية) والدكتور أحمد سوسة في (وادي الفرات ومشروع سدة الهندية) وغيرهم.
وقد انفرد عمن ذكرنا أحد مؤرخي النجف الذين أدركوا حفر النهر، فإنه ذكر في مجموعته التأريخية (التأريخ المجهول) إن ابتداء الحفر كان سنة 1200هـ والانتهاء منه 1218هـ، وهو لا شك يقصد بذلك المذاكرة في حفر النهر لا سنة إيصال الماء إلى نفس بلدة النجف بواسطة النفق المعروف باسم (قناة آصف الدولة) لأن هذه القناة حفرت بعد سنة 1208هـ كما صرح بذلك السيد حسون البراقي في (اليتيمة الغروية) ويؤيد ذلك ما ذكره الرحالة الفارسي الميرزا أبو طالب خان في رحلته المسماة (مسير طالبي) فإن المومى إليه كان قد توجه من بغداد لزيارة كربلاء والنجف في 24 ذي القعدة سنة 1217هـ/ أول آذار 1803م, قال ما تعريبه: (وبعد أن قمت بواجب الزيارة في كربلاء بارحتها قاصداً النجف بطريق الحلة فقدمت إليها في اليوم نفسه ولا قيت في طريقي جدولين أولهما يقال له النهر الحسيني (الحسينية) على بعد أميال قليلة من كربلاء.
والثاني من النهرين يقال له نهر الهندية أو الآصفي لأن النواب آصف الدولة حفره بنفقاته وهو أعرض من النهر الحسيني، والغاية من حفره إيصال الماء مرقد الإمام علي عليه السلام، وقد نفقات هذا الجدول حتى الآن عشرة لكوك من الربيات مع أنه لم يصل بعد إلى النجف لأن باشا بغداد والرجل الذي ولاه الباشا الإشراف على العمل جعلا النهر يمر بالكوفة وغيرها من المدن عوضاً عن جعله يجري مستقيماً.
وقد بقيت أربعة أميال (الأصل الفارسي فرسخ واحد وهو يساوي الأميال المذكورة تقرباً) لإيصاله إلى المحل المذكور والأعمال مداوم عليها)
ثم أخذ فرات الهندية بعد التأريخ المذكور يتقدم نحو الجنوب بسرعة وخرجت منه فروع كثيرة، خاصة في منطقتي الهندية وهور الدخن (ناحية العباسية اليوم) وغمرت مياهه جميع المنخفضات الواقعة على جهتيه وصيرتها أهواراً.
جاء في رحلة المنشى البغدادي, السيد محمد علي الفارسي, التي كتبتها سنة 1227هـ/ 1821م، قوله في وصف المنطقة الواقعة بين الكفل والنجف: من الكفل إلى النجف أربعة فراسخ.. وفي الطريق يعبر من نهر الهندية لمرات… وهذا النهر يأتي من الفرات ويذهب إلى النجف وفي موطنين عليه قناطر.
أما المجري الأصلي الذي كان ينتهي في خرائب بلدة الكوفة، فإن مياهه شكلت مستنقعاً واسعاً يمتد من أعلى بلدة الكوفة الحالية إلى مكان قريب من بلدة أبو صخير الواقعة على بعد نحو عشرين كيلو متراً من جنوب الكوفة، وفي حدود سنة 1240هـ/ 1824م، أوجدت المياه لها طريقاً إلى منخفض بحر النجف وهو ما يسمى اليوم بنهر الصافي، وكانت مياهه تدوي من شدة الجريان وتبعث صوتاً قوياً أشبه ما يكون بالنهيق الذي يطلق عليه العامة الجعير، لذلك عرفت الترعة باسم الجعارة, وبتوالي الأيام صار اسم الجعارة يطلق على عامة الأراضي الواقعة في ضمن ناحية الحيرة.
ويدعى السادة البوزوين في مذكرة رفعوها إلى علي بازركان قائمقام أبو صخير بتأريخ أيلول سنة 1928م، أن جدهم المدعو سيد حسن كان وكيلاً للخزاعل في منطقة الجعارة (الحيرة) هو الذي سعى بشق نهر من الأرض المعروفة اليوم باسم المحاجير إلى بحر النجف.
ومن هذا التاريخ توسع فرات الهندية وأخذ يتقدم بسرعة فائقة نحو الجنوب وغمرته مياهه المنخفض الواسع الممتد من أعلى النجف من الموضع المعروف اليوم باسم الفتحة حتى الشنافية، وصار هذا المنخفض البالغ طوله نحو سبعين كيلو متراً متلاطم الأمواج، وما أن حلت سنة 1247هـ/ 1831م، إلا وكانت السفن الشراعية الكبيرة القادمة من الشرق والمحملة بالزوار والبضائع قد تركت الطريق النهري القديم الذي كان يمر بقرية الكريم ولملوم والحسكة (الديوانية) فالحلة، وأخذت تسلك الطريق النهري الجديد الذي يمر بالسماوة والشنافية وينتهي في النجف، وكان مرسى السفن يقع بالقرب من بستان سيد صقر (الجريوية اليوم) الواقع على بعد كيلو مترين من جنوب سور مدينة النجف.
وفي أوائل سنة 1305هـ/ 1887م، سعى وكيل السنية في الجعارة إلى تخفيف بحر النجف لغرض الاستفادة من أرضه، وكان بحر النجف في الأيام الأخيرة يموّن من مكان اسمه المدلق، فعمد وكيل السنية إلى المكان المذكور وأحكم سدّه، ومن هذا التاريخ تحول المرسي من النجف إلى (الكوفة الحالية) التي أطلق عليها في أول الأمر اسم شريعة الكوفة، أما الكوفة القديمة فكانت مندرسة تماماً ولم يبق منها سوى جامعها الأعظم.
وقد وصف المستر بارلو هذا القسم من نهر الفرات كما شاهده سنة 1306هـ/ 1889م فقال: (إن النهر المسمى نهر الهندية يجري في الجهة اليمنى من الفرات وهو يحمل مياه الفرات فيترك مدينة كربلاء على جهتها الغربية وأطلال بابل في الجهة الشرقية، ثم يصل إلى مدينة النجف فينصب هناك في بحيرة تسمى بحر النجف يبلغ طولها 60ميلاً وعرضها 30 ميلاً. ففي هذه الأهوار الواقعة على الجانب الغربي من نهر الهندية انتشر وباء الطاعون الذي وقع في سنة 1284هـ/ 1867م، والمياه بعد أن تتجمع في بحر النجف تأخذ لوناً هو أقرب إلى لون مياه الأهوار فتكثر فيه الملوحة ثم تتسرب إلى نهر يسمى شط الشنافية حيث تقع مدينة الشنافية على جهته اليمنى وبعد أن يجري هذا الشط لمسافة حوالي 20ميلا نحو الجنوب ينقسم إلى فرعين: الفرع الجنوبي وهو شط عطشان الذي يستعمل للملاحة والفرع الشرقي المعروف باسم أبي رفوش، ثم ينصب هذان الفرعان في الفرات.
ومما ذكره المستر بارلو أيضاً أن أكثر الزائرين الذين يقدمون من الهند لزيارة العتبات المقدسة كربلاء والنجف يسلكون طريق الفرات فالعطشان فشط الشنافية، وإن سفناً كبيرة ذات حمولة خمسين طناً تمر من هذا الطريق النهري ينتهي بالنجف.
15ـ قناة السيد أسد الله الرشتي:
عند ورود العالم الجليل السيد أسد الله بن السيد محمد باقر الرشتي الجيلاني لزيارة العتبات المقدسة في العراق، وزار مرقد جده أمير المؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف شاهد ما يقاسيه أهل النجف من الظمأ وتجرع ماء الآبار المالح، وسمع شكوى أهل العلم منه أيضاً، فعزم على إتمام مشروع الشيخ صاحب الجواهر، واستحصل على المال من ثلث تركة السردار محمد إسماعيل خان النوري ـ وكيل الملك ـ والي كرمان، وشرع في العمل وأتمه في مدة ست سنوات، وبقيت الناس تنتفع به نحو 19سنة. فلما كانت سنة 1307هـ جاء في تلك السنة برد عظيم قيل إن الحبة منه أكبر من الرمانة، ثم أعقبه مطر كثير فجرف السيل الرمال إلى تلك الآبار وسد مجري الماء.
قال الشيخ محمد حرز الدين في ترجمة السيد أسد الله، وله الكبرى المعروف في النجف بكري السيد الذي شرع في حفره سنة 1282هـ أراد به وصول ماء الفرات إلى النجف، وهذا النهر هو من نهر الهندية الذي حفره وزير محمد شاه خان، آصف الدولة النيسابوري الساكن في الهند لما جاء زائراً مرقد علي أمير المؤمنين عليه السلام وشكى أهل النجف حالهم إليه من مياه البحر والآبار المالحة، فقام الرجل الموفق وجمع رجال القبائل والمهندسين باذلاً أموالاً طائلة وأخرجوا له جدولاً من الفرات عند المسيب، ولما وصل أرضاً مرتفعة شقوا وسطه نهراً عميقاً إلى النجف حدود سنة 1208هـ ثم بعد سنين امتلأ النهر طيناً ورملاً ولم يجر فيه الماء.
وسعى بحفره ثانياً الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر من حدود الجدول الذي حفره آصف الدولة حتى النجف، ولكن الماء لم يصل إلى النجف، ثم توفى الشيخ صاحب الجواهر سنة 1266هـ فلم يتم فيه عمل بعد وبقي معطلاً حوالي ستة عشر عاماً.
ثم أراد الله تعالى أن يسقي النجف وأهلها على يد السيد أسد الله، فشرع في حفر نهر الشيخ ثالثاً حتى وصل الماء على بعد ثلثي فرسخ ووقف الماء، لارتفاع أرض النجف.
وفي شهر رمضان من سنة 1287هـ زار السلطان ناصر الدين شاه العتبات المقدسة ووقف على كري السيد فلم يظن فيه نجاحاً لارتفاع أرض النجف، وأعلم السيد عند وصوله إلى إيران بعدم النجاح، فعندئذ عدل السيد عن حفر نهر في الأرض المرتفعة إلى حفر قنوات جوفية مع الإسراع في العمل وزيادة العمال والأموال فأسرع جري الماء إلى النجف، واستمر عمل السيد ست سنين.
كان تاريخ وصول الماء إلى النجف سنة 1288هـ، وصار ليوم وصول الماء إلى النجف مشهد عظيم، وأرخ عام وصوله الشعراء ومنهم العلامة الأديب الشيخ محمد ابن الشيخ كاظم الجزائري النجفي المتوفى سنة 1302هـ بقصيدة في أولها:
لوكيل الملـــــــــــــــــــــــــــــــــك أيدٍ طوقتنا بالهبات
قد سرت في الناس أمثا ل النجوم السائرات
وجرت كالبــــــــــــــــــــــتحر إلاّ أنها عذب فرات
فهو بالشكر حقيـــــــــــــــــــــق في الملا والخلوات
إلى أن قال مؤرخاً:
اشربوا الماء زلالا بعد شرب الأجانات
فاشرب الماء وأرخ (إشرب الماء الفرات)
1288هـ
وأحسن من أرخه المعاصر إمام الحرمين الميرزا محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني المتوفى سنة 1303هـ، بقوله:
مذ أسد الله الهمام السرّي سليل ساقي الناس من كوثر
أجرى إلى الغري ماء مري قد أرخوه (جاء ماء الغري)
1288هـ
وحملوا إلى السيد في إيران قارورتين من الماء للبشارة.
قيل: واعترضه البشير في الطريق وهو قاصد زيارات العتبات المقدسة في سنة 1290هـ فاخترمه الأجل في الطريق في (كرند) وحمل جثمانه إلى النجف، كما أرّخه الهمداني أيضاً بقوله:
يا ساكن كوفان طابت لك نعماء
فاشرب هناءً أرّخ (قد ساغ لك الماء)
وكانت مصروفات هذه القناة من ثلث متروكات السردار محمد إسماعيل خان النوري المعروف بوكيل الملك المتوفى سنة 1283هـ، وهي ثلاثون ألف تومان.
يقول الشيخ محمد حسين حرز الدين: ولم تزل هذه القناة موجودة أدركناها أسفل مدينة النجف في الجنوب الغربي منها على ضفاف بحر النجف. وقد صنع على مجراها السريع طاحونة تطحن الحبوب قبل وصول المكائن الطاحنة إلى النجف. وبالقرب منها جنوباً أمر السيد الرشتي في حياته ببناء مغتسل ماؤه من هذه القناة، وكانت جملة من البساتين تستقي من رشح القناة حتى دخلت سنة 1350هـ.
16ـ كري الكروري:
ثم قام أحد التجار الإيرانيين المعروف الكروري بكري القناة التي تعاقب عليها المصلحون المذكورون لماّ ملئت طيناً ورملاً من هبوب الرياح وجري السيول بعد ما شكا أهل النجف قلة الماء، فهب الرجل المحسن المعروف بالكروي، وبذل مالاً جزيلاً للعمال كي يُطهّروا القناة فكريت ثم خربت.
17ـ نهر الحميدية، أو بدعة الحميدية، أو نهر عبد الغني:
عند زيارة الوالي الكبير على رضا شاه باشا سنة 1305هـ/ 1887م الإمام علي عليه السلام استغاث به الفقراء وندبه العلماء والوجهاء والكل يشكو ما تعانيه البلدة من شحة الماء فجمع من عشائر الفرات المجاورة للنجف جمعاً وكثيراً من الطوائف النائية عنها وبذل لهم المصارف الكافية لحفر نهر من الحيرة (الجعارة)، لأن نهر الهندية يومئذ اتسع طولاً وعرضاً واجتاز الكوفة ومنها إلى الحيرة ـ وهي على أربعة فراسخ تقريباً من الكوفة ـ وكان حفر النهر هذا بنظارة حاكم السنية عبد الغني أفندي (الذي يعرف النهر باسمه) وهمه السيد الجليل السيد هادي بن السيد محمد آل زوين (ت 1323هـ) واستدام الحفر ستة وأربعين يوماً فأخذ النهر يصب في بركة النهر يصب في بركة كبيرة في بحيرة النجف الجنوبية، وما رأت النجف قبل هذا ماء يجري لها على الأرض مكشوفاً وهو عذب فرات. ولا تسأل عن استبشار أهل البلدة بذلك الوافد الوارد، ولا عن تهيؤ أهل الثراء لتأسيس الضياع وزرع الخضروات.
جرى الماء يوم الخميس من جمادي الأولى سنة 1305هـ/ 1887م وقد أرخ عام وروده الشاعر النجفي الشيخ عباس الأعسم بأبيات مدح بها الحاكم المذكور قال:
إنما (عبد الغني) المرتــــــــــــقي بجناحي عزمه للشهــــــــــــــــــــــــب
جد حتى نال بالجد عــــــــلاّ عنه ينحط رفيع الرتــــــــــــــــــــــــب
جاد بالماء ولا بدع فـــــــــذي شيمة معروفة للســــــــــــــــــــــــحب
دفعاً جاء وقد أعيي الـورى رشحه في سالفات الحقــــــــب
فلسكان الحمى إذ ظمـــــأوا سوغ التأريخ (شرب العذب)
ويعرف هذا النهر في وقته بنهر عبد الغني، ويبقي يروي النجف إلى سنة 1308هـ وتكاثرت عليه بمرور ثلاثة أعوام عواصف الرياح وتوافر السيول المندفعة إليه من سهول الأرض مع أن ما على حافتيه من الأتربة يكتفي في اندراسه وعفاء أثره في عام واحد فضلاً عن ثلاثة أعوام فطم النهر وبقيت النجف تعاني العطب في حر الهيجر.
وكان هذا النهر معرضاً للانقطاع بأخذ الفلاحين من مائة لسقي مزارعهم، وبوقوع الرمال فيه من هبوب العواصف في الصيف، ومن السيول في الشتاء فتبقى الناس ظماء نحو أسبوع حتى يتم فيه من هبوب العواصف في الصيف، ومن السيول في الشتاء فتبقى الناس ظماء نحو أسبوع حتى يتم تنظيفه، وتشتري الماء الذي يجلب من الكوفة بأعلى القيم، ولا تجده إلا قليلاً. وقد جف النهر الأول تماماًً سنة 1308هـ، وبقي الناس يقاسون مدة لا تقل عن ثلاث سنين وكان قائمقام النجف يومئذ خير الله أفندي وقد رفع أهالي النجف إلى الوالي سري باشا في بغداد عرضة يسترحمونه فيها طالبين إعادته، وقد صدرت بأبيات هي:
يا والي الأمر إنا غرس نعمتكم قدماً ومُنْيَتُنا فيكم قد انتعشا
أجرى إلينا إمام العصر في يـــده ماءً تخلل في أرياقنا ومـــــــــــــــشى
واليوم قد عاق ذاك الماء عاتقة فإن بقى غرسكم يوماً يمت عطشا
المعروف لدى ربيب الوزارة والمكفول بحجوره الإمارة إنا معاشر المجاورين لمرقد سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ما زلنا بالدعاء لدوام دولتكم العلية المستمدة بالفيوضات الإلهية، وقد تلطف علينا سلطان هذا العصر، ومن بيده النهي والأمر، بماء سائغ الشراب، فكان من أنفاسه الطيبة أحلى من الرضاب، وأعذب من ماء السحاب، فكم برد للصدور من غلل، وشفى لجسوم المجاورين من علل.
فعند ذلك حمدنا الله تعالى شأنه لإجراء هذه الخيرية، على يد سلطان البرية، واليوم جاورتنا رجال من الأمة لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فمنعوا الماء الذي هو حياة الأبدان لأجل زراعات ليست بالعيان، وناهيك بذوي الزراعة من الأعراب وقساوة قلوبهم، فإن الفلاح لو دار الأمر عنده بين أن يتلف الوجود أو يذوي من زرعه عود لاختار أول هذين الأمرين فلا يبالي ولو بتلف الخافقين، فالرجاء من شفقتكم التصدي لإجراء هذه الصدقة المستطابة لتحظوا من المجاورين بالدعوات المستجابة، لأن الأعراب لا قوة لنا على دفعهم، ولا طاقة لنا بمنعهم، والذي علينا أن نرفع الشكاية لديكم وأمرنا إلى الله وإليكم، والسلام.
فعرض الحالة على والي بغداد الحاج حسن باشا، فراجع الباب العالي في الأستانة، فأمر السلطان عبد الحميد بحفر جدول إلى جانب الجدول القديم لاستسقاء الناس خاصة، وبذل الملك ألف ليرة ذهبية من خزانته الخاصة، ولإصلاحه والمحافظة عليه كل سنة مئة ليرة ذهبية، وأنجز المشروع في أواسط شهر شعبان سنة 1310هـ، ووصل الماء في أوائل شهر رمضان.
وقد سمي هذا النهر أيضاً بـ (الحيدرية)
وبعد إنجاز المشروع قدم من بغداد المشير رجب باشا مع رتل من الجيش للاحتفال بافتتاح النهر، وصادف ذلك يوم ميلاد السلطان عبد الحميد، واحتفل بافتتاح النهر خارج البلدة في موضع النجف الجديد ـ محلة الأمير غازي ـ احتفالاً رسمياً حضره طبقات النجف كافة وأنشدت فيه قصائد وتواريخ للسيد جعفر الحلي وغيره.
فمما قاله السيد جعفر:
إن (الحميدية) خـــيرية أنفع ذخرا لك في المحـــــــــــشر
وثقت بالفرد فأرختها تسقيك يوم العطش الأكبر
وله أيضاً من قصيدة مادحاً بها السلطان عبد الحميد لإجرائه هذا الماء، والوالي الخارج حسن باشا، ومؤرخاً ذلك العام، مطلعها:ـ
جرى مائنا من لطف سلطاننا عذبا فلذ لنا طعماًَ وطاب لنا شربا
شممنا شذا أنفاســــــــــه حين جريـــــــــــــــــــه فأنشقنا الريحان والمندل الرطبــــــــا
إلى أن قال مؤرخاً:
لقد صدقت أبياتها وهي عذبة إذ الناس في تأريخها شربوا العذبا
وفي هذا الاحتفال نهض العلامة الأديب السيد محمد بن السيد محمد مهدي القزويني المتوفى سنة 1335هـ، وارتجل خطبة هذا لفظها:
أنّى يطيق لسان عرضة الدعاء إبراز الشكر والثناء…. الخ.
ولأن النهر المذكور كسابقه يمر بأرض رملية تجرفها السيول وتسفي عليه الرياح ولذلك كانت النجف الأشرف لا تنفك عن كظة الظمأ شهرين أو ثلاثة في العام، وعند نضوب المياه في الصيف في عمود الفرات لا يدخل نهر النجف الماء، الأمر الذي يلزم الحكومة التركية بأن تصنع سدة من الحطب والتراب تكلفها أموالاً طائلة تقوم بها العشائر وسط مجرى الفرات العمود الرئيسي كي يدخل الماء في هذا النهر بعد تطهيره، فأهالي النجف الأغنياء منهم يشترون الروايا من السقائين الذين يأتون بماء الفرات من شريعة الكوفة، والفقراء يشربون مياه الآبار المالحة.
يقول الشيخ ـ حرز الدين: فكم شربنا من مياه الآبار لكن عند خروجه من البئر بالدلاء بارداً، فيمكن للمرء أن يتجرعه ، وإذا تأخر في الكيزان يصعب شرابه، بل لا يمكن.
18ـ كري الميرزا الخليلي:
وبعد خراب كري الكروي لقناة السيد أسد الله أصلح هذا القناة المرجع الديني العلى الحاج ميرزا حسين الخليلي حيث بنى المنهدم منها وجعل لها مجرى من الفرات, ابتدأ بالعمل سنة 1319هـ , وفرغ منه سنة 1327ه لانقطاع مجراه من النهر الكبير ( نهر الهندية ) إضافة الى وفور ماء الآبار المالحة عليه تغير طعم الماء ال المرورة فلا يطفيء الغلة.
19- ضخ الماء من فرات الكوفة الى النجف:
لما رأت الحكومة التركية إن النجف تعاني من قلة الماء العذب خلال القرون الماضية، وعدم استقامة ري النجف، أنشئت سنة 1330هـ شركة مساهمة، ورئيسها السيد جواد بن السيد رضا الرفيعي كليدار الروضة الحيدرية، والحاج محسن الشلاش أمين صندوقها، على أن يكون رئيس مالها خمسة عشر ألفاً من الليرات، وعلى ان تبلغ سهام البلدية فيها 25% من مجموع السهام، ووزعت بقية السهام على تجار العراق، وجمعت أثمان بعضها، وقدمت البلدية لقاء سهامها ما يقارب من الثلاثة آلاف ليرة، وتم الاتفاق مع أحد بيوت التجارية في بغداد لجلب المضخة من أوروبا، وذلك عام 1913م تقريباً.
وصلت الأنابيب من شركة ألمانية في برلين إلى البصرة، وبقي بعضها فيها، ونقل معظمها إلى النجف، وألقي على طول الطريق إلى الكوفة، ولكن الماكينة نفسها لم تصل النجف.
وعند نشوب الحرب العالمية سنة 1914م حالت دون وصولها، وآلت الحال بالأنابيب إلى الخراب والدمار، فقد تصرف المحتلون في أنابيب البصرة ثم في أنابيب النجف حتى تلف كثير منها إضافة إلى احتراق بلدية النجف مع سجلاتها وسنداتها عقب الثورة النجفية في وجه الأتراك.
وفي أيام الثورة العراقية 1920م تلفت جملة من هذه الأنابيب وبقي الكثير منها مكدساً على جانبي الممجة الحديدية (التراموي) بين الكوفة والنجف، وقد سبقت عليه الرمال.
يقول السيد محمد علي كمال الدين بصدد هذا الموضوع.
“… ولا تسل كيف احترقت؟! ولماذا احترقت؟! وهل لحساب هذه الشركة يد في ذلك الاحتراق والإتلاف). لا أدري.
ولكن هذا راجت الإشاعات حينذاك، وعلى كل حال لقد ضاع حساب الشركة، فلا تسل ماذا آل إليه رأس المال؟ هل سددت به أقساط المضخة كلها أم بعضها، وعلى فرض إنها لم تسدد، ماذا صنع في رأس المال المجموع؟
نعم، نعرف أن معظم السهام لم تسدد لأصحابها، وإن أحدهم رفع قضية على أمين الصندوق مبلغها مائة ليرة، توكل عنه المحامي سعد صالح فكسب الدعوى رغم مرور الزمن عليها ولا ندري كيف كسب هذه القضية وقد أكلتها النار في حينه، برأت ذمة أمين الصندوق، وخرج من التهم والأقاويل فائزاً منتصراً؟
أما وقد أكلت النيران هذه الشركة فسوف لا يصفو حسابها إلّا عند رب يطول حسابه؟ هكذا ختمت المضخة بمأساة، وهكذا فشل المشروع (ولو أن معظم الأنابيب لمّا تزل ملقاة على قارعة الطريق)، وهكذا عاد اليأس والقنوط إلى قلوب النجفيين على أشد ما يكون اليأس والقنوط، وسخطوا على الطبيعة وعلى أحكامها”.
وبعد تأسيس الحكومة العراقية. قامت الحكومة بالاستيلاء على هذه الأنابيب واستعملتها في إحدى وزارات نوري في تأسيس ماء النجف.
20ـ مشروع كري سعدة:
وآخر من بذل جهداً لإرواء ساكني مدينة النجف الأشرف بالماء العذب من الفرات بمحاولة إعادة مشروع “كري سعدة” في زمن الملك فيصل الأول، هو الحاج محمد علي الشوشتري الملقب “رئيس تجار عربستان” وهو والد الحاج مشير نزيل دمشق الشام، حيث تبرع لهذا المشروع في سنة 1342هـ/ 1923م، بمبلغ 300 ألف روبية، على أن تصرّف في حفر جدول في محل يعرف بالمزيديات متصل بجدول بني حسن، وينتهي مصبه إلى بحيرة النجف القديمة غربي المدينة.
وقد كتب رئيس الديوان الملكي كتاباً إلى سكرتارية مجلس الوزراء برقم ر/1/585 في 13/11/1923 حول هذا الموضوع.
قبلت “الوزارة العسكرية الأولى “هذا التبرع، وكتبت وزارة المالية إلى مجلس الوزراء حول هذا الموضوع, وفي جلسة الوزراء المنعقدة في 3 آذار 1924:
“تلي كتاب من وزارة المالية مرقم 223 ومؤرخ في 23/26 شباط سنة 1924 متعلق بمسألة إسالة الماء إلى النجف الأشرف، فقرر مجلس الوزراء أن تتخذ اللجنة التي سيؤلفها حضرة صاحب الجلالة الملك، وستكون تحت نظارة جلالته، الوسائل المقتضية لإسالة الماء إلى النجف، بحفر قناة لذلك، وأن تفوض الأراضي الأميرية مزروعة، التي ستروي مما يزيد من الماء على درجة احتياج بلدة النجف إلى الخيرية كالمدارس، والمستشفيات، وتطهير القناة، ومحافظتها، وأن تسد مصاريف الحفر من المبالغ الموقوفة عليها من قبل اللجنة المذكورة، وألّا تكلف الخزينة خسارة ما، وأن الأراضي الخصوصية المنازع فيها، التي ستمر فيها القناة المذكورة أن تحل منازعاتها من قبل اللجنة، فتحال إلى المحاكم الدنية”.
وبعد أن قبل الملك فيصل هذا القرار، ونظم الوقفية اللازمة به، تألفت لجنة من السادة:
الحاج عبد المحسن شلاش.
الحاج عبد الحسين الجلبي.
الحاج محمود الاستربادي.
للإشراف على صرف هذا المبلغ المتبرع به، وباشر العمل جلالة الملك بنفسه في غرة رمضان 1342هـ/ 6نيسان1924م.
وعند أول يوم من الشروع في هذا العمل الخيري حضر الملك فيصل وأخذ المسحاة بيده وحفر شيئاً من الأرض وحفر معه الحاج رئيس تجار عربستان، وجماعة من وجهاء النجف كالسيد محمد علي آل بحر العلوم، والسيد مهدي آل السيد سلمان، والحاج محسن شلاش (ت1367هـ)والحاج عبد الرزاق شمسة رئيس بلدية النجف، وعلوان الحاج سعدون رئيس قبيلة بني حسن، وغيرهم.
واستمر عمل الحفريات بنشاط على أحسن ما يرام مدّة.
ثم ظهر أن المواصفات والاستشارات الفنية غير متقنة، فأخفق المشروع من أساسه، واسترد المتبرع ما تبرع به كاملاً، وتكبدت الحكومة العراقية المبالغ التي صرفت على الحفر، ونحوه، وهي نحو 670.000 روبية، صرفت على تصحيح الخرط المعدّة من قبل.
وهكذا كتب الفشل لهذا العمل الإنساني الجليل لخطأ الاستشارة الأجنبية.
وبعد فشل هذه المحاولة آل الأمر إلى الالتجاء إلى نقل الماء من فرات الكوفة بطريقة الضخ وهي الطريقة المتبعة اليوم في تجهيز مدينة النجف بالماء.
ويعود سبب سحب الحاج رئيس لذلك المال الذي تعهد به، والذي كان قد وضعه في البنك كان لأمور يظن أنها أهمّها معارضة كثير له في ذلك وطلبهم إليه العدول عنه بطريقة أنه يضر بأهل النجف بزعمهم ولا ينفعهم.
ولما سحب الحاج رئيس ما رصده لهذا المشروع الخيري كانت مصورفات الحفريات الأول البالغة 35000روبية من مخصصات الملك فيصل الأول، وبعد فضل هذه المحاولة آل الأمر إلى الالتجاء إلى نقل الماء من فرات الكوفة بطريقة الضخ وهي الطريقة المتبعة اليوم في اليوم في تجهيز مدينة النجف بالماء
وقد وصف السيد محمد علي كمال الدين المعاناة التي واجهها سكان النجف:
“.. شاهدنا النجف قبل خمس وعشرين عاماً يقتل أهلها الظمأ طيلة فصل الصيف ويحملن جرارهم وجرارهن صغاراً وكباراً ليستسقوا من قلبان تحفر وسط نهر السنية الذي كان قد جف وانقطع معينة، ولا تسل من زحام الحرائر على المورد الآسن، عما تفعل حرارة الصيف وسموم القيض من تلك الطريق الوعرة النائية.
أما سائر الطبقات فتبتاع قربتي الماء بما يقارب المائة وخمسين فلساً الآن، وشاهدنا النجف في ذلك الدور تتجهر أمام أهل الحل والعقد، وأمام إدارة البرق شاكية أمرها إلى المراجع العالية، ولكن ليس من سامع، ولكن ليس من مجيب.
وشاهدنا قبل عشرين عاماً وأهلها عطاشى في غير الحالة والدور السابق غير أن معظم الزحام صار حول عربيات الخط الحديدي في الميدان العام، وحول صناديقها التي تنقل مياه الفرات من الكوفة، ولكن الزحام أعظم، والتضارب في علب الماء الفارغة أشد من ذلك، لقلة عدد صناديق النقل، فما أحزنه منظراً، وما أوحشه مرأى….
21ـ ضخ الماء في نهر الحميدية:
وفي عهد الاحتلال البريطاني 1333هـ/ 1914م نصبت حكومة الاحتلال مضخة على مجرى النهر الثاني (الحميدية) في قرية أبي صخير التي تبعد عن الحيرة ميلاً تقريباً حيث مجرى عمود الفرات هناك. وهي تلقف الماء وتقذفه في النهر المذكور ويصب في موضع يعرف بـ (البركة) أسفل مدينة النجف جنوباً في فسيح بحر النجف، وينقل السقائون الماء العذب من البركة بالروايا على دوابهم لبيعة لسكان مدينة النجف. ولم تزل على ذلك الحال إلى سنة 1346هـ/ 1927م.
22ـ ضخ الماء من الكوفة:
وفي هذا العام هزت الحمية أحد رجال إيران من محبي الخير معين التجار (الحاج آغا محمد البوشهري) فطلب امتيازاً من الحكومة العراقية على نصب مضخة في الكوفة تروي النجف وما حولها بماء الفرات العذب بما لسكان النجف من المكانة السامية في النفوس بجوار المرقد الأقدس العلوي (على ساكنه السلام) وبما حازه من المركزية الدينية الكبرى فقد قام هذا الرجل وأحضر جميع الأدوات بسرعة فائقة من شركة ألمانية فاستبشر النجفيون فرحاً وطاروا سروراً عندما رأوا آلات الحديد وعاينوا الأبنية في الكوفة…
وفي اليوم 22من جمادى الثانية سنة 1347/ 1928م، نودي في النجف أن سيقام احتفال بوصول ماء الفرات خلف سور المدينة الشرقي منها لتجربة ضخ الأنابيب، وقد جعل له مخزناً كبيراً قريب من سور البلد، والناس تستسقي منه، والبعض منهم يستقي مجاناً وهم فريق من الفقراء، وأما من عداهم فإن السقائين يحملون الماء إليهم، فهم يبتاعون كل حمل بفلس ويبيعوه بأربع أو خمسة فلوس، وقد حضر هذا الاحتفال أعيان ووجوه النجف وموظفوها، وكان بإشراف المتولي لهذا المجهود الخيري الحاج ميرزا أحمد بن ملّا زكي ابن أخت رجل الخير والإحسان الباذل لمعظم نفقات المشروع الحاج معين التجار وشريكه في الأجر والثواب عمدة التجار الحاج محمد رئيس التجار في عربستان.
وقد خرج النجفيون بجميع طبقاتهم، بعوائلهم وشيوخهم وشبابهم، بفرح لا مثيل له ينظرون إلى تدفق ماء الفرات العذب بقوة وغزارة من الأنبوب الضخم على رمال صحراء النجف حتى صارت منه بحيرة صغيرة، وقد أخذ الشباب يعومون فيها من فرحتهم. هذا كله والأهازيج تدوي وتعلو مسامع المحتفلين.
وفي شهر جمادى الأولى سنة 1352هـ بوشر بمدّ الأنابيب في مدينة النجف، وأول ما مُدت إلى الصحن الشريف، وجرى الماء 11 جمادى الثانية 1352هـ، وبعده بأيام استقت منه بعض المطاعم والمقاهي.
وقد أرخ السيد مهدي الأعرجي هذا العمل بقوله:
لعمرك قد أحيى (المعين بلادنـــــــــــــــــا وكانت يبابا كالديار البلاقــــــــــــــــــــــــــــع
ووفقه الرحمن في عصر (فيصــــــــــــل) وقد كان من خير العصور اللوامع
ومد أنابيبـــــــــــــــاً بعصر به ابنـــــــــــــــــــــــــــــه هو الملك الثاني بغير منـــــــــــــــــــــــــــــــــــازع
وساعده بالسعي (أحمد) ذو العلا فكان له إذ ذاك أحسن طالــــــــــــــــــــع
ففجر من صلد الحديد إلى الحمى عيوناً تفدى بالعيون النوابــــــــــــــــــــــــــــــع
وأوصل من كوفان أرخت (مـــــــــاءه فأجرى أنابيب الروا في الشـــــــوارع)
1342هـ
وقال أيضاً:
أجرى (المعين) مع (الرئيس) عليهما كلّ الثنا ماء الفرات إلى الغري
فأقام طير البشر فيه مؤرخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً: (إن المعين له المعين الكــــــــــــــوثر)
1345هـ
وقال الشيخ كاظم بن عبد الجواد المعروف بالخطاط:
وفي أنابيب الحديد قد جرى كاللؤلؤ المكنون في جوف الصدف
قل للرئيس والمعين ذكركـــــــم مؤرخ (كالماء في أرض النجــــــــــــــــــــف)
1348هـ
وقال أيضاً:
ورق الغريين الأفاسجـــــــــــــــــــــــــعي سلجن قول عربي مبـــــــــــــــــــــــــــــــين
أرخ: (فيا بشرى لك اليوم قد جاءك بالماء في أرض النجف)
1346هـ
وقال الشيخ علي البازي:
إن الأنابيب بالماء القراح أتــــــــــــــــــــــــــــــت إلى القرى وَسُرّت فيه أبنــــــــــــــاه
فقلت عنها انجلى من أرخوه: (دجى هذا (معين) مَعين الماء أجراه)
1346هـ
استولت الحكومة على هذا المشروع الخطير، وقامت به أحسن قيام وضاعف عدد المكائن وعمت البلاد كلها بمد الأنابيب والمصابيح فهو اليوم من المشاريع المهمة، له إدارة خاصة به ومدير يدير شؤونه.
23ـ نهر الغازي:
في شهر رجب سنة 1350هـ شرعت الحكومة العراقية بحفر جدول يبدأ من نهر في (أبي صخير) يعرف بـ (البكرية)نسبة إلى أحد حكام الدولة العثمانية وكان قد استخرجه يوم ذاك. وهو المجري العمودي للفرات وينتهي هذا الجدول إلى أراضي النجف المنخفضة. وقد بوشر في العمل، وشرع ذوو العلاقة ممن لهم أراضي في البحر قديماً، فحفروها القسم الذي في أراضيهم، وعلى هذا الأساس كمل الجدول في يوم الثلاثاء 4ذي الحجة 1350هـ/ 1932م في عهد وكيل متصرف لواء كربلاء السيد جعفر حمندي قائمقام النجف.
وعند الانتهاء من حفره أقامت الحكومة المحلية احتفالاً رهيباً لفتحه، حضره أكثر وجوه وأشراف لوائي كربلاء والديوانية ومتصرف مصطفى العمري، وزعماء وقائمقام أبو صخير شاكر سليم، ووكيل متصرف لواء كربلاء السيد جعفر حمندي قائمقام النجف، ومدير ناحية الكوفة أحمد السوز، ورئيس البلدية عبد الحسين النجم، وقد ركب الرؤساء الزوارق من أبي صخير إلى النجف، وكانت المرة الأولى في التأريخ أن تركب الناس الزوارق وتصل إلى النجف في هذا النهر، وأنشدت على ضفته القصائد والخطب البليغة في المدح والتهاني لرجال الدولة القائمين بالمشروع، وأطلق عليه اسم (نهر الغازي) تيمناً باسم الأمير غازي بن الملك فيصل الأول ـ ولي العهد يومذاك وملك العراق فيما بعد.
وممن ألقى من الشعراء الشيخ محمد علي اليعقوبي قصيدته البائية:
أجلّ المزايا ما به الحمد يجــــــــــــــــــــلبُ وخير المساعي ما به الأجر يكسبُ
وخير فعال المرء ما كان خـــــــــــــــــالدا يسجله التأريخ والدهر يكـــــــــــــــــــــــــــــتب
أعد نظراً واعجب من الأثر الذي يروق عيون الناظرين ويعجـــــــــــــــــــــــــــــــــب
من الباقيات الصالحات تشوقت إلى مثله صيد الملوك وخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبوا
ومن ذا رأى من قبله جدولاً بـــــــه زوارق تطفو للغري وترســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
يذكرنا نهر المجرة في السمـــــــــــــــــــــــــــــــا تجيء به الشهب الدراري وتذهـــــــــــــــــــب
من الحيرة البيضاء يجذبه الهــــــــــوى لأرض الحمى والحب لا شك يجــذب
فما هي إلا جنة وهو كـــــــــــــــــــــــــوثرٌ يحن لساقيه (علي) فيقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرب
به اختلفت علب الرجال تحفـــــــــــه فقل بمليك فيه حف موكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
يصافح مجتازاً بهم كل واقــــــــــــــــــــــــــــــف كما شمل الأبناء في عطفـــــــــــــــه الأب
إلى بلد قد ودت الشهب أنهـــــــــــــــــــــا بواديه لا بالأفق تبدو وتغـــــــــــــــــــــــــــــــــــرب
فأخصب مرعاه وأمرع روضـــــــــــــــــــــــــــــــه فلله وادٍ ممرع الروض مخــــــــــــــــــــــــــــــــــصب
يخالف جري الرافدين يجريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــه فمجراهما للشرق وهو معــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّب
تفجر من بين الحديد مياهـــــــــــــــــــــــــــــــــــه نضاراً فأي الناس لا يتعجـــــــــــــــــــــــــــــــــب
على صدره عينان لكن غيـــــــــــــــــــــــــــــــــره يصعد من طرفيهما ويصــــــــــــــــــــــــــــــــــوب
إذا ما استوى يرجى ويرهب إن طغى ولم أدر حتى الماء يرجى ويرهــــــــــــــــــــــب
كأن خرير الماء فيه إذا جــــــــــــــــــــــــــــــــــرى زئير هزبرٍ هائج وهو مغضـــــــــــــــــــــــــــــــــــب
كأن عليه الدوح أعواد منبــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ به ساجعات الورق تشدو وتخطـــــب
حوى من (ولي العهد) طالع سعده له اسماً يسرّ السامعين ويطــــــــــــــــــــــرب
فأهلاً به من زائر خير بلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدةٍ تحف به من سكانها وترحـــــــــــــــــــــــــــــــــبُ
لئن ساغ عذباًَ في الموارد مـــــــــــــــــــــــاؤه فذكر الذي أنشاه أحلى وأعـــــــــــــذب
هو الملك الندب المعظم فيـــــــــــــــــــــــــصل ومن فخرت فيه نزار ويعـــــــــــــــــــــــــــــــــــرب
أشاهد معناه فأطريه غائبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً وكم شاهد بالكفر وهو معــــــــــــــــــــــــيب
فتى فعله أضحك على طيب أصلــــه دليلاً وأصل الفاطميين طــــــــــــــــــــــــــــــيب
وحبّبه الفعل الجميل لشعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبه (وكل امرئ يولي الجميل محبـــــــــــــــــــب)
وقد أرخه كثير من الشعراء، ومنهم الشيخ اليعقوبي أيضاً، ونقشت أبياته هذه في صخرة على مجراه:
نهر جميع الناس ودّت أن تـــــــــــــــــــــــرى ذكر ولي العهد فيه باقيا
لذاك كل وارد منه غـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا مؤرخاً (حيي الأمير غازيا)
وكان هذا الجدول وافر الماء سريع الاندفاع، متدفق المياه، وبفضله باشر النجفيون في غرس وزراعة أراضي البحر الغامرة.
كما أرخه السيد مهدي الأعرجي بقوله:
أجرى ولي العهد نهراً بالحمى بهمة شهب السما توازي
لئن طغت مياهه فبالنــــــــــــــــدى أرخت (مدّها الأمير غازيا)
وأرخه الشيخ علي البازي بقوله:
آثار فيصل في العراق جليّــــــــــــــــــــــــــة جلّت وعزّت أيما إعــــــــــــــــــــزاز
قد حلقت في الأفق ذكراها فلم تبلغ مداها فكرة ابن البازي
فالأرض شاء الله بعد مــــــــــــــــــــــوتها أرخت (يحييها بنهر الغازي)
24ـ مشروع إسالة الماء:
وفي سنة 1357هـ عزمت بلدية النجف على إسالة الماء على حسابها وإبطال ما كان عمله معين التجار، واستحضرت الآلات اللازمة لذلك.
وصف المخطوط:
المخطوط الذي اعتمدتاه من محفوظات مركز المخطوطات العراقية في بغداد برقم 40098، يقع في 37 صفحة قياس 21×13سم ومسطرته 17 ـ 18 سطراً بطول 8سم.
وقد نقل الباحث يعقوب سركيس نصوصاً منه في بحثه الموسوم (ماء النجف في القرون الأخيرة) المنشور في محلة الاعتدال النجفية السنة 4ع2 ص100 ـ 104، آذار 1355هـ/ 1937م، وأعيد نشره في كتابه (مباحث عراقية 2/ 64 ـ 69).
تمهيد وتحقيق: كامل سلمان الجبوري