الجمعة , 19 أبريل 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » النجف في كتابات الغربيين » النجف في المراجع الغربية القسم -3-

النجف في المراجع الغربية القسم -3-

النجف في أيام الاحتلال البريطاني

najef3

 

لقد كان قدوم السر رونالد ستورز إلى النجف في وقت لم يكن قد تشكل فيها أي نوع من أنواع الحكومة الجديدة بعد احتلال بغداد سوى التخويل الذي خولت به سلطات الاحتلال شيوخ البلد من أمثال الحاج عطية أبي كلل وجماعته بالمحافظة على الأمن والسكينة، كما تشير اليه المس بيل في تقريرها المذكور آنفاً. وقد بقي الوضع على هذا المنوال حتى تعين حميد خان وكيلا حكومياً لإدارة النجف في حزيران(1) 1917، أي في نفس الوقت الذي عين فيه للكوفة

_______

1-   لكن آرنولد ويلسن، وكيل الحاكم الملكي العام; يقول في كتابه “بين النهرين، ج 2″ “ان حميد خان وصل إلى النجف في تموز ممثلا عن سلطات الاحتلال العسكرية“.

رجل مسيحي من أهالي بغداد ذو خبرة إدارية يدعى سركيس أفندي(1). وتقول المس بيل أيضاً أن النقص في المواد الغذائية التي كانت متيسرة في النجف قد أدى في تشرين الأول 1917 إلى حدوث اصطدام محلي فإن أحد شيوخ عنزة الرحل، حلفاء الانكليز في بادية الشام، جاء يحمل كتاباً من الحاكم السياسي المسؤول عن حدود البادية الكولونيل (ليجمن) إلى (حميد خان) يوصيه فيه بمساعدة الشيخ العنزي على اكتيال مقدار غير يسير من الحبوب. فسمح للشيخ بشراء ما يحتاجه، لكن الخبر ما كاد يشيع في البلدة حتى قفزت الأسعار وارتفع مستواها في السوق ومن سوء الحظ ان (فهد بك بن هذال) شيخ مشايخ عنزة الشرقية بعث في اليوم الثاني ألفاً ومئتي بعير ليبتاع أصحابها الحبوب من أسواق النجف أيضاً برخص موقّعة منه. فكان هذا أكثر مما كان بوسع البلدة أن تجهزه للبادية، فهب الأهالي مجتمعين صاخبين. وأخذوا يتصيدون من كان داخل البلدة من أفراد عنزة، وفي 1 ـ 2 تشرين الثاني نظموا مظاهرة صاخبة حول مخيمهم. وهناك وقع شجار بودلت فيه بعض العيارات النارية بين الفريقين، وقتل بعير من الأباعر، ثم نهبت ثلاث بندقيات وحاجات كثيرة أخرى. ولم يستطع (حميد خان) المسؤول، الذي لم تكن تدعم سلطته الحكومية أية قوة، معالجة الموقف أو منع الاصطدام(2).

____________

1-   لتعيين حميد خان وكيلا للحاكم السياسي في النجف وامتناعه عن قبول هذه الوظيفة حكاية يراجع بشأنها كتاب (هكذا عرفتهم)

2-   الص 6 من الترجمة العربية (فصول من تاريخ العراق القريب)

 وقد ورد في كتاب (بين النهرين ـ أنواع الولاء)(1) الذي كتبه السر (أرنولد ويلسن) وكيل الحاكم الملكي العام في تلك الأيام عن نتيجة هذا الحادث ان حميد خان لم تكن تحت تصرفه أية قوة تمكنه من توطيد الأمن والسيطرة على الموقف، ولذلك طلب من الحاكم الملكي العام قبول استقالته. فما كان من الحاكم العام (وهو السر بيرسي كوكس) إلاّ أن يقترح على القائد العام للقوات المحتلة يومذاك تعيين ضابط بريطاني في تلك المنطقة. ويؤيد ذلك ما كتبه السر بيرسي نفسه في الخلاصة(2) التي كتبها عن المس بيل ونشرت في رسائلها المشهورة. فهو يقول “ومع أن كربلاء لم تسبب لنا مشكلة خطيرة فإن النجف التي كانت فريسة في أيدي شيوخ البلد المحليين، قد بقيت شوكة في جانبنا مدة من الزمن..” ولذلك قمت بجولة في المنطقة خلال كانون الأول 1917 لأكون في وضع يؤهلني لتقديم المشورة إلى القائد العام للقوات المحتلة بالنسبة لمختلف النقاط الإدارية التي تجعل من مرابطة مفرزات خاصة من الجيش فيها شيئاً ناجحاً. وكان من غير المرغوب فيه بطبيعة الحال، ومما لا يأتلف مع بياناتنا السابقة، أن نبادر إلى وضع قطعات من الجيش في الأماكن المقدسة نفسها. وهذا الوضع بالذات هو الذي جعل من الصعب علينا أن نسيطر سيطرة تامة على النجف التي كانت العناصر الخارجة على النظام والقانون فيها خاضعة لتأثير الدعاية التركية الألمانية واستثارتها المستمرة. وقد وجدت الدلائل الواضحة على هذه الاستشارة ما بين أوراق العدو التي وقعت في أيدي قواتنا في الرمادي وهيت بعيد ذلك.

وعلى هذا فقد تعين الكابتن (بلفور) الذي كان يتقن العربية لاشتغاله السابق في السودان، حاكماً سياسياً في المنطقة للاطلاع على الأوضاع فيها، فمر بالنجف

____________

1- Sir Arnold T. Wilson – Loyalties, Mesopotamis.Vol 1,1914 _1917 London 1936.

2- Historicl Sunmary – Major – General Sir Percy Cox,Gc MG etc.

 من دون أن يكون معه أحد لحراسته سوى البعض من شيوخ المنطقة نفسها. وهناك اتخذ الترتيبات اللازمة لحل مشكلة النزاع الذي حدث مع عنزة بعد فرض الدية والتعويضات على شيوخ البلد في النجف. ثم غادرها لاستئناف جولته في تلك الأنحاء بعد أن أبقى حميد خان في منصبه بصفة معاون له. وحينما عاد الكابتن بلفور بعد يومين إلى النجف وجد ان الشروط المتفق عليها لم تنفذ.

ومما جاء في تقرير (المس بيل) في هذا الشأن ان الكابتن بلفور حينما عاد إلى النجف بعد أيام قلائل لم يحضر لمقابلته إلاّ اثنان من شيوخ البلد فقط، وهما الحاج عطية وكاظم صبّي، فأدت المحاولة للضغط على هذين الشيخين إلى وقوع شغب في البلدة أثاره الحاج عطية نفسه بصورة سرية. فصمد بلفور لما حدث وظل في مكانه حتى عندما هوجمت الدائرة الحكومية التي كان فيها ثلاث مرات متواليات من المتجمهرين، لكنه قبل بعد ذلك أن يترك الدائرة بحماية الكليدار إلى بيت الكليدار نفسه الواقع على مسافة من دوائر الحكومة. ولم يتوقف الشغب حتى بعد أن نهبت الدائرة المذكورة نفسها. وفي أواخر النهار وقعت اضطرابات مماثلة في الكوفة، حيث دعا الوكيل الحكومي هناك الشيوخ المحليين فسيطر على الموقف بسرعة، ووقعت مثلها في أبي صخير أيضاً، فنهبت الدائرة فيها وجردت من كلّ شيء. ومع هذا كله فقد بقي (الكابتن) من دون قوة عسكرية تؤازره أو تحميه، فالتجأ إلى المجتهد الأكبر السيد كاظم اليزدي طالباً المعونة. فدعي الحاج عطية وكاظم صبي بإشارة منه، وصدر الأمر بالعفو عنهما فعادت البلدة إلى أحوالها الاعتيادية.

 ثورة النجف

أما ما حدث بعد ذلك في النجف فإن السر (أرنولد ويلسن) و (المس غيرترود بيل) يتفقان تمام الاتفاق فيما يذكرانه، في كتابيهما المشار اليهما، عنهمن ناحية التفصيلات والأشخاص وغير ذلك. فقد جعل (الكابتن بلفور) محل إقامته في الكوفة، غير أن العناية الكبرى التي كانت تتطلبها الشؤون الزراعية في المنطقة، وضرورة حسم الأمور بالقوة في كثير من الأحيان، جعلت من غير الممكن إبقاء بلفور معتمداً فقط على حسن نية الشيوخ، والسادة الملاكين، تجاهه في الوقت الذي كان يتعرض فيه إلى موقف (عطية أبي كلل) العدائي تجاهه على حد تعبير (أرنولد ويلسن) ولذلك زار الحاكم الملكي العام (السر بيرسي كوكس) منطقة الفرات كلها في أوائل كانون الأول 1917، وبإشارة منه وضعت مفرزات عسكرية صغيرة في مختلف النقاط الكائنة على النهر وليس في النجف نفسها. لأن هذه البلدة بنفوسها البالغة (000/40) نسمة كانت تستدعي وضع عدد كبير فيها من الجنود، وقد تكهن من يعنيهم الأمر بأن وجود قوة مختلطة في الكوفة التي تبعد بمسافة سبعة أميال عنها سيكون له التأثير المهدئ المطلوب بصورة غير مباشرة على ما تقوله (المس بيل) وقد قابل (السر بيرسي كوكس) خلال جولته شيوخ النجف في الكوفة، عدا الحاج عطية الذي تجنب الحضور خوفاً من الإيقاع به. على أنه تشبث بمقابلته حينما قام بزيارة قصيرة إلى النجف، لكنه أفهم في هذه المرة أنه يجب أن يأتي إلى بغداد من أجل ذلك.

وبينما كانت الخيالة الهندية التي وضعت في الكوفة تقوم بإجراء تمرينات عسكرية في السهل الواقع خارج النجف، يوم 12 كانون الثاني 1918، أطلقت النار عليها عصابة تتألف من مئة وخمسين رجلا من أتباع عطية من سور البلدة فقتلت خيالا واحداً وجرحت آخر. ثم أطلقت النار مدة من الزمن على طائرة بريطانية كانت محلقة في جو النجف، ونهبت دوائر الحكومة فيها فاضطر حميد خان وموظفوه الذين كانوا كلهم من العراقيين إلى أن يفروا إلى الكوفة. فزحفت الخيالة من دون أن تطلق الرصاص على المدينة المقدسة فطوقتها، وعند ذاك أوصل الضابط قائد هذه القوة، الذي صادف أن كان موجوداً في النجف حينذاك، سالماً إلى خارج باب السور بواسطة شيخ محلة المشراق الحاج سعد. ثم قام الحاج سعد هذا والسيد مهدي السيد سلمان وهو أوقر شيوخ البلد على الإطلاق على ما تقول (المس بيل)، وآخرون أقل أهمية منهما، بزيارة الكابتن بلفور في الكوفة يوم 14 كانون الثاني فأعيد الجميع إلى النجف بعد أن طُلب اليهم أن يعملوا على المحافظة على الأمن والسكينة. وفي اليوم التالي أذعن كاظم صبّي لأمر حضوره بين يدي الحاكم السياسي في الكوفة، فوجد الحاج عطية نفسه وحيداً في الميدان ففر إلى الشيخ عجمي السعدون الذي كان قد بقي على ولائه للأتراك وقد لازم استيطان البادية. وبعد هذا فرضت غرامة خمسمائة بندقية وخمسين ألف روبية بالنقد على النجف، فدفع المبلغ وسلمت البنادق في اليوم الأول من شباط وهو اليوم المعين لها. وفي اليوم ذاته أشغل (الكابتن مارشال) معاون الحاكم السياسي الجديد مع شرذمة قليلة من الحرس الخان الذي كان الحاج عطية أبو كلل قد بناه ليقيم فيه هو نفسه في خارج الباب الشرقي للنجف مباشرة.

وكان الكابتن مارشال قد نقل إلى النجف من الكاظمية التي أبدى فيها موجودية خلال الأشهر العشرة التي اشتغل فيها، كما كان له إلمام غير يسير باللغة الفارسية وشؤون العتبات المقدسة على حد تعبير (أرنولد ويلسن) وتقول (المس بيل) عن هذه الفترة من تاريخ النجف إن أول تدبير وأهمه كان من الضروري أن يتخذ لتأمين الحالة في البلدة في إعادة تشكيل الشرطة فيها. لأن قوة الشرطة التي جندت إلى هذا التأريخ في النجف كان أفرادها من أهالي البلدة نفسها، وكانوا يمالئون شيوخها في كثير من الأحيان. ولذلك أرسل من بغداد والكوت عدد من أفراد الشرطة الشيعة ليعملوا فيها، وجند عدد آخر من خارج النجف. ثم قطعت المخصصات التي كانت تمنح إلى شيوخ البلدة حينما كانوا موكلين عن سلطات الاحتلال فيها، وكان ذلك بإشارة من الكابتن (مارشال) نفسه. وتقول (المس بيل) كذلك: ان جباية رسوم البلدية، التي كانت غير منتظمة للغاية لعدة سنين خلت، قد وضعت في هذه الفترة على أسس قويمة. وشُرع بتنظيف البلدة التي كانت بحالة صحية مزرية. وما انتهى كانون الثاني 1918 حتى كان الكابتين مارشال منهمكاً في حل مشكلة الماء العذب وتوفيره للبلدة بمقادير كافية.

لكن النجف على ما يبدو كانت تغلي في تلك الأثناء، بعدما ترامى إلى أهلها من عجرفة رجال الاحتلال البريطاني وتصرفاتهم البعيدة عن العدل والإنصاف. وكانت تتهيأ فيها يوماً بعد يوم عوامل الثورة العارمة ووسائلها الدافعة، وتنتشر بين شبانها روحية الاستقلال في الحكم والشعور القومي الذي بدأت تباشيره تغزو هذه الجهات. غير ان (المس بيل)، التي يؤيدها في رأيها (أرنولد ويلسن) بطبيعة الحال، تحلل هذا الوضع على غير حقيقته وتحاول حصر الحركة في نطاقها المحلي الضيق.

فهي تقول ان الحكومة الصالحة التي جاءت بالكثير من المنافع إلى البلدة لم تكن مقبولة عند الجميع. فإن رعاع البلدة من العشائر، وحتى بعض السادة من صغار الشأن الذين وجدوا انتفاعاً من التصيّد في الماء العكر، كانوا يحملون شعوراً عدائياً متستراً تجاهنا. لكن التجار وطبقة الرأي العام الفقيرة، وسماحة السيد كاظم اليزدي وأتباعه، ارتاحوا ارتياحاً صريحاً بكسر النير الذي كان قد وضعه في رقابهم شيوخ البلدة من قبل وبالعودة إلى الحالة الاعتيادية الرتيبة. ثم تحاول المس بيل وضع ما سيحدث بعيد هذه الفترة بقالب آخر، وتعزوه إلى أسباب غير الأسباب الحقيقية. ولذلك نجدها تشير إلى أن التسوية النهائية لوضع النجف المضطرب قد صادفت تأخراً آخر، لأن الدسائس التركية في المنطقةنشطت إلى العمل أكثر من نشاطها السابق. فعندما استولت الفرقة الخامسة عشرة البريطانية على (هيت) وغزت (عانة) وقع في أيدي رجالها ضابط ارتباط ألماني كانت في حوزته أوراق ومستندات كثيرة. وقد دلت هذه المستندات على أنه كانت توجد في النجف لجنة خاصة لإشعال ثورة إسلامية فيها، وجعلها مركزاً لخلق الاضطرابات والقلاقل بين العشائر. وكان مئة أو أكثر من رجال الدين مشتركين فيها، لكنها لم تضم أناسا ذي أهمية من الدرجة الأولى. وتروي كذلك ان رئيس هذه اللجنة كان شخصاً من أسرة بحر العلوم العلوية(1)، وكان هذا نشطاً في الدعوة إلى الجهاد ضد الانكليز إلى أن سقطت بغداد بأيديهم. وقد عرفت الخطة تمام المعرفة، لأنها كانت ترمي إلى استغلال التدابير الفعالة التي يمكن أن تتخذها الحكومة البريطانية ضد البلدة المقدسة واتخاذها مادة صالحة للدعاية التركية الألمانية في المستقبل.

ثم تستمر في هذا التحليل فتقول ان شيوخ البلدة، الذين جردوا من الامتيازات التي ساءوا استعمالها كانوا بطبيعة الحال حقلا خصباً لتلك الدعاية. وهناك ما يحمل على الاعتقاد بأن مؤامرة خاصة كانت قد حيكت لقتل الحكام السياسيين الذين كانوا يعملون في الفرات الأوسط. أما مقدار اشتراك ضابط الاستخبارات الألماني في هذا العمل، الذي تسميه جريمة، فقد كان شيئاً غير أكيد.

وهي ترى ان الانفجار الذي وقع في النجف كان من المحتمل أن يكون قد حصل قبل أوانه، أي قبل أن توضع الخطة وضعاً تاماً له. فكانت النتجية ان الإدارة البريطانية قد خسرت حاكماً سياسياً واحداً فقط في هذه الجهات. فقد قتل (الكابتن مارشال) معاون الحاكم السياسي في داره الواقعة خارج البلدة على يد عصابة متكونة من اثني عشر قاتلا في فجر يوم 17 مارت. وتقولالمس بيل) ان اثنين من القتلة كانا من أولاد الحاج سعد، وثلاثة من الشرطة المسرحين، وكان الرئيس “شقياً” مأجوراً. ثم تذكر ان المحركين الأساسيين للمؤامرة كانا الحاج سعد وكاظم صبي.

____________

1- هو السيّد محمّدعليّ بحر العلوم.

على ان المراجع المحلية، التي يؤيدها (السر أرنولد ويلسن) في روايته للحادث من دون ذكر الأسماء، تقول ان العصبة التي تطوعت لقتل الكابتن مارشال وإعلان الثورة كانت برئاسة الحاج نجم البقال. والمعروف إنه كان رجلا من الأخيار حفزه إلى الإقدام على هذا العمل الخطير تدينه وشعوره الوطني. وقد لبس هو وجماعته لباس “الشبانة” في ليلة الحادث وانسلوا من كوة في سور البلدة تقع في محلة المشراق. ثم كمنوا في المقبرة حتى الفجر، وبعد ذلك دخلوا البناية التي كان الكابتن يسكن فيها وهي (خان عطية) بخدعة وقتلوه كما قتلوا طبيباً أيرلنديا كان معه. وقتل من المهاجمين رجل واحد وجرح آخر فحملا بعد انتهاء المعركة. ومما يقوله (ويلسن) ان (الكابتن بلفور) وصل على أثر ذلك من الكوفة إلى النجف، ومع أنه جوبه بنيران حامية من ثوار البلدة فقد استطاع أن يدخلها فيخرج معه بعد ذلك نصف قوة الشرطة التي كانت مرابطة في الداخل بعد أن قتل اثنان من المجموع والتجأ الباقون إلى دار السيد مهدي السيد سلمان.

وتزعم (المس بيل) ان الرأي العام في بغداد وكربلاء والحلة والكاظمية قد أجمع على استنكار ما قام به أولئك الثوار في النجف. وبقيت العشائر كلها محافظة على الهدوء عدا شيخين صغيرين معروفين بتمردهما على القوانين(1) كانا مشتركين بالمؤامرة كما ظهر فيما بعد.

____________

1-   المقصود بالشيخين هما رئيسا قبيلة الحواتم سلمان الفاضل ودرويش.

غير أنه ليس هناك شك بأن العشائر كانت كلها ترمق النجف باهتمام، وإن أي تدابير فعالة كانت ستتخذ ضد المدينة المقدسة كانت ستثير شيئاً لا يستهان به من النقمة والغضب. لكن الخطر الرئيسي في رأي (المس بيل) كان ينطوي في عكس ذلك، لأن التقصير في الاقتصاص من قتلة ضابط بريطاني كان سيضع أرواح جميع زملائه تحت رحمة أناس مثل الحاج سعد الحاج راضي الذين كان يحرضهم الذهب التركي. ولا أدري كيف توفق (المس بيل) بين قولها هذا وبين اعتماد الإنكليز على الحاج سعد وزملائه في تمشية أمور البلد عند انسحاب الترك منها.

فبادر القائد العام لقوات الاحتلال البريطاني في العراق، الجنرال (مارشال)، إلى العمل السريع الحاسم على حد تعبير ويلسن فقد سيق إلى النجف في الحال لواء كامل من الجيش البريطاني فحاصرها بقيادة الجنرال (ساندرز) حصاراً تاماً. ثم أعلنت على الملأ الشروط المؤدية إلى رفع الحصار عنها. وكانت الشروط كالآتي:

(1)  تسليم المحرضين على مهاجمة الكابتين مارشال والمشتركين في قتله من دون قيد أو شرط.

(2)  دفع غرامة عينية من السلاح قدرها ألف بندقية.

(3)  دفع غرامة نقدية قدرها خمسون ألف روبية.

(4)  نفي مائة شخص إلى الهند واعتبارهم أسرى حرب.

(5)  وإلى أن تنفذ هذه الشروط بحذافيرها تحاصر البلدة حصاراً تاماً، ويقطع الماء والطعام عنها.

ويضيف (أرنولد ويلسن) إلى هذا القول ان العلماء الشيعة في ايران والعراق كله قد اتصلوا بأقرب الموظفين البريطانيين اليهم وأبدوا لهم تخوفهم من النقمة والسخط العام على هذه التدابير. وعبرت الحكومة الإيرانية نفسها للوزيرالبريطاني المفوض لديها عن مخاوفها من أن تؤدي أخبار هذه الحركة إلى قيام رجال الدين في بلادها بما يتكون من نتيجة وضع مخطر في البلاد. ثم وصلت إلى القائد العام برقيات، من حكومة الهند في كلكتا ووزارة الهند في لندن، تدل على التخوف الذي كان يساور المسؤولين مما قد تؤدي اليه مثل هذه التدابير الحاسمة.

وفي اليوم السابع من نيسان احتل الجيش أكوام التراب المجاورة لمحلة الحويش، لأنها كانت تسيطر على البلدة سيطرة تامة، واُخلي من بقي من الموظفين في داخل البلدة عنها. وفي خلال الأيام القلائل التالية استولى الجنود على جميع الحصون التي كانت موجودة في السور. وفي أثناء سير هذه الحركات لم تطلق إطلاقة واحدة على البلدة نفسها كما يؤكد السر (أرنولد ويلسن) و (المس بيل) في كتابيهما، وحوفظ على علاقات ودية مستديمة مع المجتهد الأكبر السيد كاظم اليزدي.

وفي العاشر من نيسان 1918 بدأ استسلام القتلة (كما يزعم) والرجال الذين ادخلت أسماؤهم في قائمة المشتبه بهم. ولم يحل اليوم الأول من مايس حتى كان (102) من مجموع (110) أشخاص في قبضة الجيش المحاصر وهوجم الحاج عطية من قبل عنزة الموالين للانكليز فسلم نفسه في السماوة قبل نهاية نيسان، وفي 4 مايس رفع الحصار عن النجف. ثم عين ضباط ثلاثة من ذوي الكفاية والأهلية لمحاكمة القتلة، وجرت المحاكمة باللغة العربية كما تزعم (المس بيل) فحكم على ثلاثة عشر شخصاً بالاعدام(1)،واُبدل القائدالعام الحكم على أحدهم إلى السجن المؤبد. كما حكم على خمسة بالسجن المؤبد كذلك، وعلى اثنين بالسجنلمدة أقصر، يضاف إلى ذلك ان مائة شخص مشتبه بهم سفروا إلى الهند كأسرى حرب. وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقّ المحكوم عليهم في الكوفة في اليوم الثلاثين من مايس.

1-   ويعتبر عباس الخليلي الثائر الوحيد الذي نجا من الاعدام وقد نجا باعجوبة، إذ فر متستراً في ألبسة نسوية وعبر حدود العراق إلى ايران ولا يزال لليوم هناك. وقد كان سكرتير حزب (النهضة الإسلامية) السري الذي قام بهذه الثورة.

 ومما تذكره المس بيل ان اجتماعاً قد عقد بعد ظهر اليوم نفسه في دار كليدار النجف، قدمت فيه إلى الحاكم السياسي الكابتن بلفور جماعة وقالت أنها تمثل رجال الدين والأهالي وشيوخ المحلات “سيف شرف” على سبيل الهدية((1

وبعد عشرة أيام قام القائد العام بزيارة رسمية للبلدة فذبحت له الذبائح عند دخوله من بابها بصورة لم يسبق لها مثيل منذ زيارة ناصر الدين شاه ملك ايران، ثم جرت حفلة استقبال في بيت الكليدار حضرها العلماء والوجوه والشيوخ على ما تزعم (المس بيل) وفي الخطاب الذي ألقاه القائد العام بهذه المناسبة أوعز الحاكم السياسي بتأسيس دائرة “بلدية” تتولى شؤون البلد وتنظيمه، ووعد بالعمل على تحسين مياه الشرب. وقد حضر هذه الحفلة السر (أرنولد ويلسن) نفسه كذلك. وهو يقول في كتابه ان الكليدار تكلم فيها مبدياً ارتياحه وارتياح الناس المتناهي لأنقاذهم من أيدي “الأشرار”. وحينما قدم السيف للكابتن بلفور الحاكم السياسي ناشده أن يدافع به عن حرية البلدة وسكانها في المستقبل كما فعل في السابق. ويذكر ويلسن كذلك ان الكليدار قدم له هو أيضاً خاتماً فخماً من الذهب ومفتاحاً من الفضة.

والمعروف بين المطلعين من الناس، وفي بعض المراجع المحلية، ان الذين تم تنفيذ حكم الاعدام فيهم هم: كريم، وأحمد، ومحسن، أولاد الحاج سعد الحاج راضي، ورابعهم عبدهم سعيد، وعباس عليّ الرماحي، وعلوان عليّ الرماحي، وكاظم صبي، وجودي ناجي، ومجيد بن مهدي الحاج دعيبل، والحاج نجم، ومحسن أبو غنيم. أما المنفيون من أهل النجف فقد كان من بينهم الشيخ محمّد جواد الجزائري والسيد محمّد عليّ بحر العلوم، وسعد الحاج راضي والحاج عطية أبو كلل وأولاده وأقاربه. وقد تدخل الشيخ خزعل شيخ المحمرة بأمر الشيخ الجزائري والسيد بحر العلوم فاُعفيا من النفي وأقاما في المحمرة برعايته.

____________

1- ورجال الدين هؤلاء هم الذين سماهم الناس بعلماء الحفيز (الأوفيس) تمييزاً عن رجال الدين الآخرين كما مرت الإشارة إليه قبلا.

 ولا شك ان معظم العراقيين، والنجفيين خاصة، يعتقدون ان ثورة النجف هذه كانت حركة وطنية مهدت الأمر لاندلاع نيران الثورة العراقية المعروفة في 1920، التي استحصلت للعراق استقلاله وحكمه الوطني. وهذا كما لا يخفى مغاير لبعض ما يفهم من لهجة (المس بيل)، و (أرنولد ويلسن)، وغيرهما بطبيعة الحال. وتكاد المس بيل تعترف فيما كتبته بأن هذه الثورة كانت مقدمة لثورة العشرين المعروفة، ولكن بلهجتها المعهودة. فهي تقول بعد سرد الحوادث المذكورة أن كربلاء والنجف بقيتا تكوّنان قنبلة مزدوجة للفوران السياسي الذي كانت تسهل أثارته برد الفعل للحوادث التي تقع في ايران أو بما يحدث من الأحداث في العراق نفسه. ثم تضيف إلى ذلك قولها: ولم تعر القبائل المجاورة التي كانت مشغولة بزراعتها التفاتاً لما وقع، برغم أنه في شتاء 1918 ـ 1919 دبر المجتهدون المتحركون إثارة بعضها كما سيذكر فيما بعد. بالإضافة إلى قولها الذيأشرنا اليه من قبل واعترافها بكون هذه الثورة ربما كانت تكون ذات قيمة لو جاءت في وقتها المناسب إذ تقول عن ثورة النجف “.. ان الانفجار الذي وقع في النجف كان من المحتمل أن يكون قد حصل قبل أوانه ـ أي قبل أن توضع الخطة وضعاً تاماً له ـ

التفكير بتأسيس حكم وطني في البلاد

وبعد هذه الحوادث المثيرة التي برهنت فيها النجف للانكليز على صلابة عودها وقوة شكيمتها، حدثت تطورات خطيرة في أحوال العراق والسياسة العالمية. فقد انتهت الحرب ما بين بريطانيا العظمى والإمبراطورية العثمانية. وأعلنت الهدنة بينهما في 30 تشرين الأول 1918. وفي 8 تشرين الثاني 1918 أعلن في العراق التصريح الانكليزي ـ الفرنسي الذي وعد فيه الانكليز والفرنسيون بتأسيس “حكومات وإدارات وطنية حرة تنتخب وفق رغائب الأمة وتستمد سلطتها منها” للأقوام والبلاد المنسلخة عن الدولة العثمانية وحكمها الجائر. وفي 11 تشرين الثاني 1918 سمحت السلطات المحتلة بأن تنشر في العراق بنود الرئيس ويلسن الأربعة عشر، التي كانت الدول الحليفة والمركزية قد اتفقت على اتخاذها أسسا لعقد الصلح فيما بين الفريقين المتحاربين. فما كان من الجنرال (مارشال) القائد العام لقوات الاحتلال البريطاني في العراق بعد أن أعلنت الهدنة إلاّ أن يدعو على عجل وجهاء بغداد ورجالها المعروفين فيلقي عليهم خطاباً طبعت نسخ كثيرة منه بالعربية والانكليزية، ووزعت في جميع أنحاء المناطق المحتلة. وقد أشار الجنرال (مارشال) في خطابه هذا إلى بيان سلفه الجنرال (مود) الذي أذاع فيه بعد احتلال بغداد بأن الانكليز قد جاؤا “محررين لا فاتحين”. ثم أعلن على الملأ رفع القيود الكثيرة التي كانت تقتضيها ظروف الحرب والقضاء على العدو. ومن جملة ما رفعت عنه القيود بمقتضى هذاالخطاب نقل الجنائز من مختلف الجهات ودفنها في مدافن النجف وكربلاء بشروط مناسبة على حد قول (أرنولد ويلسن(1) وفتح الطرق للزوار الذين يقصدون العتبات المقدسة في أيام الزيارات المعتادة.

وقد أدت هذه التطورات الخطيرة، والوعود الرسمية المهمة، إلى حدوث نشاط سياسي فعال في أندية بغداد ومحافلها السياسية فتأثرت به جهات البلاد الأخرى، ولا سيما النجف والفرات الأوسط كله، إلى درجة لا يستهان بها، وتقول (المس بيل) في تقريرها المشار إليه ان التصريح الانكليزي الفرنسي الذي صدر بعد الهدنة كان له وقع مهم بين العراقيين. فإن بعضهم كان يعتبره دالا على عدم تأكد مذيعيه من المستقبل، وذهب البعض الآخر إلى نقيض ذلك وأخذ يفسر الرغبة التي أعرب عنها الحلفاء بتصريحهم في تأسيس حكومة وطنية في العراق بأنه اعتراف بمقدرة العرب على الاضطلاع بمسؤولية الإدارة الوطنية من دون مساعدة أو سيطرة. وما مر أسبوع على نشر التصريح في بغداد، حيث تكون الأطماع السياسية على درجة كبيرة من التطور بالنسبة لجهات العراق الأخرى، حتى كانت فكرة تنصيب أمير عربي في العراق موضع بحث في كلّ مكان وقد صادفت قبولا عاماً في الأوساط المسلمة.

وقد وصلت إلى الجهات المسؤولة ببغداد في هذه الأثناء (30 تشرين الثاني) تعليمات من لندن يطلب فيها أن تقوم السلطات المحتلة بإجراء استفتاء عام في العراق، لأن الحكومة البريطانية كانت تتجه نيتها إلى “قضية تأسيس أحسن شكل للحكومة فيه(2) “. وطلب أن يكون الاستفتاء على النقاط التالية!

1-   هل يفضل العراقيون تأسيس دولة عربية واحدة تستهدي بارشادات بريطانية، وتمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية إلى الخليج؟

____________

1- ص 102 من كتاب ويلسن، ج 2.

2- ص 102 من كتاب ويلسن، ج 2.

 

2-   وفي هذه الحالة، هل يرون ان الدولة الجديدة يجب أن يكون على رأسها أمير عربي؟

3-   وإذا كان الأمر كذلك، من هو الذي يفضلون نصبه رئيساً للدولة؟

وحينما صرح السر (أرنولد ويلسن) وكيل الحاكم الملكي العام، بالأمر واتخذ ما يلزم لإجراء الاستفتاء في البلاد أصدر تعليمات خاصة إلى الحكام السياسيين في الألوية بأن يتأكدوا من الحصول على نتائج تكون مطابقة لمقتراحاته التي كانت تعارض في تشكيل حكم وطني في البلاد، كما كان يريد البعض من رجال الإنكليز. ولذلك اتخذت السلطات الإنكليزية جميع التدابير والاحتياطات للتأثير على النتائج الحقيقية في جميع المناطق. فكان لها ما أرادت في مناطق كثيرة، لكنها لم تستطع الحصول على ما كانت تريده بسهولة من النجف وكربلاء والكاظمية وبغداد. ويقول الدكتور فيليب (آيرلاند)(1) الأميريكي في كتابه (العراق ـ دراسة في تطوره السياسي) في هذا الشأن ان سير الاستفتاء في المدن المقدسة مثل النجف وكربلاء والكاظمية، وفي بغداد، لم يكن سهلا كما ان نتائجه لم تكن على الوجه المطلوب. فقد مر في النجف بمراحل ثلاث بالنسبة لموظفي الحكومة المسؤولين عن سيره. إذ استبان لأول وهلة بأنه سوف لا يجابه صعوبة كبيرة. ولما كان وكيل الحاكم الملكي العام يدرك أهمية النجف الستراتيجية، فقد واجه بنفسه الأشراف الذين كانوا يمثلون رجال الدين وشيوخ العشائر وأوضح لهم ان المطلوب منهم الإجابة على أسئلة ثلاثة لا غير. فكانت النتيجة الاعتراف بتفضيل الحماية البريطانية على البلاد الممتدة من الموصل إلى الخليج من دون تعيين أمير.

____________

1- Philip Willard Ireland – Iraq, A study in political Development.

وهو الكتاب الذي ترجمه كاتب هذه السطور باسم (العراق ـ دراسة في تطوره السياسي) ونشر في  1949.

 ثم يقول آيرلاند انه بعد مرور يومين على هذا الاجتماع وصل إلى النجف من بغداد رجل شيعي ذو شهرة محلية وحرض الوجهاء على عدم إرسال العريضة الأصلية. وعندما علمت السلطات بالأمر اتصلت بالوجهاء البارزين ومنهم (السيد كاظم اليزدي)، وبمساعدته توصلت إلى “نتائج ناجحة” ونظمت سلسلة تتألف من أربع عشرة مضبطة استحصلت من بعض الأشخاص والجماعات. وقد طولب في بعضها بالحماية البريطانية وبتعيين أمير على رأس الدولة عندما تكون البلاد مستعدة لذلك. على انه طولب بعدة مضابط أخرى بحكومة عربية يرأسها أمير من دون أن يذكر شيء عن بريطانيا العظمى مطلقاً (انتهى قول آيرلاند)

وتقول (المس بيل) في مذكرة(1) قدمتها إلى الجهة المختصة عن “الحكم الذاتي” في العراق في شباط 1919 (يوجد نصه في ملحقات الجزء الثاني من كتاب ويلسن)، “.. ان أحد الشبان الشيعة في بغداد زار النجف بعد يومين بحجة الأشغال الخاصة، وشرع بتنفيذ خطة موضوعة لإقناع أهالي النجف والشامية بالعدول عن التوقيع على المضبطة المتفق عليها. وكان مثير هذه الفتنة رجلا ذا شهرة غير قليلة ككاتب وأديب، كما كان مستخدماً عندنا في دائرة الشرطة فأخرج منها بسبب خشونته قبل ما يقارب السنة(2). ولما كان هو نفسه قد وقع بعد ذلك على إحدى مضابط بغداد التي تفضل

____________

Self. Determinllion in Mesopotamia – Memorandum by Miss -1 GBell, February 1919.

2-   المعروف انه يقصد الشيخ كاظم الدجيلي

 استمرار السيطرة

البريطانية فإن توقيعه مع الجهة المقابلة لا قيمة له. وعند وصوله إلى النجف ادعى بأنه “وكيل سري”، من وكلاء الحكومة فحكم عليه حاكم الشامية السياسي من أجل هذا بالحبس لمدة أسبوعين أعيد بعدهما إلى بغداد. وبنتيجة النشاط الذي أبداه لم ترسل المضبطة الأصلية من النجف والشامية، وإنما أرسلت بدلا عنها سلسلة من المضابط تختلف عملياً عن المضبطة الأولى”(1)

ويبدو من هذا كله ان الإنكليز لم يستطيعوا الحصول على النتيجة التي كانوا يريدونها من النجف، وإنما استحصلوا تواقيع الخائفين والممالئين لهم بأساليبهم المعهودة. ويؤيد هذا ما تذكره (المس بيل) من أن النجف ومنطقة الشامية، التي تعد النجف تبعاً لها في الإدارة يومذاك، كان الرأي العام فيهما له عدة أوجه لكنه كان من الممكن أن يستنتج من كلّ ذلك ان الناس هناك كانت تفضل تنصيب أمير مسلم يستظل بالحماية البريطانية. وقد ذكرت أسرة شريف مكة بهذه المناسبة. ويعترف الكابتن بلفور الحاكم السياسي لمنطقة الشامية في تقريره الإداري المقدم إلى الجهات المختصة في 1919 بأنه قد وجد من الضروري أن يضغط رسمياً على (النجف) قبل أن تستحصل من وجهائها المضابط المرغوب فيها.

وحدة الصف الوطني

والظاهر ان إجراء الاستفتاء العام في هذه المنطقة، ومحاولة الإنكليز الحصول على نتائج مصطنعة تتفق وأغراضهم الاستعمارية، كان نقطة الانطلاق التي بدأت منها الحركة الوطنية في بغداد والنجف، وغيرهما من معاقل النضال ضد الاحتلال البريطاني الغاشم، بالانتشار والتوسع.

____________

1- من المؤكد الذي لا لبس فيه ان ما ذكرته المس بيل هنا عن الشيخ كاظم الدجيلي غير صحيح.

 وكانت أولى ثمار هذه الحركة اتفاق الكلمة بين السنّة والشيعة في جميع أنحاء العراق على العمل المشترك ضد السلطات المحتلة، والسعي للحصول على الاستقلال التام للبلاد وتكوين حكومة وطنية فيها ومما يرويه المستر (فيليب آيرلاند) في كتابه المشار اليه ان هذا “التحالف قد ظهرت أولى بوادره في صيف 1919 حينما حضر رجال السنّة الحفلتين التأبينيتن اللتين اُقيمتا بمناسبة وفاة المجتهد الشيعي الأكبر “السيد محمّد كاظم اليزدي”. ويذكر كذلك ان “الهوة” التي كانت تفصل بين الطائفتين قد ملئت بفضل الجهود الحثيثة التي بذلها الزعماء الوطنيون، ومن أبرزهم الزعيمان الشيعيان السيد محمّد الصدر، وجعفر أبو التمن. ثم ينتهي إلى القول بأن التوافق الذي حصل بين الطائفتين قد وسع مجال العمل للحركة الوطنية وزاد في قوتها، فأدى ذلك إلى أن تنطوي تحت لوائها العشائر الشيعية والجماهير التي تقطن المدن والأرياف التي كان تعصبها يتعالى ويخمد بمشيئة رجال الدين التي تكاد تكون غير محدودة عليهم.. وقد وجد الوطنيون في المدن المقدسة وبغداد ان المناطق التي تقطنها قبائل الفرات الأوسط والأسفل، وهي شيعية في الغالب، كانت أخصب تربة يبذرون فيها بذور دعايتهم السياسية ـ الدينية، بالإضافة إلى الدعاية التي كانت تبث بين قبائل بني تميم والعزة والقبائل المحيطة ببغداد وبعقوبة(1)

وهكذا تقدم سير الحركة الوطنية في البلاد، وتعاظمت شعلتها المتوسعة، حتى تهيأ الجو لاندلاع نيران الثورة العراقية المعروفة في 30 حزيران 1920. وقد كان للنجف القدح المعلى في تهيئة الظروف للثورة بطبيعة الحال، بالنظر للنفوذ الديني والاجتماعي الذي كانت تتمتع به ما بين القبائل الفراتية التي قدحت في زنادها، ولما كان يتوفر فيها من نخبة ممتازة من الشباب المثقف الذي كان يدرك معنى الوطنية الحقة والاستقلال التام تمام الإدراك ونظراً لأن العلماء الأعلام كانوا في مقدمة المكافحين من أجل الاستقلال التام للبلاد، والمناضلين ضد التسلط الأجنبي الغاشم، فاننا نجد في كتابات عدد غير يسير من الانكليز وغيرهم أ نّهم يحاولون الحط من قيمة الثورة وجعلها مدفوعة بدوافع ليس فيها غير التعصب الديني الضيق.

____________

1- الص 189، آيرلاند الترجمة العربية 1949

غير أني لاحظت ان المستر (فيليب آيرلاند) (الأميركي) يعلل هذه النقطة تعليلا بارعاً ويجلوها بأحسن وجه. فهو يقول انه ليس من المستغرب أن نرى في بلاد توجد فيها الاختلافات الدينية والطائفية بجانب الاختلافات العنصرية والقومية، ويطغى فيها التعصب الديني، ويفتقر وضعها العام إلى إحلال الولاء للدولة في محل الانقياد للسلطة الدينية، بأن تكتسب الوطنية، التي نشأت كحركة سياسية يؤازرها الناس من مختلف الطبقات، صبغة دينية فتحظى بتعضيد الطبقة الروحانية ورجال الدين. فقد تذكر رجال الدين بأن الأمجاد العربية الغابرة في دمشق ومصر وشمالي أفريقيا وفي مدينة العباسيين العتيدة قد بلغت أوجها في الأيام التي كان يسود فيها الإسلام، وعندما كان الخليفة رئيساً للدولة وحامياً للمسلمين. ولذلك فإن الوطنية كانت تعني في عرفهم، ولا سيما في عرف علماء الشيعة، تأسيس دولة إسلامية من جديد يكون للطبقة الروحانية فيها مركز شرعي مسيطر ويعني ذلك بلا ريب وجود دولة متحررة من رق التأثيرات الغربية الملوثة، ومطهرة من رجس الميول والاتجهات العلمانية. والواقع ان تقارب الاستقلال السياسي والديني، وتعاون السياسيين مع زعماء الدين، كانا يشبهان التوافق الذي جرى بعد الحرب بين الطائفتين السنّيّة والشيعيّة. ومعنى هذا بوجه عام توحيد النواحي السياسية والدينية من الحركة الوطنية في عمل واحد(1)

____________

1- الص 188 من المرجع السابق.

 أما أرنولد ويلسن، وكيل الحاكم الملكي العام الذي يعتبر المسؤول الأول عن التصرفات الشائنة التي أدت إلى الثورة، فيعاكس ذلك ويقول ان رجال الدين في النجف وكربلاء والكاظمية كانوا باستثناء البعض منهم يقاومون علناً

تشكيل حكومة دنيوية منظمة من أي نوع كان على الرغم من ازدياد وارداتهم ازدياداً كبيراً بعودة الزوار إلى النوادر على العتبات المقدسة من جميع أنحاء العراق وإيران بمقياس لم يسبق له مثيل من قبل. فقد بلغ عدد الزوار الذين زاروا النجف وكربلاء في يوم العيد الأضحى (1920) حوالي الخمسين ألف(1). ولا شك ان ما يقصده ويلسن بالحكومة الدنيوية الحكومة التي يريد تشكيلها هو بإشرافه وإشراف زملائه تأميناً لمصالح بريطانيا الاستعمارية في البلاد. هذا وهو يستبعد على العلماء الأعلام الإهتمام بشؤون البلاد وسكانها، والتمسك بالروح الوطنية التي يقف منها الدين الحنيف موقفاً مشجعاً، وكأن كلّ ما يجب أن يهتموا به في نظره هو ازدياد الواردات وجمع الثروة والنظر إلى الأمور بالمنظار المادي وحده.

نذر الثورةان جميع المراجع المذكورة تشير إلى أن زعماء الحركة الوطنية في النجف الأشرف والفرات الأوسط كانوا على اتصال بأقطاب الحركة “الشريفية” التي نشطت للعمل بعد تنصيب الملك فيصل على رأس الدولة العربية في سورية. وقد كان معظم هؤلاء من الضباط العراقيين الذين حاربوا في صفوف الجيش العربي الذي تشكل في الحجاز بعد إعلان الثورة العربية في 9 شعبان 1916. فيقول (المستر آيرلاند) ان سلسلة من الرسائل مؤرخة في 23 رجب (12 نيسان 1920) ومعنونة إلى ملك سورية (فيصل) وملك العراق (عبدالله) وقعت في أيدي السلطات البريطانية يومذاك. وكانت تنطوي على تهنئة للأميرين على انتخابهما، وترحيب (بعبد الله) من رعاياه الموالين.

____________

1- الص 253 من كتاب ويلسن ج 2.

 وقد كان الموقعون عليها شيوخ وسادة الشامية والسماوة والرميثة (بني حجيم) وقبائل المنتفك، ووجهاء وسادة النجف والكوفة والحلة. ثم ينهي الموضوع بقوله ان كلّ واحد من الموقعين، إلاّ اثنين منهم، كان ممن قاموا بدور رئيسي في ثورة 1920(1). ولا يخفى ان ذكر (عبد الله ملك العراق) يشير إلى قيام الضباط العراقيين، الذين اشتركوا في حملة فيصل بن الحسين على سورية، بإعلان عبد الله في الشام ملكاً على العراق بعد أن نودي بأخيه فيصل ملكاً في سورية.

أما المس بيل فتقول في هذا الشأن ان أول تأثير للدعاية الشريفية المنبثة من سورية وبغداد قد ظهر في منطقة الشامية، حيث يكون تأثير المدن المقدسة الديني على أشده… وان الشعور بعدم الاستقرار هناك قد أدى إلى استقالة أعضاء المجلس المحلي الذي تشكل حديثاً. ثم تقول ان العنصر الديني الشيعي في المدن المقدسة كان منهمكاً في حبك الدسائس قبل أن تبدأ الحركات والقلاقل العلنية في بغداد. وان وفاة (السيد كاظم اليزدي) قد أدت إلى انتقال السلطة الدينية في العالم الشيعي إلى أيدي المرزا محمّد تقي الشيرازي المتقدم في السن الذي كان يصرّف أموره في جميع الشؤون ابنه المرزا محمّد رضا. وكان هذا الابن رجلا سياسياً فعالا لا يستقر على حال… ثم تعدد الحوادث التي كانت تعتبر نذراً لوقوع الثورة فتقول في جملة ما تقوله عن ذلك ان الحاكم السياسي في الديوانية كتب في أحد تقاريره ان جثة أحد أفراده الشبانة لم يسمح بدفنها في النجف على الأصول الشيعية المعروفة، وان الاستقالات من خدمة الحكومة أخذت تزداد يوماً بعد يوم. وبعد أن نودي بملكية الأمير عبد الله في دمشق في اليوم التاسع من مارت 1920 طلب إلى شيوخ جميع القبائل أن توقع على وثيقة يطلب فيها منه أن يتوجه لتسلم مملكته.

____________

1- آيرلاند الص 201.

ولا شك ان (المس بيل) كانت في وضع يمكنها من الإحاطة بجميع مايحدث، ولا سيما في المدن المقدسة التي كانت توليها عناية خاصة وترقب سير الأمور فيها بعين بصيرة. وكثيراً ما كانت تزور النجف على الأخص وتتفقد الأحوال والاتجاهات فيها لتكون الاستخبارات التي تجمعها كاملة عندها من جميع الوجوه. فقد زارتها في الأيام الأخيرة من سنة 1919 قادمة من منطقة الشامية مع الحاكم السياسي (نوربري) ومعاونه (الكابتن مان). ولذلك نجدها تكتب عن النجف في رسالتها(1) المؤرخة في 4 كانون الثاني 1920 بأنها فرحت لأن منزلتها في هذه المدينة المقدسة أصبحت تعلو ويزداد شأنها. فقد كانت من قبل لا يمكنها أن تواجه المجتهدين ورجال الدين الكبار على حد تعبيرها ولا تطمع في ذلك، لأنهم لا يجيزون أن تقع عيونهم على امرأة سافرة. غير أنها في هذه المرة استطاعت أن تواجه مجتهداً من الصنف الأول كما تزعم، وكان من العلماء العرب لا الايرانيين، بعد أن طلب اليها من تلقاء نفسه أن تأتي إلى مقابلته. وهي تقول ان النجف مع كونها غامضة متعصبة فإن المرء ينجذب اليها انجذاباً غريباً يشوبه الاحجام، بجمالها وعمق غورها الذي لا يسبر.

 في أيام الثورة العراقية سنة 1920

وحينما وقعت الواقعة الأولى من وقائع ثورة 1920 في الرميثة يوم 30 حزيران على أيدي الظوالم، نرى المستر (فيليب آيرلاند) يشير إلى ان القلاقل المحلية هذه هي التي أشعلت نيران الثورة الكبرى فحاصرت القبيلة بأجمعها حامية الرميثة ودوائرها الحكومية بإيعاز من النجف والكوفة. ويعطف على ذلك قوله في صفحة أخرى: وفي الثلاثين من تموز ظهر (السيد هادي المكوطر) في منطقة السماوة قادماً من النجف وركّز نفسه في الخضر، والمزعوم أنه كان

____________

1- رسائل غير ترود بيل The he Letters of Gertrude Bell Selected &Edited by Lady Bell, London

 مزوداً بمبالغ جسيمة من الذهب… وقد انضم اليه عدد آخر من السادة ورجال الدين وراحوا يبشرون في الغراف والشطرة والخضر بالجهاد الذي أعلن في كربلاءفي السادس من آب(1). ويستند (آيرلاند) في ذلك على تقرير الملازم (ب هيات) معاون الحاكم السياسي في الرميثة المؤرخ في 10 آب، وعلى مذكرة (الميجر ديلي) الحاكم السياسي في الديوانية التي قدمها إلى المراجع المختصة في 26 آب حول نشوب القلاقل في الرميثة. أما (السر آرنولد ويلسن) فيؤيد تحريك الوطنيين في النجف (للظوالم) في الرميثة على الثورة، ويضيف إلى ذلك قوله ان الظوالم قد تشجعوا بالتطمينات التي بذلت لهم بأن شروط الانتداب كانت تحظّر على البريطانيين استعمال القوة العسكرية ضدهم، وإن جميع هذه القوات تقريباً كانت قد سحبت إلى الهند وإيران(2)

أما سير الحوادث في الكوفة والنجف نفسها فيذكر ويلسن ان الحاكم السياسي (الميجر نوربري) قد دبر تهدئة الحال فيها خلال أيام الثورة الأولى. وقد ساعده على ذلك أنه كان قد ادخر كثيراً من الأرزاق والأقوات التي حصل عليها محلياً، فساعد هذا السلطات العسكرية على حرية العمل والمحافظة على السكينة. كما يقول ان (الميجر نوربري) و (الكابتن مان) كانا محبوبين في المنطقة، وان عشائر الشامية كانت قد بقيت هائدة لولا الانتكاسات التي أصيب بها الانكليز في الحلة والرميثة والسماوة. ولا شك انه يقصد من ذكره الحلة في هذا الشأن موقعة (الرارنجية) المشهورة. ثم يقول ان الأعمال التأديبية التي جرت في النجف على أثر مقتل الكابتن مارشال معاون الحاكم السياسي فيها كانت لا تزال تأثيراتها القمعية في الناس سارية المفعول.

____________

1- آيرلاند، ص 206 ـ 208.

2- ويلسن ص 278، ج 2.

 ولهذا قوبل اعتقال المرزا محمّد رضا(1) نجل المرزا الشيرازي في كربلاء يوم 22 حزيران ببرود، وهدوء لم تكن تنتظره السلطات الإنكليزية نفسها من أهالي النجف. على انه يذكر أيضاً أن الميجر (نوربري) دبر مقابلة لرؤساء (آل فتله) في مضيف الشيخ مجبل الفرعون في اليوم الأول من تموز 1920 لتهدئتهم، لكن المقابلة لم تكن مثمرة على ما يقول وكانت مقرونة بتجمعات وحركات معادية من بعض الأشخاص. وفي يوم 5 تموز اجتمع (الكابتن مان) بالشيخ (مرزوق شيخ (العوابد)) المجاورة لاُم البعرور (الشامية)، من دون أن يكون هذا الاجتماع مفيداً أيضاً. على أنه يذكر في هذه الأثناء قولا للسيد علوان الياسري يعتقد أنه كان معبراً عن شعور الكثيرين في تلك الجهات فقد خاطبه السيد علوان قائلا “لقد قدمتم الاستقلال لنا، ونحن لم نطلبه ولم نكن نحلم بشيء مثله حتى أدخلتم فكرته في رؤوسنا. وقد عشنا مئات السنين في حالة بعيدة جداً البعد عنه، وحينما جئنا نطلب الاستقلال منكم الآن أخذتم تسوقوننا إلى السجون”. ولا ندري ما هو نصيب هذه الرواية من الصحة!

ثم يأتي ويلسن في كتابه(2) على ذكر الحالة العشائرية بالتفصيل، ويتطرق إلى قيام شيوخ (آل فتله) بالتأثير على عشائر بني حسن وآل شبل وجرهم إلى جانبهم بالمال، فقد تسلم منهم الشيخ علوان الحاج سعدون مبلغ ألف باون(3). لكن الإنكليز بادروا إلى دفع ألفي باون إلى آل شبل بواسطة شيوخ الخزاعل ليحافظوا على السكينة.

____________

1-   تقول المس بيل في مذكرتها عن الحكم الذاتي في العراق المشار اليه من قبل ان الشيخ محمّد رضا الشيرازي هذا كان على اتصال وثيق بمشاغبي النجف.

2-   ويلسن الص 296، ج 2.

3-   ظهر فيما بعد من تصريح الحاج عبد الواحد الحاج سكر زعيم آل فتله ومن تأكيد الشيخ عبد الكريم الجزائري بأن جميع ما نسب إلى الشيخ علوان الحاج سعدون وأخيه الشيخ عمران الحاج سعدون لم يزد على إشاعات نسجتها الأغراض. (على هامش الثورة العراقية)

 على ان كفة الثوار قد رجحت في الأخير بتدخل السيد (نور الياسري) بنفوذه العريض وثروته الطائلة فبدأت عشائر آل فتله محاصرة الكوفة في 13 تموز، وتم إحكام الحصار عليها في يوم 20. ثم قتل (الكابتن مان) بعد يومين وهو يدافع عنها، ولم يرفع الحصار إلاّ في 17 تشرين الأول أي بعد مدة تناهز الثلاثة أشهر، ومما يرويه ويلسن عن هذا الحصار ان الحامية التي اضطرت إلى أكل الرز ولحم الخيل في الأسابيع الثلاثة الأخيرة من أيامه قتل منها خمسة وعشرون شخصاً وجرح سبعة وعشرون لأنها كانت تتعرض لقصف المدفعية من الثوار أحياناً، بواسطة المدفع (عيار 18) الذي غنموه من الإنكليز يوم 24 تموز 1920. وقد استطاع الثوار تدمير الزورق المسلح “فاير فلاي” الذي كان يعود للإنكليز بواسطة هذا المدفع أيضاً ويثني كذلك على “الشبانة” الذين كان معظم جنود الحامية في الكوفة منهم، لأنهم صمدوا لضغط الثوار الحربي والمعنوي، واحتقار الناس وازدرائهم بهم. ثم يشير إلى منع الذين ماتوا منهم في خدمة الإدارة البريطانية من الدفن، وإجبار زوجاتهم في كثير من الأحيان على تركهم والعودة إلى آبائهم، واضطهاد أبنائهم وأقاربهم في الشوارعوالطرقات. وقد لاذ علماء النجف الكبار، وعلى رأسهم المجتهد الأكبر السيد كاظم اليزدي، بالصمت الوجِل كما يزعم(1) لكن رجال الدين الصغار شاركوا قادة الحركة الوطنية في تحريض الجماهير على الثورة، ومناشدتها باسم الدين والقومية العمل على استئصال شأفة الاحتلال العسكري والقضاء على آخر أثر من آثاره.

ومن أهم ما يذكره ويلسن(2) عن النجف في هذا الشأن أنها، وهي كائنة على بعد أميال قليلة عن الكوفة، قد تجمع فيها حوالي مئة وسبعين أسيراً بريطانياً من أسرى الحرب، وكان حوالي ثمانين أسيراً منهم ينتمي الى “كتيبة مانشستر”. وكان هؤلاء قد تم أسرهم في يوم 24 تموز، وورد أول خبر إلى السلطات البريطانية عن مصيرهم من حميد خان الذي كان قد تعين منذ شهر كانون الأول 1917 وكيلا عن الإدارة البريطانية فيما بين النهرين في النجف. وهنا يعزو الفضل في المعاملة الحسنة التي عومل الأسرى بها إلى ما بذله حميد خان من جهود في سبيلهم. لأن حميد خان كما يروي بقي صامداً في النجف برغم تحذيرات أصدقائه وتهديد أعدائه. وقد أخبر السلطات البريطانية بأن الأسرى لم تعاملهم القبائل الثائرة معاملة حسنة، وأجبرتهم على السير على الأقدام من الكوفة إلى أبي صخير وهم حفاة عراة تقريباً. على ان قسماً منهم كان قد احتجز في النجف ثم نقل بعد ذلك إلى الخارج بالنظر للموقف العدائي الذي كان يقفه الأهلون منهم. ومع هذا فقد جُمعوا كلهم في النجف مرة ثانية، وهناك لم يدخر حميد خان وسعاً في السهر عليهم وتأمين راحتهم، واعداً وجوه البلد وأعيانه بالتعويض عن كلّ ما يصرفونه عليهم من مال ونقود بعد أن تستقر

____________

1-   لم يكن السيد كاظم اليزدي حياً في هذا الوقت من حصار الكوفة.

2-   ويلسن الص 298.

 الأمور وتهدأ الأحوال. ومما يدل على المعاملة الحسنة التي عومل الأسرى بها على هذا الأساس الحالة الصحية الجيدة التي كانوا يتمتعون بها حينما تم إطلاق سراحهم فيما بعد، ولم يصب أحد منهم بسوء سوى موت أحدهم في أيام الأسر(1). وهنا ينبري ويلسن لتنفيذ ما يذكره السر (أيلمر هولدين)(2)، قائد القوات البريطانية في أثناء الثورة، في كتابه (الثورة العراقية) عن سوء معاملة العرب في العراق للأسرى الإنكليز. فهو يقول في ذلك ان العرب والأكراد لم تعرف عنهم حوادث قسوة وتمثيل تلفت النظر إلاّ حينما كان الأتراك يوجهونهم إلى ذلك. وهو يتذكر ان شيئاً ذا بال قد ورد من هذا القبيل في تقارير الاستخبارات التي مرت عليه(3)

تهدئة الأحوال,والملاحظ فيما يكتبه ويلسن عن الثورة تهجمه على العلماء ورجال الدين، والمرارة التي تتخلل سطوره تجاههم.

____________

1-   في هذا الوقت الذي كان فيه أسراء الإنكليز في النجف ولا سيما في الشطر الأخير من أسرهم كان حميد خان سجيناً بسجن طويريج وتحت رقابة الشيخ عمران الحاج سعدون، أما الانفاق على الأسراء فقد تكلف به الزعيم الروحاني شيخ الشريعة وأناط أمر تكليفه بالحاج محسن شلاش الذي تولاه باسمه، وقد أسهم أهل النجف ـ بمقتضى فتوى (الشريعة) احتساب مثل هذه النفقات من الحقوق الشرعية ـ في مد هؤلاء الأُسراء بشيء من البطيخ والخيار ـ وكان الفصل صيفاً ـ وبعض الفواكه كانوا يضعونها في صفائح من التنك فيجرها الأُسراء اليهم إلى سطح (الشيلان) القلعة التي سجنوا فيها ـ زيادة على ما كانوا يتناولونه يومياً وبصورة رسمية من مصروفات الثورة.

Holdane , Sir Ayimer – The Insurrecton in Mesopotamia,London      1922.

3- ويلسن الص 299، ج 2.

 وهذا شيء منتظر بطبيعة الحال، ويعد من قبل المدح لهم لأنه يبرهن على أنهم قاموا بواجبهم خير قيام في توعية الناس وتوجيههم في شؤون دنياهم ودينهم، وتحريرهم من السيطرة الأجنبية. وآخر ما نذكره هنا من أقواله هذه قوله “ان استفحال أمر العلماء، وتدخل رجال الدين في الشؤون العامة، قد استطاع الملوك المسلمون في إيران والعراق وتركيا على السواء إيقافه عند حده في كثير من الأحوال والمناسبات خلال السنين الأخيرة (كتب الكتاب في 1931). وان الفوضوية والتحريكات الدينية التي حصلت خلال أشهر الثورة العراقية قد بلغت حداً من الشدة والانتشار بحيث كان يمكن بوجودها أن تكتسح العراق عصابات المتعصبين الغلاة، التي لا يقل تطرفها عن تطرف الوهابيين الذين ظهروا في أواسط الجزيرة العربية، لو تهيأت لها شخصية قوية مثل شخصية (حمدان قرمط) الذي ظهر في الكوفة خلال القرن العاشر للميلاد(1)

ولا شك ان الثورة العراقية هذه قد لقنت الإنكليز درساً قاسياً في حكم الشعوب ومعاملتهم، وكادت أن تخرج العراق من قبضة أيديهم لو تسنى لها أن تستقيم مدة أطول. لكنها انتهت بعد مدة تناهز بضعة شهور، ولم يكن بوسع الحكومة أن تأخذ ناحية الأمور بأيديها إلاّ في ربيع 1921 كما يقول (المستر آيرلاند). ويعقب على هذا بقوله ان النهاية ربما كانت قد حلت بأعجل مما وقع لو لم يصد رجال الدين في النجف، المتصلبون في مناوئتهم للانكليز، على أن تجري المفاوضات عن طريقهم فقط. ومما يدل على تدخلهم هذا ما لاحظه الحكام السياسيون في مناطق الديوانية والمنتفك من وصول رسالتين اليهم، واحدة من الفرات الأوسط وأخرى من الغراف، وقد سبكت اثنتاهما بنفس الجمل وعين اللغة.

____________

1- ويلسن الص 301، ج 2.

 وكان فيهما طلب بوجوب تأسيس حكومة دينية وفقاً لقواعد المذهب الشيعي كما يقول الحاكم السياسي الذي كتب التقرير الإداري عن المنتفك سنة 1919.

ويعود (المستر آيرلاند) فيقول في مناسبة أخرى ان مهمة تهدئة البلاد بعد الثورة كانت أهم مهمة في نظر العراقيين والموظفين البريطانيين معاً. وإن السر (بيرسي كوكس)(1) كان قد ترك فكرة تأديب العشائر بشدة، على أنه كان يعتقد اعتقاداً جازماً بأنهم يجب أن يجبروا على الخضوع حتى إذا تطلب الأمر استعمال القوة. ولذلك وقف بعزم وصلابة، كما وقف من قبله ويلسن، في وجه الطلبات المتكررة التي كانت تأتي من رؤساء الدين في النجف وكربلاء بجعلهم وسطاء لدى القبائل التي طلبت هي نفسها أن تكون المفاوضات عن طريق المجتهد الأكبر الذي لا يلقون السلاح إلاّ بإشارة من عنده. ويذكر في الحاشية كذلك ان أهم الشيوخ الذين طلبوا هذا الطلب هو عبد الواحد الحاج سكر ومرزوق العواد. ثم ينهي الموضوع بقوله: وبرفض الاعتراف بمطاليب رجال الدين الشيعة ضرب السر (بيرسي كوكس) ضربته الأولى بالنيابة عن الحكومة الجديدة التي كانت قوة الحل والعقد التي يتولاها العلماء بأيديهم تكوّن عقبة كأداء في طريق تأسيسها. على أن نصف البلاد كانت في حالة ثورة فعلية حينما عاد كوكس(2) لتهدئة الحال على ما يقول آيرلاند. فقد كانت في قبضة الثوار كربلاء والنجف وطويريج والرميثة وهيت وقسم كبير من وادي الفرات بما فيه القسم الأوسط من خطوط السكك، فضلا عن مناطق غيرها في أنحاء العراق الأخرى.

وحينما تألفت الحكومة الموقتة برئاسة النقيب (السيد عبد الرحمن الكيلاني) في 11 تشرين الثاني 1920 عملت على تهدئة الأحوال وإعادة المياه إلى مجاريها الطبيعية في البلاد، فاُعيد الوطنيون المنفيون ومنهم بعض النجفيين، ووصل عدد من الضباط العراقيين الذين كانوا في سورية.

____________

1-   آيرلاند الص 224 من الترجمة العربية، 1949.

2-   الذي عاد إلى العراق بعد أن عينته الحكومة البريطانية في هذه المرة مندوباً سامياً مزوداً بجميع السلطات في 17 حزيران 1920.

 ثم قويت الدعاية لتنصيب أحد أنجال الشريف على رأس الدولة العراقية المقبلة، ورجحت كفة الأمير فيصل على أخيه عبد الله في الأوساط الإنكليزية والعراقية، ولا سيما بعد أن حنثت فرنسا بالعهود فزحفت جيوشها على سورية وقوضت ملكية فيصل فيها على الوجه المعروف.

 مجيء الأمير فيصل

لقد وصل فيصل إلى البصرة في 23 حزيران 1921، وبعد أسابيع ثلاثة نادى به مجلس الوزراء بالإجماع ملكاً على العراق. وحينما كان في طريقه إلى بغداد من البصرة مر بالمدن الفراتية المعروفة (بالقطار) ونزل في الحلة فاستقبل فيها استقبالا حافلا، ومنها توجه إلى النجف وفي صحبته (المستر كورنواليس) الذي جاء معه من الخارج و (المستر فيلبي) الذي ذهب من بغداد لاستقباله ممثلا عن المندوب السامي. وقد جاء في كتاب المستر فيلبي(1) الموسوم (الأيام العربية) عن هذه السفرة قوله: وفي اليوم التالي أقلتنا السيارات إلى النجف لنكون ضيوفاً على رجال الدين الشيعة في تلك المدينة المتعصبة، حيث يرقد آدم وعليّ تحت الطرق الأرضية العميقة ومن فوقها الضريحان السامقان.

1-   – H. St. John Philby – Arsbin Days, London 1948.

وقد ترجم كاتب هذه السطور الفصل المختص بالعراق منه ونشره باسم (أيام فيلبي في العراق) 1950.

 وهنا أيضاً كُرّمنا تكريماً ملكياً وبتنا ليلة واحدة. وقد ابتعدت أنا و (كورنواليس) عن فيصل بكل تبصر لنفسح المجال له بالتعامل مع المتعصبين بطريقته الخاصة هو ـ إذ كان يتحتم عليه هنا على الأقل أن يبذل كلّ ما بوسعه ليفند الانطباع العام القائل بأنه مرشح الحكومة المسيحية للعرش(1). لكن الدكتور (آيرلاند) يذكر عن سفرة فيصل هذه إلى النجف ان العلماء فيها كانوا متحفظين إذا لم يكونوا قد اتخذوا موقفاً عدائياً تجاهه(2)

وقد وصل الأمير فيصل إلى بغداد في 29 حزيران متأثراً بعض التأثر من الاستقبال الفاتر الذي قوبل به في بعض المناطق الفراتية على حد تعبير المستر آيرلاند(3). غير ان الحماس في الترحيب به كان معيداً للاطمئنان في العاصمة حيث حيّاه عند وصوله المندوب السامي وموظفوه وجمهور هائل من وجهاء العراقيين. كما ان الجماهير المحتشدة الهاتفة التي غصت بها العاصمة المزدانة بالألوان الشريفية، الأخضر، والأحمر، والأسود، والأبيض، كانت تعطي دليلا إضافياً على ان المدينة قد قبلت به. وإن الاحتفال العظيم الذي قامت به الكاظمية كان احتفاء شائقاً يضاهي احتفاء بغداد به من قبل(4). ويعمد (آيرلاند) بعد ذلك إلى وصف السلوك الذي سلكه فيصل عند اتصاله بالناس فيقول:.. وان وقاره البسيط وظرفه الشخصي وحديثه الفصيح، الصميمي المفعم بالحكمة، قد تضافر كله في أن يحصل له على ثقة الناس به وتأييد الطوائف التي كان يتصل بها كلها، أي المسيحية واليهودية والسنّية والشيعيّة برغم ان استقباله في النجف وكربلاء كان استقبالا مكبوتاً يلفت النظر(5)

____________

1-   الص 63 من الترجمة العربية.

2-   آيرلاند الص 257 من الترجمة العربية.

3-   كان المسؤول عن هذا الاستقبال الفاتر المستر فيلبي مستشار الداخلية يومذاك، لأنه كان يدعو إلى الجمهورية ويناوىء الملك حسيناً وأنجاله ولذلك اُنهي عمله في العراق والتحق بآل سعود.

4-   الص 257 من الترجمة العربية.

5-   آيرلاند الص 258 من الترجمة العربية.

 بداية الحكم الوطني

لقد سر المندوب السامي وفيصل معاً حينما قرر مجلس الوزراء بالإجماع، في يوم 11 تموز 1921، المناداة “بسمو الأمير فيصل ملكاً على العراق، على أن تكون حكومة سموه حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون.” لكنهما كانا متفقين على ان الحالة ما زالت تدعو إلى إجراء استفتاء عام يثبت للعالم بأن الشعب قد أعطى رأيه الحقيقي لفيصل، على ما يقول آيرلاند.. وعند البدء بإجراء الاستفتاء لم تأل المراجع المختصة جهداً في التأكد من الحصول على النتائج المطلوبة. وقد أبدى المتصرفون والمشاورون البريطانيون في معظم الألوية آراءهم في القرار المتخذ من قبل المجلس. أما في الألوية الأخرى، مثل لواء كربلاء، فقد كان المشاور البريطاني أو الموظفون الحكوميون الذين يعتمد عليهم هم الذين يدعون إلى عقد الاجتماع. وقد تم الاستفتاء بهدوء، إذ وقعت الصيغة الرسمية من دون إضافة شيء عليها في النجف أو كربلاء بفضل الحذق والمثابرة الذين أبداهما المتصرف بينما أضيفت بعض الجمل التي تشترط استمرار الانتداب الانكليزي في أماكن أخرى(1)

ومع هذا كله فقد كانت نتيجة الاستفتاء على تنصيب الأمير فيصل ملكاً في العراق أن حصل فيصل على 96% من أصوات الشعب على ما يذكره (آيرلاند) وغيره من كتاب الغريب الذين كتبوا في الموضوع. وعلى هذا الأساس تمت مراسيم التتويج في يوم 23 آب 1921، وهو اليوم الذي اختاره بنفسه، لأنه كان يصادف يوم “عيد الغدير” عند الشيعة، أي يوم مناداة النبيّ محمّد بالإمام عليّ أميراً للمؤمنين وخليفةً من بعده على حد تعبير آيرلاند(2).

وقد ترتب على الدولة الجديدة التي ظهرت للوجود بتتويج الملك فيصل ملكاً على رأسها، أن تنظم علاقتها بالدولة المندبة (بريطانيا العظمى) بمعاهدة تعقد بين الطرفين فتحل في محل صك الإنتداب. غير ان لائحة المعاهدة التي نظمها الإنكليز وطالبوا بالتصديق عليها قد تضمنت في تضاعيفها معظم القيود التي يفرضها على العراق صك الانتداب نفسه. فتكونت بهذا السبب في البلاد المعارضة، التي كانت تحظى بالمؤازرة والتأييد من الملك نفسه.

____________

1-   الص 161 المرجع الأخير.

2-   الص 262 المرجع الأخير.

 وقد كان الرأي العام النجفي، وعلى رأسه العلماء، يؤيد هذه المعارضة ويعمل على رفض المعاهدة التي أقرها مجلس الوزراء في يوم 25 حزيران 1922 بشرط أن يصادق عليها المجلس التأسيسي عند التئامه. ومما يدل في اشتراك النجف الفعلي في هذه المعارضة ان علماءها انتهزوا فرصة اعتداء الوهابيين المتكرر على الحدود العراقية، وأبرقوا إلى سماحة الشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية بالدعوة إلى عقد مؤتمر في كربلاء يحضره رؤساء العشائر وقادة الرأي العام في البلاد لوضع خطة موحدة تستهدف دفع الخطر الوهابي عنها. ويذهب المستر (آيرلاند) إلى ان الوطنيين والعلماء قد انتهزوا فرصة انعقاد المؤتمر في يومي 12 و13 نيسان 1922 فعقدوا اجتماعات عدة لوضع خطة خاصة لتنظيم الحركة الوطنية بوجه عام. ولذلك نجده يقول ان جلسات المؤتمر الرسمية برغم أنها لم تؤد إلاّ إلى نتائج قليلة لا تخرج عن تقديم العرائض فإنّ الاجتماعات الخاصة التي عقدت كانت أكثر انتاجاً. فقد نتج عن هذه الاجتماعات تنظيم الكثير من الحركات المتأخرة(1)

وحينما صدرت الإرادة الملكية في 19 تشرين الأول 1922 بأن تبدأ انتخابات المجلس التأسيسي في يوم24تشرين الأول كان رد الفعل بعيداً كلّ البعد عما كان يتوقعه المعنيون بالأمر على ما يقول (آيرلاند) “فقد اتفق العلماء والوطنيون ومجموع الشيعة في معارضة تنفيذها، وأقنع علماء النجف والكاظمية باصدار الفتاوى في أوائل تشرين الثاني في تحريم أي اشتراك كان في الانتخابات. وقد صدرت الفتاوى من علماء النجف والكاظمية مجتمعاً في 8 تشرين الثاني، ثم أعقبتها فتاوى اُخرى أصدرها العلماء على انفراد.

____________

1-   الص 275 المرجع الأخير.

وعلى هذا الأساس استقالت اللجان الانتخابية في النجف وكربلاء والحلة والكوفة، وأعلن الموظفون في الكاظمية عن فشلهم في تأليفها”(1)

فبُذلت جميع المساعي لاسترضاء العلماء ولكنها لم تنجح، لأن الفتاوى اُعيد إصدارها في حزيران 1923 وقد ذهبت المحافل البريطانية الرسمية إلى أن العلاج الوحيد للمشكلة هو اتخاذ الاجراءات الشديدة ضد رجال الدين أنفسهم، لأن الفرصة لا يمكن أن تسنح لإلقاء الرعب في نفوس الجماهير بحيث يمكن للانتخابات أن تسير في مجراها الطبيعي إلاّ بإسكاتهم. وكان رئيس الوزراء (عبد المحسن السعدون) يرتأي هذا الرأي أيضاً، إلاّ ان الملك فيصلا تمادى في أمله بأن يسترضي العلماء بالطرق الأخرى. على انه حينما حصلت اصطدامات في 21 حزيران بين الشرطة وسكان الكاظمية وجد الوزراء، بتحريض مستشاريهم الانكليز، ضرورة لاتخاذ إجراءات صارمة للثأر لهيبة الحكومة. فأمر مجلس الوزراء بعد حصوله على موافقة الملك فيصل الذي تلكأ فيها، باعتقال الشيخ مهدي الخالصي ونجليه حسن، وعليّ، مع ابن أخيه وإبعادهم إلى خارج العراق. فنظمت على أثر ذلك مظاهرة احتجاجية في الحال، وقد قام بها رؤساء الدين في النجف، ثم ترك البلاد إلى إيران جماعة مؤلفة من تسعة علماء مهمين مع خمسة وعشرين من أتباعهم إظهاراً للسخط واحتجاجاً على ما تم(2). والظاهر ان هذه التدابير التعسفية لم تؤد إلى حل المشكل، وإنما أدت إلى اضطرار الوزارة السعدونية إلى تقديم استقالتها في النهاية. وبرغم ان تبدل الوزارة في مثل هذا الوقت الحرج كان شيئاً مقلقاً على ما يروي المستر (آيرلاند) فإنه هيأ فرصة مناسبة للملق باسترضاء الشيعة الذي كان متلهفاً إليه. ولا يعرف كيف حصلهذا “الاسترضاء” الذي يشير إليه (آيرلاند)، ولكن المعروف ان الوزارة الجديدة التي ألفها جعفر العسكري كان من بين أعضائها الحاج محسن شلاش وهو نجفي الأصل كما لا يخفى ومحمّد حسن أبو المعالي وهو من كربلاء.

____________

1-   الص 307 المرجع الأخير.

الص 308 المرجع الأخير.

 

ترجمه وكتبه
جعفر الخياط
الحائز على درجة اُستاذ علوم M.SC. من جامعة كليفورنيا
ومدير التعليم الثانوي، والمفتش الاختصاصي، في وزارة التربية سابقاً

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.