الخميس , 21 نوفمبر 2024
الرئيسية » علوم وأدب » المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم ـ2ـ

المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم ـ2ـ

من مجالس جماعة الرابطة الأدبية:

الحكاية الثامنة:

وسافر رابطي آخر ولم يكن سفره في البدء اغتراباً كصاحبيه الآنفي الذكر، وإنما كان سفراً اعتيادياً لغرض إكمال دراسته في ربوع القطر المصري، ومكث في القاهرة ثلاث سنوات ومع ذلك فقد عاش تلك السنوات الثلاثة (مغترباً وسط ضجيج القاهرة ومغرياتها، أما كيف كان ذلك فأمر لابد من توضيحه.

ذلك أن من يزور القاهرة أو يسكن فيها من غير أهلها ولم تكن لديه مسكة في دينه أو التزام في خلقه وأدبه فلابد أن يقع فريسة سهلة لمغرياتها

غير إن صاحبنا وهو على ما كان عليه من هدوء في طبعه، واتزان في خلقه والتزام في دينه، فقد عانى ما عاناه من تجنب التورط فيما لا قدرة له على دفعه وبسبب من ذلك عاش أيامه تلك في الوسط الجامعي بين أقرانه من الطلبة الوافدين والمقيمين وحتى في الحارة التي كان يسكنها عاش مغترباً عما كان يدور من حوله.

وكان إذا ما تعرض إلى موقف من المواقف المغرية التي ينزلق فيها أكثر الرجال اتزاناً ـ وكثيراً ما تعرض لها ـ ينصرف إلى مجموعة من الأدعية يحفظها عن ظهر قلب من الصحيفة السجادية يتعوذ بها ليدفع الشر عن نفسه ثم يعود فيصب همومه على علبة سكائره، فتراه يشعل الواحدة بعد الأخرى حتى لتحسب أن روحه تتطاير شظاياً مع دخانها، وكان أصحابه في الرابطة يعرفون عنه هذه الخصلة فكتب له أحدهم هذه الأبيات يداعبه، ويمزح معه فيها، وأرسلها إليه قائلاً:

سـلام. وما كنت أملك غير الســـــــــــلام
ســــــــــلام. وأجمل ما في الحياة السلام
علــــــــــــــــيك. على النيل. حيث المثام
يطيــب إذا ما تهــــــــــــــــــادى الظلام
على شاطئيه، وكـــــــــــان الزحـــــــــام
فلا همــــــــس إلا حكايا الغـــــــــــــرام
ولا فهم إلا عليــــــــه ابتســــــــــــــــام
ولا طرف إلا كان المـــــــــــــــــــــــدام
تشد بأهدابــــه كلمـــــــــــــــــــــــــــــــا
تلفــــــــــــت، سلم، رد الســـــــــــــــلام
****

                                              وأنــــــــــت: ولم أدر ماذا لـــــــــــــــــديك
كأني بها حين مــــــــــرت علـــــــــــــــيك
وضعت يديـــــــــــــــــــــــك على ناظريك
ورحت، ومفزعــــــــــــــــــك (الحوقلات)
ولفافه التبغ تكوي يديـــــــــــــــــــــــــــــك
يقول تمتع إذا شئت (هيــــــــــــــــــــــــــك)
فإن طريقة هذا الزمـــــــــــــــــــــــــــــــان
لقاء فحب، فوعـــــــــــــــــــــــــــد، (فـ…)

وحسن وصلته هذه الأبيات كان قد فرغ تواً من وضوئه وتهيأ للذهاب إلى صلاة الجمعة في مسجد سيدنا الحسين(الشيخ علي الشرقي) فكتب وهو في طريقه لأداء الفريضة جوابها على ورقة صاحبه نفسها وأعادها إليه في البريد قائلاً:

                           تركت إلى الناس (سقط المتاع)            فـإن شئت أرسلت منه إليـــــــك
متاع رخيـــــــــــــص، ولكنني            أكـــــــــــــــــاد أحاذر منه عليك
مساحيق رونقها من بعيـــــــــد             يخادع منظــــــــــــــرها مقلتيك
تطير أمانـــــــــــــيك في إثرها            وتصحــــو ولا شيء في راحتيك
ولو كنت أرغب في مثلــــــــها            فما أيسر الأمر لو شئت (هيــــك)

الحكاية التاسعة:

وبعد أن وصل الحديث بنا معهم إلى (الاغتراب) ومعاناته في مجمل حياتهم سواء كانوا مقيمين أو راحلين، فإن هناك صوراً أخرى من اغترابهم جديرة بأن لا نتعداها، كانوا يلونونها بالظرف والمفاكهة أحياناً وبالجد أحياناً أخرى.

والاغتراب كما جاء في بعض تعريفاته يختلف باختلاف أمزجة الناس وطباعهم وميولهم ونظرتهم إلى الحياة ثم باختلاف البيئات التي يعيشون فيها والأعمال التي يزاولونها فإذا كنت مثلاً غير منسجم نفسياً مع عملك الذي تزاوله فأنت مغترب حتى لو أحسنت تأديته.

ذلك موضوع يطول بنا الحديث عنه لو أردنا البحث فيه من جميع نواحيه ولئلا نثقل على القارئ ونحرج على غرضنا الذي وضعنا هذا الكتاب من أجله وهو رصد المفاكهة والظرف في أدبياتهم لذلك فسنقتصر على الجانب الذي يهمنا فيه وهو نظرة بعضهم إلى العمل الذي فرض عليهم فرضاً، ورأي ذلك البعض فيه وتصوير معاناتهم في استجابتهم لمتطلباته ولا يعني ذلك الانتقاص من ذلك العمل أو رفضه بقدر ما يعني أنه كانوا يضيفون ببعض التزاماته، فيعبرون عن ذلك الضيق بتلك النتف الأدبية المتفرقة التي هي أقرب إلى المفاكهة والظرف منها إلى الجد في رفضه أو الانتقاص منه.

سئل أحدهم ذات يوم هذا السؤال:

ـ لماذا طرحتها عن رأسك؟ وأنت ممن يليق بلك أن ترتديها وتليق هي بك؟؟ فأجاب بهذا الجواب الطريف:

ـ لأنها منعت رزقي وفسقي.

وكيفما كان فقد كان هاجس القوم هذا من أقسى وأقوى هواجس بعضهم والهم الأشد من همومهم المائل أمامهم دائماً، لا أظن مجلساً من مجالسهم خلا من ذكره، أو الإشارة إليه تارة يصرحون به علانية وأخرى يرمزون له رمزاً أو يومئون إيماءً وهم في كل حالاتهم يؤطرون الحديث عنه بالظرف تارة وباللامبالاة تارة أخرى، وبالجدية المؤلمة حين لا يجدون مفزعاً منها إلا إليها.

انتدب أحدهم ليكون (إماماً) ومرشداً دينياً في إحدى إمارات الخليج العربي وكان بعض سكان المدينة التي كان مسجده فيها قد عودهم من سبقه إليهم بالإرشاد، على الظهور أمامهم بمظاهر، ومواصفات وأساليب اعتبروها جزءاً متمماً لوظيفة المرشد الديني فكان عليه أن يعيش وقوراً متزناً بطيء الخطى قليل الكلام لا يضحك إلا في الحالات الضرورية جداً ولا يمزح ولا يلبس من اللباس إلا ما يدل على زهده وتقواه إلى آخر تلك المظاهر التي استقرت قواعدها في أذهان البسطاء منهم باعتبارها من مستلزمات ذلك العمل.

وما كاد يمر عليه شهر واحد حتى وجد نفسه (مغترباً) وسط ذلك الجو الغريب الذي أحاط به، ومسكه من خناقه، ودار سؤال على شفتيه يسأل نفسه عن نفسه قائلاً، (من أنا؟) وكيف انتهى إلى مثل تلك الحالة؟ وظل هذا السؤال يؤرقه دون أن يدرك له جواباً.

وفي ساعة قاسية من تلك الساعات الثقيلة التي مرت عليه تذكر أصحابه ومجالسه الرابطية وضحكاته معهم ومداعباته ومرحه وخفة روحه وكيف كان متفائلاً ظريفاً لا مبالياً ثم كيف تحول بين عشية وضحاها فتمشيخ، فأصبح إنساناً وقوراً ثقيلاً متأملاً متأنياً مسبحاً متهجداً واعظاً حتى ضاعت عليه حقيقة ذاته وما عساه أن يكون.

وقد سمع أصحابه في الرابطة بما انتهى إليه حاله فأخذوا يراسلونه ويمزحون معه ويؤكدون له بأن نجاحه سيكون مضموماً أكثر فأكثر لو استعمل بعض الأساليب وأتقنها مما استقر في أذهان البسطاء من الناس بأنها جزءا من مظاهر الزهد ومستلزماته، وأنها مكملة لمواصفات المرشد الديني الذي يطلبونه ويطمئنون إليه ويمكنونه من نفوسهم وأموالهم، وزودوه ببعض الوصايا الطريفة لاتخاذها سلوكاً له في حياته الجديدة.

وقد اقتلعته تلك الرسالة من مكانه اقتلاعاً وتركته لا يعرف كيف يوفق بين ذاته المرحة اللطيفة السهلة وبين ذلك الأمر الذي صار إليه فكتب إليهم يقول:

إخواني…

لابد إنكم عن حالي تسألون وإن كنت أظن إنكم بما أكابد تعلمون، آه آه، من وحشة المكان، وطول السفر، … آه… آه، لانعدام الأنيس وثقل الجليس، لقد ضقت بما أحاط بي ذرعاً وسنصبر على بلائه حتى (يوفونا) أجور الصابرين.

سؤال واحد جابهني وأنا أبدأ حياتي هنا، لا يزال يقف أمامي وأقف أمامه حائراً هذا السؤال هو (من أنا؟!) أجل من أنا؟ هكذا بكل عنف وقوة وتحد يولد في نفسي، في أعماقي ربما حاولت أن لا أصغيه السمع فلم أقدر، لقد كان قدري وعليّ أن أعيه، إنني أكاد أنكر ذاتي وأجهل حقيقتي، فمن هو ذلك الغريب الذي استطاع أن يبعد (أنا) ذاتي فيكون (الأنا) الجديد في داخلي ربما أنه ليس غريباً عله الوجه الآخر لذاتي عله ازدواج الشخصية التي تعودناها، بل ربما كان هو انشطارها، ربما كان، لا… لست أدري، لا لست أعلم.

وعلى كل حال، إنني لا أريده، إنني أكرهه، إنني أكره، أريد ذلك (الأنا) الذي كان ضاحكاً، متفائلاً، لا مبالياً، أين هو من هذا الثقيل الوقور المتأمل المتأني، حين يقول وحين يمشي المسبح المتهجد الواعظ، الوا… أنه يلح عليّ بالتقرب، ويغريني بالمعرفة، سخرت منه، ضحكت، لكنه لم يعبأ بك سخريتي، وهزئي ويروح يدنو مني يدنو يقترب يكاد يخنقني، صارعته صرعني ألح عليه بالسؤال: من أنت أيها البغيض؟ من أنت أيها الغريب؟ إنني لا أعرفك، أجهلك، أمقتك، ابتعد عني، وهو متمسك بي قابض عليّ بإصرار، يجرني إليه، يطويني، وأنا أتمتم، ابتعد عني، غريب… غريب، إلى آخر الرسالة وهي طويلة لا أجد ضرورة إلى نقلها كاملة، وفيما ذكرت منها الكفاية وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على مزاج القوم، وكيف كانوا يفهمون حياتهم ثم كيف كانوا يرغبون أن يصرفوها.

 

الحكاية العاشرة:

وهناك رسالة أخرى كان قد كتبها قبل هذا الشيخ شيخ آخر منهم، وأرسلها إليهم بعد أن ضاق ذرعاً بمهنته حين وجد نفسه مختنقاً بقيودها، منسحقاً بالتزاماتها وأعرافها، فقرر العزم على أن يفر منها ما أمكنه الفرار، فكتب إليهم من بعض ما كتب هذه الرسالة قائلاً:

(أخواني: لق عزمت على طرحها عن رأسي، وخلع تلك الأثواب الفضفاضة الضافية الأكمام والذيول لأنفض عن كتفي الواهنين تلك المهابة المجللة بالوقار التقليدي الثابت اللون، المضمخة برائحة الأجداد الطاهرين الأطياب أجل… سوف أضعها وأنا أعلم أنها هي الرابحة في هذا الفراق بيننا، فو الله لقد جنيت عليها أكثر من جنايتها عليّ، لقد كان موضعها من رأسي طول عهدي بها نابياً قلقاً، ولقد علاها الضجر من هذا الموضع القلق حتى صارت تنظر الساعة التي ينقطع فيها حبل الصلة بيني وبينها كما ينتظر السجين المقيد ساعة الخلاص.

لقد جنيت عليها مثلما جنت هي عليّ، فما خلقت أنا لها وما خلقت هي لي، لولا أني في فسحة من العذر تسع الذنب وإن كان ذا خطر عظيم، لقد أقبلت عليها أعتمر بها وألبس لها لبوسها، وأنا أحمل لها في نفسي أسمى معاني الاحترام واستشعر في حنايا صدري أعذب مشاعر الإيمان بما ترمز إليه من فضيلة النفس بأطهر معاني الفضيلة، لقد أقبلت عليها إقبال الظامئ على الماء العذب… مدفوعاً بنزعة بعيدة الغور إلى المثل العليا وإلى الحياة الروحية المغلفة بالقدس والطهارة والجمال العلوي الرفيع، تلك النزعة التي زينت لعيني بهاءها وحببت لنفسي الانقطاع إلى كنفها الروحي وهفت بي إلى جلال، فأقبلت عليها ظامئاً شديد الظمأ وتوجت بها رأسي حاسباً أنني أحمل تاجاً دون أي تاج آخر… ولكن … وآه من لكن هذه.

إنني أحس بأنها تريد أن تلصقني بالتراب، وتقبض على أنفاسي وتشد على يدي، وتضع الكمامة على فمي، لأعيش في أرض مجدبة من الخير والحق والخصب والنور وإنها تريد من صاحبها أن يكون أقل شعوراً من عير الحي والوتد.

لذلك سأضعها وبي ما يعلم الله من ظلمة اليأس ولوعة الظمأ إذ أقبلت عليها إقبال الظامئ على الماء… وها أنا أصدر عنها كما يصدر المحترق بالعطش عن السراب الملتمع الوهاج.

لقد جنت هي عليّ ولكنني في الحق أنا الذي جنيت عليها إذ حاولت أن أكلفها أكثر مما تطيق وحاولت أن تكون رمزاً للمعرفة والحب والجمال وكبرياء النفس كما كانت رمزاً للفضيلة والقدس والطهارة، فإذا بي لا أفهمها وإذا هي لا تفهمني كذلك، وإذا هذا الفراق الأليم يقطع الصلة ما بيننا فتتنفس هي الصعداء وأتنفس أنا اليأس واللوعة).

والرسالة طويلة أيضاً وقد اقتطفت نتفاً منها، ولم أنقلها كلها لأن الغرض أن أشير إلى بعض ما كانوا يعانونه ويتكتمون عليه أو يثبتونه أحياناً على شكل نفثات مؤلمة.

كما جاء في الرسالة التي قبلها… وبعد ذلك كان صاحب هذه الرسالة هو المرحوم الشيخ حسين مروة (الدكتور بعدئذ)، أما الرسالة الأولى فقد كان صاحبها صديقنا العلامة الشيخ محمد الخاقاني.

 

الحكاية الحادية عشرة:

وقد يفزعون أحياناً أخرى لطرح ما لديهم من هموم وبثها على شكل مفاكهة ومزاح كما سنلاحظه في الرسالة التالية التي كتبها صاحبها هو الآخر على شكل قصيدة وأرسها إليهم متظرفاً كما لو كان يريد فيها أن يؤرخ جانباً من حياته، أو يكتبها على نمط (الاعترافات)، وقرئت تلك الرسالة في أحد مواسمهم الأدبية، فثارت عليه ثائرة بعضهم، وتناوشوه بالنقد والتجريح، وتناوشهم هو بدوره بمثل ما تناوشوه به، وظلت المعركة بينهما سجالاً فترة من الزمن تتابعت فيها الرسائل بينهما، وكتب فيها شعر كثير، وفي الصفحة التالية صورة لما حصل بينهما وقتئذ.

كان المجلس حاشداً بمختلف طبقات المستمعين، إذ كان الحفل عاماً، وكان الخطأ الذي اقترفه صاحبنا وأدين به كونه قرأ تلك القصيدة وأعلن ما فيها من اعترافات أمام الجمهور، إذ لو بقي الأمر سراً فيما بينهم لهان الأثر عليهم، ولم يتعد حدود المفاكهة التي اعتادوها في مجالسهم الخاصة. وعلى أي حال فقد ابتدأ قصيدته بالأبيات الأربعة التالية:

                            من العمر قد بقيت مرحـــــــلة          وأحسبها لم تـكن أجمـــــــــــــــله
مضى العمر أوله متعــــــــــب         ويشبــــــــــــــــــــه آخره أولـــــه
طرقت به ألف باب وبـــــــاب          وأكثرهـــــــــــــا بقيت مقفلــــــــه
لأن مفاتيحها مــــــــــاء وجهي         وقد عز عندي أن أبـــــــــــــــــذله

والى هنا فلم يكن في هذه الأبيات ما يستفز أحداً، أو يثير تساؤلاته ولكنه بعد أن استمر في قصيدته ليذكر كيف انتهت به السيل إلى أن يحترف حرفة من سبقه من أهله وكيف أصبح شكله، ومنظره الخارجي مقرفاً في نظره اشرأبت الأعناق إليه وكأنها تستفسر عما يريد أن ينتهي إليه حين قال:

                           سلكت الطريق التي لم تـــــزل            إلى الآن في السير مستـــــعمله
وكان لأهلي بها منـــــــــــــزل            عريق وكانت لهم منـــــــــــزله
كما يأخذ الماء شكل الإنــــــــاء            ويتبع في جريه جـــــــــــــدوله
فأصبحت والرأس في عمـــــــة             يدار، وذقني ما أطـــــــــــوله
وفضاضة جبــــــــــــــــة لا أزال            أحس بها أنها مهــــــــــــــــدله
ثم يمضي يلون هذه الصورة ـ صورته أيام شبابه ـ بما يزيد إيضاحاً في عيون مستمعيه، ثم دعاهم لأن يتخيلوا معه تلك الصورة البائسة لذلك الشاب اليافع اللطيف الذي تمشيخ وهو في زهرة شبابه، فحرم على نفسه أو حرمت عليه أبسط مباهج الحياة ولذاتها في           

حين يرى أقرانه… من حوله:

                          يعبون فيها كما يشتهــــــــــــون           لك فــــــــــــــــــــــؤاد وما أمله

فما كان منه إلا أن صرخ معبراً عن إحساسه بما كان يعانيه صادقاً ومتألماً حين قال:

                          تصــــــــــور شباباً طري الفؤاد          بهذي الصفـــــــــــات ألم ترث له
تصور شباباً بلا أمنيــــــــــــات          يعيش عليها ولا أخيــــــــــــــــــله
فلم يدر عن حاضر ما يــــــكون          ولا هـــــــــــــــــو يعرف مستقبله
يرى صحبه يحضنون الحيـــــاة          وتحضنهم حلــــــــــــــــــــوة مقبله
يعبون فيها كما يشتهـــــــــــــون         لكل فؤاد وما أملـــــــــــــــــــــــــه
ويقبع صاحبنا بالوقــــــــــــــــار          ينوء كما تقبع الأرمـــــــــــــــــــله
يعدل جبته في يـــــــــــــــــــــــد         وأخــــــــــــــــــرى بلحيته مرسله

ثم مضى بعد ذلك يصور مصدر الرزق الذي قدر له أن يعيش عليه، وهو التجول في القرى والأرياف أثناء الموسم الزراعي وانتقاله من مضيف إلى مضيف لغرض إرشاد الفلاحين إلى أمور دينهم واستلام ما تجود به أيديهم عليه من زكاة وصدقات أو عطاء اعتادوا على تقديمه له ولأمثاله أجراً على إرشادهم وتقرباً إلى الله تعالى في طلب معونته، ثم كيف كان مضطراً بحكم حاجته إليهم أن ينسجم مع مدارك بعضهم في الإجابة على مختلف أسئلتهم إجابة ترضيهم حتى لو كانت خلافاً لقناته مما كان أشق ما واجهه في حياته تلك، فاضطر إلى الهرب منها بعد مزاولتها فترة لم تتعد السنة الواحدة من عمره قال:

                          وليتك تنظره بالمضـــــــــــيف          وقدامه النار والمنقلــــــــــــــــــــه
ومن حوله انبطح الزارعــــون          على الأرض في دارة مقفلــــــــــه
عثانينهم من خلال الدخـــــــــان           كما لو نظرت إلى مزبلــــــــــــــه
وأخلاقهم وخصومـــــــــــــــاتهم          إذا حدثت بينهم مشـــــــــــــــــكله
فلابد من حلها بالصـــــــــــــراخ          وإلا فبالسيف والمرجــــــــــــــــله
وليس لديه سوى قولـــــــــــــــــه          إذا اشتعلت بينهـــــــــــــم (لأهله)
وبين يدي شيخنا كتــــــــــــــــــبه        الطوال لمن شاء أن يســـــــــــأله
ففيها لكل سؤال جــــــــــــــــواب         وحل لمـــــــــــــن كان في مشكله
وفيها جميع حظوظ الأنـــــــــــــام          مفصلة هي أو مجــــــــــــــــــمله
وفيها وأحلف لم يك فيهـــــــــــــــا           ولم ير منها ســــــــــوى (البسمله)

وما كاد ينزل من المنصة حتى وصلته ورقة تحتوي على ستة أبيات نظمها شيخ ظريف منهم وأرسلها إليه قائلاً:

                        إن شعراً كشفت نفسك فيــــــــــــه           دون أن تتقي ولم تتحــــــــــــرج
لهو شعر صدقت فيه ولكـــــــــــن           أنت للسر والتكتم أحــــــــــــــوج
اتق الله أيها الشيخ فيـــــــــــــــــــنا           حيث مازال في الخلائق ســـــذج
لا تكن أنت والزمان عليــــــــــــنا            شوكة تلسع اليديـــــــــن وعوسج
خلها عنك نحن أولى بهـــــــا مـنك           وأدنى لها وأتقن منـــــــــــــــــهج
أنت لا تفهم السبيل الذي تحيـــــــاه           فيها لأن طبعـــــــــــــــــك أعوج

فما كان منه إلا أن ارتجل هذين البيتين وكتبهما على الورقة نفسها وأعادها إلى ذلك الشيخ قائلاً:

                       إنني قد هجوت نفسي ونفســــــــــي         هلي ملكي فما لغيـــــــري يزعج
هو ذقني وجبتي ومـــــــــــــداسي           فلماذا ذقونكم تتـــــــــــــــرجرج

ثم اتسع الموضوع بعد ذلك وتدخل فيه آخرون ووصلته أبيات أخرى من شيخ آخر كتبها باللغة العادية الدارجة أوغل فيها معه تهكماً وسخرية لا يتسع المجال لنشرها باعتبارها من الشعر العامي الدارج.

هذا وقد بقي علينا أن نعرف من هو صاحب تلك الجبة الفضفاضة الذي كان يحس بها مهدلة، إنه هو الذي يتحدث إليك الآن من خلال هذه الصفحات مستغفراً لنفسه وغافراً لغيره مما حصل بينه وبينهم في تلك الأيام.

الحكاية الثانية عشرة:

الصراع بين القديم والحديث

والصراع بين القديم والحديث في هذه المدينة تعبير آخر وصورة ثانية عن اغتراب هذه الجماعة ومحنتهم مع بعض أفراد الوسط الذي عاشوا فيه يومئذ كما أشرت إلى ذلك في مقدمة هذا الكتاب.

فقد كان في النجف صراع بين القديم والحديث شأنها الحواضر الأخرى التي تعني بشؤون العلم والثقافة وكانت الرابطة طرفاً مشاركاً فيه إن لم يكن وجودها وفكرة تأسيسها نتيجة لذلك الصراع لولا أنه صراع طغت عليه المفاكهة والظرف أكثر مما اتسم بالجدية والنقاش وذلك بسبب من طبيعة الأديب النجفي اللينة المرحة التي تميل إلى هذا اللون من الأدب.

وقديم النجف فيما مضى من أيامها قد لا يوجد قديم آخر يضارعه، وصل تفكير بعض أصحابه إلى اعتبار قراءة المجلة أو الجريدة سفهاً وفضولاً وإسرافاً في الوقت إن لم تكن محرمة شرعاً، ولعلها قد حرمت بالفعل في وقت من الأوقات وانتقل ذلك التحريم من النجف إلى بعض المدن التي ترتبط بها، وتتأثر بها أدبياً فوصل إلى مدينة (النبطية) في جبل عامل بلبنان، ودعا إليه أحدهم هناك فنظم أديب لبناني فكه هذه الأبيات وأرسلها إلى النجف على سبيل الدعابة قائلاً:

                            حسبت (عامل) في بلواه منفرداً          إذ حرم الشيخ فيه رؤية الصحف
حتى سمعت وبعض الصحب أكد لي     بأن ذلك مأخوذ عن النجــــــــف
كما كان الانتماء إلى المدارس الحديثة وتلقي العلوم فيها من المحضورات أيضاً باعتبارها تدرس بعض علوم الكفرة وقد عارضه كثير منهم لاسيما مدارس البنات منها، مما دفع بعضاً من الشعراء والأدباء الشباب أن يقفوا منهم موقف المجاهرة العنيفة، فنظم في ذلك شعر كثير كان أدنى إلى السخرية والاستخفاف منه إلى المناقشة الجادة الرزينة.

وتدخل الحلال والحرام في كل منعطف من حياة الناس وشؤونهم اليومية كسلاح بتار لا يمكن مجابهته أو تحديه، فكان حلق اللحية مثلاً من المحرمات أيضاً وقد ألف أحدهم رسالة حول هذا الموضوع بعنوان (المنية… في تحريم حلق اللحية) ودار نقاش عنيف حول هذه القضية في وقتها، كان ممن شارك فيه المرحوم الشاعر إبراهيم الوائلي مؤيداً حلقها.

خلافاً للشاعر السيد مهدي الأعرجي فيما يراه بشأنها.

كان السيد الأعرجي قد نظم قصيدة طويلة يتحدى بها ذقون الشباب المحلوقة قائلاً في مطلعها:

                              بذمة التمدن الكــــــــــــــاذب            حلقــــــــــــــك للحية والشارب

أما الوظائف الحكومية فقد كانت هي الأخرى في رأي بعضهم من المحرمات أيضاً لكون الراتب يعتبر (مجهول المالك) لا يجوز تناوله والتصرف فيه شرعاً، إلى أمثال تلك الآراء والتخريجات، وقد انتقد المرحوم علي الشرقي حين سعى لطلب الوظيفة وعين أول ما عين قاضياً فلاكته الألسن بالسوء، ولاموه لوماً عنيفاً، معتبرين قبوله للوظيفة خروجاً على نهجهم، مما دفعه لأن يجيب منتقديه بهذه المزودجة الساخرة قائلاً:

                             أقول: وقد سألتني الرفـــــاق            أأنت على نهجنا خـــــــــــــارج؟
أبى الثمر الفج عن غصــــنه            انفصالاً وينفصل الناضـــــــــــج

وعلى أي حال لقد كان بعض قديم النجف على هذا الشكل، وكان إلى جانب ذلك القديم جيل حديث ناشئ متطلع إلى الحياة يرى الدنيا تهرول أمامه بسرعة وهو واقف يراوح برجليه، يرغب أن ينغمر في تيارها فتمنعه قوة القديم المتسلطة عليه، فكان لابد أن يقع بينهم ما يمكن أن يقع في مثل هذه الحالات، وكان بعض أعضاء الرابطة رأس الحربة في ذلك الصراع.

وقف أحدهم في مجلس حاشد ليقرأ قصيدة اقتضتها إحدى المناسبات فتملكه الحماس أثناء قراءتها فاتجه إلى رهط من الشيوخ كان حاضراً في المجلس وخاطبهم قائلاً:

                           تبعناكم على خطأ سنــــــــينا            وأسفرت الحقيقة فاتبـــــــــــــعونا

وأقيم احتفال تأبيني لأحد العلماء اشترك فيه شاعر منهم بقصيدة وبعد أن انتهى من أداء فروض التأبين عرج على الموضوع الذي كان يومئذ شغلهم الشاغل، فقال من جملة ما قال:

                          سبحانك اللهم نحن كمـا ترى             صبح ولكن بالدجى يتقــــــــــــــنع
فإذا أتيت إلى الشيوخ هـزأت             بالدنيا وما كانت تضــــــــم وتجمع
ما الكون في لغة الشيوخ سوى مدى     تحويه من صغر زوايا أربـــــــــع
والعيش هل هو غير قرص يابس         تقف الحياة به ويغفو المصـــــرع
فإذا اجترأت وقلت هل بلغ المدى        من كان في حلك الزوايا يقبـــــــــع
يبني من الحسك اليبيس وســـاده          والناس في اللجب المعرش تسـرع
ثاروا عليك فكنت صفرة خائــف         هيهات يحفل في صداها البلقـــــــع

إلى أمثال ذلك وهو كثير جداً وهذه بعض الصور التي بقيت في ذهني عنه.

لقد ظل الشباب زمناً طويلاً يترصدون الشيوخ ويتجمعون في كل احتفال يقام لأية مناسبة من المناسبات ويتنادون فيما بينهم ليقفوا من خصومهم بالمرصاد، فإذا ما قرأ أحد الشيوخ قصيدة في حفل ما تراهم يتسابقون إلى التعليق عليها شعراً لاذعاً بمثل وزنها وقافيتها ثم يدسونه إلى ذلك الشيخ دساً، وكان بعض شباب هذه الجمعية هم الذين أخذوا على عاتقهم تلك المهمة وانسجموا معها انسجاماً خلفوا لنا هذه الطرف الأدبية الممتعة.

وفي حفل آخر أقيم في أحد المساجد الكبيرة في المدينة، وقف أحد الشيوخ وقرأ قصيدة كان مطلعها:

                         بيومك الشعر فجر أنت مطلــــعه  فكل قلب له تهتز أضلــــــــــــــعه

فتملك الحماس أحدهم وسيطر عليه حتى أنه لم يستطع الصبر إلى نهاية القصيدة، فقام وخرج من الحفل بعد أن أنش قائلاً:

                        لا تتركوا شعره يجتاح مســـجدنا          إني أخاف إذا استشـرى يطعطعه

وفي مناسبة ثالثة صعد على المنصة في أحد الاحتفالات شاعر من شعراء الشيوخ الغلاظ (صوتاً وصورة) ورج الحفل بقصيدة غليظة مثله، وكان ذلك الشيخ مغرماً بالتعرض إلى الشباب دائماً يتحداهم وينتقص من أدبهم وكان مطلع قصيدته:

                         يا من بيومك فجر الحق يبتـــسم           اليوم باسمك فيه تهزم الظـــــــــلم

وما كاد ينزل عن المنصة حتى أرسلت إليه ورقة مكتوب عليها ثلاث أبيات من وزن وقافية قصيدته، ومن ذلك الشعر المطعم بالعامية الذي كان يمارسونه إمعاناً في السخرية حين لا يجدون تعبيراً أوقع منه أو مناسباً لمقتضى الحال وكانت تلك الأبيات كما يلي:

                       و(حنفش) الشاعر المفضال منفجراً          بخطبة مالها رأس ولا قــــــــدم
دهداه (بيتاً) ثخيناً فوق أرؤســـــــنا          سيل من السخف في أوساطنا عرم
وكيف لم (تنفشخ) أذني بما سمــعت         وقد تهاوت عليـــــــها هذه (الجدم)

إلى أمثال ذلك من المناوشات والمداعبات التي كانت لا تخلو منها مناسبة من المناسبات.

وبالمقابل فقد كان هناك من الشيوخ من يتصدى ويتابع انتاجات الشباب ويعلق عليها جاداً أو مازحاً.

أذكر أنه حين بدأت موجة الشعر الحر تغزو النجف في الخمسينات وتجد لها بعض الأنصار لاسيما في شباب هذه الجمعية حيث حاول بعضهم أن ينحو نحوها وينظم على شاكلتها وينشر شعره أو يقرؤه في حفلاتهم على هذه الطريقة الجديدة، انبرى أحد المشائخ معقباً على تلك الظاهرة الغريبة في حينها فكتب قصيدة ساخرة وفق النمط الجديد يعرض فيها بالشباب هذا بعض ما جاء فيها:

                                               إني لأقدر أن أقول الشعـــــــــــــــــــــــر

                                               فضـــــــــــفاض الكــــــــــــــــــــــــــلام

                                             وبــــــــــــلا قيود أو نظـــــــــــــــــــــــــام

                                             حتى وإن لم يفهـــــم المــــــــــــعنى سواي

                                            من كــــــــــــــان خلفــــــــــــــــي أو وراي

                                            فالشـــــــــــــــعر أفضل ما يكون إذا مشـــى

                                            طلق العـــــــــــــــــنان وما أخشـــــــــــــــى

                                           نقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــد الخــــــــــــــليل

                                           وجميع أرباب العـــــــــــــــــــــــــــــــروض

                                           ممن يطنــــــــــطن كالبعــــــــــــــــــــــوض

                                                              *****

                                           وليسقـــــــــــــــط الشــــــــــــــــــــعر المقفى

                                           ذلك الشعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر الحرون

                                           لـــــــــــــــــــــــــــــــــــم لا يكــــــــــــون؟!

                                           يخلو من المعنى، ومن كل الحواشي والمتون

                                          ليعد من بعــــــــــــــــــض الفـــــــــــــــــنون

                                          وأعد ممن ينظمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون

                                          حتى وإن لم يرض عني سيــــــــــــــــــــبويه

                                          فإلى الجحيم كتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــابه

                                         وعليه منا ما علــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيه

 

وقد تتعدى دعابتهم أحياناً حدودها فينساقون مع طبيعتهم في اختلاق الصور المضحكة الساخرة المفتعلة رغم عدم إيمانهم بها.

ففي ليلة باردة من ليالي الشتاء اجتمع رهط من شباب هذه الجمعية في دار أحدهم ودار الحديث متنقلاً بين الفكاهة الأدبية والنادرة الشعرية وكان محور حديثهم يدور حول صراعهم مع الشيوخ، وحول موقف النجف عموماً وانتصارها دائماً للشيوخ على الشباب باعتبارها مدينة محافظة تحيا على القديم أكثر مما هي تعيش مع الحديث وطفحت السخرية بأحدهم فقال لأصحابه:

ـ اسمعوا لقد نظمت بيتين من الشعر في وصف هذه المدينة التي لا يزال معظم أدبائها وشعرائها كما لو كانوا يعيشون قبل أربعمائة عام ويفكرون بذهنية بديع الزمان الهمداني وصفي الدين الحلي وأضرابهما ثم أنشد قائلاً:

                         سلام على النجف الأشـــــــرف          على البلد الواسع الأجـــــــــــوف
وقفت عليه أطيل الحـــــــــديث           وقوف الخبير على متـــــــــــحف

فأعجب الحاضرون فيها وصفقوا لهما وقرروا أن لا ينفض المجلس دون أن يكملوها قصيدة طويلة وافية بالغرض وبعد دقائق تمت القصيدة .

الحكاية الثالثة عشرة:

هناك صور نادرة الوقوع وطريفة في آن واحد حصلت لبعض منهم على شكل غير مرتقب ولا متوقع فكان لها أثرها في نفوسهم وفي أدبهم وفي سرعة بديهتهم حتى ليكاد الإنسان لا يصدق صدورها عنهم بالشكل الذي صدرت فهي، لولا أنها قد وقعت فعلاً وأنهم كانوا بمستوى ما تتطلبه المناسبة منهم أدباً وظرفاً وحسن بديهة كما لو كانوا متهيئين لما يقع قبل وقوعه.

وتحضرني الآن منها أربع صور طريفة أحب أن أنقلها إلى القارئ عنهم لا لأنها هي كل ما عندهم بهذا الخصوص ولكن لأنها هي كل ما تيسر لي الإطلاع عليه في الوقت الحاضر.

 

الصورة الأولى:

أرق أحدهم ذات ليلة حتى لم يجد إلى النوم سبيلاً ففكر أن يشاغل نفسه بنظم قصيدة اختار لها هذا العنوان (الليل والناس) وبدأ النظم على الشكل التالي وكأنه أراد أن يقول: لست وحدي سهراناً وإنما هناك الكثير من أمثالي:

                                              كم تحت هذا الليل من راض وكم من كاره
من مؤسر قد بات يدأب في حساب نظـاره
أو بائس يذري مدامعه على أطمـــــــــاره
أو عاشق أصلى الغرام فــــــؤاده في ناره
أو أحمق قد ظل مشغــــــولاً بلعب قمـاره
أو نازح يبكي لغربته وبعد مــــــــــــزاره
أو عالم قد بات منحنياً على أسفــــــــــاره
أو …

وحين وصل هذا الحد من قصيدته سمع دوياً هائلاً تفجر في جانب من جوانب داره وشاهد غباراً كثيفاً تصاعد إلى عنان السماء، فخرج مذعوراً من غرفته فألفى زوجته وأطفاله يلوذون ببعضهم من الرعب وشاهد بعض جيرانه وقد تراكضوا مذعورين حيث انهار جانب من بيته.

وبقدر ما أذهلته الحادثة كان ذهنه منصرفاً إلى قصيدته وكأنه وجد ما يضيفه إليها، فعاد وكتب قائلاً:

                                             أو شاعر أمسى يذيع الهم في أشعـــــــــاره
يبني بيوتاً عامرات والخــــــراب في داره

 

الصورة الثانية:

وعاد آخر منهم إلى بيته بعد سهرته المعتادة في الجمعية وهو يرتجف من شدة البرد، فطلب ممن حوله أن توقد له ناراً ولم تكن المدافئ النفطية أو الكهربائية معروفة لديهم أو متيسرة لهم يوم ذاك وكان الحطب رطباً فطلبت شيئاً تستعين به على إيقاده فوجدت كومة من الورق مطروحة على الرف منذ زمن بعيد ظنت أنها أوراق مهملة لا حاجة له فيه، فاستعانت بها على إيقاد النار.

وحين وضعت (المنقلة) ورأى ديوان شعره يتلظى على اللهب.

                           وأحس الحنان والحـــــب فيـه            يتعالى سحائباً من دخـــــــــــــان
ورأى شوقه الملح لهـــــــــيباً             يتلظى من ثورة الغــــــــــــــليان

وكان المتوقع منه أن يغضب وأن يثور عليها، ولكن ماذا ينفعه الغضب وما تجديه الثورة بعد أن وقعت الكارثة وانتهى الأمر واستحال جهد العمر كله إلى رماد تذروه الرياح إن هبت عليه.

وكان الأقرب إلى مزاجه أن ينكفئ على نفسه وينطوي على أحزانه، ثم فزع بعد ذلك إلى قلمه ليصور له بهذا التصوير البليغ الدقيق المؤثر قائلاً:

                           أقبلت في الدجى وبين يديــها             موقد يغتلي من النيـــــــــــــــران
وأنا ثم والشتا يحشد البـــــرد             بجنبي، فيقشعر مـــــــــــــــــكاني
مزبري في يدي تجمد حــتى             خلت إني أراه بعض بــــــــــــناني
وكتابي إذا تأمـــــــــــلت فيه            لم أجد غير رعدة العـــــــــــنوان
وتمثلتها بشوق كما يحضـــن           قلب الغريق ومض الأمــــــــــاني
غير أني نظرتها وتراجـــعت          وفي العين دهشة الحــــــــــــيران
راعني ما رأيت حتــــى كأن           النار تسري لهيبـــــــــها في جناني
وتمثلتها فأحسست قلـــــــــبي           في لظاها يضــــــــــــــج بالخفقان
إنه قلبي الذي يتنــــــــــــــزى           بين جنبي مثقلاً بالأمـــــــــــــــاني
أبصر الآهة الحبيسة يلــــقيها            فتعلوا سحائباً من دخــــــــــــــــان
وأحس الشوق الملح لـــــــهيباً            يتلظى من ثورة الغـــــــــــــــــليان
كل شيء به يلوح لعـــــــــيني            جلياً، حتى رفيـــــــــــــــف الحنان
ثم إني أطرقت وهي إلى جنبي           حيرى، محبوسة التبـــــــــــــــــيان
أي شيء تقوله، بعد أن عاثت            يداها، فأحرقت ديــــــــــــــــــــوان

 

الصورة الثالثة:

ونظير هاتين الحكايتين ما حدث قبل ذلك للمرحوم الشاعر الشيخ علي الشرقي حين توفيت زوجته الأولى بالسكتة القلبية ليلة زفافها، وهي على منصة العرس.

كان الشيخ يستقبل ويودع وفود المهنئين والبشر طافح على ملامحه والأحلام اللذيذة تراود مخيلته بانتظار الساعة الموعودة، وبينما كانت مشاعره ممتلئة بالقناعة والرضا من حياته وليلته مضمخة بالعبير من أحلامه، كان القدر يرصده على عتبة باب مخدع عرسه، وفجأة انقلبت زغردة النساء مناحة وعويلاً وعادت وفود المهنئين لتشيع عروسه المنتظرة إلى مرقدها الأخير.

وتسلل هو مع الناس إلى الحجرة التي أعدها ليوم زفافه، فلمح جثمان صاحبته مطوياً بغلالة العرس البيضاء، وكانت شمعة العرس التقليدية لاتزال موقودة حيث شغل الناس بدهشتهم عن إطفائها، فوقف أمام تلك الشمعة متأملاً وانفجر يخاطبها ويعاتبها بهذا البيت قائلاً:

                           شمعة العرس ما أجدت التأسي            أنت موقودة ويطفأ عرســـــــي

ثم أتممها بعد ذلك قصيدة طويلة مؤثرة هذا بعض ما جاء به:

                           كان حدسي تذكو الليالي شموعاً          والليالي خيبن ظني وحـــــدسي
رقدت رقدة النديم بجنب الكــأس          في ساعة ارتـــــــــــياح وأنس
وبحضن الربيع نامــــــت فماتت           ميتة الورد في ذبــــــول ويبس
رفرفت حولها البلابل خــــــرساً           وبكاها نزع الحـــــــلي بجرس
أسفاً يخرج الربيع الريـــــــاحين           من الترب وهي في الترب تمسي

 

الصورة الرابعة:

ونقل لي أحد سادات الحيرة إنه دعا الرابطيين ذات يوم لتناول طعام الغداء عنده في الحيرة وقد هيأ لهم مجلساً في حديقة داره وكانت حديقة عامرة بأشجارها وتنسيقها وبينما كان الحديث يدور بينهم من شعر إلى نكتة أدبية إلى قصة قصيرة إذ هبط بلبل مهيض الجناح، فقام أحد الرابطيين ليصطاده، فطار عنه غير بعيد فتبعه الرجل فطار ثانية وظل يشاغل أحدهما الآخر حتى تعب الاثنان معاً، ثم فر المسكين منه ليقف على كتف الشيخ اليعقوبي، وكأنه يحتمي به كما لو كان قد عرف عميدهم ولا يجرؤون على انتهاك حرمة المستجير به، فأجاره الشيخ ومنع صاحبه منه ثم سمح له بعد ذلك أن يعاود طيرانه كما شاء فطار وكانت مناسبة طريفة ليقول فيها شعراً على البديهية فقال:

                           أهوى على عطفي بلبل روضة           يشدو بلحن في الغناء رقيـــــــق
فهتفت في صحبي وقلت ألا انظروا     عطف المشوق الصب نحو مشوق
ما بث شكواه إليّ لـــــــــــــو أنه         سلت به الأشـــــــواق غير طريقي
ترك الغصون المورقات مــيمماً          عوداً يراه الحب غير وريــــــــق
يحنـــــــو عليّ هوى فهل بفؤاده          ما في فؤادي من جـــوى وحريق
حـــــــــر للسان شدا ولو جاذبته          لغصصت من خوف الوشاة بريقي

تلك هي حكايات أربع شاءت المصادفات أن تختار أصحابها دون غيرهم من الناس، كما لو كان للمصادفة غرض في هذا الاختيار.

شاعر تنهار عليه داره، وآخر يحرق ديوان شعره، وثالث يستعجل عليه الموت ليختطف عروسه ليلة زفافها، ورابع تلوذ به الطيور وكأنها تطلب حمايته من شر الآخرين، كل ذلك من أجل أن يظل الشاعر إنساناً متفرداً في الغريب من شؤونه وشجونه وأطوار حياته.

 

الحكاية الرابعة عشرة:

وكان المرحوم السيد حسين الصافي قبل وبعد أن أصبح وزيراً من أصدقاء الجمعية المقربين وممن كانوا يألفون صحبته ويأنسون به ويأنس هو بهم وكان كثيراً ما يدعوهم إلى بيته يوم كان في النجف، وبعد أن انتقل إلى بغداد.

وكانت لديه (معزى) جميلة أعجبت واحداً منهم فتعلق بها ورغب لو حصل عليه وأحس الصافي بعشقه له فوعده بإرسالها له.

ويبدو أنه شغل عن تحقيق وعده بينما ظل صاحبنا ينتظر وصولها إليه وقد هيأ لها المكان المناسب واشترى الشعير والحبل الذي سيربطها فيه، وعبثاً كان انتظاره وتطلعه إلى امتلاكها.

وصادف أن دعاهم لقضاء أمسية لديه في بغداد فشدوا الرحال وذهبوا إليه، وبينما كانوا جالسين عنده سمع ثغاءها في الحديقة فأراد أن يذكره بوعده، ويمزح معه فكتب هذه الأبيات وقرأها عليه قائلاً:

                           طــــــال انتظار الموعــــــــــد            واقتص من يومي غــــــــــــدي
ولم يعد في الأفــــــق رغــــــم            النجم غيـــــــر النـــــــــــــــــكد
وهذه الـــــــــوردة فــــــــــــي            البســـــــــتان محض جــــــــلمد
لم نسمع المعزى تناغيـــــــــنا              بلحــــــــــن معــــــــــــــــــــبد…
كــــــــلا ولا عيـــــــــــــــونها…          تهتز كالفـــــــــــجر الـــــــندي
ولا صدى خطـــــــــــــــــواتها             يضــــــــــــــــــــج بالتـــــــــنهد
حتى الشـــــــــــعير بائـــــــــس             والحبــــــــــــــــــــــال ملته يدي

فتبرع أحدهم ليجيبه على البديهة نيابة عن الصافي قائلاً:

                          خــــــــــــذها… ولا تحفـــــــل             بقول لائـــــــــــــم مفــــــــــــند
فيـــــــــا أبا مصعــــــــــــب يا               سلــــــــيل بيت الســــــــــــؤدد
عجـــــــــل بها فقــــــــــــــــلبه              بحــــــــــبها كالــــــــــــــــموقد

غير أن الشيخ استمر في قراءة أبياته مستعرضاً صورتها في ذهنه وكيف ظل يتخيلها طول هذه المدة ويضفي عليها شتى النعوت والصفات قائلاً:

                           شامية بسحر قاسيــــــــــــــون              راحــــــــــت ترتـــــــــــــــدي
وغوطة الشــــــــــــــــــــام لها             قلادة من عســـــــــــــــــــــــجد
من أجل خديها تفــــــــــــــيض            الشمس بالتـــــــــــــــــــــــــورد
يستعرض الغصن للقــــــــياها             صـــــــــــــــــــــــنوف الميـــــد
من لفـــــــــــــــــــــتة الجيد لها             تدرك لطـــــــــــف الجـــــــــــيد
أديــــــــــبة… مرهفـــــــــــــة             تـــــــــــعرف وجه النـــــــــــيقد

إلى آخر ما دار في ذهنه من تخيلات وصفات.

وفي اليوم الثاني عادوا إلى النجف مصطحبين المعزى معهم وفي الطريق ملأت السيارة زعيقاً وثغاء وكانها قد استوحشت مكانها أو استغربت أشكالهم فأراد أحدهم أن يلطف جوها فأخذ يمسح على خديها وعينيها ويداعبها ويقرأ لها شيئاً من شعره باعتبارها:

                            أديبــــــة… مرهفــــــــــــة                 تعــــــــــرف وجه النــــــــــيقد

كما جاء في وصف صاحبها له وأراد أن يفهما بأنها قادمة على مجتمع أدبي مثقف وأنها يمكن أن تصبح في وقت من الأوقات ذات شأن أدبي ملحوظ مثلهم على أساس من المثل القائل (الطبع مكتسب من كل مصحوب)..

غير أنها استمرت تصرخ بأعنف مما كانت عليه سابقاً فالتفت إليه آخر وقال له مازحاً وعلى البديهة أيضاً:

                            دعــــــها فقد أظنـــــــــــــها              تبـــــــــــكي فراق السيـــــــــــــد
حيث الشعـــــــــــــير ينتقى               لها بشكـــــــــل جـــــــــــــــــــيد

فعقب عليه الثاني مؤيداً اهتمامها بالشعير دون غيره قائلاً:

                            إن الشعير عنــــــــــــــــدها              لا (الشعر) خير مقصـــــــــــــــد
حتى ولو أنشــــــــــــــــدتها              أفضل شعر المــــــــــــــــــــــربد
وشعر بشــــــــــــــار، وذي              الرمـــــــة، وابن عجــــــــــــــرد
وكل ما تحــــــــــــــــفظ من              شـــــــــــــــــــــــــعر أبي محسد

فما كان من صاحبهم الأول الذي غره الثناء عليها فظن أنها أديبة حقاً، وأخذ يلاطفها ويداعبها بقراءات من شعره إلا أن يجيبهم مازحاً:

                            إن (الصخــــــــــول) ذوقها               أعرفـــــــه يا سيـــــــــــــــــــدي
كم (صخلة) ما بيـــــــــــــننا              تحـــــــــــــــــــيا بهذا البــــــــــلد
شعري هذا عنـــــــــــــــدها               كالجــــــــــــــــــــوز عند الأدرد

الحكاية الخامسة عشرة:

بينما كانوا جالسين ذات ليلة في الرابطة وكان من بين الحاضرين المرحوم جعفر الخليلي وابن عمه الطبيب الشيخ محمد الخليلي اتكأ أحد المشائخ وأدار طرفه فيمن حوله كمن يبحث عن شيء أو يفكر في موضوع هام وأنشد يخاطبهم قائلاً:

                           إني لمشـــــــــتاق إلى (باجة)             قد طبخت عند خلــــــــــــــــــيلي

فتطاولت الأعناق تستفسر عن المقصود منها هل هو الأديب جعفر أم ابن عمه الطبيب؟! وكلاهما خليليان.

ولكن سرعان ما اندفع جعفر منشداً ليوجه الأنظار إلى ابن عمه ويدفعها عن نفسه قائلاً:

                           لاسيــــــما عند طبيب لكــــــي            نحظى بأكـــل منه صحـــــــــــي

فالتفت ثالث منهم مؤيد الاقتراح قائلاً:

                            نعم وهذا الرأي مستحــــــسن            وحسنه ليس بمخــــــــــــــــــــفي

وهكذا أذعن الطبيب وأقيمت المأدبة ودعي لها آخرون كان من بينهم المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر عميد جمعية منتدى النشر والسيد هادي الفياض مدير إدارتها وكانت مناسبة من مناسبات المفاكهة والانبساط ونظم الشعر.

وبعد أن انتهوا من تناول الطعام وقف الشيخ محمد جواد الشيخ راضي وطلب أن يصغوا إليه وأخذ ينشد هذه الأبيات مخاطباً بها صاحب الدعوة ويشجعه على القيام بأمثالها في المستقبل القريب قائلاً:

                           ناديك للأخــــــــوان مفصــــد           ولصفـــــــوة الأدباء معـــــــــــهد
قد كان مستشــــــــــــفى فعاد           بفضـــــــــــــــل أهل الفضل مربد
فأهنأ بأخــــــــــــــوان الصفا            فهم النجوم وأنـــــــــــــــــت فرقد
ما شئت قل في فضـــــــــلهم           واستشـــــــــــــــــهد الحلبات تشهد
ولأنت فيما بيــــــــــــــــــــننا            أنا لا أظـــــــــــــــــن سواك يوجد
طب ابن سيــــــــــنا، في ذكاء           أياس، في أدب المبــــــــــــــــــرد
لو رمت نظم صـــــفاتك الغرا          مــــــــــــــــــــــــــــــلأت بها مجلد
إن فاض جــــــودك ليس يمنع           فيضخ روف ولا ســـــــــــــــــــــد
عــــــــــــــــودتنا منك الجميل           فعد له، والعـــــــــــــــــــــود أحمد
لو لم يحــــــــــــــــدده اليمين          بباجة لتــــــــــــــــــــــــــجاوز الحد

وبعد أن انتهى من الثناء على صاحبه أجال نظره في الحاضرين ليختار منهم من يستطيع أن يورطه في دعوة مماثلة، فوقع اختياره على (أبي رجاء) السيد هادي فياض فقال:

                           اليوم يومك يا محــــــــــــــمد           وأبو رجاء يومـــــــــــــــــــــــه غد
السيـــــــــــــــــد الشهم الذي           (بأبي خريــــــــــــــــــــرة) قد تفرد

ثم التفت فرأى المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر قابعاً في الزاوية وكأن الأمر لا يعنيه بعد أن تناول الطعام ودارت الدائرة على غيره، فقال يداعبه:

                           أمــــــــا الرضا الحبر المؤيد            فعــــــــــــــــــــلى الولائم قد تعود
ما ضاق طعــــــــــم طعامه            يوماً ولا منــــــــــــــــــــــــه تزود
لم يبق من تلك الــــــرؤوس            لنا سوى العظــــــــــــــــــم المجرد
فكأنــــــــــــــــــــــما أسنانه            مشحوذة أسنان مبـــــــــــــــــــــرد
قلب اليمين على الشمــــــال           وحل مئــــــــــــــــــــــــزره وعربد
وأتى على ذلك الثـــــــــــريد            فمـــــــــــــــــــــــثرد من بعد مثرد
فلأذن تصــــــــــــلم باليمين            وبالشمــــــــــــــــــــــــال تجرد اليد
أكـــــــــل الرؤوس جميعـها             فأسلـــــــــــــــــــــم برأسك يا محمد

وسال سيل التعليقات والمفاكهات الأدبية بعد ذلك إلى أن حل الوقت الذي يستعد فيه صاحبهم لاستقبال مرضاه في عيادته، فتنبه احدهم إلى ذلك وأراد يلفت نظرهم إلى أن المرضى بانتظاره وأن الوقت قد حان إلى خروجهم، فكتب هذه الأبيات وأنشدها قائلاً:

                           هنا حين المكارم تستجــــــــد           وليس لفضل هذا الشيخ حــــــــــد
هجمتم داره فيما فعـــــــــــلتم            فماذا ترتجون لـــــــــــديه بعــــد
فقوموا إنما المــــــرضى لديه           من الــــــــــــــــوجع انتظاره أشد

فأجابهم أحدهم على البديهة قائلاً:

                           ليذهب حيث مرضاه فأنــــــا             إذا ما لم يكن في الأمــــــــــر قيد
سنبقــــــى نائمين هنا إلى أن             يطيــــــــــــــب لنا الرواح فنستعد
فما أحلى الرقــــاد وقد نعسنا             وف أحشــــــــــــــــائنا للأكل وقد

وسرعان ما أيده آخر بقوله:

                           لنعم الرأي رأيك إن نــــوماً              بُعيد الأكـــــــــــــــــل رأي لا يرد

فما كان من أحدهم بعد أن سمع هذا الرأي حتى التف بعباءته وغط في نوم عميق وبعد أن أنشد قائلاً:

                           إذن ناموا وخلوا الشيخ يمضي           لدنياه، يــــــــــــــــروح بها ويغدو
لــــــو أن النوم لم يك فيه نفع             لقــــــال الله لأهل الكهف (اكعدوا)

وبعد أن تيقن صاحبهم بأنهم سيمكثون لديه النهار كله وليس في نيتهم أن يعودوا إلى بيتهم وسيضطر إلى البقاء معهم وعدم الرواح لعيادته فما كان منه إلا أن يلتفت إليهم وينشدهم هذه الأبيات مداعباً ومازحاً قال:

                          أكلتم وانتهيتم، واستــــــرحتم             ويبدو أن ليس لــــــــــــــــذلك حد
كفــــــــاني أن تقولوا: أريحي              له في هذه الحلـــــــــــــبات مجد
فقوموا في أمان الله وامضــوا            ولكني أخاف بأن تــــــــــــــــردوا

ولكنهم لم يقوموا ولم يمضوا وظلوا منبسطين لديه وهو منبسط معهم إلى وقت متأخر من ذلك النهار، حيث تهيأوا بعد ذلك للخروج واستعدوا لجولة رابطية أخرى.

       الأستاذ محمد حسين المحتصر

المصدر: مجلة آفاق نجفية عدد (2)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.