المساجلات الادبية والظرف في مجالس ادباء النجف القسم ــ3
من مجالس جماعة الرابطة الأدبية
الحكاية السادسة عشرة:
وصادف ذات يوم أن كان البعض منهم في طريقهم لحضور أحد الاحتفالات الأدبية في إحدى الجمعيات الأخرى، وكان بصحبتهم من المشائخ الآخرين اثنان هما: الشيخ علي الخالدي، والشيخ قاسم حرج الوائلي، وكان بين هذين الشيخين تنافس أدبي كثيراً ما أدى إلى حدوث جفوة بينهما، فأراد الحبوبي أن يمزح معهما ليستثير كوامن ما يدور في ذهن كل منهما عن الآخر، فاصطف مع الخالدي يعلن اتهامه للشيخ قاسم بأنه لا يفهم الشعر الجيد، ولا قدرة له على نظمه، بل لا قدرة له على النظم إطلاقاً، وأن معظم ما يلقيه في الحفلات إنما هو مسروق من شعراء مغمورين آخرين.
وثارت ثائرة الشيخ قاسم، وظهر ما خفي بينهما من علاقة متوترة، تدخل بعدها الحبوبي مقترحاً على الشيخ قاسم أن يدحض ادعاء خصمه بنظم ثلاث أبيات ارتجالاً يصف فيها مسيرتهم تلك إلى الحفلة التي يقصدونها، ليضع حداً لتقولات صاحبه واتهاماته له، ففكر الشيخ قاسم لحظة ثم ارتجل قائلاً:
سرنا وسار أمامنا (محمودنا) من مركز الأدب الرفيع العـــالي
وعلى اليمين (الخالدي) تخاله فيلا تمايل بالدماغ الخـــــــــــالي
وتظنـــــــــه رجلاً إذا عـاينته وإذا تكلم فهو كالأطفــــــــــــــال
فصفق الجميع للشيخ قاسم على حسن بديهته، وسرعة خاطره وقدرته على نظم الشعر ارتجالاً، وأسقط في يد خصمه.
وكان طبيعياً أن يتأثر الخالدي من هجاء الشيخ ومن وصفه له بأنه (فيل تمايل بالدماغ الخالي) فما كان منه هو الآخر إلا أن فكر قليلاً ثم ارتجل قائلاً:
لقد قالوا لنا هيا لنمضـــــــي إلى حفل هـــناك فقلت هيـــــــــا
وقام الشيخ يتبعنا مغـــــــــذاً ويلهث كلمــــــــــــــــــــــا سرنا
على عينيه نظار ولــــــــكن دمــــــــــــــــــــــاغ فارغ لم يحو
كل ذلك وقع وهم لا يزالون في طريقهم إلى ذلك الاحتفال، ثم توسع الموضوع بعد ذلك، وكان بداية وسبباً في إعلان معركة أدبية بينهما انخرط في سلكها آخرون.
جاء الخالدي إلى الرابطة في اليوم التالي بقصيدة طويلة يفتخر بها على خصمه، مشيداً بانتسابه إلى خالد بن الوليد، وأن لديه من البطولات المخزونة المتوارثة ما يمكنه أن يذيق خصمه الهوان بيده إن لم ينفع معه لسانه، وكاد الموضوع يخرج بهما من الهزل إلى الجد، فقال من بعض ما قال:
أتهجوني لحاك الله إنــــــــــي أخو العلياء، وضاح المحـــــــــيا
ألست ابن المسعـــرها حروباً أصمت مسمع الدنــــــــــــيا دوياً
ومن أردى فوارسها كمــــــيا يضاجع تحت مفصله كــــــــــميا
ومن كابن الوليد فتى نمــــاني فكنت لدوحه الثـــــــــــــــــــــمر
وإن يك خالد شرفاً وعـــــــزاً فعــــــــــــــــزة خالد وصلت إليا
واستمر في إلقاء قصيدته على هذا النمط من الفخر والاعتزاز بماضيه وحاضره، وكأن الموضوع لم يكن من أساسه قد أريد به الهزل والمزاح فما كان من الشيخ الثاني إلا أن اعتزل الجلسة لحظات وشاغل نفسه بالتجوال في ساحة الجمعية وهو يدمدم بصوت مسموع ثم عاد إلى مكانه وفي يده أبيات من وزن وقافية صاحبه قائلاً:
ألا أبلغ شويعـــــــــرنا (عليا) بهجو يفضـــــــــــــح السر الخفيا
تعدى طوره نســـــــباً وعلماً وأوضح نهجه جهلاً وغيــــــــــــا
رأى فيما رأى بطناً كبيـــــراً ووجهاً مستديراً عنــــــــــــــد ميا
ففكر في خيال من مرايــــــا فتاه، وصــــــــــــــال منتفخاً عليا
ليعرفه الورى شيــــــئاً ولكن سيعرفه الورى أن ليـــــــــس شيا
واتسعت حلبة المهاجمات بينهما، واشترك بها آخرون ونظم فيها شعر كثير أغلبه من هذا النمط، لست بصدد أن أثقل على القارئ بذكره، عدا قصيدة واحدة فيها من الطرافة والظرف ما تستحق أن نشير إليها. اشترك في نظمها الرابطيون جميعهم، يصفون بها شيخاً اقتحم مجلسهم ذاك وزج نفسه بين الخصمين زجاً دون معرفة سابقة بهما، دفعه الفضول فكان كمن يتدخل فيما لا يعنيه ليلقى بعد ذلك ما لا يرضيه.
كان ذلك الشيخ من النوع الذي اصطلح عليهم في النجف بمصطلحات ومسميات كثيرة، فتارة يوصفون بجماعة (في الصحن) وطوراً يلقبون بلقب (أهل الكعد) وأخرى بنعت (المردشورية) وكلها تعني أن صاحبها لا علاقة له بالعلم والمعرفة والأدب، وإنما هو (عمامة جهامة) كما هو المصطلح الشائع المعروف.
دخل عليهم ذلك الشيخ، وهو مثقل (بحثله) الكبير، وجبته الفضفاضة المتهدلة، فرج هدوء مجلسهم بصوته الأجش، وتعليقاته النابية المبتذلة، فأخذ الجماعة ينظر أحدهم في وجه الآخر، وكأنهم يبحثون عن منفذ يستطيعون فيه أن يبعدوا عنهم هذه الزوبعة القادمة. وحيث لا خلاص لهم منه ومن أمثاله إلا بالطريقة التي تعودوها فيما بينهم، فأخذ أحدهم ورقة وكتب عليها البيت التالي، وسلمها إلى الشخص الذي يجلس بجانبه ليضيف إليها بيتاً آخر، وكان البيت الذي كتبه:
سلام على شيخنا القـــــــــادم على عقله الراكد النـــــــــــــــائم
فأضاف إليه صاحبه قائلاً:
سلام على (حثله) العبــــقري يضم جميع (خراب الــــــــوادم)
وهكذا مرت الورقة عليهم جميعاً حتى أتموها قصيدة طويلة فيها من الألفاظ والصفات مالا يستحسن نقله كله. وكان أخف ما كتب فيها هذه الأبيات:
(أخا الكعد) ليتك جامـــــوسة بهور السمـــــــاوة (موش آدمي)
وليتك عوضت عن جبـــــــة برحل على ظـــــــــهرك (راهم)
يمر بك العلم… إن مر فيـــك مرور المضارع بالجـــــــــــازم
وإن شخير مناخـــــــــــــيركم نباح الكلاب على قـــــــــــــــادم
وإن…
إلى آخر ما جاء بعد (إن) وهو كثير وطريف ، أجدني مضطراً لأن أضرب صفحاً عن ذكره لما فيه من صور وتعابير لا يجمل الإفصاح عنها.
وظل الشيخ ينظر إلى الورقة وهي تدور وتنتقل بين أيديهم وطبيعي أن لم يحس ولم يدرك موضوعها، حتى لكزه أحدهم، وقرأ له بعض أبياتها على اعتبار أن المقصود بها غيره، ثم اتضح موضوعها لديه بعد ذلك فخرج غاضباً ولم يعد إلى الجمعية ثانية.
وانتهت معركة الشيخين الخالدي والوائلي بعد ذلك بأن تقدم السيد محمود الحبوبي، فأولم لهما وليمة حضرها الرابطيون كلهم، وأصلح بينهما وكان مما ألقاه في تلك الوليمة هذه الأبيات:
شنها الخالدي حرباً عــــــوانا وأرانا من عزمه ما أرانــــــــــا
قد وجدناه في الكفاح شجــاعاً وظنناه قبل ذاك جـــــــــــــــبانا
ثورة خالدية ذكـــــــــــــــرتنا خالداً إذ ينازل الأقــــــــــــــرانا
لا يبالي أن لا يسل حســــــاماً وعلى خصمه يسل لســــــــــــانا
الحكاية السابعة عشرة:
وكانت الولائم التي يقيمونها أو يدعون إليها أو يورطون بها غيرها مناسبة تتفتح فيها قرائحهم للشعر، ومتنفساً يجدون فيه بعض راحتهم وانطلاقهم ومتعتهم في الاستزادة من الفكاهات الأدبية. إذ لابد للفكاهة والشعر أن يكونا عنصراً مكملاً لها. كما رأيناهم أثناء وليمة (الباجة) التي أقامها لهم الأديب الطبيب ومر علينا طرف منها قبل قليل.
أذكر أن بعضهم دعوا إلى وليمة أقامها لهم شخص ممن يحسنون إقامة الولائم، ويهتمون بالإنفاق الكثير على موائدهم. ودار الحديث أثناء الاجتماع على أخبار الأكل والآكلين، والمآدب العربية الضخمة التي كانت تقام في أيام زمان. وانسجم صاحبهم مع الحديث انسجاماً امتلك عليه كل أحاسيسه، إذ كان رأيه أن الغرض الأول والأهم من حياة الإنسان في هذه الدنيا هو أن يأكل حتى يشبع، ويجوع حتى يأكل، وكل ماعدا ذلك فضول وترف لا أهمية له بقدر أهمية الطعام والتفكير فيه. واستمر في حديثه مشيداً بفضائل الأكل ومزاياه، وأخذ يعدد ألوان الطعام التي تعجبه وتلك التي لا تعجبه، وكيف يشرف بنفسه على عمليات الطبخ، واختيار الطرق الجيدة في عمله، وكيف يظل يتلمظ حرقاً حين يشم رائحة الطعام الذي يرتاح إليه. وأومأ إلى (كرشه) الذي اعتبره ثمرة مناسبة لكثرة أكله، وأسهب معهم في حديثه حتى لم يترك صغيرة ولا كبيرة من فضائل الأكل ومزاياه إلا أحصاها.
وظل الجماعة يصغون إليه، وكأنهم وجدوا فيه حاجتهم إلى المفاكهة، فاقترح أحدهم أن لا يتركوا تلك الفرصة تمر دون أن يستغلوها ويخلدوها شعراً. وانبرى صاحب الاقتراح منشداً:
المجد للأكل لا مجد يضارعه والفخر أن تملأ الدنيا مواعيــــنا
فأيده الثاني معقباً عليه:
والمجد في بلم التاجين تنسفه حتى تصير بعيد الأكل (تاجـينا)
فالتفت الثالث إليهم، وكأنه أراد أن يؤكد الموضوع، ويعطيه خصوصية معينة، مشيراً إلى (كرش) صاحبهم بقوله:
أن تستحيل إلى (كرش) يتيه على كل الكروش ويعلوها مضامـــينا
فانتفض صاحبهم مذعوراً حين استمع لهذا البيت، وتحسس ما ينطوي عليه من السخرية الصريحة، وقال لهم بلهجته الاعتيادية الدارجة ـ اشتغلنا ـ شنوها اللغوة الزايدة ـ صار نظركم تفضحونا بشعركم بين الناس. ماذا تقصدون بهذا الكلام الفارغ (يعلوها مضامينا)؟! فأجابه أحدهم: المضمون واضح ولا يحتاج إلى تفسير. ولكن هل كنت الوحيد الذي استطال وتضخم كرشك بهذا البلد حتى تغضب وتصف شعرنا (باللغوة الزايدة)؟! وكاد الجو يتكهرب لولا أن تلافاه أحدهم فارتجل على البديهة ثلاث أبيات من وزن وقافية الأبيات الأولى يثني بها عليه، ويطيب خاطره فيها قائلاً:
شكراً لفعلك هذا المجد أجمعه وأنت أروع من حققته فيــــــــــنا
دعوتنا لعشاء لا نظير لــــــه لونته بصنوف الأكل تلوينــــــــا
أنى التفت ترى صحناً يزاحمه صحن، (وسبزيه يتلو الفسنجونا)
فانطلقت أساريره وضحك وقال:
ـ دبرتوها… خوش قايش… واحد يفتك، والثاني يخيط.
وانبسط معهم ثانية، وعاد إلى سيرته الأولى من حديثه المعهود، وأتموها ذلك قصيدة طويلة يصفون فيها أنواع الطعام الذي قدمه لهم، هذا بعض ما جاء فيها:
(على الخراف) حطت مراكبنا وفي (المغطاة) قد غطت مراسينا
وأنت والسمك المشوي تمضغه حتى لتسمع للأضراس تلــــــحينا
و(تمن الماش) يا لله نكـــــــهته حتى لتحسبه بالعطر مشــــــحونا
الحكاية الثامنة عشرة:
واجتمعوا مرة على مائدة دعاهم إليها واحد من المشائخ اسمه (الشيخ جعفر همدر) فتذكروا أثناء تناول الطعام صديقاً لهم يسكن مدينة (سوق الشيوخ) هو المرحوم الشيخ محمد حسن حيدر. وقد قيل لهم بأنه كان مريضاً ثم أبل من مرضه. فاقترح أحدهم أن يشتركوا في نظم أبيات يهنئونه بها على شفائه، ويصفون له فيها جلستهم تلك، ويعددون له ألوان الطعام الذي جادت به أريحية الشيخ (همدر)، فابتدأ أحدهم قائلاً:
قلب الأخوان قد استبشــــــــر طرباً لشفائك يا حيـــــــــــــــــدر
وتلاه الثاني على البديهة قائلاً:
فغدوا في جمــــــع منتظـــــم يتقدمهم جعفــــــــر همـــــــــــدر
وأضاف الثالث يصف ذلك الاجتماع بقوله:
في جـــــــــو رق ومجتمــــع أزكى من أنفــــــــــاس العــــــنبر
حيث الأصحاب قد اجتمعــوا في دار بالحســـــــــــــــــنى تذكر
لغداء ليتك حاضـــــــــــــره يحوي نعماً ليــــــــــــست تحضـر
ثم انبرى الرابع في وصف ما ضم ذلك الغداء، يستثير شهية صاحبهم إليه قائلاً:
فطبخ الباقلاء… إلـــــــــــى مسلوق منها، مستحضــــــــــــــر
وكذا المحشــــــي إلى لبـــــن قد عممه زبـــــــد أصفــــــــــــر
والكبة في الصـــــــينية قـــــد كانت ذكرى لمـــــــــــــــــن اذكر
والشــــــــــــاي (سلام عليه) يــــــــــــزف كيـــــــــاقوت أحمر
وجاء هذا السعر كله ارتجالاً، ثم طووا الرسالة وأرسلوها إلى صاحبهم في سوق الشيوخ وأجابهم هو الآخر بأبيات، يدعوهم فيها إلى وليمة عنده، قال فيها من جملة ما قال:
للشعر طلبت فأعجـــــــزني ولأنتم من شـــــــــــــــعري أكبر
وبودي لو جئتــــــــم للسوق فإن السوق بــــــــــــــــــكم يفخر
ولكم عندي السمك (المسموط) وإن شئتم فسلـــــــــــــوا (جعفر)
فلديه الخبرة كـــــــــــــــاملة… لما في الســــــــــــــــوق علينا مر
وأقام لــــــــــــــدينا حضرته شهراً محســــــــــــــــــوباً أو أكثر
في الليل عــــــــــــشاء يأكله وبه في الصبـــــــــــــــح إذا أفطر
ويعود الظهر فيطلـــــــــــــبه حتى أفنى منه بـــــــــــــــــــــــيدر
وحين وصلت الرسالة إليهم، شدوا الرحال وذهبوا إلى سوق الشيوخ، وكانت لهم هناك معه، ومع أدباء السوق الآخرين من المساجلات والمطارحات الأدبية ما ليس هنا محل ذكره، لأن معظمه كان من الأدب الشعبي الدارج.
الحكاية التاسعة عشرة:
وعلى ذكر الشيخ محمد حسن حيدر، هناك حكاية طريفة حصلت له كانت جماعة الرابطة طرفاً فيها أيضاً. تجدر الإشارة إليها باعتبارها جزءاً من مجالسهم التي اعتادوها في الرابطة.
فقد صادف في وقت من الأوقات وجود عدد من الأدباء النجفيين موظفين في لواء المنتفك (محافظة ذي قار حالياً) كان من بينهم المرحوم سعد صالح محافظاً للواء، والسيد سعيد كمال الدين قاضياً في المحكمة الشرعية، وتقي الشيخ راضي مدرساً للغة العربية في الثانوية، وغيرهم من الموظفين الآخرين.
وكانوا كثيراً ما يلتقون في بيت الشيخ محمد حسن هذا، حتى أصبح مجلسهم لديه نسخة من مجالسهم النجفية شعراً وفكاهة ونوادر أدبية، وكان يحضر معهم أناس آخرون من بينهم مدير تربية المحافظة ويدعى باسم (السيد حمودي).
وقد اشتهى السيد حمودي هذا أن يصنع (مقلباً) مع الشيخ محمد حسن فاتصل به هاتفياً ذات يوم، وأخبره بأن الجماعة قد قرروا أن يزوروه زيارة مفاجئة ظهر الجمعة القادم لتناول الغداء عنده، ولئلا يحرج ويفاجأ بحضورهم أحب أن يخبره بذلك. ثم قال لجماعته: لقد صنعت لكم مقلباً مع الشيخ محمد حسن حيدر وضمنت لكم غداءً فخماً عنده ظهر الجمعة القادم في سوق الشيوخ.
فاستعد الشيخ وأولم لهم وليمة فخمة، كما هي عادته، وتشاء الصدف أن يستدعي مدير
التربية إلى بغداد، ويضطر للتأخير فيها, ويحرم من الحضور معهم، ومن تناول الطعام الذي كان هو السبب فيه. وبعد افتضاح المقلب نظم الشيخ على سبيل المفاكهة أرجوزة ورفعها إلى القاضي السيد سعيد كمال الدين، طالباً فيها إقامة الدعوى عليه، وتغريمه مأدبة تعويضية مماثلة، يدعى له الجماعة كلهم. هذا بعض ما جاء في تلك الأرجوزة، قال:
شكري إلى الوزارة النبيــــلة وزارة المعارف الجلـــــــــــــــيلة
إذ إنها اختارت لنا حمـــودي يسير بالنشئ إلى التجـــــــــــديد
لاسيما في صنـعة (المقالب) كأنـــــــــــــما الكذب لديه واجب
إذ إنه نادى بصوت الهاتـف ذات ضحى من شعبة المـــعارف
يقول لي: غداً نهار الجمـــعة يجيئك الجمع وأنني معـــــــــــــه
فقمت بالواجب تلك الســاعة منتطراً تشريفة الجمــــــــــــــاعة
فحضروا جميعهم إلا هــــــو ليت الذي اعتراني اعتــــــــــراه
لذاك أرجو العدل أن يسألــه ويأخذ الحـــــــــــــــــق ولا يمهله
ويصدر الحكم بذي القضــية حكماً له في شرعنا حــــــــــــيثية
بأن يقيم عنده للصحــــــــب وليمة من مأكل وشـــــــــــــــرب
جامعة لأحسن المآكــــــــــل ترضي جميع أخوتي الأفاضــــل
وكان طبيعياً أن يسرع القاضي بالنظر في الدعوى، ويصدر حكمه لصالح الجماعة، ويأمر بتنفيذه فوراً. غير أن السيد حمودي رفض الحكم وطعن فيه، وطلب تمييزه لدى جهة أخرى، ووقع اختياره على جمعية الرابطة في النجف وخص واحداً من أعضائها بالذات للنظر في إصدار الحكم المناسب، ظناً منه بأنه سيكسب الدعوى بواسطته، ولم يدر بأنه كان في طلبه هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، حيث كان ذلك العضو الذي وقع اختياره عليه هو المرحوم جعفر الخليلي.
فاضطر القاضي إلى الاستجابة لطلبه، ورفع أوراق الدعوى إلى الجمعية، على شكل أرجوزة أيضاً قائلاً:
ترفع للتمييز هذي الدعــــوى للنجف الأشرف حيـــــــث الفتوى
وفقاً لم يطلبه حمـــــــــــودي في رفضه إقــــــــــــــــامة الحدود
إذ بعد أن بلغ بالقــــــــــــرار تأثراً أصيـــــــــــــــب بالــــــدوار
ولم يجد من حجـــــــــــة لديه برد دعوى المــــــــــــــدعى عليه
إلا بأن يميز القــــــــــــــرارا في جلسة ثانية جـــــــــــــــــــهارا
في النجف الأشرف في الجمعية لأنها بحكـــــــــــــــــــمها مرضية
لاسيما وجعفر الخــــــــــليلي هو الذي يهدي إلى السبـــــــــــيل
حيث له في مثلها اختــصاص يرجو به يناله الخـــــــــــــــلاص
وهكذا انتقلت القضية من سوق الشيوخ إلى الرابطة الأدبية في النجف، وأحيلت بدورها إلى الخليلي ليرى رأيه فيها, ولأن الخليلي كان فعلاً صاحب اختصاص جيد بمثل هذه الأمور فقد اكتشف أن مدير التربية لم يكن وحده صاحب (المقلب) وأنه أبعد ما يكون عن التورط مع مثل هذه الجماعة، والوقوع بألسنتهم، وأن إصبعاً خفياً لشخص آخر في القضية هو الذي ورطهن وكان يجب على القاضي أن لا يفوته اكتشافه وإدانته.
من هو ذلك الشخص؟! وما هو دوره في هذا الموضوع؟ وكيف استطاع الخليلي اكتشافه؟ ذلك ما سنعرفه من قرار الحكم الذي صدر على شكل أرجوزة أيضاً، وهذا هو نصه:
النجف الأشرف العدد:…
جمعية الرابطة الأدبية الموضوع: قرار الحكم
بعد الاطلاع على الدعوى المرقمة () وإحالتها إلى الخبير المختص بمثل هذه الأمور عضو الجمعية السيد جعفر الخليلي، وذلك حسب طلب المدعى عليه، صدر قراره التالي، المرفع طياً.
للعلم والعمل على تنفيذه بكل دقة.
التواقيع
لقد تلا الخبير ما قد صـــــدرا عنكم، وقد أحيط بالذي جـــــرى
ولم يدع بنداً من البنـــــــــــود مما أدنتم بهـــــــــــــما (حمودي)
إلا وفلاها بكــــــــــــــــل دقة لم يكتــــــــــــرث بالجهد والمشقة
فصدر القرار بعد النجـــــوى برد ما كان لكم من دعــــــــــــوى
والعود للتحكيم من جـــــــــديد يكون عند حـــــــــــــــــــاكم رشيد
لأن فيها عنــــــــــــصراً خفياً نظنه صاحـــــــــــــــــــــبنا (تقيا)
فإننا نعلم فيما نعـــــــــــــــــلم أن (تقــــــي الشيخ راضي) مجرم
وإن إصبعاً لــــــــــه في الأمر من كان لا يدري فنـــــــــحن ندري
مشاغب من الطــــــراز الأول يحســــــــــــــــــن خلط جده بالهزل
غير بعيد أن يكون الســـــــــببا في الجـــــرم… أن لم نعتبره المذنبا
فهـــو الذي جنى على حمودي ولـــــــــــــــــــــــج في إقامة الحدود
وليس حكمكم من الإنـــــصاف أن يؤخــــــــــــــــذ الواحد بالخلاف
ويــــــــترك الآخر يمشي حراً مستهــــــــــــــــزءاً بالعدل مشمخراً
وباخــــــــــتصار، فالذي نراه أن يرجع الحاكم في دعـــــــــــــــواه
ويصدر الحكم على الاثـــــنين مشتركين في أداء الديـــــــــــــــــــن
يقيم كل واحـــــــــــــــد وليمة تدعى لها الجــــــــــــــمعية العظيمة
أما السيد حمودي فيبدو عليه أنه قد تورط فعلاً مع هذه الجماعة ولأنه غريب على مثل هذا الجو الأدبي، فقد وقع بين شقي الرحى ولم يدر ما يقول، ولم يستطع أن يشارك في الأمر شعراً أو نثراً وكان كما وصفه القاضي بقوله:
وعندما بلـــــــــــــــــغ بالقرار تأثراً أصيـــــــــــــــــــــــب بالدوار
الحكاية العشرون:
وحيث وصل المطاف بنا معهم إلى سوق الشيوخ، ولأنهم كانوا على صلة وثقى مع أدباء هذه المدينة وشعرائها، فقد يحسن بنا أن نشير إلى حكاية أخرى حصلت لهم مع هؤلاء القوم، باعتبارها ضمن ما يدور في فلك حديثنا هذا.
كان أدباء تلك المدينة قد اعتادوا أن يقيموا احتفالاً سنوياً بمناسبة المولد الشريف، وطلبوا ذات سنة من جماعة الرابطة مشاركتهم فيه، فاستجابوا للدعوة، وهيئوا أنفسهم لذلك الاحتفال وسافروا.
غير أن واحداً منهم تخلف عن السفر لشغل طرأ له، وكأنه أراد أن يبرر تخلفه فنظم قصيدة بلون خاص من الشعر تعودوا على نظمه في بعض مجالس مفاكهاتهم، وهو ضرب من النظم يستجيز فيه الشاعر استعمال بعض الكلمات العامية إمعاناً في المفاكهة والظرف. وقد وصف في قصيدته تلك كل واحد من أعضاء الوفد الذي سافر إلى سوق الشيوخ وصفاً طريفاً مضحكاً. ثم أرسلها إلى القائمين على الاحتفال هناك قائلاً:
(جرخ) الثقافة مذ جـــــــــرخ قد شد (قايشـــــــــــــــــه) و(ملخ)
مازال بيــــــــــــــــــنكم يدور ولن يزال كــــــــــــــــــــذا… إلخ
قـــــــدر (الصغير) وما سعى في (قايـــــــــــــــــــــــش) إلا طبخ
والشــــــــــــيخ (أحمد) ما بدا سقــــــــــــــــــــــف له إلا و(طخ)
والســـــــــــــــيد الوقر الثقيل مــــــــــــــــــــــشى بجانبه وكشخ
مــــــــــــــروا وحلو حديثهم يجلو عن الجبب الــــــــــــــــوسخ
أهدوا (ليعقـــــــوب) المفلس من نكاتـــــــــــــــــــــــــــــهم نسخ
ضحــــــــكوا له حتى تمزق كــــــــــــــــــــــرشه العالي (فشخ)
و(لثــــــــــــامر) عجبي هنا مـــــــــــــــــــن ثامر كيف (اندرخ)
مـــــــد السماط ولـــــــو أراد الهر يطفر لا نشــــــــــــــــــــــــلخ
لم يدر أرض الـــــــــرز منه ستستـحيــــــــــــــــــــــــل إلى سبخ
والجدير بالذكر أن هذا اللون من النظم المطعم ببعض الكلمات العامية كثيراً ما يرد بمجالس مفاكهاتهم ومراسلاتهم باعتباره أدنى إلى الظرف وتركيز النكتة، لاستيعابه أدق الكلمات دلالة على الغرض الذي يرمون إليه. مضافاً إلى أن الظرف يجيز لهم أن يقولوا ما يشاؤون على أساس من القول المأثور، وما على المطرب أن يعرب. فهم والحالة هذه يجدون أنفسهم في حل من بعض القيود التي تقف حائلاً بينهم وبين ما يريدون.
وقد مر معنا طرف من هذا اللون من أدبهم في القصيدة التي اشتركوا في نظمها بوصف ذلك الشيخ الثقيل قائلين:
(أخا الكعد) ليتك جـــــاموسة بهور السماوة (موش آدمـــــــــي)
إلى آخره وهو كثير في أدبياتهم ومجالسهم ولعلنا سنستعرض قسماً منه في الأجزاء المقبلة من هذه السلسلة.
وبالمناسبة أذكر أن أديباً نجفياً ظريفاً وصلته رسالة من صديق له كان قد فارقه طويلاً، فأرسل له الجواب على هذه الطريقة نفسها بعد أن ذيله بهذه الأبيات متظرفاً قال:
سلام عليكم والدموع جــــواري وما كنت قبل اليوم من حادث (أبجي)
ولكنني لما أتـــــــــــــاني كتابكم جرى الدمع من عيني كصوب الحيا (هجي)
فقلت: لعل الله يجـــــــــمع شملنا وتعتاد أيام الوصــــــــــــــــــــال لنا (بلجي)
جفوتكم والله لا عن مــــــــــلالة ولكنما بالرغم (غصبـــــــــــــــن على فجي)
الحكاية الحادية والعشرون:
وكان من عادة بعضهم أن يلتقوا أحياناً في بيت العلامة المرحوم الشيخ قاسم محي الدين، وكان بيت هذا الرجل من البيوتات المعروفة في النجف، مفتوحاً لزواره وكأنه مضيف من مضائف العرب القدامى، حيث تقدم فيه القهوة والشاي، وبعض وجبات الطعام لمن يتأخر منهم عنده أحياناً.
وكان الشيخ قاسم هذا مولعاً بحفظ الأنساب، والاهتمام بها اهتماماً تعدى الحدود المألوفة بين الناس، حتى يقال والعهدة على الراوي أنه استطاع أن يصل بنسبه إلى آدم(ع) ثم نظم سلسلة ذلك النسب في أرجوزة طويلة حفظها عن ظهر قلب. ولكثرة ما كان يرددها ويقرؤها على زواره، وحضّار مجلسه، عاد موضوعها مجالاً لتندرهم ومفاكهاتهم.
وفي واحدة من تلك الجلسات المستمرة في بيته، وقد أعاد على الحاضرين قراءتها، تهيأ الجماعة لنظم أرجوزة ثانية على غرار أرجوزته، يمزحون فيها معه، مؤكدين صحة ذلك النسب بالطريقة التي تعودوها.
قال الأول منهم يصف مجلسهم عنده بهذه الأبيات الثلاثة التي ارتجلها ارتجالاً:
في ذات يوم والهواء بـــــــــارد والماء بل وكل شيء جــــــــــامد
كنا جمــــــــــاعات من الأخوان في مجـــــــــــلس يزدان بالعرفان
هيـــــــــــــــــأه لنا صديق فاضل وبحر جود ضاع منه الســــــــاحل
فعقب عليه الثاني مؤكداً هذا المعنى ليزيده شرحاً وتوضيحاً، قال:
فأشعل الفحم لنا نــــــــــــــيرانا وكيف الجــــــــــــــــــــو لنا ألوانا
فشكر الرفاق هذا الكــــــــــرما لصاحب البيت، ومن له انـــــــتمى
وعطروا مجــــــــــــلسه بالحمد وفاح عطــــــــــــــــر مدحهم كالند
وانبرى الثالث ليفتح لهم المجال للدخول في الموضوع الرئيس الذي هم في صدده قائلاً:
لولا حــــــــديثه المعاد كل يوم عن أصله وفصــــــــــــله في القوم
سلسلة طـــــــــــويلة من النسب يحفظها جمــــــيعها عن ظهر قلب
وتناول الرابع بعض مفردات تلك السلسلة بقوله:
من آدم لنوح في الطــــــــوفان أجداده في ذلك الـــــــــــــــــزمان
كانوا مع الركاب في الســـفينة وبعضهم قد طمــــــسوا في الطينة
ثم رماهم ســــــــــاحل الأمان بقــــــــــــــــــرية على ذرى لبنان
وعاد الأول ليوضح كيف جاءوا بعد ذلك إلى العراق من لبنان، في هجرة متعبة طويلة قائلاً:
من بعدها جاءوا إلى العـــراق في هجرة كثيرة المشـــــــــــــــاق
واستوطنوا في النجف الميمون ولــــــــــــــــــقبوا بآل محي الدين
فـــــــــــــكان منهم كل فذ عالم حتى انتهــــــــــــت دوحتهم لقاسم
كل ذلك جاء ارتجالاً كما لو كانوا قد أعدوه إعداداً مسبقاً ثم توقفوا عند هذا الحد على اعتبار أن سلسلة النسب قد انتهت إليه، ولا حاجة إلى التفاصيل الأخرى. غير أنه اعترض عليهم بأنها مبهمة، ولا تفي بالغرض، ولابد من الزيادة في توضيحها، وكأنه بطلبه هذا قد شجعهم على الإيغال في ممازحته، ثم سألهم: ما الذي يقصدونه بقولهم (قد طمسوا في الطينة) واعتبر ذلك تعريضاً بما سلف من أمجاده. فأجابه أحدهم بقوله:
ـ وهل كل الناس نجوا من الطوفان؟! إلا يجوز أن يكون واحد من أجدادك قد طمس مع الطامسين؟!
فتقبل منه هذا التفسير، ولكنه أصر على الإضافة إليها، بما يوضح الغرض منها، ويؤكد حسن نيتهم فيها، فوجدوا المناسبة سانحة لأن ينطلقوا على سجيتهم معه، فاستأنفوا النظام قائلين:
هو الذي قص علينا مـــــعلناً كيــــــــف أتوا، ثم انتهوا إلى هنا
مردداً في كل يوم بيـــــــــننا أنا أنا، أنا أنا، أنا أنــــــــــــــــــــا
أنــا ابن شالخ، أنا ابن شـفتي أما المــــــــــــسيح فهو ابن أختي
أنا ابن أخنوخ العظيم القــرم والبحتري الشاعر ابن عمــــــــي
ولم يكد يسمع هذا الخلط الذي انتهوا إليه، حتى وضح لديه الأمر بعد أن ظنهم جادين فيما يفعلون، وضحك معهم، غير أنهم لم يقفوا بها عند هذا الحد بعد أن وجدوا المجال مفتوحاً أمامهم، والفرصة تستحق أن يغتنموها، فاستمروا في عملهم جادين ومازحين، وعاد الأول منهم ليقول:
لكنه لو قال إن أصـــــــــــلي علمي، وفضلي، وكريم فعلـــــــي
لكان من أحسن أصل أصــله وأجمـــــــــــــل القول يكون قوله
لكنها شنشنة من أخــــــــــزم نعلمها منه وإن لم يعـــــــــــــــلم
ليس بها لفضـــــــــــله زيادة لاسيـــــــــــــــــــــما وإنها معادة
وعقب الثاني يخاطبه قائلاً:
فمن يكون شالخ وشفتـــــــي إن كنت يا شيخ قليل البخــــت؟!
وأي شيء منهما سينفعـــــك إن كنت لا علم ولا مال معــك؟!
وأضاف الآخر:
حتى ولو كنت ابن حــمورابي نسيت أن الناس مـــــــــن تراب
وأن فضل بعضهم عن بعــض بالعلم والخلق، وحفـــظ العرض
ثم أنهوا أرجوزتهم ومزاحهم معه بهذين البيتين:
وأنت… والحمـد له… يا قاسم صاحبنا الظريف ذو المكـــــــارم
هذا هو الفضل الذي يعنيـــــــنا فيـــــــــك، وفي كل الورى، وفينا
وشاعت هذه الأرجوزة بين الناس، وحفظها كثير منهم، ولولا أن الشيخ رحمه الله كان معروفاً بطهارة النفس وسلامة القلب و(حسن النية) لما تقبلها منهم، ولغضب وثار عليهم، ولكنه ارتاح إليها، واعتبرها مزاحاً بريئاً لإغضاضه فيه. وظل يرددها ويتحدث عنا لجلاسه وزائريه كلما اقتضت المناسبة ذكرها والحديث عنها.
وكان لمصطلح (حسن النية) عند النجفيين معنى يشير إلى البساطة المتناهية، التي تصل حد الغفلة أحياناً. وهو مصطلح ذو حدين يراد به المدح وغيره، وذلك حسب قصد قائله، والشخص الموصوف به.
ومن القصص التي يتناقلها النجفيون عن (حسن النية) هذا الشيخ، أن المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيبي زاره ذات يوم، فقرأ له على العادة أرجوزة نسبه، ثم عرض عليه مجموعة شعرية كان قد نظمها في مدح النبي(ص) وأهل بيته. وطلب منه أن يقرضها ببيت أو بيتين من الشعر، فتأملها الشيخ الشبيبي، وقرأ بعض ما فيها من شعر، ثم كتب على غلافها الأبيات التالية قائلاً:
يا قاسماً يا ابن أبي جامـــــــع يا نـــــــــــاظم الأشعار مــــروية
يا مادح الهادي وأبنــــــــــاءه ذرية مـــــــــــــــــــــن بعد ذرية
أحسن ما فيها على حسنــــــها أنك فيــــــــــــــــــــها حسن النية
الحكاية الثانية والعشرون:
وقص عليّ أحد مشائخهم ذات يوم هذه الحكاية أنقلها عنه كصورة من مجالسهم الأدبية قائلاً:
مرض أحد أصحابنا في سنة من السنين، ونقل إلى المستشفى، وأقام فيه أياماً، وكانت مستشفيات ذلك الزمان كما وصفها أحدهم (درباً يؤدي إلى المقبرة). وحين زرناه هالنا ما شاهدناه فيها من مآس وإهمال. وعدم مبالاة، إذ كانت البناية أشبه ما تكون بخان من الخانات القديمة ورأينا المرضى فيه بين مطروح على سريره يئن من وطأة مرضه ولا أحد يسأل عنه. وبين مفترش التراب في الشمس وهو يبحث في ثوبه عن شيء وخزه في جلده، وبين جالس على سريره ملتف بعباءته، وهو يدخن غليونه، ويتحدث إلى المرضى بصوت عال كما لو كان جالس في المضيف بين أهله وخلانه.
فالتفت أحدنا إلينا وارتجل قائلاً:
ومستشفى يزيد السقم سقـــــما وتوبأ إذ تمر عليه ريــــــــــــــــح
وطلب منا أن نضيف إلى هذا البيت بيتاً آخر، فقال الثاني:
فلا مأوى به إلا ذميـــــــــــــم ولا مرأى به إلا قبيــــــــــــــــــح
وانبرى الثالث قائلاً:
يجيء له المريض وفيه روح ويتركه وليس لــــــــــــديه روح
وعقب عليه آخر بقوله:
وليس على من اعتزموا انتحاراً سوى أن يدخلوه ليستريــــــــحوا
كل ذلك حصل ونحن في طريقنا إلى مريضنا، وحين وصلناه وقرأنا عليه هذه الأبيات، أجابنا هو الآخر على البديهة قائلاً:
فما يدري، أمستشفى لمرضى بنوه، أم لأموات ضريـــــــــــــح
وكان المكان الذي حشر فيه المرضى، ويسمى (القاووش) يومئذ، والذي وجدنا مريضنا فيه، قد صفت فيه الأسرة جنباً إلى جنب بحيث لم يبق بين سرير وسرير إلا مجال ضيق، حتى ليكاد رذاذ سعال أحدهم ينتشر على فراش جاره. وخطر في ذهني ـ والحديث لا يزال لذلك الشيخ , أن أحسب عدد أسرة ذلك القاووش فوجدتها أربعين سريراً، مشغولة كلها بالمرضى، على اختلاف أنواع أمراضهم، فتجد المريض بالتدرن الرئوي إلى جانب مريض المجاري البولية، إلى المصاب بمرض في عيونه، أو عقله. وهكذا.
وشاهدنا أحد المرضى وهو من النزع الأخير من حياته، وآخر قد سبقه فمات، وعلا صراخ أهله من حوله، فقال لنا صاحبنا المريض:
ـ كيف تتوقعون أن ينالني الشفاء، وعلى مساقط عيني هذه المآسي المتكررة يومياً ثم أنشد:
فهذا بانتظار الموت بـــــاق وهذا حول ميته يـــــــــــــــــنوح
وخرج معنا هارباً، ولكنه لم يعش طويلاً، وحين مات رثيناه بقصيدة مشتركة ضمناها هذه الأبيات.
الحكاية الثالثة والعشرون:
وهنالك ضروب أخرى من التسلية كانوا ينفقون فائض وقتهم فيها، ومعظمها تدور في فلك الشعر والأدب، وما يمت إليهما بسبب من الأسباب مما ينمي لديهم سرعة البديهة، وحضور الذهن، وقوة العارضة، والإجابة المستحسنة، والقدرة على المشاركة في أي مجال من هذه المجالات.
وكانت (التقية) أهم هواياتهم، والتقية هي أن يقرأ واحد منهم في أحد الدواوين الشعرية المتيسرة لديهم، كديوان الشريف الرضي مثلاً، أو ديوان البحتري، أو غيرهما من الشعراء الآخرين، ويقف في قراءته عند وصوله إلى القافية، لتكملتها من قبلهم.
وكان عليهم أن يصغوا إليه إصغاءً تاماً، إذ ليس من السهل أن يهتدي أحدهم إلى القافية دون أن يفهم معنى البيت فهماً جيداً. وبهذه الطريقة كانوا يكتشفون قدراتهم الذهنية، وقدرات الآخرين ممن يرتادون مجالسهم لأول مرة.
وكثيراً ما يصاب أحدهم بشرود ذهني، فلم يصغ إلى الشعر إصغاءً تاماً فتأتي قافيته نابية، فتكون مجال تندرهم ومفاكهاتهم لاسيما إذا كان ذلك الشخص من المستجدين، أو المتطفلين على هذا اللون من الحياة. كما حدث لهم مرة مع شخص اسمه (شعلان) إذ جاءت قوافيه كلها (شعلانية) لا علاقة لها بالقصيدة المقروءة، حتى أصبح هو وقوافيه (مثلاً) يتندرون باسمه كلما أخطأ واحد منهم فيقولون (وقفة شعلان).
ومن طريف ما يذكر عن بعض مجالسهم تقفيهم أن أحد المشائخ البسطاء اصطحبهم فترة من الزمن، وكان ذلك الشيخ من النمط الذين يتدخلون في كل شيء، ولا يحسنون شيئاً، والذين كثيراً ما يوقعون أنفسهم في مآزق لا يستطيعون أن يفلتوا منها. أو يحاك ضدهم (مقلب) من المقالب يعودون بسببه مجالاً للتندر والاستخفاف.
كان ذلك الشيخ من النوع الذي اصطلح عليه النجفيون بأنه (دلو) وهو اصطلاح كان يعني في عرفهم أي رجل بسيط ساذج يمكن أن يخدع بسرعة، ويغش لأبسط تعامل معه.
وعلى أي حال، كان ذلك الشيخ (تبيعاً) لهم، في كل مناسبة من المناسبات حتى ضاقوا به ذرعاً، وقرروا أن يوقعوا به، ليبتعد عنهم، ولا يدلف إلى مجلسهم بعد ذلك.
وصادف أن دعاهم ذات ليلة، صاحبهم (الحاج عبد الله الصراف) الذي مر ذكره سابقاً. لسهره عنده في بيته، وهيأ لهم جلسة حول بركة من الماء كانت في وسط داره. فاقترح المرحوم صالح الجعفري أن يتشاغلوا بالمباراة في تقفية الشعر، ووضع شرطاً جزائياً طريفاً يؤديه من يعجز منهم عن التقفية أو يخطئ فيها… كان ذلك الشرط هو أن يضعوا كل من يعجز أو يخطئ فيها، يضعونه في (بطانية) ويحطمونه، ويدورون به حول البركة ثلاث مرات ثم يعيدونه إلى مكانه تشهيراً به.
وكان ذلك تواطئاً ضد صاحبهم الشيخ طبعاً. وابتدأت المباراة، وبعد لحظات أعلن المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي عجزه عن الاستمرار فيها فتهيأ له أربعة منهم، وحملوه ووضعوه في البطانية، واستداروا به حول البركة ثلاثاً ثم أعادوه إلى مكانه، فقبع فيه كما لو كان خجلاً. وبعد ذلك أعرب المرحوم السيد محمد الحبوبي عن عجزه هو الآخر عنها، ففعل به مثلما فعل بصاحبه،… وهكذا… فاطمئن الشيخ إلى أن الموضوع لا يتعدى سوى حمله، والاستدارة به حول البركة إن اشترك في المباراة وأخفق فيها، وكان طبيعياً أن يخفق، وقد أخفق فعلاً، فقام بنفسه وتكوم في البطانية بانتظار حمله، فحملوه، وبدلاً من أن يستديروا به حول البركة طوحوا به في قرارتها بجبته وعمامته، فغطس فيها وارتفع، ثم غطس وارتفع، وهو يلعن ويشتم وهم يضحكون، وينشدون شعراً مرتجلاً أجدني مضطراً لأن أضرب صفحاً عنه لما فيه من مساس ببعض الناس علانية.
وكانت (المطاردة الشعرية) من هواياتهم الأخرى. والمطاردة الشعرية لون آخر من ألوان ذلك اللهو البريء، وهي أن يقرأ أحدهم بيتاً من الشعر ينتهي بحرف الميم مثلاً، ويطلب من صاحبه أن يأتي ببيت يبتدئ بذلك الحرف. ومثال ذلك كأن يقرأ الأول منهما هذا البيت:
إذا رأيت نيوب الليــث بارزة فلا تظنن أن الليث يـــــــــــبتسم
فيجيبه الثاني على الفور بقوله:
ما لنا كلنا جد يـــــــــا رسول أنا أهوى، وقلبك المتبـــــــــــول
ويظل الأول يبحث في ذهنه عن بيت يبتدئ بحرف اللام، ثم يجده فيقرأ:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وللحب ما لم يبق منــــي وما بقي
وهكذا تستمر المطاردة بينهما، ويحدد لها زمن معين، حتى يكل أحدهما أو كلاهما عن استحضار ما يحفظونه من شعر، وبذلك تعلن النتيجة بتفوق أحدهما على الآخر، أو بخسارتهما معاً.
وهناك لون ثالث كانوا يتلهون به أحياناً، وهو نظير المطاردة الشعرية تقريباً، لولا أنه يقتضي سرعة الإجابة بحيث لو تأنى أحدهما لحظة لخسر الموقف. وذلك بأن يأتي أحدهم باسم علم من الأعلام، أو شيء من الأشياء، ويطلب من صاحبه أن يأتي بنظيره، على أن تتبع قاعدة المطاردة الشعرية، وهي تجانس حروف أواخر الكلمات مع أوائلا الكلمات الأخرى، كأن يلفظ الأول منهما كلمة (منصور) فيجيبه الثاني على الفور بكلمة (رحمن) ويعود الأول فيقول (نعيم) فيجبه بكلمة (موسى) وهكذا.
وهذا اللون من التسلية قد يبدو لأول مرة سهلاً، ولكن بعض المشتركين فيه قد تختلط عليهم الأسماء أحياناً، فيظل يلتفت يميناً وشمالاً ليبحث عن الاسم المناسب دون أن يجده، حتى ليقال أن أحد المشائخ ضاق عليه استحضار اسم مبدوء بالألف، وكان اسمه (إبراهيم) فنسي اسمه، وأضاف ألفاً إلى كلمة (حسين) قائلاً (إحسين) فأجابه الثاني بكلمة (إحدار… إصخونة) وانتهت المباراة بخسارته طبعاً.
وقد يحسب بعضهم أن هذا اللون من هواياتهم عبث لا طائل من ورائه، ولكنه عبث بريء كانوا يقضون به بعض أوقات فراغهم أحياناً، وهو أقل ضرراً من عبث الآخرين، ونحن حين نشير إليها هنا فلأننا نود أن نرسم صورة مفاكهاتهم بكل ما فيها من ظلال وانعطافات.
الحكاية الرابعة والعشرون:
وضرب آخر من ضروب تلك التسليات المتعددة لديهم، والتي اعتادوا أن يتخذوا منها محكاً لقدراتهم الذهنية وشحذ مواهبهم الأدبية في نظم الشعر ارتجالاً، أو استذكار ما يحفظونه منه لتغطية أي موضوع يقع الاقتراح على التحدث فيه. ذلك الضرب الذي أود أن لا تفوتني الإشارة إليه.
يقترح أحدهم أحياناً أن يكون حوارهم تلك الليلة عن (ثورة العشرين) مثلاً، أو عن (المشروطة والمستبدة) أو عن أي حدث آخر مر بهم، أو سمعوا عنه، وكان له أثره البارز في حياة الناس… لا لغرض أن يؤرخوه، أو يلقي أحدهم محاضرة عنه، كما هو المألوف عادة. وإنما ليكون موضوعاً وأساساً للمباراة فيما بينهم. وذلك بأن ينقسم الجمع منهم إلى فئتين متساويتين، ثم تبدأ المباراة بحكاية عن الحدث، أو قراءة أبيات نظمت فيه، أو نادرة نقلت عنه، يحكيها لهم واحد من الفئة الأولى، فيعقب عليه آخر من الفئة الثانية بحكاية أو قصيدة أو نادرة تضاهيها أو تقاربها.
وتعود الفئة الأولى من جديد لمثل ما ابتدأت فيه، وهكذا يستمر الحوار ساعات يكونون فيه قد استوعبوا كل مجريات ذلك الحدث، وأرخوه ضمنياً. وإذا ما عجزت إحدى الفئتين عن الاستمرار في الحوار تكون قد خسرت المباراة طبعاً. ولابد من غرامة تقدمها للفئة الأخرى، وغالباً ما تكون تلك الغرامة وليمة يدعون إليها جميعاً على شرف ذلك الموضوع. غير أنهم في مثل هذه الحالات يكونون قد استعدوا مسبقاً للحوار وتهيؤا له بمراجعة الكتب والمصادر التي تبحث عنه، وفي ذلك ما فيه من فائدة.
ولكن قد يحدث أحياناً أن يفاجئوا بموضوع لم يكونوا قد تهيؤا له، وهنا تبرز صفات بعضهم، وقدراتهم الذهنية، حين يدعون للمشاركة دون استعداد مسبق لها.
أذكر أنهم كانوا مجتمعين ذات ليلة في الجمعية، إذ وصلتهم دعوة لحضور احتفال سيقام بمناسبة (عيد المعلم) فاقترح المرحوم الشيخ صالح الجعفري أن يجري حوارهم تلك الليلة حول هذا الموضوع.
ولما كانوا غير متهيئين له، فقد تهيب أكثرهم منه، غير أن اثنين من الحاضرين تلك الجلسة أبدوا استعدادهما للمباراة فيما بينهما فيه، وهكذا تم الاتفاق وجرت المباراة على الشكل التالي:
قال الأول منهما موجهاً خطابه إلى المعلم المجهول موضوع المباراة.
المجــــــــــــــــــــــــــــــــد لـــــــــــــــــك
يــــــــــــــــــــــــــــا سلماً يفضي إلى القمم
ويــــــــــــــــــــــــــــــــــــبعث الأمـــــــــم
من وهدة الضلال من مفازة العـــــــــــــــدم
المجــــــــــــــــــــــــــــــــد لـــــــــــــــــــك
يـــــــــــــا سلماً يعيش في ســــــــــــــــكون
عليــــــــــــــــــك للحيــــــــــــــــــاة يعبرون
لـــــــــــــو لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم تكن
من الذي يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكون؟!
ثم أومأ لصاحبه أن يقول ما عنده فقال، والخطاب لا يزال موجهاً لذلك المعلم المجهول:
يحيا بفضلك جيلك المتـــعلم وإذا انتهيت، يقال: مات مـــــــعلم
واستمر الحوار بينهما، فقال الأول:
ـ سمعت أحد المعلمين يصف نفسه، والساعات التي يقضيها بين طلابه في المدرسة قائلاً:
كم ساعة فيها وقفــــــــــــت أريق بيــــــــنهم حنـــــــــــــــاني
ألقــــــــــــي فؤادي أحــرفاً والروح أسكــــــــــــــــــبه معاني
فأجابه صاحبه: إن هذا المعلم هو الذي يقول في مكان آخر من قصيدته هذه:
ماتت مع الصبيــــــــــــــان كل مآربي وذوى جنــــــــــــاني
رويتهم ذوب الفـــــــــــــؤاد وما رويت سوى الهــــــــــوان
عمرٌ يــــــــــــــــروح سدىً لكسب رضـــــــــا فلان أو فلان
فعاد الأول يقول:
سبحانك الله خيـــــــر معلم علمت بالقلم القـــــــــرون الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته وهديته النــــــــــــور المبين سبيلا
وطبعته بيد المعلم، تـــــــارة صدئ الحديد، وتارة مصقــــولا
فأجابه الثاني:
وإذا المعلم لم يكن عدلاً مشى روح العدالة في الشباب ضئيـــلا
وإذا المعلم ساء لحظ بصيـرة جاءت على يـــــده البصائر حولا
وطال الحوار بينهما، وعرجوا فيه على الجاحظ، وما كتبه عن المعلمين ثلباً وإطراءً، باعتباره كان مغرماً في معظم مؤلفاته بذكر محاسن الأمور وأضدادها، وانتهى الوقت المخصص لهما دون أن يكلا، أو يتعبا، أو يغلب أحدهما الآخر.
وأخيراً تدخل الجعفري، وحكم بالسبق لهما معاً، على أن تقوم الجمعية بالوليمة لهما. وكان الجعفري من أفاضل المعلمين في شطر كبير من حياته، وقد فقد بصره من جراء خدمته التعليمية، وارتجل في نهاية الحوار هذين البيتين متوجهاً بهما إلى ذلك المعلم الذي تجسدت معاناته فيه قائلاً:
أيدري الأولى يبنون للمجد سلماً بأنك كنت البـــــــــــاني المتقدما
تؤدي على مر العصور رسالة أعز على هذي الحياة وأكــــرما
ثم دمعت عينه حين تذكر معاناته في التعليم، وكيف فقد بصره بسببه فأنشد قائلاً:
ومن يهب الأجيال من نور عينه يعش مطمئناً راضي النفس بالعمى
وكانت تلك الليلة، وذلك المجلس من أجمل وألذ مجالسهم، وكان آخر ما أنشدوه واتفقوا عليه، هو ذلك القول الخالد، للشاعر الخالد المرحوم أحمد شوقي:
أرأيت أفضل أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفساً وعـــــــقولا
الحكاية الخامسة والعشرون:
وكان بعض أدباء هذه الجمعية مغرمين بلعبة الشطرنج، أحبوها وأتقنوها وجمعوا ثمنها واشتروا به أداتها لتكون خاصة بهم وفي متناول أيديهم متى شاؤوا وحيثما اجتمعوا.
وإذا ما عرفت تحرج البيئة التي كانوا ينتمون إليها ويعيشون فيها ويعايشونها، واعتبارها هذه اللعبة وأمثالها من المحرمات التي لا تغتفر… عندما تعرف ذلك تفهم لماذا كانوا يطلقون عليها اسم (الحاج شلتاغ) اصطلاحاً خاصاً بهم لا يعرفه غيرهم، وبذلك كانوا يستطيعون أن يضربوا موعداً للقاء بالحاج شلتاغ متى يشاؤون، وأمام أي جهة يحتاطون منها… لنذهب نزور الحاج شلتاغ ـ لنعوده في مرضه ـ لنسأل عن صحته إلى أمثال ذلك… هكذا كان شأنهم مع الحاج شلتاغ مضافاً إلى صلاتهم، ودروسهم وشعرهم. وكان الحاج شلتاغ ينتقل معهم من بيت إلى بيت حسب حاجتهم إلى اللقاء معه، ثم شاء القدر أن يفرق جماعتهم بعد ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958م فشرق بعضهم وغرب آخرون، وطال فراقهم حتى كاد ينس بعضهم البعض الآخر، ولم يبق مع واحد منهم أو عنده من ذكراهم سوى (الحاج شلتاغ) متجسداً في تلك الأداء التي بقيت لديه منسية ومهملة لعدة سنوات.
وذات يوم وبينما كان مشغولاً في البحث عن شيء افتقده عثر على حاج شلتاغ هذا قابعاً في صندوقه الصغير، وقد علاه التراب، ونسيه الزمن فمد له يده، وأطلقه من سجنه، ونثره بين يديه، ومر شريط من الذكريات أمام عينيه، ذكريات أصحابه الذين نسوه أو تناسوه. وحين جمع المتناثر من قطع الشطرنج ليعيدها إلى صندوقها افتقد قطعة الوزير الأسود وحين وجدها شرع يخاطبها بالأبيات التالية وقد أرسلها إليه بعدئذ قائلاً:
تطاول ليلك يا أســـــــــــــود… وليلى ترى هل نسانا الغــــــــد؟!
لقد عافنا الصحب لا يسألون ولا يــــــــــــذكرون… ولا ننشد
كأن لم تكن بيننا صحبــــــــة ولا سابقات ولا مــــــــــــــــوعد
أقمت فلا أنت بين الصفــــوف تجول وفي ساحـــــــــــــها تشهد
ولا هي للحرب هذي الجنود إذا ثار بركانها عربــــــــــــــدوا
ومن خلفــــــــهم وإلى جنبهم قلاع وأفيـــــــــــــلة تحــــــــــشد
هي الحرب دون دماء تـــراق وليس بــــــــها أنفس تخمـــــــــــد
وأغرب ما في تقاليــــــــــدها ازدراء اللذين بها استـــــــــشهدوا
وأجبن فرسانها من يخــــوض وغاها، وذو البأس من يـــــشرد
رفيـق الأسى قد نساك الرفاق وراحــــــــــــــــوا وأنت هنا مقعد
نستك الحروب فلا أنت منها ولا أنــــــــــــــــــا للحفل إذ يحشد
وإذ يستعاد جميل القريـــض وحيــــــــــــــــــــث روائعه تـنشد
وحيث العمائم من حـــــــوله يـــــــــــــــــحرك أعطافها الأجود
وحيث عثانينها بالـــــــــوقار تكســــــــــــــــــى فيغبطها الأمرد
رفاقي مازلت أهـــــــــــواكم (وشلتاغ) صاحبـــــــــــــــكم يشهد
فقد كان أوفاكم في العـــهود أقــــــــــــــام وقـــــــــدر أن تبعدوا
لئـــــن كان ذنبي لديكم بأني لأوثـــــــــــانكم قلت لا أعبــــــــــــد
وأنـــــــي أحب حياة الكرام إذا رضــــــــي الذل مســـــــــتعبد
فأنـــــتم أحق بأن تعذروني وأقرب للحـــــــق أن تحـــــــــــمدوا
وأنتم وإن طال هذا الجـــفاء رفاقي، وحبــــــــــــــكم السيـــــــــد
وعادت الصحبة بينهما بعد ذلك مثلما كانت عليه من قبل. وكان صاحب هذه الأبيات هو مؤلف هذا الكتاب.
الأستاذ: محمدحسينالمحتصر
مجلة افاق نجفية العدد (3 ـــ 4)
2013-02-28