المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم – 4 –
من مجالس جماعة الرابطة الأدبية
الحكاية السادسة والعشرون
وكانت تجربة قاسية للعراقيين في تلك الأيام التي مرت عليهم بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958م حيث تعرضت البلاد إلى صراع دام بسبب من تعدد الاتجاهات السياسية، ومحاولة كل فئة من الفئات كسب الشارع لحسابها، واستئثار إحدى الفئات بالعنف والإرهاب بذلك الشارع في وقتها إلى آخر ما جر ذلك العنف من مآسي وآلام لسنا بصدد استعادة ذكراها، لولا أن بعض الناس كان ذا قدرة عجيبة في التحول من اتجاه من اتجاه إلى اتجاه آخر، ومن جماعة إلى جماعة أخرى بنفس السرعة التي يلبس قميصه فيها ثم ينزعه.
وكان من بعض هؤلاء أستاذ جامعي محترم مر بكل الاتجاهات حتى انتهى به المطاف إلى أن يصبح داعية دينية يكفر الناس ويزكيهم حسب مقتضيات مصلحته، وقد أصاب بعضهم رذاذ اتهاماته وشتائمه، فكتب أحدهم هذه الأبيات وأرسلها إليه قائلاً:
الناس حولك غاربٌ ومهــــند والأفق صحوّ، والطريق ممـــهد
والدين مرقاةٌ ينيلك حظـــــوة ما دمت تدرك أي درب تصـــعد
مرحى لأستاذي ولست بحاسد ما فيك ما يغري النفوس فيحسدُ
كن مؤمنا، فلعل نفعك مؤمــناً اسنى، فما أجداك انك ملــــــــحد
تباً لهذا الدهر أنت تدلنــــــــي فيه على ديني، وأنت المرشـــــــــــد
أو لم يكن في الرهط غيرك مؤمناً عهدي بأنك فاسق متعمـــــــــــــد
أن كان سرك أن يومك حافـــــل مهلا فقد يبدي حقائقنا غـــــــــــد
فالله يعلم أينا هو مسلــــــــــــم حقاً، ومن هو كاذبٌ يتصيـــــــــد
أنا لست أرغب أن تراني مؤمنا أن كان ديني ما يقــــــــــول حديد
الحكاية السابعة والعشرون:
ينحدر مؤلف هذا الكتاب من أسرة علمية دينية تسكن مدينة النجف منذ عهد بعيد ويحترف أغلب أفرادها مهنة رجل الدين، وقد ارتدى هو الآخر في شبابه لفترة من الزمن (العمامة والجبة) شأن غيره من أفراد أسرته وأقرانه في زمانه، ثم طرحهما بعد أن تغير مسلك حياته وأصبح موظفاً في الدولة لولا أنه ظل في قراره نفسه، ولاسيما في أيام شيخوخته الآن، وبعد أن تجاوز الثمانين من عمره، ظل يتذكر تلك الأيام ويحن إليها أحياناً كما جاء في الرسالة التالية التي أرسلها إلى أحد أصحابه في تلك الجمعية بمناسبة ارتداء ولده (العمامة) شعار أهله وأسرته يخاطب ولده هذا ويهنؤه، ويمزح معه فيها، ويشير إلى معنى الذي ظل يتذكره ويحن إليه قائلاً:
عمّةً، ثم جبة ترتديـــــــــــها فإماماً من بعد تصبــــــــــح فيها
شغلة لا أظن أفضل منـــها شغلة كل عاقل يشتهيـــــــــــــها
أنت منها أصالة لا إدعــــاء شرف أن نصونها في بنيـــــــها
أنا من قبل كان لي موقف منها ورأي، ما كان رأياً وجيـــــــها
كان عذري بطرحها يومها ذاك بأن الطريق قد كان تيـــــــها
لست تدري من أيــن تبدأ فيه وإلى أي غاية تمشيـــــــــــــــها
غير ما في الفتات من صدقاتٍ هي أولى بكف من يعطيــــــــها
بينما اليوم كالرسالة أضحـــت واجباً تطلب الذي يحميــــــــــها
شرطها أن يكـــون طالب علمِ مخلصاً، ثم أن يكون نزيــــــها
همة أن يـــــصونها ثم لا بأس لديه بعض المآرب فيـــــــــــها
الحكاية الثامنة والعشرون:
وكان الوجيه الأديب السيد محمود الصافي أحد أعضاء هذه الجمعية قد أهدى إلى المؤلف من ثمر نخلات لديه في بستانه كمية من التمر حلوة كطبعه، فكتب هذه الأبيات وأرسلها إليه قائلاً:
كانت هديتك الكريـــــــــمة أفضل الخيــــــــــــــرات أكلا
والتمر حلو كــــــــــــــله… وهدية يأتيك أحلــــــــــــــــــى
من سيد بالمكــــــــــرمات وبالفضائل قد تحـــــــــــــــلى
من بيت من طـــــــابت بهم أخلاقهـــــــــــــم فرعاً وأصلا
بيت النبـــــــــــــــــوة فيهم ما زالت الآيات تتلـــــــــــــى
فالشكر يجمل بي لأنـــــــك كنت قد أحسنت فعــــــــــــــلا
ثم لأن السيد محمود هذا كان قد اعتاد في كل ليلة تقريباً أن يلتقي في بيته بعض أصحابه المقربين له من الذين يألفهم ويرتاح إليهم يسمرون معه شأنه شأن كثير من أصحاب البيوتات النجفية الأخرى المعتادة على هذا اللون من اللقاءات الأخوانية، والمجالس الخاصة بكل فئة من الفئات. وقد كان المؤلف واحداً من الذين يرتادون مجلسه ذاك أحياناً، ويقضي مع الحاضرين فيه وقتاً ممتعاً، لذلك آثر في هذه الأبيات أن يصف بعض رواده بالصورة التي كان قد تخيلها عنهم قائلاً:
محمود …كاسمك أنت محمود وشخصك لن يمــــــــــــــــــلاّ
يا لطف مجلســـــــــــــك الذي بالصحب تجتمعون ليــــــــــلا
أنا كلما قد زرتــــــــــــــــــكم أجد النفوس لديــــــــــك جذلى
حتى الطريق يكاد يهتـــــــف قائـــــــــــــــلاً…أهلا وسهلا
أصحابك الظــــــــــرفاء فيه… عليهم الرحمـــــــــــــــن صلى
(عيسى) كطبعـك في صفاتك هادئاً خلقاً وعقــــــــــــــــــــلا
(والظالمي) هدوؤه ونـــكاته كالنبع تتـــــــــــــــــــــــلى…
(وأبو أسامـــــــــــــة) طيبٌ ومهذب الأخــــــــلاق (لولا)
يحتد أحياناً ويخلـــــــــــــط بين جد القول هـــــــــــــــزلا
في الطب أعــــــــرف علمه لكن ســـــــــــواي يراه جهلا
يصف الدواء لأيما مرض به، خســــــا وفجـــــــــــــــلا
حتى كأن الطــــــــــــب عاد لــــــــــــــــــديه لغواً ليس إلا
أنا لست أنـــــــــــــــكر أنه في الفهم مـــــــــــوقعه معلىّ
لكنــــــــــــــــــــه فهم عتيق مثلـــــــــــــما (خان المصلى)
**************
الحكاية التاسعة والعشرون
وكان مجلس المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي عميد هذه الجمعية لفترة طويلة من حياتها، من ألذ وأجمل مجالسها. وهو بحكم مهنته كأحد خطباء المنبر الحسيني كان مجلسه متنقلاً معه، أينما حل وحيثما وجد.
كان (رحمه الله) سريع البديهة، حاضر النكتة، ظريفاً، مرحاً على شيخوخته وكبر سنة. وكان لسانه لا يكل عن إرسال النادرة تلو النادرة، والتعليق الأدبي أثر التعليق، وكأن ذهنه خزانة مليئة بالقصص والحكايات والنوادر الأدبية، يرتجلها أحياناً أو ينقلها عن غيره أحياناً أخرى، ولو تهيأ لأحدهم أن يتصدى لجمع كل ما يؤثر عنه لجمع منه الشيء الكثير.
وكان بالإضافة إلى ذلك عف اللسان، مترفعاً عن الانزلاق مع ما يثيره الآخرون حوله، مما كان يحصل عادة بين الناس، بحكم اشتراكهم في المهنة، وتفوق بعضهم على البعض الآخر. أو لأي سبب من الأسباب الأخرى.
أذكر أن أحدهم أصطحبه مدة من الزمن ليتعلم أصول الخطابة وقواعدها عليه، ثم حدثت بينهما جفوة، لم يراع فيها ذلك الشخص حرمة الشيخ، وحرمة صلته به، وأستاذيته له، فأخذ ينال منه، ويعرض به، بكل مناسبة، وبلا مناسبة أحياناً. ونقل حديثه إلى الشيخ اليعقوبي، فابتسم رحمه الله وأنشد قائلاً:
قيل لي: نال منك من كنت تطري ذكره بالثنا، وما نلت منــــــــه
إن يكن صادقاً عفا الله عنــــــــي أو يكـــــــن كاذباً عفا الله عنه
وجمعه ذات يوم مجلس مع المرحوم الشيخ كاظم السوداني، وكان السوداني يكره الشاعر المتنبئ كرهاً شديداً، ويتناوله بالسوء كلما جاء ذكره. وتعمد احدهم أن يذكر المتنبئ ويطري شعره ليحرك الشيخ السوداني عليه، فثار هذا ثورته المعتادة حتى لفت نظر الحاضرين إليه. وأراد اليعقوبي أن يجد تفسيراً لتلك الثورة الفارغة فلم يجد إلا أن يوجهها توجيهاً ظريفاً بقوله يخاطب المتنبئ مازحاً.
يا أبن الحسين، وقد جريت لغاية قد أجهدت شعراء كل زمــــان
لكنما السودان حين هجوتــــــهم ثارت عليك ضغائن السوداني
****************************
فترك السوداني صاحبه الأول، وأتجه نحو اليعقوبي، وثارت ثائرته عليه، وتشعب بينهما الحديث، حتى ضاق اليعقوبي ذرعاً بكثرة كلامه، وعقم الجدل معه، فختم الحوار بينهما بهذين البيتين اللتين أنشدهما مرتجلاً:
يا هاجياً ربَّ القوافي أحمــــدا بلواذع من قوله، وقــــوارصِ
حسبي وحسبك في جوابك قوله (وإذا أتتك مذمتي من ناقـــص)
******************
كان ذلك شأنه في سرعة الإجابة، وحضور البديهة بما تقتضيه المناسبة وكانت إجاباته كلها تقريباً يضمنها البيت أو البيتين من الشعر حتى عرف بثنائياته وأشتهر بها.
دعي في سنة من السنين إلى قضاء عشرة أيام في مدينة الرفاعي بمحافظة ذي قار، بمناسبة حلول شهر محرم الحرام، ولرغبتهم في الاستماع إلى خطبه، وصادف أن كان البرد شديداً فاضطر إلى لبس (فروته) دائماً.
وزاره ذات يوم قاضي المدينة، السيد محمد رضا السيد سلمان، وهو من أهالي النجف أيضاً، ويرتبط معه بصداقة قديمة، وحين رآه منطوياً على نفسه، ملتفاً بفروته، يرتجف من البرد، ابتسم وأنشد يداعبه قائلاً:
يا لابس (الفروة) ما أجمـلك أجلدُ شاة ذا…أم الجـــــــلد لك؟!
(دعبلك) الله إلى حيـــــــــنا سبحان رب الخلق إذ دعبـــــلك
وكان ذلك القاضي بديناً، ذا بسطة مفرطة في جسمه، فالتفت إليه اليعقوبي، وأجابه على مداعبته بأبيات من وزنها وقافيتها مرتجلاً:
هذا زمان فيه أي إمــــــــرء مــــــــا لم يكن فيه خروفاً هلك
ما عاد تجدي بيننــــــــا جبةٌ أو لحية طـــــــــــــويلة أو حنك
الجلد قد أصبح لي سيــــــدي وقد تركت اللحم والشـــــحم لك
وصادف مرة أن كان في زيارة لقائمقام قضاء النجف السيد حسن جواد إذ دخل وفد من أهالي مدينة الكوفة، يحملون طلباً، قدموه إلى القائمقام يطلبون فيه مساعدتهم بمفاتحة الجهات الرسمية العليا في بغداد في تأسيس مشروع جديد لإسالة الماء في مدينتهم.
فأراد القائمقام أن يمزح معهم، فأحال الطلب إلى الشيخ اليعقوبي ليرى رأيه فيه، فعرف اليعقوبي غرضه، فارتجل البيتين التاليين يخاطب بهما القائمقام مازحاً.
لا تعر أهل كوفة الجند سمعاً ودع القوم يهلـــــــــكون ظماءا
كيف تسقي يا ابن الحسين أناساً حــــــــرموا جدك الحسين ماءا
وداهم العراق في إحدى السنين سيل من الجراد، فقامت الحكومة بمكافحته حسب الأصول، وخصصت مبالغ كثيرة لذلك. ولما كانت أعمال أغلب الموظفين يومئذ لا تتصف بالأمانة والإخلاص، فقد وجد بعضهم في تلك المخصصات فرصة ذهبية لملئ جيوبهم بالسحت الحرام، وذلك بصرف درهم واحد، وتسجيله عشرون درهماً. وقد شاع ذلك بين الناس وأنتشر حتى أصبح حديث المجالس والأندية. ودار هذا الحديث في الرابطة ذات ليلة فاقترح أحدهم إرسال برقية إلى الصحف في بغداد، يشيرون فيها إلى هذا المعنى، لعل الحكومة تتنبه للأمر وتضرب على أيدي المتلاعبين. وكلفوا الشيخ بصياغة تلك البرقية فابتسم وقال لهم اكتبوا:
إلا قل للوزارة وهي تبغـــي مكافحة الجــــــــــراد من البلاد
فهلاّ كافحت في الحكم قوماً اضرّ على البلاد من الجــــــرادِ
وأحيل صديقه العلامة الشيخ محمد السماوي على التقاعد، وكان يشتغل منصب القضاء. وقد اصطلح الناس يومئذ على تسمية كل من يحال على التقاعد بأنه (ضربه الذيل) حيث شاع هذا المصطلح بسبب من أن الحكومة قد أصدرت ذيلاً لأحد القوانين تم بموجبه فصل الكثير من الموظفين بعد أن استشرى الفساد بينهم، وتفشت الرشوة، واهتبلتها الحكومة فرصة ففصلت كثيراً من الموظفين المعارضين.
غير أن الشيخ السماوي كان قد أحيل على التقاعد بشكل طبيعي لبلوغه السن القانونية، ومع ذلك فقد أشيع عنه بأنه ضربه الذيل، فكان لتلك الإشاعة وقع سيء في نفسه.
وكان أمر إحالته على التقاعد قد صدر بتوقيع من السيد محمد الصدر رئيس مجلس التمييز آنذاك ورئيسه المباشر وظيفياً. فاستغل اليعقوبي هذا المعنى، ليدفع عنه تلك الشبهة التي لحقت به، ويوجهها بهذا التوجيه الطريف، فأرسل له هذه البرقية مداعباً.
قُل للسمــــــــــــــــاوي الذي فلك الزمـــــــــــــــان به يدورُ
الناس تضــــــــربها (الذيول) وأنت تضـــــــــربك (الصدور)
********************
وكان الناس من عادتهم ولا يزالون حين يفاجئون بأمر من الأمور لم يكونوا يتوقعونه، أو يخافون من شيء مبهم يصادفهم في حياتهم على حين غرة، تنطلق ألسنتهم بشكل عفوي بكلمة (اللهم صل على محمد وآل محمد) يرددونها وكأنهم يطلبون من ربهم أن يتدخل في شؤونهم ليدفع عنهم مخاطر المفاجآت.
وصادف أن أسندت رئاسة إحدى الوزارات إلى السيد أرشد العمري وكانت سمعة العمري عند الناس لا تؤهله لذلك المنصب، فكان نبأ تشكيل الوزارة من قبله موضع استغراب واستخفاف في نفوسهم.
وسئل الشيخ اليعقوبي عن رأيه في هذا الموضوع، فطفحت الابتسامة على شفتيه، وانشد مرتجلاً:
قيل الوزارة شكــــــــــــلت برئاســـــــــــــــة العمري ارشد
فاستقبل النـــــــاس الوزارة بالصـــــــــــــــــــلاة على محمد
ومن ثنائياته التي كان يرتجلها عفو الخاطر تلك التي قالها حين سمع راديو بغداد يعلن عودة بريطانيا إلى العراق، بادعاء حمايته، بعد فشل ثورة 1941م في حين كانت مدفعية هتلر تقصف لندن نفسها، ولم تجد من يحميها منه قال الشيخ ساخراً:
جاءت لتحمينا على زعمها ولندن ليس بها حاميــــــــــــــــة
قالوا قضى هتلر في أمرها يا ليتـــــــــــــها إذ كانت القاضية
*******************
ومنها يوم أشتد (ياسين الهاشمي) على الناس في وزارته الثانية سنة 1935 وكان أخوه (طه) وزيراً لدفاعه، وذلك بعد أن اتسعت حركات العشائر في جنوب العراق. فقابلتها الحكومة بمنتهى القسوة فسجن من سجن، وأعدم من أعدم حتى ضج الناس ولم يعد لهم أمل بالرحمة إلا أن تنزل عليهم من السماء. فرفع الشيخ يديه إلى السماء، واخذ يخاطب ربه شعراً على طريقته في ثنائياته قائلاً:
هذي وزارتنا ياسين يرأسها وقائد الجيش طه في الميــــادين
يا رب طه وياسين بحقهــما خلص عبادك من طه وياسيــــن
*****************
وسافر في سنة من السنين إلى الباكستان للإسهام في احتفال أقيم هناك بمناسبة مولد الإمام علي(ع). ودعي أثناء وجوده هناك لزيارة قبر الزعيم الباكستاني (محمد علي جناح). وبعد انتهاء مراسيم الزيارة قدم له سجل الزيارات ليكتب فيه عن انطباعاته ومشاعره أثناء زيارته لباكستان، ولقبر زعيمها بوجه خاص. فتناول القلم وارتجل البيتين التاليين وكتبهما قائلاً:
بلادك (يا جناح) بك استقلت وتم على يديك لها النـــــــــجاح
لئن نهضت وطارت للمعالي فإن جناح نهضـــــــتها (جناح)
كما سافر في إحدى السنين إلى لبنان لقضاء فصل الصيف هناك ومر على جبل عامل، ونزل ضيفاً على العلامة المرحوم الشيخ محمد تقي صادق في مدينة النبطية بجنوب لبنان.
وسأله ذات ليلة الشيخ محمد تقي عن النجف والنجفيين، وعن مجالسهم الأدبية، وهل ما زالت عامرة بأهلها، واستعاد معه ذكريات الماضي أيام كان تلميذاً في النجف، وتشوق لتلك الأيام وتمنى لو تعود، ثم جذب حسرة عميقة وأنشد قائلاً:
محـــــــــــافل جامع الهندي أثارت لأعج الوجــــــــــــــــــــدِ
ليــــــــــــــــالي قد عهدناها به طيــــــــــــــــــــــــــــبة العهد
وقد كانت على جيــــــــــــد الحمى واســـــــــــــــــــطة العقد
وددت لـــــــــــو أنها عادت وذلك جلُّ ما عنـــــــــــــــــــــدي
*******************
فأجابه الشيخ اليعقوبي على وزن أبياته وقافيتها مرتجلاً قال:
أبا جعفر.. يا حلف التــــــقى والفضــــــــــــــــــــــــل والرشد
يحن لك الحمــــــــــــى شوقاً حنيــــــــــــــــــــــــن الهيم للورد
يحييـــــــــــــــــك على النأي ويرعاك على البـــــــــــــــعد ؟؟؟
على عهد الوفــــــــــا باقِ كمــــــــــــــــــــا أنت على العهد
***********************
وأمثال هذه الإجابات والطرف الأدبية لديه كثيرة جداً، غير أن أكثرها قد ضاع إذ لم يكن هو قد أعتاد على تسجيلها، ولم يبق منها سوى ما كان محفوظاً في صدور معارفه من أبناء جيله، وقد ذهب أكثرهم، وذهبت هذه الأشياء معهم. وفيما ذكرناه منها الكفاية.
الحكاية الثلاثون:
إلى هنا نكون قد انتهينا من الجولة الأولى التي جلناها مع جماعة الرابطة الأدبية، وقبل أن نودع هذه المجموعة الطيبة نود أن نشير إلى آخر شوط حصل لنا فيها، يوم أغلقت الجمعية أبوابها، وانتهى أمرها، وأصبحت في ذمة التاريخ، بعد أن صدر الأمر بإلغاء الجمعيات الأدبية في القطر، وتوحيدها في مؤسسة واحدة هي:
(إتحاد الأدباء العراقيين)، كان ذلك (الشوط) أو المجلس لا يشبه مجالسها الأخرى، ولا حكايته تماثل حكاياتها السابقة من حيث المفاكهة والظرف، وإنما هو ألم وحسرة، وعتاب، سوف يدرك القارئ من خلاله ما انتهت إليه هذه الجمعية في أيامها الأخيرة مما دفع أحد أعضائها أن يصارح الآخرين فيه. حيث لم يتهيأ لأعضائها أن يلتقوا فيها عصر ذلك اليوم مجتمعين، كما هي عادهم في كل حين، فقد كان مقدراً على واحد منهم أن يكون إلى جانبها ساعة لفظت أنفاسها الأخيرة، وذلك حين حضرت اللجنة المكلفة بتصفيتها، وجرد موجوداتها، وبعد أن انتهت من عملها وتسلمت منه مفاتيحها، أو صدت بابها على ذلك التأريخ الطويل من عمرها الذي أمتد أكثر من خمسين عاماً.
ظل ذلك الرجل ساهماً لحظة أمام مبناها العالي بتراثها الخالد، مستعرضاً شريط حياتها وتأريخها الحافل، يتذكر بعض الوجوه التي تناوبت على إدارة شؤونها فنفعت وانتفعت، وتذكر مهرجاناتها الأدبية وحفلاتها، ومجالسها العامة والخاصة، ثم تذكر من أحسن إليها ومن أساء، وتتالت الذكريات أمام عينيه عن كل صغيرة وكبيرة من حياتها، وتجمعت في دمعة أحس بحرارتها تلذعه في قلبه جفنيه فالتقطها ليكتب فيها هذه الكلمات:
وقفت أسأل عن صحبي وأترابي وعن ليال سهرناها وأنخــــــاب
وكدت ألثم شوقاً عتبـــــــة الباب ولا أكابـــــــــر كاد الهم يبكيني
وحين لم يجد أحداً حوله يبثه ما كان بحاجة إلى بثه، توجه إلى واحد من أصحابه كان هو الآخر من أعضاء هيأتها الإدارية المخلص لها أنه المرحوم الشيخ جميل حيدر، فانزوى في مقهى قريب من بنايتها ليكتب إليه هذه الرسالة قائلاً:
أخي الكريم (أبا وميض) المحرم…تحية ، وعزاء، ورحمة من الله.
الآن هي الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم السبت 21/1/1984م وأنا أحرر لك هذه في اللحظات الأخيرة من حياة الرابطة الأدبية، حيث انتهينا الآن من تشييع جنازتها، وذرفنا دمعة الوداع على قبرها، وسلمنا مفتاح البيت إلى الوارث الجديد (وتلك الأيام نداولها بين الناس) صدق الله العظيم وبعد: ليتك كنت معي حاضراً حين كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي، حيث كنت الوحيد الذي شهد لحظة وفاتها.. كانت عينها شابحة في أرجاء المكان تبحث عن صدر من تلك الصدور العريضة كي تتكئ عليه مثلما اتكئوا عليها، وتستريح بجانبه مثلما استراحوا تحت ظلالها ويمنحها الدفء والحنان مثلما منحتهم، ورفعتهم، وأوصلتهم. كانت تبحث عن أبنائها الصغار والكبار اللذين احتضنتهم وربتهم حتى إذا ما ريشوا طاروا عنها.. كانت تأمل أن تمتد إليها ولو يد واحدة من تلك الأيدي الطويلة، والسواعد المفتولة لتنشلها أو على الأقل لتشارك في حمل جثمانها إلى مرقدها الأخير.. كان سمعها مرهفاً تجمعت فيه كل أصداء السنين الخمسين التي عاشتها حياة مليئة حافلة، وهي تصغي لعلها تستمع إلى كلمة حنان واحدة تخرج من بين شفتي أبن بار من أبنائها لتطبق عليها أجفانها، ولتكون زادها الأخير من دنياها.
أجل لم يكن هناك غيري لحظة وفاتها لقد أغمضت أجفانها بيدي وأسدلت على وجهها طرفاً من ردائي، وقرأت على روحها الفاتحة وكان آخر ما تفوهت به إن الله لا يضيع أجر المحسنين).
ولا أكتمك إن عاصفة من الغضب والعتب اجتاحتني على القادرين من أعضائها الذين كان بإمكانهم أن لا يفرطوا بها حتى انتهت إلى ما انتهت إليه لو لم أكن أعلم بما انتهى إليه حال بعضهم، فهدأت سورة غضبي وتذكرت قول من قال:
أيها المدلج في قافــــــــــــــلة ســـــــــارت وســــــــــــــــــــارا
في طريق واحـــــــــــــــد ثم تناســـــــــت أيــــــــــن صـــارا
ســــــــــــــامح القوم انتصافاً واختـــــــــــــــلق منك اعتـــذارا
علهـــــــــــم مثلك في مفترق الدرب حيــــــــــــــــــــــــــارى
*********************
هذا وللتفضل بقبول عواطف أخيك المخلص: محمد حسين 21/1/1948م
وحين وصلت الرسالة إلى (أبي وميض) هذا أجاب عليها برسالة على شكل مقامة من المقامات سماها (المقامة الرابطية) وكأنه أراد أن يختصر صورة تلك المجالس كلها قديمها وحديثها، بشعرها ونثرها، وبما استلطف من جدها ومفاكهاتها فأختار لها هذا اللون من الكتابة لتكون مسك الختام في تأريخها، وهذا هو نص رسالته، قائلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام خِلّ رابطي صـــــــادي إليك منــــــــــــــــي (يا أبا أيادِ)
حفظك الله ورعاك، وباللطف الوسيم حياك، وأثابك على ما ابتلاك مع المفجوعين، من إخوانك المؤمنين، بأمهم الحنون، الطيبة الجذور والغصون لقد هبطت مرثيتك علي، هبوط الصاعقة بين يدي، ففزها جس القلب، وأرتج خاطر اللب، ووجدتني منكباً على بعضي، نادباً فيها حظي..
مالي تخيرني الزمـــــــــــان لغربة فطــــــــــــــــواك عني
فبأي ركـــــــــــــــنٍ أستريح واستكــــــــــــــــن بأي حضن
أيــــــــــــــن التي كانت تهش إلي بالـــــــــــــــــــوجه الأغن
وتقلنــــــــــــــــي حلم النجوم فأستـــــــــــــــضيء بكل خدنِ
من كل من سكــــــــــن الفؤاد وســــــــــاح في جسدي وذهني
النابتــــــــــــــين على الهموم المـــــــــــــــــــــورقين بكل فنّ
أولاء رفقـــــــــــــــتي اللذين تمثلوك بكل حســـــــــــــــــــــن
كانوا غصونك في الربيـــــع وكنت نكهة كل غصــــــــــــــن
واليوم ما أوهى البنيـــــــــــن وما أذلــــــــــــــــــــك دون أبنِ
بلى والله ما هدأ البال، ولا قرت الحال، منذ التقيتك والبقية من الأخوة ففاض حبيس النجوى، على ضريح الذكرى، وتشابكت أسباب الشكوى، ما بين نافر الود، وواهن الجهد، ومشوب الصدر، ثم ختمنا مطرح الأفكار بما قالته في لحظات الاحتضار، لكل ساع لها بيقين (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) فدع عنك أولئك الكبار، القادرين على تزمية الثمار، من أجل رعاية الأشجار (الذين ريشوا فيها وطاروا) وانشدوا في بواكير مواسمها وأناروا، ثم وقفت وساروا، فلهم عتبى الدار، وبراءة الاعتذار، ولهم رغم نزوات الأغاره على شمائل الأصالة والنضارة، شرف الاحتفاظ بأصالتها العريقة، وهوايتها النجفية ونكهتها الرابطية.
أما أنت أيها الابن البار، فحسبك مثوبة الاحتضار، يوم (شيعتها، وذرفت دمعة الوداع الأخيرة على قبرها) ومن ذا يستعذب صوت النجدة الأخير، غير الذين استأنسوا تهجد العبير، في معابد السعير، لقد كنت محظوظ الدمعة، سخي استثارة النزعة، وما كنت رهين استخارة أو قرعة.
وأواه له من يوم تخاصرت فيه مع وارثها المستعار، على مسرى ربيع مستسلم الثمار، ونهار مرتحل الأنوار.
آه على أم الخصـــــــــــــــوبة أسلمت جسد الربيـــــــــــــــــع
في مثل هيمــــــــــــــنة الشفاه ومثل نمنمة الدمــــــــــــــــوع
آه على تـــــــــــــلك السلاسل من ذبــــــــــــــــالات الشموع
التاثـــــــــت كما لاث النجوم خمـــــــــــــارُ غيم عن سطوع
الأجل تعليــــــــــــــب الثمار يفــــــــــــــرض توحيد الزروع
شــــــــــــــالت بقافلة المواسم ريح حداء طليــــــــــــــــــــــــع
أجل أيها الأخ، ومثلما تجرعت كأسها الحنظلي، فلك أخ مثلك مبتلي، بالذي فيه ابتليت، ومصطلي بالذي فيه اصطليت، وربما شاركت هجس الفتيلة بالزيت:
كنــــــــــــت المعنى في اللقاء وكنت مثــــــــــــــلك في الغياب
كل على قدر يــــــــــــــــنوء بما تحـــــــــــــــــــمل من عذاب
قد كانــــــــــــت الرؤيا لديـك شفيــــــــــــــــــــــع دمع مستجاب
وأنا شفيــــــــــعي الاغتـراب فأنت أدنــــــــــــــــــــــــى للثواب
*******************
فكم مرة خالفت رجلاي فيها نظري، وكم مرة وأخرى سابقت عيناي فيها قدمي، فكانت النتيجة واحدة، هي التوحل في مطر الاستلاب، والنكوص على شوك الاغتراب وكم لأجلهم غب محتقن الأنفاس صليت، وتلوت الورد الذي فيهم تلوت.
سامح القوم انتـــــــــــــــصافاً واختلق منــــــــــــــــك اعتذارا
ربما العذر سيــــــــــــــــــسمو فترى الليـــــــــــــــــــــل نهارا
ولقد ذبت وما زلــــــــــــــــت على العــــــــــــــــــــذر اختيارا
قدري أن اعبد القــــــــــــــوم صغــــــــــــــــــــــاراً وكبارا..
والسلام.
جميل حيدر
*********
الحكاية الثانية والثلاثون:
الحكاية الأخيرة معهم:
كنت قد انتهيت من كتابة هذا القسم عن جماعة الرابطة الأدبية قبل فترة طويلة، وكان آخرها الحكاية الحادية والثلاثون التي حصلت بالمراسلة بيني وبين الشاعر المرحوم جميل حيدر بعد أن أغلقت الجمعية أبوابها، ولم يتيسر لنا أن نلتقي فيها بعد ذلك… وقد حاولت أكثر من مرة تقديم ما كتبته من تلك الحكايات عن الرابطة لنشرها في كتاب مستقل، لولا أنني كنت أؤجل الموضوع مرة بعد أخرى كما لو كنت انتظر تتمة ينبغي أن تضاف إليه… وقد حصلت تلك التتمة بوفاة (جميل حيدر) هذا.
وبعد أن حضرت مع الآخرين تشييع جنازته، ودفنه، وحضور فاتحته كنت أرغب أن أجلس معه جلسة رابطية خاصة، أناجيه فيها، مثلما أعتدنا عليه يوم كان حياً، لاعتقادي بأنه لم يمت، ولن يموت شاعر مثله، وكان أن ذهبت إلى قبره وحدي في اليوم الثالث من دفنه وجلست عنده أكثر من ثلاث ساعات، وشرعت أناجيه بهذه الأبيات التي أظنها سوف تعطي القارئ هي الأخرى صورة مضافة عن مجالسنا تلك في ظرفها الأدبي، سواء كانت تلك المجالس في الرابطة أو غيرها مع أحياء الناس أو موتاهم، وكانت هذه الأبيات.
رجعنا عنك بالذكــــــــــــرى وعشــــــــــــــــــــنا ليلة أخرى
وخلفـــــــــــــــــناك لا ندري الذي أنـــــــــــــــــــت به أدرى
********************
أخي جئتـــــــــــك هذا اليوم أطلب عندك العــــــــــــــــــذرا
لأنـــــــــــــي لم أطل مكــثـا لديك ولم أطق صبـــــــــــــــرا
خذلت وقد شهـــــدت القبـــر ينظر حولنا شـــــــــــــــــــزرا
وحــــــــــــــــل لثامة عنــــه كـــــــــــما لو كان مســــــــترا
وحيـــــــــــــــن نزلته وغــدا عليـــــــــــــك ترابه يـــــــــذرى
فلم تجـــــــــــــزع، ولم تدفع ولم تمــــــــــــــــــــــنع لهم أمرا
وأسرع بعضـــــــــــــــهم يلقي التراب عليك والصــــــــــــــخرا
وأين يروح من حــــــــــــــاول أن يهــــــــــــــــــــــــرب أو فرّا
**************
أخي كيف استطعــــــــــــــــت النـــــــــوم فيها هذه الصـــــحرا
أمـــــــــــــــــا خفت بها لـــيلا أما ضــــــــــــــــــــقت بها صدرا
وهــــــــــــــــل ضيفك الـــجار الذي عـــــــــــــــــــنك ثوى شبرا
وهل يعلم من أنـــــــــــــــــــت وما تكتـــــــــــب، أو تــــــــــــقرا
وهـــــــــــــــل يفهم لـــو رحـت عليــــــــه تقرأ الشــــــــــــــــــعرا
أو أن الشـــــــــعر في دنيـــــاك غير الشعــــــــــــــــر في الأخرى
وإن النـــــــــــــــــاس لا يدرون فيما بينهم يجـــــــــــــــــــــــــرى
فلا التــــــــــــــــاجر مشـــغولٌ.. بما بيع ومـــــــــــــــــــــــا يشرى
ولا المحـــــــروم يذرى الدمـــع يشـــــــــــــــــــــكو الجوع والفقرا
ولا العــــــــــاشق بعد المـــــــوت تبقى نفــــــــــــــــــــــــسه حسرى
ســـــــــــــــواسية هناك الناس قبـــــــــــرٌ يزحم القبــــــــــــــــرا
*****************************
أخي: أحببتُ أن أســـــــــــأل لكن لم أكـــــــــــــــــــــــــــــن أجرأ
أهل جــــــــــاءك بعد الدفن من يســـــــــــــــــــــــــأل أو مرا؟!
وهل مــــــــــــــنكرُ لما جاء كان حديــــــــــــــــــــــــثه نكرا..؟!
وهل نلت بمــــــــــــا جاوبت صفـــــــــــــــــــــراً كان أو عشراً؟!
أو أن جميـــــــــــع ما يحكى بما يـــــــــــدرى، ولا يـــــــــــــدرى
سواء عنـــــــــــــدكم أضحى فسبــــــــــــحان الذي أســــــــــــــرى
وعلى عادتنا في المفاكهة والمزاح، وقبل أن أغادر القبر أضفت إليها هذه الأبيات متسائلاً ومتظرفاً معه، ومستغفراً مما ينبغي الاستغفار منه، ثم دفنت الورقة في تراب قبره آملاً أن يجيبني عليها ولو في المنام. وهذه هي الأبيات المضافة.
هل أوقــــــــفوك ليـــــــــــــــــــسألوك..؟!
مـــــــن أيــــــــــــــــن جئت.. وما تريد؟!
وفـــــــتشوك.. وقيـــــــــــــــــل (خرخشْ)
فأجبــــــــــــــــــــــــــــتهم حسب الأصول
أم خفتهــــــــــم وبقيـــــــــــت (ترعش)..؟!
أم أنـــــــــــــــــــــــــهم عرفوك فاحترموك
واقــــــــــــتنع المـــــــــــــــــــــــــــفتش..؟!
الخاتمة:
أكرر مرة أخرى ما أشرت إليه في مقدمة هذا الكتاب بأنني لا اقصد أن أؤرخ لهذه الجمعية، ولا يصح أن تتخذ هذه المجالس تأريخاً لها، فتأريخها الأدبي والاجتماعي غير هذا، وإنما هي صورة عابرة عن مجالس بعض منتسبيها، وممارسات كانوا يمارسونها في حالات خاصة حين يجدون أنفسهم في حاجة إليها، شأنهم شأن غيرهم من الناس. لولا أنهم يصبونها في قال أدبي، وأسلوب شعري بحكم ما اعتادوا عليه في تربيتهم الأدبية.
ولأن أغلب تلك الحكايات والمجالس، والأبيات المتناثرة هنا وهناك، كانت تتداولها الألسن، ويستظرف بها الحوار، ثم سرعان ما تأخذ طريقها إلى النسيان فالإهمال، لذلك حرصت على التصدي لجمعها، وحفظها من الضياع والنسيان.
فأن وجد فيها القارئ متعته فذلك ما أرجوه، وسأقدم له القسم الثاني من مجالس النجف الأخرى. أما إذا كان رأيه فيها على خلاف ما نراه، وكانت ذائقته لها على غير ما نرغب فيه، فلا لوم عليه طبعا، ما دام اختلاف الأذواق باختلاف الأجيال والثقافات شيئاً معترفاً به، ومتفقاً عليه.
ولا أقل ـ والحالة هذه ـ من أن تبقى هذه المحاولة مؤشراً على جانب من حياة بعض الناس كان لهم شأن في هذه الحياة.
والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق
المؤلف
الأستاذ محمد حسين المحتصر
المصدر: مجلة آفاق نجفية العدد (5)
2013-02-28