الخميس , 21 نوفمبر 2024
الرئيسية » علوم وأدب » المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف – 5 –

المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف – 5 –

من مجالس جماعة الرابطة الأدبية

الحكاية الثالثة والثلاثون

ابتداءً.. أود أن أشير إلى أنني حين أسميته (مجالس أدب النجف) لا أعني حصول تلك المجالس في مدينة النجف حصراً، فقد نلتقي بهذا اللون منها في مكان آخر، طالما يوجد هنالك أدباء نجفيون يحملون معهم طبيعتهم، ومجالسها الأدبية.

ولأسباب مختلفة انتقل بعض أدباء النجف وفقهائها، وأقاموا بشكل مؤقت أو دائم في بعض مدن العراق، وانخرط بعضهم موظفين في سلك القضاء والتعليم، والبعض الآخر وكلاء عن المرجع الديني الأعلى في النجف… وكان ممن استقر بشكل دائم تقريباً عائلة آل حيدر في سوق الشيوخ، وعائلة الشيخ عبد المهدي المظفر، والسيد سعيد الحكيم في مدينة البصرة، وغيرها من العوائل والأفراد من أمثال الشيخ جعفر نقدي والسيد عبد الوهاب الصافي، حيث تعينوا قضاة شرعيين في البصرة، وهكذا كما انتقل إلى بغداد عدد كبير من النجفيين كان منهم الوزراء والموظفون الكبار، التجار ومن مختلف ذوي المهن الأخرى، وكان المفروض أن ينصهروا في مجتمعهم الجديد، ويذوبوا فيه لولا أن سمات مدينتهم، وخصوصيتها الأدبية كانت أقوى من أي مؤثر آخر طرأ على حياتهم.

وعلى العموم فبيوت بعض هؤلاء الناس أشبه ما تكون بمنتديات أدبية وعلمية، تدور فيها أحاديث الفقه والأدب، ويشيع في أجوائها ما اعتادوه من المفاكهات والظرف، مضافاً إلى ميزة أخرى كونها أصبحت مضائف مفتوحة دائماً لكل من يقصدهم فيها من معارفهم وأصحابهم.

وإذا كانت الضيافة لا تتعدى عند الآخرين يوماً واحداً أو بعض يوم، فإن هذه العادة غير معمول بها لديهم، ذلك أننا قد نجد بعض ضيوفهم المقربين يمكثون لديهم أياماً وأسابيع دون أن يسألوهم عن سبب بقائهم أو يجدوا حرجاً في ضيافتهم.

وعلى سبيل المثال، كان المرحوم الشيخ على البازي الخطيب النجفي المعروف اعتاد السفر إلى البصرة سنوياًً، والإقامة في بيت سعيد الحكيم شهراً كاملاً هو شهر محرم الحرام لارتباطه بالخطابة في بعض المجالس المدينة دون أن يجد السيد في ذلك، أو يحسن بأية مضايقه من ضيافته. بل لعله كان يرجح له البقاء عنده أحياناً، ويستزيده منه، لظرف ذلك الشيخ وأنسه به.

ومما ينتقل عن ظرفه معه، هو أن السيد رحمه الله كان مغرماً بمرق اليقطين وصادف أن كان غداء الشيخ وعشاؤه لعدة أيام من ذلك النوع من الطعام وفي اليوم الرابع أو والخامس سئم الشيخ البازي تلك المرقة تصاحبه وتماسيه كل يوم، فلم يملك نفسه حين وضع اليقطين أمامه للمرة العاشرة على المائدة، إلا أن يقف، ويتجه صوب مدينة كربلاء، حيث مرقد الإمام الحسين (ع) الذي جاء من أجله إلى مدينة البصرة لذكر الناس باستشهاده، فيتوسل به أن يخلصه من تلك الكارثة التي حلت به قائلاً:

أبا الشهداء خلصنا فإنا                مللنا مرقــــة اليقطين حتى

ابتلينا بالغداء وبالعشاء                كرهنا (يونساً) في الأنبياء                    

فابتسم السيد، ولابد من أن يطمئنه بتغيير لون طعامه في المستقبل، أخذ يبرر له تلك الأكلة، ويرغبها فيها، ويذكر له محاسنها قائلاً:

نسيت بأنًّ في اليقطين قالوا      شفــــــاءٌ أكــــلة من أي داء                          

لذلك نحــــــن نأكـــله دواء      لكي نستغني فيه عن الدواء                              

فما كان من الشيخ البازي إلا أن يعقب عليه بقوله، وعلى البديهية أيضاً 

كأني جئت أستشفي لديكـــــم          وليس بغير مرفقكم شفائي

إذا اليقطين أصبح لي علاجاً           فإن الموت خير من بقائي

وهكذا تحولت تلك المائدة إلى ندوة أدبية بسبب من مرقة اليقطين، وظرف صاحب الدار وضيفه.

ولم يكن البازي وحده قد اعتاد على الإقامة في بيت هذا السيد بل هناك شخص آخر كان مرابطاً لديه دائماً كما لو كان له دين عليه، لذلك هو المرحوم الشيخ عبد الرضا آل كاشف الغطاء الملقب (بشيخ العراقيين) صاحب مجلة الغري النجفية، ومن النوادر التي تنقل عنه هذه النادرة الطريفة.

فقد كان لدى السيد الحكيم ولد في الصف الثالث المتوسط، وكانت الامتحانات على الأبواب، فطلب الولد من أبيه أن يكلم ضيفه الشيخ بمساعدته في درس اللغة العربية طالما هو موجود لديهم، فكلم السيد ضيفه، فاستجاب لطلبه، وحضر الولد أمامه، ومعه كتاب (القواعد النحوية) المطلوب منه امتحانه فيه.

فقال له الشيخ: نح هذا الكتاب عنك، أنا لا أهتم به، ولا أعتبر ما فيه وسوف أعطيك تمارين خاصة هي أنفع لك من تمارين هذا الكتاب.

وكلما أراد الولد أن ينفعه بأنه لا يريد أن يتجاوز في علمه الكتاب المقرر فلم يقتنع الشيخ وأصرّ على أن ما سوف يقدمه له من المعلومات المبسطة إنما هو أفضل بكثير وأسهل مما هو موجود بذلك الكتاب. فأذعن الولد لرأيه وظن أن لديه طريقة جديدة سهلة يستطيع بها اجتياز الامتحانات، والتفوق فيه، وقال له تفضل. فالتفت الشيخ إليه قائلاً:

((خشب في خشب من خشبِ الشَفْشَنَحَلْنْج))

فارتعد الولد، وبهت، وظل يلتفت يميناً وشمالاً يبحث عن أبيه ليستنجد به وكان الأب يستمع إلى طرف من حوارهم،  فضحك وقال للشيخ:

ـ أعده عليّ.. أنا أعربه لك..

فأعاد عليه بصيغة الوثاق بأن الأب سيعجز هو الآخر عن فهمه وأعرابه. فقال له رحمه الله:

ـ لقد كان من المناسب يا شيخ أن تذكر للولد الشكر الثاني منه ليتضح له معناه جيداً فسأله الشيخ: وما هو الشطر الثاني؟! فأجابه على البديهية مازحاً:

((إنما عقلكُمُ يا شيخنا مضروب بَنجْ))

وانتهى الدرس بأن عاد الولد إلى كتابه ، بينما ظل الشيخ مخشوشباً ومصراً على فهمه لقواعده في تدريس اللغة العربية وآدابها.

الحكاية الرابعة والثلاثون

ونقل لي أحدهم بأنهم كانوا مجتمعين ذات يوم في بيت المرحوم الشيخ جعفر نقدي في البصرة، ودار الحديث عن مناخ المدينة، وشدة حرها ورطوبتها، وكان الحر شديداً في تلك الأيام، فاقترح أحدهم أن يشتركوا في نظم قصيدة يصفون فيها ذلك المناخ، وطلبوا من الشيخ النقدي أن يبدأ في اختيار المطلع، ففكر قليلاً ثم ارتجل قائلاً:

أفي البصرة المرء يرجو بأن          يُرغَّدَ في عيشه الناعم

نهــــــــارٌ تَوَقّدُ نيرانــــــــــه            وليلٌ يبولُ على النـائم           

فعقب أحدهم قائلاً: لقد تمت القصيدة.. وهل نستطيع أن نضيف إلى هذا المعنى معنى آخر يفضله.

ثم تشعب الحديث بعد ذلك، وشرع كل واحد منهم يتذكر أيامه عندما كانوا في النجف يدرسون، ويقص عليهم من القصص والحكايات ما بقي عالقاً في ذهنه منها.

قال أحدهم: أذكر أنني خرجت صحبة بعض المشايخ عصر ذات يوم للنزهة على شاطئ الفرات في الكوفة، وقد أخذنا معنا أدوات الشاي، وكان من بينها (سماور) من الصفيح (التنك) وتحلقنا حوله في بستان على جانب الطريق العام.

وكان يجلس قريباً منا رهط من الشباب كانوا من طلبة العلوم الدينية مثلنا سابقاً، ولكنهم بدلو مسلكهم، وغير نهجهم في الحياة، وأصبحوا موظفين في الدولة.

وأراد أحدهم أن يمزح معنا فنظم هذه الأبيات، وأرسلها لنا بيد صبي من أبناء الفلاحين قائلاً:

سماورٌ بات يحكي ثديَ مرضعةٍ            لكن أهل اللحى في درّه اشتركوا

سماورٌ راح يحكي عقل صاحبه            كلاهما أن تفـــتش عنهما (تنك)

فأجابه أحد مشايخنا بهذه الأبيات، وكتبها على الورقة نفسها، وأعادها إليه قائلاً 

أعيذك الله لو صادتك واحــــــــدةٌ               منها، فتلك اللحى في شرعنا شَرَكُ

فسل أباك، وسل من شئت تفهمها               فأنهم، وهي لولا طولها هلــــــــكوا

لا تعجلنّ فقد يضــــــــطركم زمنٌ               لها، وتعـــــــرف منها أيّنا (التنك)

ثم أعقبه النقدي بهذه الحكاية قائلاً:

أراد أحدنا أن يشتري خاتماً له، وحيث كان يجهل أنواع الأحجار الكريمة، لذلك طلب منا أن نصطحبه لمساعدته في اختيار الخاتم الجيد، فقام معه أربعة مشايخ.

فنثر الصائغ أمامنا مجموعة من الخواتم لنختار ما يعجبنا منها وكانت كلها جميلة وثمينة  فعلاً،  فأخذ كل واحد منا يقيس على أصبعه خاتماً وأن لم يكن في نيته شراؤه. فضحك أحد المشايخ وارتجل قائلاً:

ألقى الخواتيم لنا  فانتثرت          حتى تنافسنا عليها معـــه

فلا تسل عنا فكلُّ واحـــــدٍ         أدخل في (خاتمه) إصبعه           

والتورية واضحة لا تحتاج إلى إيضاح.

ثم انبرى شيخ آخر، وقص عليه هذه القصة قائلاً:

عاد أحدُ مشايخنا من مكة المكرمة بعد أداء فريضة الحج، وعلى العادة المألوفة بين الناس جلب معه الهدايا (صوغات) كان فيها علب السكائر، وفيها المناديل، وفيها غير ذلك وكانت حصة أحد أصحابه منها زوج جواريب، فاستلمها منه، وشكره على هديته، وكتب إليه مازحاً:

وهكذا كانت أوقاتهم ومجالسهم ينفقونها بين حكاية طريفة، إلى قصة مستملحة فبيت شعر بالمناسبة، وهي من ألدّ المجالس وأنفعها حين تقترن بمجالس الآخرين.

ويوم كان المرحوم السيد عبد الوهاب الصافي قاضياً في المحكمة الشرعية بمدينة البصرة، راجع أحد اليهود المحكمة راغباً في إعلان إسلامه، وبعد أن تمت الإجراءات الرسمية المطلوبة، وأقرّ بالشهادتين أمام القاضي، وأريد تسجيل اسمه في سجلات المسلمين، وكان اسمه (كوهين) طلب القاضي أن يختار له اسماً مناسباً من أسماء المسلمين، فابتسم الصافي رحمه الله، والتفت لكاتبه قائلاً:

ـ سجّل اسمه (حنون) مشيراً بذلك إلى البيت المعروف:

ما زاد (حنون) في الإسلام خردلةً            ولا النصارى لها شغلٌ بحنونِ

الجكاية الخامسة والثلاثون

وهناك أديب نجفي ظريف، لا يتذكره النجفيون إلا قليلاً، فقد غاب عن مجالسهم منذ زمن بعيد، بعد أن أمض به الجوع، واضطرته الحاجة إلى طلب الوظيفة، فتلقفته بأحضانها، وقبرته بين ملفاتها إلى أن مات في الستينات فانتقل من قبر إلى قبر.

كان هذا الإنسان تحفة، وأعجوبةً في حضور بديهيته، وسرعة خاطره، وشغفه بالنكتة الأدبية، وجودة صياغتها لها شعراً أو نثراً، وكان مجلسه من ألذّ المجالس حين تزوره في بيته يوم قبوله، أو تقصده إلى دائرته، أو تلقي به في نادي الموظفين حيث يتحلق حوله جمع من رواد النادي، وهو يرسل النكتة تلو النكتة، والنادرة الأدبية أثر النادرة، وكأن في ذهنه خزيناً من النوادر لا ينضب، بعضها محفوظٌ لديه من مأثورات الأدب العربي، وأغلبها مرتجل عفو الخاطر ـ وفقاً لما يقتضيه الحديث، وتتطلّبه المناسبة.

أذكر أنني كنت مرةً ضيفاً عليه، قبل الرابع عشر من تموز 1958 وكان يقيم يومئذ في مدينة الكوت مديراً لمكتبها العامة. وكانت مدينة الكوت يومئذ ضمن نفوذ إقطاع أمراء ربيعة، أصهار البيت المالك في العراق، وكان معظم سكان تلك المدينة وضواحيها يعملون ويشقون لمصلحة تلك الأسرة واكتساب رضاها، شيء مفروغٌ منه، ولا نقاش فيه، يكفي أن تذكر اسم (الأمير) حتى يرتجف كل شيء من حولك.

المهم إننا خرجنا عصر أحد الأيام طلباً للنزهة في شارع النهر، فشاهدنا في طريقنا مخططاً لبناية جديدة يراد منها أن تكون داراً للسينما، وقد نشرت في واجهة البناية لافتة كبيرة تحمل اسم المقاول والمهندس المشرف على البناء مضافاً إلى اسم تلك السينما، وكانت بهذا الاسم (سينما مجد ربيعة).

فتأملها صاحبنا قليلاً ثم ابتسم وقال: وكان جماعة من العمال والمشرفين على العمل يصغون إليه حين قال:

ـ يبدو أن صاحب هذه السينما غريب على منطقتنا، ألم يدرك أن مجد ربيعة مقدم على كل شيء عندنا؟! كيف لنفسه أن يقدم كلمة (سينما) على هذا المجد العظيم. يجب أن يغير الاسم ويكتب على الشكل التالي (مجد ربيعة سينما).

وكان في وقتها نكتة حادة وخطرة لم يمنعه من إرسالها ما يمكن أن يحصل له من جرّائها. هذه واحدة، وله حكاية أخرى نظيرها وهي:

كان في مدينة الكوت نفسها أيام العهد الملكي أيضاً وجيهٌ متنفذ يرتبط بالبلاط بسبب من الأسباب، وقد رغب ذلك الوجيه أن يرشح نفسه لانتخابات المجلس النيابي في دورةٍ من دوراته، وعلى الأصح أرادت الحكومة أن ترشحه ليكون نائباً عنها لا عن الناس، وضمنت له الفوز بالتزكية، ففاز فيها. ثم اشتهت أن تكرمه لترفع من مكانته الاجتماعية، فأوعزت إلى متصرف اللواء أن يرعى احتفالاً يقام بمناسبة فوزه في الانتخابات… وبدوره أوعز المتصرف إلى حاشيته بإقامة ذلك الاحتفال واختيار من يلقي فيه، وما يلقى فيه شعراً ونثراً، وأهازيج محلية، ووقع الاختيار على جماعة كان من بينهم صاحبنا الأديب النجفي مدير المكتبة العامة. لنتصور ذلك الموظف الصغير ، وقد طلب منه المتصرف، وعلى الأصح أمره بأن يقول شيئاً بتلك المناسبة.. هل يمكنه أن يعتذر؟ أو هل يمكنه أن يقول: إن الانتخابات كانت مزيفة وباطلة، وأن بعض الفائزين فيها لا يستحقون أن يكونوا فرّاشين في المجلس بدلاً من أن يكونوا نواباً فيه؟!

على أي حال، لقد فُرِضَ على صاحبنا أن يشارك في الاحتفال فشارك فيه، ولم يَسَعْه إلا أن يمتثل فامتثل، غير أنه أخذ يفكر في كيف يوفق بين ما يريده هو وبين ما يريدون منه.

يريدون منه أن يمدح، ويثني على الانتخابات، ويمجد الحكومة، ويريد هو أن يسخر منها، وبالفائزين فيها، ويندد بالوضع الذي كانت البلاد تسير عليه.. أمران متناقضان لا يمكن الجمع بينهما على صعيد واحد، ولكن.. أين موهبته الأدبية إذن؟! ثم أين نجفياته إن لم تسعفه في مثل تلك المواقف المحرجة؟!

كان الحفل غاصاً بسراة القوم، وكان الميكرفون ينقل للمستمعين داخل القاعة وخارجها أن تقدم فلان الشاعر، وانتهى دور فلان الأديب، إلى أن قال:

والآن يتقدم الشاعر النجفي الأستاذ فلان لإلقاء قصيدة بالمناسبة، وصعد صاحبنا منصة الخطابة، موجهاً كلامه للمحتفى به قائلاً:

يا نائب الكوت.. وما أجمــــــها             من نسبةٍ تقصر دونها النِسَب

اعملْ وخلِّ القوم جانباً فـــــــما             يحقق الإصلاح قولّ أو صخب    

وإن دعيت لخطــــــابٍ مـــــرةٌ             فقل لهم أني أكــــــــــره الخطب..

 ما قيمة القول وقد قال لنـــــــا             أسلافنا (إنَّ السـكوت من ذهب)        

 وظيفتي في المجلس العالي أن             أصغي وأرنو بوقــــــــارٍ وأدب               

 تنازعــــوا ما بينــــــكم فأننـي            أمنح صوتي ههـنا لمن غلبْ                                         

فضجت القاعة بالتصفيق، واستعيد الشعر عدة مرات، وضحك الناس، حتى المحتفى به ضحك معهم إسوة بهم دون أن يدرك سبب الضحك، وكانت في وقتها نادرة الموسم. وحديث الناس.

هذا وهناك حكايات وقصص أخرى لهذا الأديب، شاهدت بعضاً منها عندما كنت أحضر مجلسه، أو سمعتها منه وهو يحدثني عنها أحياناً. سأذكر منها ما يتسع المجال لذكره.

زارت مدينة الكوت في عهد محافظها المرحوم عباس البلداوي، فرقة تمثيلية، فاهتم الناس بها، ووزعت بطاقات الدعوة على التجار والتمويلين، وجمع مبلغ لا بأس به من المال عن طريق التبرعات، وإقامة اليانصيب.

وكان من بين أعضاء تلك الفرقة فتاة جميلة رشيقة لعوب اسمها (رباب) نزلت من نفس المحافظ منزلة عظيمة عن زميلاتها، وإن شئت فقل: تعلقها المحافظ وأعجب بها، وعرف سائر الموظفين ذلك منه فتحاموا التقرب منها، أو التحرش بها.

وكان من بين الفعاليات التي نظمتها الفرقة إقامة حفلة راقصة في نادي الموظفين، صادف أن حضرها الدكتور علي الصافي حيث كان في زيارةٍ للكوت تلك الليلة لشغل خاص به. فطلب منه أن يتبرع، أو يساهم في اليانصيب الذي أنشئ لمصلحتها فمد يده إلى جيبه، وأخرج بعض ما فيه، ودفعه لهم مدعياً بأنه أعطى كل ما لديه ثم أنشد قائلاً 

أفرغتُ في الكوت جيبي              بحجّة اليانصيب

ولما كان جو الحاضرين جواً (استثنائياً) مختلطاً بالشعر والرقص، والمفاكهة والمرح إلى آخر ما هنالك، فقد أعجبهم هذا البيت إعجاباً أصرّ المحافظ على إتمامه قصيدة كاملة. وطلب من الحاضرين أن يرشدوه إلى من يستطيع القيام بهذه المهمة، فوقعت الأنظار على صاحبنا الشاعر النجفي، مدير المكتبة العامة في الكوت، فاستدعي في الحال وكان جالساً في جانب من جوانب النادي مع الموظفين الصغار من أمثاله، فحضر ومثل أمام المحافظ.

وبين ضحك الحاضرين ومزاحهم ومرحهم أصدر له المحافظ أمراً إدارياً شفهياً فوق العادة بوجوب القيام بهذه المهمة فوراً. ولما كان شاعرنا بدوره قد استدار رأسه أيضاً بفعل ما أفرط في شربه فقد استجاب بسرعة، بعد أن طلب الأمان من المحافظ وحاشيته عن كل كلمة يقولها. فقال له المحافظ.

ـ لك الأمان.. قُلْ ما تشاء، فأنشد مرتجلاً:

أفرغتُ في الكوت جيبي          بحجّة اليانصـــــيب

وقد تقبّـــــــــــــــلتُ هذا           منكم بصدرٍ رحيب

ولو ملــــكتُ ألوفــــــــاً           وهبتــــــــها لحبيبي

فضحك الجميع، ورفع المحافظ يده قائلاً:

ـ لا.. لا.. أنا أريد أؤدبها.

ولعل أروع ما يمثل سرعة خاطره، وحضور بديهته هذه الحكاية التي حصلت له أيضاً، بعد ثورة الناس عنه بإعجاب في حينها. وخلاصتها:

بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958م صدر تعميم من وزارة الإعلام العراقية يقضي بجمع الكتب والصور والنشرات التي تتحدث عن الأسرة المالكة، ورجالات العهد المباد، وحفظها في مكان بعيد عن متناول الأيدي ريثما يصدر قرارٌ آخر بشأنها. فاستجاب صاحبنا بطبيعة الحال لهذا التعميم، وجمعَها ووضعها في إحدى الخزانات، وقفل عليها.

ويبدو أنه كان بينه وبين أحد موظفي دائرته علاقة سيئة، فوشى به ذلك الموظف لدى بعض المسئولين، واتهمه بأنه من أنصار العهد المباد، ومن محبي الأسرة المالكة وذلك بدليل احتفاظه بالكتب والصور والنشرات التي تخصهم وتتحدث عنهم في إحدى خزانات المكتبة، وأقفل عليها، ولم يتلفها متوقعاً عودة الوضع إلى حاله الأول من جديد ليكون عند ذلك قد نال الحظوة لديهم.

وانطلقت الوشاية على القائمين في الأمر يومئذٍ، وبدفع من الزخم الثوري والهياج الانفعالي، والغضب المتسرع الذي كان يتحكم في عواطف بعض الناس يوم ذاك، تجمع جمهور من الشباب وغوغاء الناس، وهتفوا بسقوط هذا العميل الخطر وقصدوه إلى المكتبة للوقيعة به.

وكان الرجل في مكتبه لا يعلم شيئاً مما جرى بشأنه، وما أحس ّ إلا والناس يهجمون عليه من كل جانب ومكان، من الباب، ومن النوافذ، ومن أعلى السياج، وهم يهتفون بعمالته، ويريدون الوقيعة به.

فما كان إلا أن قفز عن كرسّيه، ووقف منتصباً على المنضدة خطيباً  فيهم، رافعاً يديه إلى الأعلى كما يفعل الجندي لحظة أسره قائلاً:

ـ أيها الأخوة.. السلام عليكم.. ها أنا ذا بين أيديكم.. افعلوا بي ما تشاءون ولكن أريد شيئاً واحداً منكم قبل تنفيذ ما صممتم عليه، هو أن أعرف قبل أن أموت الذنب الذي اقترفته فأثار فيكم هذا الانفعال:

 فأجابه أحدهم ساخراً:

ـ إنك من ذيول العهد المباد، بدليل أنك تحتفظ بصورهم، وما كتب عنهم في إحدى هذه الخزانات ولا تريد أن تتلفها..

وبعد أن اتضح الأمر لديه.. فماذا تراه في مثل ذلك الموقف المحرج؟!

وما عسى أن يقول لهم في مثل تلك اللحظات الدقيقة الحاسمة التي ينهار بها أقوى الرجال وأشدهم صلابة؟! أيقول تلك الوزارة يومئذٍ حتى تتحدى مشاعر الجماهير؟!

لكنّ ذهنه كان على أروع حالاته يقظة، وكانت بديهته على أ فضل ما تكون التقاطاً وسرعة لاقتناص الجواب المناسب لمقتضى الحال، فابتسم في وجوههم وقال ـ أنا لا أنكر أنني أحتفظ بصور الأسرة المالكة في إحدى هذه الخزانات، ولكني أطلب شيئاً واحداً من حضراتكم، هذا الشيء هو أن يمدّ كل رجل منكم يده إلى جيبه ويخرج ما فيه من النقود حتى ولو كانت قطعة واحدة.

فامتدت الأيدي إلى الجيوب، ومسك كل شخص منهم نقوده بيده، وقال أحدهم ساخراً منه، كما لو كانوا يمثلون في مسرحية:

ـ هذه نقودنا.. هل تريد أن نقاسمك إياها؟

فأجابه: كلا.. ولكن هذه صور الملك تحملونها أنتم في جيوبكم، فهل أنتم من محبيه؟! (وكانت العملة لا تزال تحمل صورة الملك طبعاً) فبهت القوم، وكانت التفاتة بارعة منه واعتذروا منه بعد أن فهموا حقيقة الأمر، وتعميم الوزارة بهذا الخصوص.

كان هذا الرجل ينضح ظرفاً، وخفة روح، وسرعة بديهة، فما رأيته إلا وهو  ضاحك مبتسم كان هذا الرجل في أشد حالاته عسراً، وأقسى أيامه ضيقاً.

كان له بذمة أحد أصدقائه مبلغ يسير من المال، كان قد اقترضه منه ولم يعدُهُ إليه وكان كلما طالبه بالوفاء ماطله واعتذر منه قائلاً:

ـ ممنون.. حلت البركة.. سأدفعه لك في الشهر القادم.

ويأتي الشهر، وينتهي والمدين لا يحيد عن هذه الكلمة (ممنون.. حلت البركة) فسئم منه هذه المماطلة، وتكرار تلك الكلمة التي لا يحسن غيرها في اعتذاره، وضاقت به الحال ذات يوم فكتب إليه قائلاً:

إفلاســـــكم ومحـــــــــنتي               مصيبــــــــةً مشتركـــــة 

أكلّمـــــا طالبـــــــــــــــتكم..             ممنون حــــــــلّت البركة

متى أرى (المنـــــون) هذا              واقعـــــــــاً في الشبـــــكة           

مات (داوود) وذكراه بقت              سوف تنعاه رجالٌ أفلحتْ

 واذكر أنني ذهبت معه ذات يوم إلى مجلس فاتحة أقيم في مدينة الكوت على روح وجيه من وجهائها اسمه (داوود) وفي أثناء ذلك قام أحد الشعراء المرتزقة ليقرأ قصيدة في رثاء المرحوم قال في مطلعها:

فابتسم رحمه الله، والتفت إلي وقال اسمع، لقد شطّرت هذا البيت ثم أنشد على البديهة

قائلاً:

مات داوود وذكراه بقت        إنما صورتُه عنا اختفتْ

فرثيناه وقلنا من (تحت)       سوف تنعاه رجالٌ أفلحت

إلى أمثال ذلك من طرائفه ومجلسياته، وهي كثيرة جداً، ويكفينا منها ما ذكرناه.

كان هذا الأديب شيخاً من مشايخ النجف في شبابه، ينحدر من أسرة نجفية كريمة، لولا أن الجوع أمض به، فاضطر إلى قبول الوظيفة تعففاً عن مد يده إلى الآخرين وبعد عن أجواء مدينته غير أن ملامحها بقيت تتوهج بين جنبيه، إنه الشاعر المعروف المنسي المعروف الشيخ محمد جواد خضر القرملي، رحمة الله عليه.

الحكاية السادسة والثلاثون

كان المرحوم الشاعر الشيخ محسن الخضري معروفاً بحضور بديهته، وسرعة خاطره، ولطف دعابته وشغفه بالنكتة الأدبية، وحسن صياغته لها شعراً على السليقة. وكان كلما حضر مجلساً لا بد أن يدير الحديث فيه حول هذا اللون من الظرف والدعابة حتى اشتهر بهما  في زمانه، وعرف فيهما بين أقرانه.

وقد اخترت من مجلسياته، ومفاكهاته الأدبية هذه الأضامة كصورة معبرة عن ذوق عصره وما كانوا يأنسون به في أوقات فراغهم.

يحكى عنه أنه سافر ذات مرة لزيارة مرقد الإمام الحسين (ع) رفقة جماعة من أصحابه وكان سفرهم مشياً على الأقدام لعدم توفر وسائل النقل الحديثة يومئذٍ. واتخذوا طريقهم على ضفة نهر الفرات من الكوفة إلى ضواحي مدينة كربلاء، وقد وضعوا متاعهم وأغطيتهم على حمارٍ استئجروه لهذا الغرض، بحيث كانوا ينزلون متى يشاؤون في المكان الذي يعجبهم على ضفة النهر، فيستريحون، ويصلون، ويطعمون، ثم يعاودون المسير بعد ذلك شأنهم شأن غيرهم من المسافرين في ذلك الزمان.

وصادف أن مطرت السماء عليهم مطراً غزيراً، اضطرهم إلى أن ينزلوا ضيوفاً على أحد المضائف الواقعة على الطريق، وكان اسم صاحب ذلك المضيف (لهمود آل زحاف) فاستقبلهم الرجل أحسن استقبال، وقام بواجب الضيافة خير قيام، فأوقد لهم النار وصنع لهم الشاي والقهوة، ثم جاء لهم بالعشاء، وكان عشاء جيداً احتوى على عدد من الدجاج بحيث لحق كل شيء منهم نصف دجاجة تقريباً.

غير أنّ أحدهم اتهم حصته، وانكفأ على حصة الشيخ محسن فلم يبق له منها شيئاً، وأنشد في أثناء ذلك قائلاً:

أدجاج (زحَافٍ) عليك تزحافت        بيض العمائم في الليالي السود           

 ثم طلبوا منهم أن يضيفوا إلى هذا البيت ما يناسبه، فانبرى الشيخ محسن على البديهة مرتجلاً:

يا حسنها من ليلة موصوفةٍ                كناّ بها ضيقاً على (لهمود)

تلك الشمائل ليس يعرف فضلها          إلا الذين لهم يدٌ في الجـود

هي من سجايا العرب في إكرامهم      للضيف إكراماً بغير حدود           

ثم التفت إلى صاحبه الذي التَهم حصته، وأومأ إليه قائلاً:

وأظن أنك لست من أبنائهم           إذ أنَّ طبعك كان طبع يهودي

وسافر أحد أصحابه من المشايخ ذات سنة إلى مدينة الكفل، الواقعة على الطريق بين النجف والحلة، وكانت الكفل في ذلك الوقت تضم عدداً من اليهود اتخذوا سكناهم فيها لوجود مرقد أحد أنبيائهم المسمى (حزقيال).

وطال سفر ذلك الشيخ، واشتاق له أصحابه، فكتب له الشيخ محسن رسالة يستحثّه فيها على العودة إلى النجف، ويداعبه بهذين البيتين قائلاً:

زرت (ذا الكفل) قاصداً من بعيد            وعقدت الرداء بين اليهود

أعن الديـــــن ردّةٌ؟! هل تهودّت             رجاء اليســــــار بالتهويد           

وكان لأسرة آل كاشف الغطاء في النجف علاقات وزيارات متبادلة مع بعض رؤساء عشائر ربيعة في محافظة الكوت. وصادف أن مرض أحد أولئك الرؤساء واسمه (الأمير نصيف) ونقل إلى بغداد لعلاجه، فذهب المرحوم الشيخ عباس آل كاشف الغطاء لعيادته في المستشفى، وكان بصحبته السيخ محسن الخضري.

وقبل وصولهما إلى المستشفى توفي ذلك الأمير، ولم يتمكنا حتى من اللحاق بجنازته ومعنى ذلك أن تعبها ذهب سدى، فضحك الشيخ محسن، وارتجل هذين البيتين يخاطب بهما عباس مداعباً.

أمحلقاً للكرخ من وادي الحمى          كيما تزور به الأمير (نصيفاً)

مهلاً فإنـــــــك لم تزر ذا علّة           إلا وكان لك الحمــــــام رديفا

فأجابه الشيخ عباس على البديهة قائلاً:

أحسنت حين وصفت نفسك بيننا           إذ كنت لي طول الطريق رديفا

من كنت أنت رفيـــــقه في دربه          فالموت أولى أن يكــــــون حليفا

وكان بين مدينتي النجف والحلة تنافس علمي وأدبي قديم سببه انتقال الحوزة العلمية من النجف إلى الحلة، ومن الحلة إلى النجف في فترات مختلفة، وكان من مظاهر ذلك التنافس اعتداد سكان المدينتين بأنفسهم، وتكتلهم حول بعضهم البعض على الطريقة العشائرية القديمة.

وصادف أن توفي العلامة السيد مرزا جعفر النقدي القزويني، وأقيمت له حفلات التأبين، على العادة المألوفة، ورثاه الشعراء، وكان من بين من رثاه الشاعر السيد حيدر الحلي بقصيدته التي يقول في مطلعها 

قد خططنا للمعالي مضجعاً            ودفنا الدين والدنيا معاً

وهي قصيدة عامرة في مجالها، ورغب الشاعر أن يقرأ في النجف، لزواج سوق الشعر فيها من جهةٍ، أو كلون من ألوان التحدي وإثبات الذات من جهة أخرى.

ويبدو أن النجفيين فهموا غرضه، فتعصبوا عليه بدورهم، واتفقوا فيما بيهم على أن لا يستعيدوا منها ولا بيتاً واحداً، حيث كانت الاستعادة ولا تزال، دليل استحسانهم وإعجابهم. فاستاء السيد رحمه الله استياء ً كبيراً، وحزّ في نفسه أن يستمع إلى قصيدته تقرأ ولا أحد من الحاضرين يستعيدها، فتلَفَّت في وجوه القوم، فوقع نظره على الشاعر الشيخ محسن الخضري، فاتجه إليه يعاتبه بألم ومرارة قائلاً:

إذا كان الشعر حسناً فلماذا لم تعط حقه من الاستعادة؟! وإن كان غير حسن فقل للقارئ أن يترك إنشاده، فإني لا أرى في المجلس من يستحق أن أعاتبه سواك. فخجل الخضري منه، وتأثر بعتابه، وأجابه معتذراً في الحال بالبيتين التاليين أنشدهما مرتجلاً:

ميزتني بالعتب دون معاشــــــر            سمعوا، وما حيٌّ سواي بسامع       

أخرستني وتقول ما لك صامتاً             وأمتني، وتقول ما لك لا تــعي           

فصفق المجلس له، رغم أنّ الحفل كان تأبيناً لا يستحسنُ فيه التصفيق، لولا أنّ سرعة الإجابة، وروعتها قد هزتهم، فتجاوزا متطلبات مقتضى الحال.

واستعيدت القصيدة بعد ذلك أكثر من مرة، وكان ذلك اليوم نهاية لما كان بين المدينتين.

ومن النوادر التي تنقل عنه، أنه كان بمدينة النجف في العهد العثماني قاضٍ يدعى (نجم الدين أفندي) حصل على توبيخ من اسطنبول، ونقل من النجف إلى مدينة أخرى لنقصٍ ظهر عنده في وارداته بعد تفتيش دائرته،.. فرغب بالبقاء  في النجف، وتشفع له، وفي أثناء حديثه وشفاعته ارتجل البيتين قائلاً:

قاضٍ قضى بالعدل ما بيننا       وما قضى إلاّ بمنصوص   

إن وُجد (النقصُ) بتفتيشــه        فأيُّ قاضٍ غير منقوص

ويبدو أنّ طرافة التبرير قد أعجبت الوالي، فتشفع الشيخ فيه، وعفا عنه، وغض النظر  عن اختلاسه.

وهكذا كانت بعض الأمور تأخذ مجراها بسحر الكلمة، وطرافتة النكتة، وتأثير الشعر. وصادف أن كان جالساً ذات يوم في مجلس خاص ضم جماعة من أدباء وشعراء ذلك الزمان، إذا اقتحم المجلس عليهم رجل ثقيل الظل، يتكلف الظرف، ويدعي بأنه يجيد النكتة، ويحسن أدائها، فتجرعوه ريثما يأتي الله بفرج منه.

وما أن تكلم وقص عليهم أول حكاية حتى جاء ذلك الفرج المنتظر فانفجر المجلس بالضحك عليه، والتندر به، وسئل الخضري عن رأيه فيما قصه عليهم فأجاب قائلاً:

أتى بحكاية شوهاء دلّتْ       على سَفَهٍ تسافل للحضيــــض

تخيل أنها بكرٌ فكانــــت        من اللاتي يئسن من المحيض

  كان ذلك شأنه وديدنه دائماً، وكأنه موكل بكل قضية أو حكاية تمر عليه أو يسمع بها ليعقب عليها شعراً، حتى ليكاد معظم شعره من تلك الثنائيات التي كان عصره مغرماً بها.

ولعل ألطف ما ينقل عنه هذه الحكاية الطريفة التي حصلت لأحد العلماء من أسرة آل كاشف الغطاء، وسجلها هو لنا بظرفه شعراً استوعب كل تفصيلاتها وظروفها.

كان لذلك العالم جارٌ مكاري اسمه (الحاج حسون) وكان الشيخ يرغب بزيارة جاره وتأكيد صلته به، ولكن بعد أن تكون المبادرة منه لا من الشيخ وأرسل له أحد أصحابه ولكن الحاج حسون لم يكن قد تنبه إلى قصده ورغبته. فتعمد الشيخ وأرسل له أحد أصحابه لينبهه بطريقة غير مباشرة إلى هذا المعنى، فاعتذر المكاري بأنه يخشى أن يرفض الشيخ دعوته ولا يقبلها، فقال له ذلك الرسول: أنا مستعد لإقناعه بقبول الدعوة والإتيان به إلى دارك. ففرح الحاج حسون بأن يشرف الشيخ داره، ويتناول فيها طعامه، وحضر مع صاحبه عند الشيخ،و فاتحه في موضوع الوليمة، فتظاهر الشيخ أولاً بعدم القبول، وبعد الإلحاح والرجاء استجاب على شروط ثلاثة.

 1ـ أن لا يصنع من الطعام إلا ما يشير به عليه.

2ـ أن يتشرف على إعداد الطعام جارية الشيخ الخاصة المسماة (قدم) حيث تعوّد أن لا يأكل إلا من يدها.

3ـ أن تجلب الأواني من بيت الشيخ لحرصه على أن لا يأكل إلا في أوانيه.

فامتثل جاره لهذه الشروط التي لا ضرر منها عليه. وذهبت (قدم) في اليوم الثاني لإعداد الطعام، واستقبلتها زوجة الحاج حسون (فضة) وبنتاه (خيزرانه.. وتفاحة) بالترحاب، ووضعن كل شيء في البيت تحت تصرفها، وتعاون على إعداد الطعام، وقبيل مجيء الشيخ إلى البيت بلحظات وقع سوء تفاهم بين الوصيفات (قدم) وصويحباتها، فتعاركن عراكاً عنيفاً، وكسرن أواني الشيخ، وبعثرن الطعام في صحن الدار.

وعندما وصل إلى الدار، وكان بصحبته الشاعر محسن الخضري وجد أن كل شيء قد انتهى، فعاد أدراجه إلى بيته وهو يفكّر: أيها أكثر وقعاً على نفسه خسارته للعشاء أم خسارته لمواعينه.. وضحك الشيخ محسن طويلاً، وأخذ يداعبه تلك الليلة بالقصيدة التي وصف بها معركة الوصائف (قدم.. وتفاحة.. وخيزرانة) وخيبته في عشائه ومواعينه قائلاً:

قامت بجنبي للسودان معركــــــــــــةٌ              على الحكاكة من حـــول التــــنانير

وعندها (فضةٌ) صـــالت على (قدم)               حتى علت رأسها ضرباً بكفـــــكير

واستعرضت (قدمٌ) في ظهر طاوتها               وجهاً (لفضة) حتى عاد كالقــــــير

وعربدت (خيزرانْ) غِبّ عودتـــــها               كأنها بغلةٌ صاحت بيا خــــــــــور

هناك (تفاحةٌ) شَجّتْ براطمــــــــــها                فاعولت جزعاً أعوال خنزيـــــــر

فالله الله كم للصــــــــــــــفر من زجل               كما تمر على سوق الصفافـــــــير

فتلك في الطوس صكت هام جارتــها              وتلك تضرب في كاسات فرفوري

وهــــــــذه تتحــــــــراها بمــــــجنـــة               وتلك تشتدّ في محـــــــراث تنــور

فلا ترى قط إبريــــــــــقاً ومصخنـةً                وانقرياً، وصــــحناً غير مكســـور

رضت جميع أوانيهم فما تركـــــــــوا               على الرفوف ولا مشقــــــاب بلّور

ومذ أتى الشيخ يسعى بالعصي مرحاً                كما سعى قبله موسى إلى الطــور

رأى نجوماً بصحن الدار قد نُثـــرت                وما درى ذاك رضراض القوارير

فزمجر الشيخ إذ قامت قيامـــــــــته                 بصيحةٍ أوهمتنا نفخة الصـــــــور

فقام يجمع شمالاً غير مجتــــــــــمع                 منها، ويجبر كسراً مجبـــــــــــور

فقل لحافر تلك البير مقتنصــــــــــاً                  لقد وقعت بها يا حافر البــــــــــير

الحكاية السابعة والثلاثون

وكان مجلس المرحوم الشيخ جواد الشبيبي من المجالس الأدبية الشهيرة في وقتها، فقد كان رحمه الله على كبر سنه، وجلال مقامه الأدبي، حريصاً  على إشاعة الظَرَف بين وراد مجلسه، وفي ترصده لاستغلال النكتة الأدبية، والتعلق على ما يدور في مجلسه من أحاديث حتى شاع عنه الكثير من الطرف والنوادر، وهذا ما يحضرني منها:

لقد كان من بين رواد مجلسه المرحوم الشيخ عبد الحسين الجواهري والد الشاعر محمد مهدي الجواهري وكان رأس ذلك الشيخ مصاباً بالقرع في طفولته، وقد بقيت بعض آثار ذلك المرض عالقة فيه إلى أخريات أيامه، لذلك كان مضطراً لأن يرص عمامته إلى أذنيه لتغطية البثور المنتشر فيه هنا وهناك.

فأراد الشبيبي أن يمزح معه ذات يوم فكتب هذه الأبيات قائلاً:

لك رأسٌ مرصّعٌ ومدبّــــــــجْ           دوحةٌ الجسم أنبتت فيه بستجْ

ورضة ينبتُ الشقائق فيـــــها           أقحواناً. وسوســـنا، وبنفسجْ

خطَّ ياقوتُ فــــــيه جدول تبرٍ           لقوه من قــــــــيحه بزبردج

فوق كافوره من الشعر مسكٌ            كل من شـــــــم روحه يتبنّجْ

فيه بحرٌ للقار من ظلمـــــاتٍ            ضربَ الشفّ يمّـــــه فتموّج

أرضه عسجدٌ وحصبـــاه درٌ            لو أزيلت أصدافه لتـــدحرجْ

كم بموس الحجام عاد كليمــــــاً          صعقاً خرَّ بالدمــــــاء مضرجْ

لو على ابن الهموم ضاق خناقاً           وكشفنا عنــــــه لقلنا تفـــــرجْ

عممـــــــوه بلؤلؤ وعقيـــــــــقٍ           فهو ملك معمّــــــمٌ ومتــــــوجٌ

كورةٌ فيه يطبخ الجـص والآجر          يُبنى من الصديد ويُمــــــــــلَجْ   

وهو وادي العقيق كم جمــراتٍ           عنه تُرمى وتنتقى ساعة الحجْ

وكان ذات يوم في زيارة للمرحوم الشيخ أحمد كاشف الغطاء المرجع الديني الكبير في وقته وطال مجلسه لديه إلى صلاة الظهر، فدعا الشيخ للبقاء عنده، وتناول طعام الغداء معه، وكان غداءه لذلك اليوم (هريسة) فسمع بعض الحاضرين في المجلس بموضوع الهريسة، واستجابة الشبيبي لدعوته، وأرادوا أن يشاركوه ي غدائه، فقرروا أن يطيلوا الجلوس ريثما يحين وقت الغداء، على أن يتشاغلوا بطرح المسائل الفقهية، وإكثار الجدل حولها كذريعة للبقاء.

وبعد أن حل وقت الطعام التفتوا حول المائدة، وتساقطوا على الهريسة كما لو كانوا لم يذوقوا الأكل منذ أسبوع، ولم يتهيأ للشبيبي مجاراتهم، أو ينال كفايته منها، ولاحظ الشيخ أحمد فشل ضيفه في سباق الأكل معهم فقال له:

ـ أنت مدعو عندي يوم الأربعاء دعوة خاصة يوم الأربعاء.. فاختر ما تريد أن أصنع لك من الطعام، فأجابه الشبيبي على الفور قائلاً:

يا من لذاتك بيت للعلى سمكا                  صيّر غدائي غداة الأربعا سمكا

وخصّني فيه وحدي لا يشاركني              سواك، فالتنفس تأبى الشرك والشركا

أما نظرت لهم حول الهريسـة إذ              ألقوا أناملهم من فوقها شـــــــــــــــركا

ما كنت أحسب أن القوم جوعهم              إلى الطعام لهذا الحــــــــــــــــدّ قد فتكا

تشاغلوا بينهم بالفقه تحـــــسبهم               أئمةً فيه، كيــــــــــــــما يتقنوا (الكلكا)

والكلك: كلمة أعجمية (فارسية) معناها (الخدعة).

وكانت سرعة بديهته في استحضار الجواب المناسب اللاذع يضرب بها المثل، يحكى أنه دار في مجلسه ذات يوم حديث عن الشيخوخة، ما ينتظر الإنسان من متاعبها، وأخذ كل واحد من الحاضرين يحسب عمره، ويتذكر تأريخ ولادته، فقال أحدهم إنني ولدت في السنة الفلانية، وقال آخر: أنه أكبر منه أو أصغر بقليل، أو أكثير، وحين وصلت النوبة إلى الشيخ الشبيبي قال:

إنني ولدت في السنة التي توفي بها الشيخ (الأنصاري).

 فضحك أحد الحاضرين وغمز الشيخ قائلاً:

ـ بئست المصادفة. لأن تأريخ وفاة الشيخ الأنصاري بالحساب الأبجدي (ظهر الفساد) وهو يصلح لأن يكون تأريخاً لولادتك.

فخجل الشبيب وانطوى على نفسه. ودار الحديث مرةً أخرى، وانتهى عند ذلك الشيخ، فسأله أحد الحاضرين عن عمره فقال:

إنه أكبر من الشيخ الشبيب بأربع سنوات، فانتفض الشبيب قائلاً:

ـ إذن.. فتأريخ ولادتك سيكون (ظهر الفساد) وذلك بإسقاط الدال التي تساوي أربعة في الحساب الأبجدي.

فهاج المجلس بالضحك، وخجل ذلك الشيخ، وأعجب الحاضرون من سرعة خاطره، وحضور بديهته.

ودخل عليه أحدهم ذات يوم، فوجده يتناول طعام غدائه وحده في وقت متأخر من النهار فقال له: لماذا تأكل وحدك.. ألم تسمع قول رسول الله(ص) من أكل وحده أكل إبليس معه، ثم مد يده وأخذ يأكل معه، فضحك رحمه الله وقال:

ـ لقد صدق رسول الله.

وكان جماعة من أصحابه وأترابه في الدراسة والنشأة من مشايخ النجف قد بلغ بعضهم السبعين والثمانين من أعمارهم، وماتت زوجات أغلبهم، فاضطر بعضهم الزواج وهم في ذلك العمر حاجتهم إلى المساعدة والرعاية.

وحيث أن زواج ابن الثمانين لم يكن مألوفاً ومستساغاً فقد أصبحوا مجالاً للتعليق والتندّر من أصحابهم. وكان من جملة التعليقات التي دارت على ألسن الناس عند استماع أي خبر من هذا القبيل قولهم (صهل الشيخ).

وصادف تزوج أربعة مشايخ منهم في سنة واحدة، وفي فترات متقاربة فَسُميَتْ تلك السنة بسنة (صهيل الشيوخ). وكان الشيخ الشبيب يرقب تلك الحوادث، ويعلق عليها متندراً ومازحاً معهم، وحين سمع بزواج الأول منهم كتب إليه يقول:

جوادك بعد الثمانين صـــــــاهلُ                فمن ذا يجاريه، ومن ذا يطاول؟!

وسائله ماذا تحـــــــــــاول نفسُه                 فقلت لها فتح الحصون تحـــاول

فقالت: أبا لسيف الذي هو حاملُ                وما سيفُه في الروع إلاّ حمــتائل

ومن عجب أنَّ الصيا قل لم تكن                تعالجه، بل عالجته الصيـــــادلُ

وبعد أن تزوج الثاني أرسل له هذه الأبيات قائلاً:

أتاك الصاهل الثــــاني           يباري الصاهل الأوّل

كلا الطرفين لم يعثــــرُ          وإن خبَّ على الجندل

ولكن طرفنا استعصى          على السائس فاسترسل

أردنا منه إمــــــــــهالاً          عن الوثبة استعجـــــل

ثم كتب للصاهل الثالث منهم:

أتاك الصاهلُ الثالـــث         بعد الصاهل الثاني

وقد أحببت أن أعرف          ما قصة أخوانــــي

وهل في قدرة المــرء          حياة الميت الفاني

وأخيراً وبعد أن أسمع بصهيل رابعهم، وكان ذا مركزٍ ديني كبير، طرح الموضوع على شكل سؤال علمي، وفق قاعدة فقهية معروفة في أوساطهم هي قاعدة (القدر الجامع)

فكتب إليه مازحاً:

أهنّي الشرع والشارع             بهذا الصاهل الرابع

ثلاثون لتســــــــــعين             فأين القدر الجــــامع

وقد يكون من المناسب أن نذكر للقارئ أسماء أولئك المشايخ الذين استدعى صهيلُهم مزاح الشيخ معهم هذا المزاح البريء الذين كان له في وقته صداه في أوساطهم ألأدبية، وهم على التوالي.

الشيخ جواد الخضري، والشيخ إبراهيم اطيمش، والشيخ عبد المحمد زاير دهام، والمرجع الديني الكبير في وقته السيد أبو الحسن الموسوي، رحمة الله عليهم جميعاً.

وكان الشيخ الشبيب بالإضافة إلى ذلك يحفظ، ويحتفظ بكثير من القصص والنوادر الأدبية عن مشايخ عصره وزملائه، يقصها على جلاّسها كلما اقتضت المناسبة حين يجيء ذكر أحدهم، .. وقد تهيأ لي أن أجمع من مجلسه، وممن رواها لي عنه الطرف الأدبية التي تصور جانباً من حياة هؤلاء الناس أثناء مفاكهاتهم وظرفهم، قال الراوي عنه:

توفيت زوجة أحد مشايخنا، فاضطر إلى الزواج، وظل يبحث عن زوجة تناسبه في سنّه، وتقبل فيه زوجاً لها، فوجد امرأة ثيبة، توفي عنها زوجها هي الأخرى فخطبها إلى أهلها، وبعد أن دخل عليها، وخرج في اليوم الثاني إلى جماعته، سألوه عن راحته معها وكان اسمها (رحمة) فابتسم وأجابهم قائلاً:

وليـــــــــلةٍ بتُّ وفي جانبي             امرأةٌ في حسنـــها رائعة

وقيل لي إن اسمها (رحمةً)            قلت لهذا أصبحت واسعة

وحكاية أخرى عن شيخ آخر منهم كان قد شاهد فتاة جميلة، يبدو أنها أعجبته فهام بها وظل يبحث عنها حتى تعرَّف على أهلها، وظل يحوم ويدور حولها، مؤكداً علاقته بأبيها وأخوتها إلى أن انتهى به المطاف إلى طلب يدها، فرفضت طلبه، وامتنعت عليه لفارق السن بينهما، وذهبت كل محاولاته معها سدى فاضطر إلى أن يصرف النظر عنها، وكان اسمها (شريعة)، فسأله أحد أصحابه عنها ذات يوم فأجابه قائلاً:

كانت شريعة في تدلّلـــها            قد أججت في أضلعي شعله

يا ليت شعري أين قولهم           إن الشريعة سمحــــــةٌ سهلة

وكان لأحد أصحابه رأي سيئ في الزواج، وفي إنجاب الأطفال، شأنه في ذلك شأن من أفرط في فلسفته وفهمه لسنن الحياة ونظامها من أضراب أبي العلاء المعري وغيره، وكان يفخر بأنه استطاع أن يقهر عاطفته الجنسية، ويتغلب عليها، وظل أكثر من نصف عمره أعزباً. ثم اضطرته الحياة بعد ذلك إلى أن يذعن للأمر الواقع، ويخضع لنظامها، وكلف الشيخ الشبيب أن يتوسط له في خطبة امرأةٍ تعرف عليها، فخطبها له، ثم طلب منه أن يتولى بنفسه قراءة خطبة الزواج وصيغة العقد بينهما. فحضر عنده ليلة زفافه عليها..

وفي أثناء ترديده للكلمات المألوفة في مثل هذه المناسبات، التفت إليه مازحاً وقال: وكان معه شيخ باقر:

جاءتك يا باقر بنت التقى         رفقاً بها في ساعة الملتقى

فما كان من ذلك الشيخ إلا أن أجابه على البديهة قائلاً:

لا توصني فيها ولكنمـــا          سلها بحالي هي أن ترفقــا

فأنني أخشى على لحيتي          من بعد هذا اليوم أن تحلقا

وكان من رواد مجلسه كل من العلامتين الشيخ طاهر الشيخ راضي، والشيخ باقر الجواهري وصادف أن غاب الشيخ باقر عن المجلس فترة طويلة، ثم حضر فتلقاه الشيخ طاهر مرحّباً، وسأله عن حاله مازحاً:

ـ كيف حال البقر بعدنا.. مشتقاً اسم البقر من اسم الشيخ باقر.

 فأجابه على الفور قائلاً:

ـ لا بأس بها، لاسيما أنّ بولها وخرؤها طاهرٌ، كما تعلمون.

فابتسم رحمه الله وقال: واحدة بواحدة والبادئ أظلم.

ومن مروياته عن بعض أصحابه ومعارفه من مشايخ زمانه، قال:

أهديت لأحد العلماء في النجف (فروة) فاخرة فلبسها وتدفأ به، وكان أحد تلاميذه جالساً وهو يرتجف من البرد ففكر في كيفية انتزاعها منه، فنظم هذين البيتين وقدمها إليه قائلاً:

أصبحت (مفترياً) فعز عليّ أن        ألقاك يوماً لافترائك عاشقاً

فوددت دونك أن أكون المفترى        لتظل ما بين البريّة صادقاً   

وكان لأحد المشايخ تلميذان يقدرهما ويحترمهما كثيراً، أحدهما اسمه (شيخ حسين) الثاني (شيخ إبراهيم) وقد أهديت له عباءة، فأراد أن يمنحها لأحدهما، ففكر فيمن يقدمه منهما على الآخر، إذ كانا كلاهما محتاجين، فهداه تفكّره إلى أن يعتمد الحروف الهجائية في ذلك كما يفعل الكتاّب والمؤلفون في نشر بعض الأسماء، وظن أن ذلك يجنبه عتب الآخر، أو اعتراضه عليه، فكانت العباءة من حصة الشيخ إبراهيم. فما كان من الشيخ حسين إلا أن ارتجل قائلاً:

(أهل العبا) كان حسين منهم            ما كان إبراهيم من أهل العبا

فأسقط في يد الشيخ، إذ لم يتوقع مثل هذا الاعتراض الوجيه، ومثل هذا العتاب المهذّب الذي استند فيه تلميذه إلى قصة تاريخية معروفة اتخذ منها دليلاً لينبه أستاذه بأدبٍ استحقاقه دون صاحبه في تلك العباءة.

فما كان من الشيخ إلا أن نزع عباءته وأعطاها له معجباً بنباهته وأنشد يخاطبه قائلاً:

الحق ما قد قلته ويســــــــرّني              إن كنت حتى في العتاب مــــهذّبا

دعها فقد ذهبت وتلك عباءتي            خذها، لأن (حسين) من أهل العبا

      الأستاذ: محمد حسين المحتصر

   المصدر: مجلة آفاق العدد  6

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.