السبت , 23 نوفمبر 2024
الرئيسية » علوم وأدب » المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم – 6 –

المساجلات الأدبية والظرف في مجالس أدباء النجف القسم – 6 –

من مجالس جماعة الرابطة الأدبية

الحكاية الثامنة والثلاثين:

ومن المجالس الأدبية الممتعة التي يود الإنسان أن لا يفارق صاحبها، كان مجلس المرحوم الشاعر السيد أحمد الصافي النجفي..

لقد أغترب هذا الرجل عن النجف أكثر من نصف قرن، ولكن روح مدينته ظلت عالقة بين جنبيه. كان مجلسه متنقلاً معه، في المقهى في الشارع، على شاطئ البحر ببيروت، وحتى في غرفته البائسة حين يختلي بنفسه فيختلق المناسبة اختلاقاً، فيتظرف ليناقش (فارة) تسكن معه في غرفته وتشاركه طعامه، وتزعجه أثناء راحته، أو يتدله، فيتصور نفسه عاشقاً عشقاً لا سبيل إلى تحقيق ما يرجوه منه سوى أن يتحول إلى (برغوثة) ليستطيع التسلل إلى مخدع صاحبته في غفلة منها ومن الناس، فينساب تحت ثيابها، أو ينزلق فوق جسمها، أو يتدحرج على أردافها، إلى آخر ما تمناه في قصيدته (البرغوث العاشق) حين قال:

يا ليتني برغوثة     أدخل في ثيابها

أرقص فوق جسمها  أنساب في إهابها

أنال منها بغيتي      بالرغم من حجابها

ألثمها من فرعها     لمنتهى كعابها

من تحتها أنساب     كالحية في انسيابها

أقرصها حيناً ولا     أبغي سوى دعابها

وإن أصل ربوتها    أصلي في محرابها

وأن تفتش ثوبها      أ أخذ في اجتنابها

ولا أعاف بابها       أو أنتأي عن بابها

إن كنست غرفتها    ألوذ في أعتابها

وإن تنظف دارها    أندس في ترابها

وإن………

وهكذا يستمر في أخيلته الطريفة بأكثر من عشرين (وإن …وإن) حتى إذا ما عثرت عليه، وأمسكته بين يديها يقول:

وإن تصدني كفها    أمت فدى شبابها

إنه في أغلب شعره ينحو هذا المنحى من الظرف، في أخيلته وتعابيره، ومواضيع قصائده حتى ليكاد الظرف يطغى على جانب الجد فيه. ولو أردنا أن ننساق معه في كل ما كتبه متظرفاً ومتفكهاً مع نفسه ومع الآخرين لطال بنا المقام. ولعل أجمل ما في مجلسياته هو سرعة بديهته بالإجابة شعراً على أي سؤال يطرح عليه، كما لو كان متهيأ لذلك مسبقاً، وقد يكفينا منها ذكر هذه النوادر الثلاثة كشاهد على مزاجه في ظرفه وخفة طبعه.

كان ذات يوم في طريقه إلى مقهاه التي تعود الجلوس فيها بدمشق، وكان مرهقاً متعباً، إذ صادفه أديب من معارفه، فأخذ يده مصافحاً فشعر بحرارة في جسمه، فظنه مريضاً، ونصحه بالعودة إلى غرفته ليستريح، فطمأنه الصافي بأنه لا يشكو من أي مرض، وأن الحرارة ربما تكون ناشئة عن سبب آخر. فابتسم ذلك الأديب وقال له مازحاً.

ـ ربما تكون منبعثة عن الأيمان الزائد عند الأستاذ؟!

فأجابه على الفور قائلاً:

ـ لا .. لا هذا ولا ذاك، إنها لم تكن حرارة إيمان، ولا هي حرارة مرض من الأمراض، ولكنها حرارة شيء آخر، ثم أنشد مرتجلا:

صافحتني يد أمرئٍ فرآني      ساخن الكف من لظى الوسواس

قال هذي حرارة الأيمان         قلت: لا.. بل حرارة الإفلاس

وكان من عادته أن ينفق نهاره كله تقريباً في تلك المقهى، حيث يجتمع إليه فيها رهط من الأدباء المعجبين بأدبه، .. وكانت هوايته المفضلة لديه التهام بذر البطيخ مخلوطاً بالحمص المقلي، فحيثما تراه، ترى أمامه على المنضدة كمية من ذلك الخليط يتناوله وهو منصرف إلى الحديث مع جلسائه.

وصادف أن دخل عليه في يوم من الأيام أديب شامي من أصحابه، كان قد فارقه طويلاً، وحين شاهده على وضعه الذي فارقه عليه، أراد أن يمزح معه قائلاً:

ـ (نصيبك من دنياك بذر وحمص)؟!

فرفع الصافي رأسه إليه، وأجابه على البديهة قائلاً:

(كذا شاء لي هذا النصيب..( ؟ ).

ودار في مجلسه، كما هي العادة، حديث الشعر والشعراء، والمفاضلة بين هذا الشاعر وذاك وانتهى الحديث إلى شعر الصافي نفسه، فاجمع الحاضرون على أنه شاعر الفكرة بلا منازع، ينتزعها من الصخر، ويغوص عليها في البحر، لولا أنه قليل الاهتمام بديباجة شعره، ثم التفت إليه واحد منهم قائلاً: لو أعطيت ديباجتك شيئاً من عنايتك لكان شعرك كاملاً من جميع نواحيه فابتسم رحمه الله وأجابه مرتجلاً:

قال خلي هذب قريضك حتى   لا نرى فيه غير بيت مليـــح

قلت شعري مرآة روحي فإن   كان قبيحاً، فهل أغير روحي

الحكاية التاسعة والثلاثون:

وكان مجلس المرحوم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء من المجالس التي يأنس فيها من يرتادها بالإضافة إلى الفائدة العلمية التي يتوخاها من يقصدونه إليها.

فقد كان رحمه الله على جلالة قدره، ومركزه الديني الرفيع، معروفاً بحبه للنادرة الأدبية، وشغفه بها، وحسن صياغته لها صياغة فنية بارعة بأسلوب يكاد ينفرد به عن غيره.

فمن ذلك ما يحكى عنه أنه زار مرة مدينة (جباع) بلبنان، حيث يوجد على قمة جبلها مرقد لولي من الأولياء يدعى (صافي) كثرت فيه الأقاويل والأحاديث، ورويت عن معجزاته وكراماته الرويات.

وقد سئل الشيخ وهو يتسلق الجبل باتجاه مرقد (صافي) عن حقيقة هذا الولي، وقيمته القدسية، وكان التعب قد أعياه وهو يصعد فقال ضاحكاً:

ـ يا صافي.. ما أكثر اتعابك، وأقل ثوابك.

وكانت جملة (أقل ثوابك) كافية لمن يطلب مزيداً من الإيضاح.

هذا الأسلوب من الكلمات القصار، المحملة من المعنى بأكبر من حجمها مضافاً إلى ما تنطوي عليه من نكتة أدبية، أو حكمة تربوية أحياناً، هو ما عرف به أسلوب هذا الشيخ، سواء كان جاداً في كلامه أو مازحاً، وكان في استعماله لمثل تلك الكلمات القصار أقرب ما يكون إلى سرعة البديهة وحضور الخاطر. يروى عنه أنه سئل ذات يوم عن رأيه في قائمقام قضاء النجف (صالح حمام) وكان غضب بعض أصحاب المصالح قد اشتد عليه لعدم تمشية أمورهم بالشكل الذي يريدون، وتمسكه بحرفية القانون، فنظموا المضابط والعرائض يشكون منه فيها، ورفعوها إلى المسؤولين في بغداد، طالبين نقله من النجف.وكان الشيخ كاشف الغطاء راضياً عنه على ما يبدو، فقال حين سئل عنه:

(صالح .. صالح للبلاد) وشاعت هذه  الجملة بين الناس، واعتبرت تزكية بحقه، ولسقط في يد خصومه، وطالبي نقله.

كما يروى أن واحداً من حاشيته وطلابه ألف كتاباً تعرض فيه بالنقد إلى بعض القضايا الدينية الحساسة، فأثيرت حول ذلك الكتاب بعد نشره جملة من الاعتراضات والاحتجاجات، وجدت فيه بعض الصحف مجالاً لإشاعة الفتنة بين الناس، فاضطرت الدولة إلى منع الكتاب وحجز صاحبه، وتشكيل لجنة للتحقيق في موضوعه، وقد سئل الشيخ في حينها عن رأيه في الكتاب وصاحبه، وعما يراه مناسباً في موضوعه. فأجاب قائلاً:

(الكتاب يحرق، وصاحبه يطلق) واعتبر جوابه هذا حكماً تبنته هيأة التحقيق، وأغلق الموضوع.

وصادف أن زاره  العلامة المرحوم أحمد أمين، صاحب التآليف الشهيرة (فجر الإسلام، وملحقاته) فجرى عتاب بينهما حول ما جاء في كتاب فجر الإسلام عن بعض الفرق الإسلامية، وكيف تسرع المؤلف في الحكم على عقائدها قبل الرجوع إلى مصادرها الموثوقة، فاعتذر أحمد أمين بعدم تيسر المصادر الكافية لديه عند تأليفه لكتابه، فزوده الشيخ بجملة من الكتب لإعادة النظر في حكمه عندما يتبين له وجه الحق.

ثم دار الحديث بينهما بعد ذلك حول قصيدة كان الشيخ قد نظمها أثناء زيارته لمصر، وكان من بعض قوافيها (البزوغ… والنزوغ) فسأله المرحوم أحمد أمين عن تأريخ نظمه لها, وكأنه أراد أن يمزح معه فوجه له السؤال بهذه الصيغة قائلاً:

ـ متى  يا شيخ حصل لديكم ذلك النزوغ والبزوغ الذي أوردتموه في قصيدتكم عن مصر؟! فأدرك الشيخ غرضه، وأجابه على البديهة قائلاً:

ـ لقد حصل قبل بزوغ (فجركم) ونزوغه.

فخجل أحمد أمين، واعتذر منه بأن غرضه المزاح، فأجابه: وإن غرض الجواب كذلك.

هذا للون من الأجوبة القصيرة اللاذعة أحياناً كثيراً ما نجده عند هذا الضرب من الناس، وهم بحكم البيئة، والوراثة، ثم بحكم ثقافتهم الخاصة، كانوا مهيئين دائماً لأن يقولوا ما عندهم حتى ولو جر ذلك عليهم من المتاعب ما هم في غنى عنه لو سكتوا.

يحكى عن المرحوم الشيخ جعفر الكبير جد هذه الأسرة، أن أحد شاهات إيران المسمى (نظام الدولة) كان قد جاء إلى النجف أثناء  أحدى الزيارات العامة لمرقد الإمام علي(ع) حيث تعج المدينة بالزوار، وتتسخ الشوارع بفضلاتهم.

وبعد أن انتهت زيارة الشاه للشيخ، وخرج من الدار تلقفته الروائح الكريهة إذ كانت النجاسات متصلة ببعضها على جانبي الشارع كما لو كانت قد وضعت بشكل منسق ومنتظم.

فالتفت الشاه إلى الشيخ وأراد أن يغمزه بالحطّ من الأعراب الذين يفدون إلى الزيارة قائلاً:

إلى متى يبقى الأعراب عندكم يتغوطون في الطرقات؟!

فتنبه الشيخ لغرضه، وشق عليه أن تمر الفرصة دون أن يعقب عليها بما يرضي نفسه، حتى ولو غضب الشاه عليه فأجابه قائلاً:

ـ لكن أنظر أيها الملك: كيف أن تغوطهم بأصول وعلى (نظام) في الشارع.

فبلعها الشاه، وأسف على ما صدر منه.

ونظير هذه الحكاية ما ينقل عن العلامة (الحر العاملي) مع شاه آخر من شاهات إيران.

فقد صادف أن سافر هذا الشيخ في سنة من السنين قاصداً زيارة الإمام الرضا(ع) وبعد انتهاء الزيارة دعاه الشاه لاستضافته في طهران، فاستجاب لدعوته.

وفي واحدة من جلساته معه كان البعد بين مقعده ومقعد الشاه شبراً واحداً، وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، أراد الشاه أن يداعبه، ويمزح معه، فسأله بالفارسية ما معناه:

ـ ما الفرق بين كلمتي الحر… والخر؟ (أي ما الفرق بين الحمار والحر)

فأجابه الشيخ بالفارسية أيضا، وعلى البديهة قائلاً:

ـ (يك وجب) أي أن الفرق شبر واحد.

فخجل الشاه، ولم يعد إلى مثلها.

الحكاية الأربعون:

وكان مجلس المرحوم السيد هبة الدين الشهرستاني في النجف، ومجلسه بعد أن انتقل إلى الكاظمية من المجالس التي تجمع بين وقار العلم وظرف الأدب، إذ  كان رحمه الله يأنس لسماع النكتة الأدبية، ويهتز لها، ويجيد حبكها وصياغتها تشعرك برهافة حسة، وسرعة بديهته.

أذكر أنني زرته ذات يوم مع المرحوم الشيخ علي الخاقاني، صاحب مجلة البيان النجفية، وكانت أولى زياراتي له، وصلتي به فقدمني الخاقاني إليه بلقبي المعروف (المحتصر) فسألني رحمه الله مازحاً:

ـ لماذا أنت محتصر يا ولدي.. في حين أنك شاب، والحياة  من حولك تدعوك إلى البهجة والانشراح؟!.

وقبل أن أجيبه، تبرع الخاقاني بالجواب، وأراد أن يتفلسف فيه قائلاً:

ـ إن كثيراً من الأسماء تختلف عن مسمياتها، وقد يكون لها مدلول عكسي كقولنا، للأعمى بصيراً، وللملدوغ سليماً، وهكذا.. ثم أضاف: وهكذا فالمحتصر بأخلاقه وأدبه عكس لقبه.

فابتسم رحمه الله وعقب عليه قائلاً:

ـ نعم… هذا صحيح جداً، ودليله قائم فعلاً، وهو أن الناس يسمونك (أبا البيان) والعكس هو الصحيح… وكانت في وقتها نكتة لاذعة، بلعها الخاقاني وسكت.

وفي المجلس ذاته، وبعد أن تناول الحديث شؤوناً أخرى، تعرض أحدهم إلى موضوع الشيب، متسائلاً عن سبب بياض الشعر، هل هو نتيجة لتقدم الإنسان في السن أم أن سببه كثرة الهموم والمتاعب، والتفكير بمشاكل الحياة وشؤونها؟! أم هو غبار الوقائع كما يحلو لبعضهم أن يصفه؟!

واستقر رأي الحاضرين أخيراً بأن للهموم والتفكير أكبر الأثر فيه.

وعندها عقب الخاقاني قائلاً: بأنه على عكس الناس الآخرين، حيث يكثر الشيب في شعر ذقنه بينما لا توجد شعرة بيضاء واحدة في رأسه. فعلق السيد الشهرستاني على ذلك بقوله:

ـ يبدو أن تفكير الشيخ الخاقاني، بأسنانه وليس برأسه, فضحك من في المجلس، والتفت لي الخاقاني وقال لي:

ـ قم .. الله يستر من الثالثة.

ثم زرته بعد ذلك عدة مرات، واستمعت إليه جاداً ومازحاً وانتفعت كثيراً مما كان يدور بمجلسه من مناقشات علمية، ومطارحات أدبية مما تتصف به مجالس تلك الأيام.

ولأنني كنت معنياً ومولعاً بمتابعة جوانب الظرف والمفاكهة، فقد التقطت من مجلسه ذاك بعض الطرف التي كان يتظرف بنقلها عن بعض مشائخ عصره ممن عاشرهم، وعاش معهم أثناء إقامته في النجف. وهذا بعض ما سمعته منه قال:

سافر أحد فقهاء النجف في سنة من السنين إلى الشام، وكان له فيها معارف وأصدقاء فدعي من قبل بعض معارفه إلى وليمة غداء، فأجاب الدعوة.

وقبل أن يحل وقت الطعام سأله صاحب الدار هذا السؤال:

ـ أنتم في العراق تأكلون الفاكهة بعد الطعام، ونحن هنا في دمشق نأكلها قبله، فعلى أية طريقة تحب أن نقدم لك الفاكهة؟ فأجابه الشيخ:

ـ في شرعنا عندما يكون خلاف في الرأي فالاحتياط واجب، وعليه أرى أن تقدم الفاكهة قبل الطعام وبعده، عملاً بالاحتياط.

ويحكى أن أثنين من مشائخ هذه المدينة اجتمعا على مائدة طعام بدعوة من صديق لهما، ووضعت أمامهما على (بلم التمن) دجاجة مقلية، ومحمصة، ظل كل واحد منهما ينظر إليها، ويتحامى أن يبدأ بها قبل صاحبه.

وبعد أن طال الانتظار بهما، أحتال أحدهما، وحفر تحتها فتدحرجت إلى جانبه فأخذها بيده وأنشد قائلاً:

ـ عرف الخير أهله فتقدم.. فما كان من الشيخ الثاني إلا أن أجابه على الفور قائلاً:

ـ حفر الشيخ تحتها فتهدم.

وروي لنا ذات يوم هذه النادرة قائلاً:

نقل لي أحدهم أن جماعة من طلبة العلم في النجف خرجوا إلى بساتين الكوفة للنزهة والترفيه عن أنفسهم عصر يوم من أيام عطلهم, فنزع أحدهم جبته وعلقها على جذع أحدى النخلات، وذهب لقضاء حاجته، فقام آخر ورسم بالطباشير وجه حمار على جبة صاحبه. وحين رجع وشاهد الرسم على الجبة سألهم قائلاً:

ـ من منكم مسح وجهه بجبتي؟!

وكان يلذ له أن يتذكر بعض العادات التي كان يمارسها هو وزملاؤه يوم كان طالباً في النجف، ويعلق عليها ببعض القصص الطريفة التي كنا نظن أنه يختلقها، أو يزيد عليها، إمعاناً في الظرف ومحاولة نقدها في وقت واحد. قال:

لقد كان من عاداتنا، وعادة معظم طلبة العلم في النجف إذا دخل أحدهم إلى مجلس من المجالس أن يحمل مداسه معه، ويضعه أمامه أو إلى جنبه أيان جلس, خوفاً عليه من السحق والتلف من قبل الداخلين والخارجين.

وأنت إذا دخلت إلى واحد من تلك المجالس تشاهد أمامك صفاً من الأحذية يتقدم الصف الذي يليه من أصحابها… وقد تأصلت هذه العادة لدى أحدهم حتى قيل عنه بأنه يزاولها حتى في بيته. وصادف أن خرج هذا الرجل مع جماعة من أصحابه في نزهة على شاطئ الفرات في الكوفة، وكان مداسه لا يفارقه قام أو قعد.

فأراد أحدهم أن يتآمر عليه، ويسرقه منه، ويرميه في النهر، ليعود حافياً إلى النجف، ويترك عادته تلك، فاقترح على جماعته اقتراحاً، طرحه على شكل سؤال قائلاً:

ـ أينا يتمكن من صعود هذه النخلة بأقل وقت ممكن؟! وكانت بجنبهم نخلة طويلة جدا، فتراهنوا على صعودها، وصعدوا الواحد بعد الآخر، وحين جاء دور صاحبهم صعد هو أيضاً، ولكنه أخذ مداسه معه حين صعد. فسألوه:

ـ لماذا تحمل مداسك معك يا شيخ؟! فأجابهم بدون اكتراث:

ـ احتياطا.. أخاف يصير الدرب فوكاني.

وكنا نحرص على استثارة ذكرياته من آن لآخر لاسيما بعد أن لمسنا رغبته في التحدث عنها مضافاً إلى طرافتها، وجدتها بالنسبة إلينا.

فسألناه مرة عن قصة الحوار والنقاش الذي جرى بين أحد المشائخ في النجف وبين الكاتب المصري المعروف (شبلي شميل) على صفحات مجلة المقتطف المصرية في وقتها، فابتسم واعتدل في جلسته، وأخذ يحدثنا قائلاً:

لقد نشرت مجلة المقتطف في زماننا ذاك مقالاً للدكتور شبلي شميل لخص فيه نظرية (دارون) في أصل الأنواع. وأظنه أول كاتب عربي تبنى هذه النظرية، فترجمها، ونقلها إلينا، فأحدث نشرها ضجة في الأوساط العلمية والدينية منها بوجه خاص، وعجت مجالس النجف في الحديث عنها بين مؤيد ومستنكر، واعتبر نشرها تحدياً لمعتقدات الناس وموروثاتهم الدينية.

ولما كانت النظرية تعتمد على أسس وبراهين علمية حديثة لم يكن باستطاعتنا أن نناقشها بنفس المستوى الذي طرحها فيه صاحبها، لذلك تعذر علينا أن ندخل معه في نقاش علمي جاد، وبقينا ننتظر أن يتصدى له أصحاب الاختصاص فيها.

غير أن واحداً منا دفعته حماسته الدينية للرد عليها بمقال طويل حشر فيه جملة من الروايات والأخبار والأحاديث ظناً منه أنه سيستطيع أقناع (دارون) وشبلي معاً، وهديهما إلى الصواب.

ونشر ذلك المقال، .. فما كان من المصري بعد أن قرأها وتبين هوية صاحبه إلا أن يجيبه بجملة واحدة كانت في وقتها طريفة وحادة في آن واحد. ظل الناس عندنا يرددونها زمناً طويلاً، وهذا هو نصها: سماحة شيخنا الأكرم:

ـ (عذرك جهلك.. والسلام).

وتذكرني أنا الآخر.. هذه الحكاية بحكاية نظيرها حصلت في النجف حين نشر الشاعر المهجري المعروف (إيليا أبو ماضي) قصيدته الطلاسم، فتلقفتها المجالس النجفية بين معجب بها، وممتعض منها، حيث كان هناك من يؤيد الشاعر بكونه ليس يدري من أين جاء، وإلى أين سينتهي به المطاف، بينما الكثرة من المشائخ رأوا فيها كفراً صريحاً لابد من التصدي له والوقوف ضده. فانبرى له أحدهم، ونظم قصيدة طويلة، وعنونها بهذا العنوان قائلاً (أنا أدري) وقد شحنها بما استظهره وحفظه من أخبار وأحاديث ومقولات فلسفية ثم طبعها في كتاب مستقل بلغت صفحاته أكثر من مائتي صفحة، وأرسل منه نسخة إلى الشاعر.

وبعد أن وصل الكتاب إلى المهجر، وأطلع عليه الشاعر (أبو ماضي) قرأه بإمعان ظناً منه بأنه سيجد فيه ما يساعده على إدراك حقيقة موضوعه، .. وحيث لم يجد فيه غير ما ألفه وسمعه مراراً وتكراراً من مشائخ طائفته، كتب على غلافه هذا البيت وأعاده إلى صاحبه قائلاً:

يا شيخنا هذا حوار باطل        لا أنت أدركت الصواب ولا أنا

وكان المؤلف ـ رحمه الله ـ قد أهدي أيضاً نسخة من كتابه هذا إلى صديقه الشاعر المرحوم الشيخ علي الشرقي، طالباً منه تقريضه، وإبداء رأيه فيه، فكتب له الشيخ الشرقي رسالة يشكره فيها على هديته، ويمزح معه قائلاً:

أنت مجنون.. ولكن لست تدري.. أنا أدري

وبالمناسبة أذكر أيضا أن أحدهم ألف كتاباً عن الفيلسوف العربي (الكندي) تناول فيه فلسفته بما يشاء أن يتناولها فيه، وأهدى نسخة من كتابه هذا إلى صديقه الأديب النجفي الظريف المرحوم الشيخ محمد الخليلي،…وبعد الإمعان في قراءته، تعذر عليه أن يفهم منه شيئاً، فكتب إليه يشكره على هديته، وذيل ما كتبه إليه بهذه الأبيات مداعباً:

لما قرأتك في كتابك              ضج من وجع دماغي

حتى حسبتك سرت فيه          كمن يسير بلا (براغي)

ورأيت أنك فقت فينا                         كل لا غية ولا غي

وخلت كأنما الكندي              (تضجور) وهو في اللحد

يقول: أبعد ذاك الجهد           قد ضيعت لي جهدي

فلا أدركت ما عندك             أو أدركت ما عندي

الحكاية الواحد والأربعين:

وكان مجلس إدارة مجلة الهاتف النجفية ذا نكهة خاصة يتميز بها عن غيره من المجالس الأخرى، وذلك لما كان يتمتع به صاحب تلك المجلة المرحوم جعفر الخليلي من قابليات أدبية واجتماعية متنوعة. فهو أديب من الأدباء، و (روزخون) مع الروزخونية، وعالم ومتعلم في حضرة العلماء، وهو من بعد ذلك ظريف وقصاص، وحكواتي جيد، محب للنكتة، مجيد لصياغتها، مبدع في التفنن بها، يكاد يضم مجلسه كل أصناف الناس، وهو مستعد لأن يتكلم مع كل واحد منهم بلغته.

كان ذهنه ولسانه في حركة دائبة لا يستقران، ولا يهدان إلا على اختلاق قصة، أو سرد نكتة، أو تهيأة (مقلب) من المقالب.

أنك قبل أن تضع قدمك على باب غرفته، وقبل أن يرد عليك التحية يبدؤك بسرد قصة من قصصه، أو ينقل لك نادرة سمعها، أو أختلقها،  (لا فرق في ذلك عنده) أو يقرأ لك قصيدة نظمها قبل لحظات وينسبها لشاعر عباسي أو جاهلي معروف ليرى رأيك فيها، ومدى تعقيبك عليها، من أجل أن يتعرف على مقدار فهمك في تشخيص الشعر بالنسبة إلى عصوره الأدبية.

لقد كان رحمه الله تحفة زمانه أدباً وظرفاً، ومجلسيات، وهذه طائفة من نوارده وحكاياه.

أذكر أنه حدثنا ذات يوم قائلاً: لقد أعجبني أن أنشر على سبيل المفاكهة إعلاناً في جريدتي (الهاتف) عن عزمي على تأليف كتاب أسميته (مجمع الثولان) مفردها (أثول) وهو الذي لا يحسن تدبير أمره. وبعد سنة من نشر ذلك الإعلان كتب لي احد القراء متسائلاً عن السبب في عدم إصدار ذلك الكتاب، ومستفسراً عن عدد ما يحويه من تراجم الثولان، ومن هو الأثول الكبير الذي سوف ابتدئ به.

فأجبته على سبيل المزاح قائلاً:

ـ ستكون متفضلاً، لو أرسلت لي صورتك، وموجزاً عن حياتك، لأبدأ بك طالما بقيت تنتظر، وصدقت بأن كتاباً سيصدر بهذا العنوان.

ولشد ما أخجلني جوابه حين عاد إلي البريد، وفتحته، فوجدت فيه صورتي وبعضاً من مقالاتي التي نشرتها، وكنت (أثولاً) حقاً أثناء كتابتها، وقد ذيل  كتابه بقوله:

ـ أظن أن الأثول الكبير الذي يستحق أن تبدأ به هو كاتب هذه المقالات.

ونقل لنا مرة حكاية طريفة عن عمه المرحوم الشيخ ميرزا محمود الخليلي، وهو شيخ كبير كان يحترف مهنة الطب في النجف على الطريقة اليونانية القديمة. وكان يستخدم حمارة يمتطيها حين يدعى لعيادة مرضاه، حيث لم تكن السيارات معروفة في ذلك الوقت.

وكان للحمارة جحش عابث كثيراً ما أنفلت ودخل دار جاره، وكان جاره من مشائخ النجف وعلمائها المعروفين.

وصادف أن أنفلت الجحش، ودخل الدار، ووقف في وسط حلقة درس ذلك الشيخ، وحرن دون أن يفيد معه زجر أو عصا، وكأنه أبى إلا مشاركة الطلاب في الاستماع إلى الدرس… فغضب الشيخ وأرسل على جاره الطبيب وقال له محتداً:

ـ لماذا تترك الحبل سائباً على غارب أبنك (يقصد الجحش) ليعبث فساداً كما فعل معنا هذا اليوم؟! فأجابه الطبيب مازحاً:

ـ ماذا أصنع يا شيخ.. لقد سعيت أن أجعل منه طبيباً فأبى إلا أن يكون (جحشاً روحانياً) فما العمل يا سيدي؟!.. فضحك الشيخ وغفر له وللجحش سوء فعلته.

وقص علينا ذات يوم حكاية نسبها إلى الشاعر المرحوم السيد رضا الهندي قال:

لقد كان هذا الشاعر مغرماً بشرب الشاي، وكنت كلما زارني أقدم له منه ما يكفيه حتى يرتوي.

وصادف أن زارني ذات يوم، وما أن أستقر به الجلوس حتى طلب الشاي قائلاً:

(أنا شايان) (أنا شايان) فاستغربت استعماله لهذه الصيغة الغريبة، وظننت أنه قد ألتقطها من معاجم اللغة، وبعد أن سألته أجابني ضاحكاً:

ـ نعم .. إنها تصريف جديد أفادنا فيه الأعاجم.. ثم شرح لي قصة ذلك التصريف قائلاً:

ـ أتعرف الشيخ (فلان).. لقد سافر هذا الشيخ على ظهر سفينة من السفن في نهر الفرات، وضايقته بطنه في الطريق فطلب من الملاح الدنو من الساحل لقضاء حاجته قائلاً:

ـ أيها الملاح.. أدن من الساحل لأتغوط، .. وحيث لم يفهم الملاح قصده أو تغافل عنه كرر النداء قائلاً: أريد الخلاء.. أريد الاستنجاء.. أريد .. مستعملاً كل الكلمات التي درسها في القاموس فلم يفهم الملاح شيئاً، أو لم يرد أن يفهم منه شيئاً. وحين ذاك سمع طفلاً يبكي ويصيح (جوعان) ويكررها مرات صائحاً (جوعان.. جوعان).

فالتفت الشيخ إلى نفسه وقال: الآن فهمت: يجب أن تصاغ الكلمة إذن على وزن (فعلان) فصرخ بالملاح:

ـ يا ملاح.. أنا خريان، أنا زربان، أنا بولان، فضحك الملاح ومن في السقيفة وفهموا غرضه. لذلك قلت لك (أنا شايان) لأنك تستجيز لنفسك فيما تكتب أحياناً مثل هذا التصرف في اللغة.

يقول جعفر: فتقبلت نقده رغم ما فيه من تجريح مضاعف، وحملته على محمل حسن النية، وما تعودنا عليه من الظرف والمفاكهة.

ومن مواصفات الخليلي هذا.. كما أشرت آنفاً.. قدرته على اختلاق الحكاية أحياناً أو نسبتها إلى غير صاحبها الحقيقي، وذلك حسب مقتضيات الظرف الذي يقصها فيه، لذلك فلا ينتظر القارئ مني أن أعنون حكاياته، أو أوثقتها إلا بمقدار ما أرويها عنه، مثلما سمعتها منه، أو قرأتها في بعض منشوراته.

ومن ذلك ما حكاه لنا ذات يوم قائلاً:

لقد أعجبني مرة جواب احد مرتبي الحروف عندنا، فقد نشرت في جريدتي الهاتف قصيدة لأحد مشائخنا، ويبدو أن بعض الأخطاء المطبعية والنحوية قد حصلت فيها، فجاء ذلك الشيخ إلى إدارة المجلة منفعلاً، وفي أثناء حديثه معنا قال مستهزءاً:

ـ الخاطر الله.. شلون صرتوا أدباء وصحفيين، في حين واحدكم ميعرف الفاعل من (كذا….). فالتفت إليه مرتب الحروف وقال:

ـ غرضكم المفعول به مولانا؟!

ومنها أن أمرأة نجفية جاءت إلى العطار المعروف المرحوم (الحاج سعيد البغدادي) الشهير بظرفه وخفة روحه، وحبه للنكتة مع أي كان. فسألته عن وجود مادة (النبات) لديه قائلة:

ـ حجي عندك نبات؟! فأجابها ضاحكاً، ومازحاً، ومؤولاً كلمة (نبات) إلى معنى آخر حيث قال لها:

لا والله أختي.. ما عدنا مكان تباتين فيه.

فخجلت المرأة، ورجعت إلى بيتها، وغيرت ملابسها لئلا يعرفها حين تعود إليه. وحملت معها خشبة مخروطية من أحد طرفيها، وعادت إليه بعد ساعة وسألته عن وجود مادة (الصبر) عنده قائلة:

ـ حجي.. عندك صبر؟ فأجابها: نعم، ولم يعرفها، فثبتت الخشبة على الميزان وقالت له:

ـ إذا كان عندك صبر.. أجلس عليها من فضلك.

فخجل منها، وانصرفت، بعد أن أخذت ثأرها منه.

ومن حكاياته الطريفة أيضاً قال: جاءني ذات يوم إلى إدارة المجلة متشاعر ثقيل الظل، كنت أسمع به دون أن ألتقيه، وكانت لديه قصيدة من عشرة أبيات، كل بيتين منها بروي وقافية تختلف عن بقية الأبيات، وبدأ يقرأ، ثم ناولني قصيدته راجياً نشرها له في المجلة، وكان مطلعها على الشكل التالي:

تغنج من بدا
ألحاظه قد شكلت

قد أثرا بمقلتي
سهماً رمي بمهجتي

فسألته إن كان يرغب أن أخمسها له، وأنشر الأصل والتخميس في المجلة، فاستجاب مرتاحاً، فخمستها في الحال قائلاً:

نفسي لمن أهوى الفدا
خلاني أصرخ (يا خدا)
قد أثرا بمقلتي
وخلقتي (تمصخت)
ألحاظه قد شكلت

ما دام حلواً أمردا
تغنج منه بدا
ألهم في قلبي (جفت)
من شادنٍ لما أنفلت
سهماً رمى بمهجتي

وحين سمع ما قرأت عليه، لعنني، وخرج مغضباً

ونقل لنا ذات يوم أن إحدى النساء كانت تراجع دائرة التقاعد في نهاية كل شهر لاستلام تقاعد زوجها المتوفى، وحيث لم تكن تضبط حساب الأيام جيداً فقد كان سبيلها إلى معرفة موعد استلام التقاعد هو حلول العادة الشهرية لديها، وصادف أن اضطربت العادة معها في أحد الشهور، وجاءتها في منتصفه، فذهبت إلى دائرة التقاعد لاستلام الراتب،

وكان الموظف المسؤول أديباً نجفياً ظريفاً، فأفهمها بأنها في منتصف الشهر وأن موعد استلام الراتب بعد خمسة عشر يوماً، فلم تقتنع، وأصرت بأنها متأكدة من الموعد، فأومأ إلى المفكرة المعلقة على الجدار وقال لها:

ـ شوفي أختي هذه المفكرة تقول أننا الآن في منتصف الشهر، فمن أين لك هذه القناعة بأنك في آخره؟! فأدنت فمها من أذنه، وهمست فيه قائلة:

ـ بأنها تعرف مواعيد الأيام عن طريق عادتها الشهرية، وقد جاءتها العادة الآن، ومعنى ذلك أنها في نهاية الشهر، ويجب صرف الراتب لها.

فابتسم، والتفت إلى الموظف الذي كان بجانبه قائلاً:

ـ من فضلك نزل المفكرة.. وعلق ( كذا )خالتك بمكانها.

وحكايات الخليلي، ومجلسياته الأدبية كثيرة، وطريفة، وأغلبها منشور  في مؤلفاته، وفي جريدته الهاتف، ولست بصدد إعادة نشرها ثانية، إذ الغرض من هذا الكتاب التصدي إلى ما لم ينشر من قبل قدر الأمكان، بغية حفظ ما يستحق الحفظ منها.

ومما تجدر الإشارة إليه أن معظم أفراد هذه الأسرة ممن عاشرناهم وتعرفنا عليهم، كانوا لا يقلون عن صاحبنا هذا ظرفاً وحباً للنكتة، وإجادة لأدائها، حتى في أحرج المواقف التي تقتضي الاحتياط والتحرج منها.

اذكر أن أحد مشائخهم قد توفي، فتجمع جيرانه ومعارفه لتشييع جنازته في موكب حزين تقتضيه المناسبة، ووقف أولاده لتقبل العزاء، فتقدم أحد المشائخ معزياً أولاده، ومواسياً لهم، ولكنه أفرط في تأثره لوفاة الشيخ ثم أخذ يلح في تساؤله عن السبب الذي مات فيه، وكأن الموت حدث جديد لا عهد للناس به، ثم حوقل واسترجع، وأعاد السؤال عن سبب موته مرة بعد أخرى حتى ضاق به المجلس ذرعا، وطفحت النكتة على شفتي أحد الأولاد فأجابه على أسئلته قائلاً:

ـ لقد كان والدي المرحوم في أيامه الأخيرة كثير النسيان، ولعل النسيان هو السبب الرئيس في موته، لأنه نسي كيف يتنفس.

وكانت نكتة لاذعة أرتج لها المجلس بالضحك رغم مظاهر الحزن المهيمنة على الجالسين. وكان المتوفى والد المحامي علي الخليلي، والجواب لولده هذا.

الحكاية الثانية والأربعين :

وكان مجلس المرحوم السيد مير علي أبو طبيخ من المجالس النجفية المعروفة في وقتها بكونه لا يحده وقت من الأوقات، ولا يتحكم فيه تقليد معين كما هو الحال في المجالس الأخرى التي تتخذ من أيام الأسبوع يوماً معيناً تعتبره يوم (قبول) تفتح فيه أبوابها كما هي العادة المألوفة عند الآخرين علماً بأن يوم القبول في النجف لا يقتصر على زيارة الأصدقاء والمعارف وحدهم وإنما هو يتسع لغير هؤلاء حيث يتخذ من ذكرى استشهاد الحسين الإمام(ع) وسيلة لدعوة مفتوحة لكل من يرغب في حضور ذلك المجلس.

أما مجلس السيد كان كما قدمنا مستمراً يستطيع من يرغب زيارته أن يقصده ليلاً أو نهاراً بدعوة وبغير دعوة.. فقد يكون أحدهم في طريقه إلى بيته ظهراً ثم خطر له في أثناء الطريق أن يمر عليه فسيجد الباب مفتوحاً على مصراعيه، ودلة القهوة على النار وسيسمع صوت السيد يناديه (أهلاً… وسهلاً.. تفضل).

أما لماذا كان شأنه هكذا؟! فقد كان رحمه الله مصاباً بمرض أقعده في الفراش لا يستطيع القيام بسببه حتى إلى المرافق الصحية، ولأنه كان يأنس بمن يزوره فقد أتخذ من داره منتدى أدبياً يلتقي فيه بمن يحب، وبغير من يحب أحياناً.

وقد تطول الجلسة لديه في بعض الأيام إلى الظهر  أو تتعداه فيضطر أن ينقل غداء أهله ليطعم من تخلف من أصحابه عنده طمعاً في الاستزادة من بقائهم لديه، ويترك أهله وأطفاله يدبرون أمرهم كيفما يشاؤون.

وبعد أن تكررت لديه مثل هذه الحالات، أحس بعض زواره بإحراجهم له، ولكن رغبتهم بأن لا يفترقوا فقد ابتدع أحدهم فكرة (الصحنية) التي تحدث عنها المرحوم جعفر الخليلي في كتبه كثيراً.

ومعنى الصحنية هو أن ينقل كل واحد من الحاضرين غداءه من أهله فيجتمع لديهم صحن كبير يحتوي  على ألوان مختلفة من الطعام يجتمعون عليه فيطعمون ويتفاكهون، ويقضون ذلك النهار بأجمل وأروع ما يشتهون.

وقد رفض السيد ابتداء هذه الفكرة لما تحمل في بعض مضامينها من المعاني غير المستساغة عند العرب في الضيافة لاسيما وأنه ينتمي إلى أسرة عربية اكتسبت لقبها من كثرة الطعام الذي تقدمه لضيوفها حتى وصف جدهم الأعلى بـ (أبي الطبيخ) ولكن جعفر الخليلي بظرفه وأسلوبه المقنع استطاع أن يتسلط عليه ويخفف من وطأة شعوره بهما.

وهكذا كان موضوع الصحنية وانتشارها في بعض المجالس الأدبية في النجف وسيلة من وسائل التجمع الأدبي.

وكان رحمه الله إذا أراد الذهاب إلى المرافق الصحية لقضاء حاجته يدعو أحد أبنائه لحمله إليها، وحصل ذات مرة أن دعاه ليحمله فتأثر واحد ممن كان حاضراً في مجلسه حين رآه محمولاً وأراد أن يواسيه ويخفف عنه فنظم البيتين التاليين وقرأها عليه عندما عاد من حاجته قال:

إن رجلاً ظلت إلى الله تسعى
أن تكافى من السماء بهذا الداء

دهرها نحو خدمة الأضياف
ما كان ذاك بالأنصاف

فابتسم رحمة الله عليه، وأجاب مرتجلاً ومبرراً مرضه بهذا التبرير الطريف قال:

أنفت أن تصافح الأرض رجلي
فكأني وقفت فيكم خطيباً

فاستوت في منابر الأكتاف
مثل جدي العظيم عبد مناف

ويذكرني مجلس هذا السيد بمجلس آخر نظيره أصيب صاحبه بمرض أقعده هو الآخر في فراشه أيضاً فأتخذ من بيته ملتقى أدبياً لأصحابه وزواره، وكان هو أيضاً معروفاً بين أدباء النجف في زمانه بظرفه، وخفة روحه، وسرعة بديهته.

وكان طبيبه المشرف على علاجه يعده كلما زاره بتحسن صحته طالما كان استعماله للدواء مطابقاً لتوصياته، وفي واحدة من تلك الزيارات سأله الطبيب هذا السؤال ـ كيف ترى نفسك بعد العلاج الطويل فأجابه قائلاً:

وجع المفاصل وهو أيسر
والعمر مثل الكأس يرسب

ما لقيت من الأذى
في أواخره القذى

ولأنه كان قد عمر طويلاً، فقد أتخذ من مرضه وشيخوخته وسيلة للتسلية وكتابة الشعر ونظمه كلما سأله سائل عن صحته وطول عمره.

وصادف أن دار بمجلسه. ذكر أصحاب الأعمار الطويلة في التأريخ وحرص الإنسان بطبيعته على رغبته في طول حياته فابتسم رحمه الله وأنشد قائلاً:

أني لأعجب من أناس عمروا
ما مد في أعمارهم لكرامةٍ

عمر النسور وضيعت أعمارها
لكنما كره الإله جوارها

وقيل له ذات يوم أنك لم تكن كبيراً إلى الحد الذي يضيق بك الأمل فتسأم الحياة، لولا المرض الذي انتابك واستنفذ حيويتك وقوتك، فأجاب على البديهة قائلاً:

من جاوز السبعين من عمره
ومن تخطاها رأى بعدها

لاقى أموراً فيه مستنكرة
من حادثات الدهر ما لا يره

كان هذا السيد هو المرحوم السيد جعفر الخرسان، وكان لآل الخرسان في النجف علاقات مصاهرة ومصالح اقتصادية مع بعض عشائر الفرات الأوسط منذ زمن بعيد، وكان (مطلق آل كريدي) أحد شيوخ خزاعة سبباً في إثارة المشاكل والفتن في تلك المنطقة، فاستدعاه وإلى بغداد (شبلي باشا) وحبسه فاستراح الناس منه لفترة من الزمن ثم تشفع له (ناصر آل سعدون) رئيس عشائر المنتفك فأطلق سراحه ولكنه عاد إلى أشد من سيرته الأولى.

وكان لصاحبنا السيد جعفر بعض المصالح هناك وقد تضررت بسبب من انعدام الأمن وخوف الناس، وقد سئل رحمه الله عن رأيه في تلك الشفاعة فأجاب على البديهة قائلاً:

(شبلي) أراح الناس من (مطلق)
وقد سعى ناصر في فكه
فلعنه الله على ناصر

رماه في حبس له  ضيق
سعي مباهاة أمريء أحمق
ومثلها ألف على مطلق

وهكذا كان دأب الجماعة وهوايتهم هي أن يقولوا الشعر وينظموه جادين أو متطرفين فيه، وبأي مناسبة تمر عليهم، وقد يكون بلا مناسبة أحياناً، حيث لا مانع لديهم من أن يخلقوها أو يبتدعوها لأن الشعر عندهم هو القوت الذي تنمو مواهبهم عليه. ويكفيهم منه أن يكون مقفى وموزوناً باعتبار أن هذين الشرطين هما من أهم صفاته المطلوبة تاريخياً في زمانهم وقبل زمانهم.

أما نحن فقد يهمنا من هذا الشعر ومن غيره في الوقت الحاضر استجلاء الصورة التي كانوا يعيشون عليها، ويمارسونها في حياتهم الأدبية، أحياء لذكراهم، واستنارة بالمفيد من تراثهم.

الحكاية الثالثة والأربعين:

كان المرحوم السيد صالح الحلي من أشهر خطباء المنبر الحسيني في زمانه، وكان مجلسه من ألطف وأنفع المجالس في وقته، وهو مجلس متنقل معه وفقاً لمتطلبات مهنته، ويتناقل الناس عنه مجموعة من الطرف والنوادر هذا بعض ما يحضرني منها:

يحكى عنه أنه كان ذات يوم ينتظر دوره للخطابة في أحد مجالس التعزية في النجف وكان المنبر مشغولاً بخطيب مبتدئ من سكان الريف جاء إلى النجف، فوجد المناسبة سانحة ليصعد المنبر، ويطلب من الحاضرين أن يستمعوا إليه، ويساعدوه بما يتيسر من أيديهم.

ولغرض أن يستدر عواطفهم، ويحفزهم على مساعدته، ذكر لهم بأنه صاحب عائلة كبيرة، وأن لديه (أماً) خيرة، تقية، نقية، طاهرة، مصلية، صائمة إلى آخر صفات التقوى والطهر التي أضفاها على أمه. وقد استنفذ حديثه عنها، وعن تقواها أكثر من نصف ساعة، حتى ضجر منه السامعون، وظل السيد صالح يتحرق غيظاً من طول الانتظار، لأن لديه مجالس أخرى بانتظاره.

وبعد أن انتهى حديثه عن أمه، جمع له الناس (المقسوم) فنزل عن المنبر، وصعد الحلي بعده..

وكانت العادة المتبعة بين خطباء المنابر الحسينية، إذا تعاقب خطيبان في مجلس واحد على المنبر أن يتناول الخطيب الثاني الموضوع الذي سبقه لسلفه التحدث فيه كمدخل لخطابته.. وحيث كان سلفه يتحدث عن أمه، فلابد للسيد الحلي أن يبدأ حديثه عن الأمهات بالشكل الذي يناسب المقام، وعلى هذه القاعدة شرع السيد في حديثه قائلاً: الأمهات في الدنيا أربعة:

1 ـ مكة أم القرى.

2 ـ حواء أم البشر.

3 ـ زينب أم المصائب.

4 ـ هنا التفت إلى صاحبه قائلاً: (شيخنا أمك أم الكذا…)

وصرح بذلك الكذا فضج المجلس بالضحك، وخرج ذلك الشيخ غير مأسوف عليه وعلى أمه.

ومن براعته في مهنته الخطابية، وقدرته على إدارة مجلسه وفق متطلبات وأذواق المستمعين، ومستوياتهم العقلية، يحكى أن جمعية المكارين في النجف ممن كانوا يؤجرون حميرهم وبغالهم للمسافرين بين النجف والمدن الأخرى قبل مجيء السيارات أنه كان لهذه الجمعية  مجلس يقيمونه في العشرة الثالثة من شهر محرم كل عام، ولمدة عشرة أيام شأنهم في ذلك شأن بقية الجمعيات، والمنظمات المهنية من أرباب المصالح الأخرى، كالخياطين والجزارين، والحلاقين وغيرهم ممن اعتادوا على إقامة مجالسهم بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسين(ع).

وقد رغب المكارون في إحدى السنين أن يدير مجلسهم، ويخطب فيه السيد صالح الحلي فاستجاب لطلبهم. ولما كان موضوع الخطابة لا يتعلق بالذكرى وحدها، وإنما هو في حقيقته إرشاد وتوجيه وتثقيف، فقد أحتار السيد ابتداء بالطريقة والأسلوب الذي سيتحدث فيه إليهم، إذ لو كان المجلس مجلس أدباء أو فقهاء، أو مثقفين لما أعجزه أن يتكلم إليهم بلغتهم، وحيث لابد من مطابقة مقتضى الحال فإنه توقع الفشل إذا هو لم يراع هذا المبدأ. لذلك فقد هيأ نفسه لذلك المجلس تهيأة خاصة بحيث ألزم نفسه أن لا يخرج في خطابته عن حديث القوافل القديمة والحديثة منها، وعن أخبار الحمير والبغال، وأصنافها وأنسابها، وعاداتها، وكل ما يتعلق فيها.. وظل كل يوم يأتيهم بجديد من أخبارها، حتى كان مجلسه ذاك مثار أعجاب الناس بمختلف طبقاتهم، ومدار تفكههم، إذ كانوا يعافون أشغالهم ويحضرون مجلسه ليستمعوا إلى ما استجد لديه من أخبار الحمير ونوادرها.

وقد سأله أحد  الخطباء بعد ذلك: كيف استطعت أن تلتقط هذه الأخبار الطريفة وتشغل الناس بها لمدة عشرة أيام؟! فأجابه ساخراً.

ـ أنا لا استطيع أن أفهم حماراً مثلك يجهل الحكايات والنوادر التي هو صاحبها.

وكان لسان هذا السيد حاداً، وربما كان سليطاً أحياناً في نقده لأوضاع مجتمعة، لاسيما وضع الحوزة العلمية في زمانه، وطريقة توزيع الحقوق الشرعية على المحتاجين إليها.

واشتهر بهذا اللون من النقد والمغالاة فيه، ولم يسلم احد من لسانه، حتى كبار العلماء، والمراجع الدينية العليا، مما اضطر أحدهم أن يحرم الاستماع إلى قراءته، استناداً إلى حرمة الاستماع إلى الغيبة، وسب الآخرين. واستغل خصومه من الخطباء المنافسين له ذلك التحريم، وسعوا إلى إشاعته، وتأكيده في أذهان الناس البسطاء، فانكفأ السيد على نفسه، وظل حبيس داره مدة من الزمن، لا يسأل عنه أحد، ولا يدعى إلى مجلس من المجالس حتى كاد يموت جوعاً لأن رزقه مرتبط بخطابته.

وبعد أن ضاق بعزلته، ووجد نفسه لا قدرة لها على مجابهة خصومه إلا بنوع السلاح الذي حاربوه به، التف عليهم التفافاً ذكياً ظلوا إزاءه حائرين.

أما كيف كان ذلك ففي السطور التالية خلاصة لما حصل.

فقد أوحى لبعضهم بأنه يريد أن يعلن توبته أمام الناس، ويعتذر عما صدر منه، فهيأ له مجلساً ضخماً تقاطر عليه مختلف طبقات المدينة ليستمعوا إلى ما حصل لديه من جديد في أمره. وكانت الأنظار متجهة إليه حين صعد المنبر بين شامت فيه، وآخر متأسف عليه، وبين خائف منه لأنه يعرفه جيداً بكونه صلب العود لا يخضع بمثل تلك السهولة.

ولأنه كان يريد أن يعلن توبته ـ كما أدعى ابتداء ـ، فقد ابتدأ حديثه بقصة (التوابين) الذين ثاروا بعد مقتل الحسين(ع) بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وبزعامة المختار أبي عبيدة الثقفي من بعده. مطالبين بثارات الحسين(ع) وأخذ يسرد قصتهم وكيف كان المختار يتتبع الذين اشتركوا في مجزرة كربلاء لينتقم منهم الواحد بعد الآخر، ثم قال: لقد كان من عادة المختار حين يؤتى له بواحد من قتلة الحسين أن يحقق معه بنفسه تحقيقاً دقيقاً، فيسأله عن كل الأعمال التي اقترفها يوم الطف، لتكون إدانته تتناسب مع ضخامة عمله. وصادف أن القي القبض على (الشمر) الذي اقترف بيده ذبح الحسين، وحيث كان يائساً من حياته فقد اعترف للمختار بكل ما صنعه يوم الطف، وتحدث بإسهاب عن الصورة كاملة كما شاهدها وشارك فيها يوم عاشوراء وإلى هنا وعند وصوله إلى هذه النقطة من حديثه عن الشمر وجريمته التفت السيد إلى الجمع الجالس تحت منبره وتوجه إليهم بهذا السؤال قائلاً:

ـ أتعرفون لماذا كان المختار يصر على أن يشرف بنفسه على التحقيق في حين كان بإمكانه أن يترك الأمر إلى شرطته؟! ثم أجاب هو نفسه على سؤاله هذا قائلاً:

ـ كان الغرض ولا يزال من الاستماع إلى قصة استشهاد الإمام الحسين(ع) حين يقصها علينا الخطيب، (الروزخون) هو اعتقادنا بالأجر والثواب على ما نبديه من مواساة لمصابه،…وكان المختار في وقته يرغب هو الآخر في الاستماع مثلنا إلى قصة استشهاده طمعاً في الأجر والثواب الذي نطمع فيه. وحيث لا يوجد (روزخونية) في ذلك الوقت احترفوا مهنة الخطابة فقد كان يود أن يسمعها حتى ولو كانت من فم الشمر نفسه.

وفي مثل هذه الحالة، أصبح الشمر بالنسبة إلى المختار بمثابة الروزخون إليكم، قص عليه القصة، فتذكرها، فتألم، فبكى، فاطمئن بأنه قد حصل على الثواب الذي يرجوه ثم جذب ـ رحمه الله ـ حسرة انتزعها من أعماق نفسه وقال لهم بألم وحرارة.

ـ اعتبروني يا ناس بمثابة الشمر، ودعوني أذكركم بمصيبة جدي الحسين، فهل كانت جريرتي أعظم من جريرته؟!.. وهنا اسقط في يد خصومه، وارتج المجلس شفقة عليه، وأسفاً لما لحقه من أذى، وكانت التفاتة بارعة انتهت بتدخل بعضهم في أمره، وتسوية مسألته، بسحب ذلك التحريم، وعودته إلى مزاولة مهنته.

   الأستاذ محمد حسين المحتصر

   المصدر : مجلة آفاق نجفية العدد – 7 –

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.