الخميس , 28 مارس 2024
الرئيسية » تاريخ النجف الأشرف » الأزياء النجفية

الأزياء النجفية

4-3-2012-2

الدكتور: عباس الترجمان

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد وبه نستعين

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين والطيبين من أصحابه أجمعين

النجف الأشرف حاضرة إسلامية كبرى يتمتع سكانها بمؤهلات دينية وعلمية وأدبية، يلتزمون بمبادئ الدين الحنيف، ويضفي عليهم العلم وقاره، ولا يظهرون بما ينافي الأدب ومن ينظر إلى أزيائهم على اختلافها، لا يرى الابتذال والخلاعة فيها، وذلك بدافع الدين والعلم والأدب، وأي مجتمع كهذا ـ إن وجد، ولا يوجد ـ لا يكون إلا كذلك.

فالصبغة الدينية هي التي تطفي على الظواهر، فانفرد النجفي يحاول مهما أمكنه ألاّ يشق عصا المسلمين، ولا يخالف المجتمع الذي يعيش فيه،ولا يخرج على التقاليد والأعراف السائدة، فالدين يمنعه من التشبه بالكافر، إلّا إذا ساد في المجتمع وشاع، فعندئذ يخرج عن التشبه، والعرف هو الحاكم بشيوعه أولاً.

وهنالك شاهد على ما أقول:

نقل لنا نحن طلاب كلية الفقه أستاذنا وعميد كليتنا سماحة السيد محمد تقي الحكيم حفظه الله تعالى في إحدى محاضراته التي كان يلقيها علينا فقال:

جاء شخص بحضور العالم الفقيه الشيخ محمد طه نجف ليدلي بشهادته حول قضية من القضايا، وكان الشيخ رضوان الله عليه قد أضرّ، فمدّ يده إلى صدر الشاهد، فتلمس أزرار ملابسه فرآها أجنبية، صنعت من المواد الزجاجية وما شاكلها، فلم يقبل بشهادته، وعندما شاهد ذلك كاتبه الخاص، أخذ بيد الشيخ فوضعها على صدر نفسه، وكانت أزراره كذلك، فلما تلمسها الشيخ رضوان الله عرف بأن هذا النوع من الأزرار قد شاع في المجتمع الإسلامي، إذاً هو خارج عن حكم التشبه، فقبل شهادة الشاهد.

وهذا إن دلّ على شيء يدلنا على أن العرف يتدخل أحياناً في بعض الأحكام المتغيرة في المجتمعات المختلفة.

قلنا إن المجتمع النجفي يتورع من التشبه بالكافر في زيّه، إلّا إذا شاع هذا الزي في المجتمع الإسلامي فعندئذ يسوع له هذا الشيوع أن يتزيا به.

والذي يمنعه أيضاً من لباس الشهرة، وهو اللباس الذي يتفرد به الشخص وحده بحيث يشار إليه بالبنان، ويكون سخرية ومضحكة لمن يراه، وهذا ما ينقص من شخصيته، ويقلل من كرامته، أو ينفيهما تماماً، والدين يريد للفرد المسلم أن يحترم شخصيته، ويحتفظ بكرامته. وعلى هذا الأساس حرم عليه لباس الشهرة.

فالمجتمع النجفي يحكم بيئته يحاول ألّا يخرج على هاتين القاعدتين، إلّا أنه يتزيا بأزياء مختلفة كلها مشاعة ومعروفة لديه.

وتنقسم الأزياء النجفية إلى أربعة أقسام رئيسية، وفقاً للمشارب والأذواق، وهي كما يلي:

1 ـ العمامة:

وهي أمتار من القماش يلف حول الرأس لفات منسقة أو غير منسقة، ويعتم بها علماء الدين وطلابهم، وكثير من الكسبة، وقد رأيت حطاباً في النجف هو السيد عباس الجوهر، يحتذي النعل، ويرتدي ثوباً من الصوف المغزولة خيوطه باليد، والمحاكة بيد الحيّاك المحليّين، ويعتم بالعمامة السوداء، ولا يلبس العباءة، ولا يملك دكاناً، بل يبيع الحطب والجت (البرسيم) في الشارع قرب “دار الحكمة” التي بناها السيد الحكيم، وهدمها صدام اللئيم، وهو لا يقرأ ولا يكتب، وكان السيد جواد أبو العقل، وهو رجل أمي يصنع العقال، يعتم بالعمامة السوداء، ويرسل لحيته ويلبس الجبة والعباءة، أو يحتذي “المداس” المعروف بحذاء المؤمنين.

نقل لي هو، وكنت قد سألته عن المشاكل التي تواجهه بسبب اختلاف ظاهره عن ماهيته، فقال: تواجهني مشاكل كثيرة، منها:

كنت ذات يوم جالساً أصلي في الروضة الحيدرية، وإلى جانبي زائر إيراني، فالتفت الزائر إلي وقال لي وهو يناولني كتاب مفاتيح الجنان: أنا أسجد، وأنت اقرأ لي دعاء السجدة، فناولني الكتاب وسجد، فوضعت الكتاب إلى جنبه، ووليت هارباً.

وذات يوم كنت أمشي في أحد أزقة النجف، أقبلت عليّ امرأة، دفعت لي رسالة، وطلبت مني أن أقرأها لها، ففهمت لها بأميتي، فاستنكرت ولم تصدقني، واستشهدت بعمامتي، فنزعتها، وكدت أن أضعها على رأسها، وقلت لها: إذا لبست العمامة تتمكنين القراءة؟! وله رحمه الله طرائف كثيرة، لا مجال لذكرها.فالشاهد هو أن كثيراً من الكسبة كالبزاز والعطار وآخرين يتزيون بزي أهل العلم تديناً وتقرباً إلى الله تعالى، لأنه جاء في الحديث: “العمائم تيجان العرب”.

أ ـ العمامة السوداء، وتخص ذرية النبي صلى الله عليه وآله وعلي أمير المؤمنين عيه السلام وهم المعروفون بالسادة.

ب ـ العمامة البيضاء، وهي تخص غير السادة.

ومن ملازمات العمامة العباءة، والقبا، والجبة، والمداس، ويستحب الأصفر منه.

2ـ الكشيدة:

            وهذه الكلمة فارسية تعني المجرور أو الملفوف، وهي تتألف من جزأين:

أ ـ طربوش أحمر غامق، وهو ما كان يضعه الشعب التركي والمصري على رأسه، وقد شاع هذا الطربوش في المستعمرات العثمانية التركية.

ب ـ شريط من القماش يلف حوله بنسق خاص.

وهذا النوع من الطربوش إما أن يلف عليه شريط قماش أخضر، وهو ما يخص السادة. وإما أن يلف عليه شريط من القماش الأبيض المطرز بخيوط ذهبية اللون، ويخص غيرهم.

والكشيدة هذه بنوعيها يلبسها خدام الروضة الحيدرية قاطبة، وبعض التجار الموقرين والكسبة، وهي تأتي بالدرجة الثانية من الوقار بعد العمامة وترافقها العباءة والسترة (الجاكيت) والقباء والحذاء المتعارف.

3ـ العقال واليشماغ:

يتألف العقال من خيوط صوفية سميكة تضاف إلى بعضها طولاً حسب المقياس المطلوب فتطوى إلى بعضها بقوة، ثم يلف حولها خيوط صوفية سوداء منقحة بشدة وبترتيب حتى يأتي على آخرها، ويوصل الرأسان ببعضهما، فيشكلان حلقة، ثم تطوى هذه الحلقة إلى حلقتين متواصلتين، فيتكون منهما العقال، وله صناع كثيرون، وسوق خاص بهم، يعرف بسوق أهل “العقل” أو “قيصرية العقل”.

وكان العقال هذا وقد رأيت بعيني على ألوان، قهوائي، وأبيض، وأسود, وقد بطل استعمال الأولين، وقي الأسود شائعاً حتى يومنا، وكان ممن يلبس العقال الأبيض المجاهد الشهيد كاظم صبي من زعماء النجف الذين أعدمهم الانكليز في حادث قتل الكابتن مارشال حكم النجف البريطاني.

والعقال النجفي معروف ومشهور في العراق بجودته، حتى يقصده هواته من الأطراف والأكناف، وفائدة العقال هي المحافظة على “اليشماغ” من التزحزح عن الرأس، ولاسيما عند هبوب الرياح واليشماغ من ملازمات العقال.

أما اليشماغ فاصطلاح يطلق على الكوفية البيضاء المطرزة بخيوط سوداء لدى النجفيين، وحمراء، وزرقاء، وخضراء لدى غيرهم، والتطريز على شكل معينات في زواياها تضاعف الخيوط بحيث تكون في كل زاوية من المعين متوازي الأضلاع.

وكان اليشماغ اللندني (المصنوع في لندن) وهو المرغوب، وفي الحرب العالمية الثانية توقف استيراد اليشماغ اللندني، حتى ارتفع سعره إلى دينار واحد، والدينار ما أعزّه في تلك الآونة، فاندفع المبتكرون النجفيون ـ والحاجة أم الابتكار والاختراع ـ إلى صنع اليشماغ المطبوع بدلاً من المطرز، انظر إلى بحثنا “الصناعات والمهن المنقرضة في النجف الأشرف”.

ويرفق العقال العباءة وهي من لوازمه، والسترة والقباء، والحذاء والنعال، أو السترة و”الدشداشة” وتصطلح على الثوب الطويل.

وكان هناك نوعان آخران من العقل:

أ ـ العقال الطوي: وهو يصنع من خيوط سميكة تضاف إلى بعضها طولاً حتى يكون قطرها ما يقارب الستة سنتمترات، فتقسم إلى أقسام يفصل بين كل قسم وآخر خيوط مذهبة أو مفضضة أو صفراء أو سوداء حريرية تلف حوله بشدة بطول أربعة سنتيمترات، وطول القسم الواحد ما يقارب الثمانية سنتيمترات، فيطوى هذا النوع من العقال البصري يوصل طرفاه، ويطوى قبل اللبس فيشكل حلقتين، ويوضع على الرأس كالعمامة، والعقال الطوي لا يوصل طرفاه، وإنما يطوي على الرأس طياً.

وكان ممن يلبس هذا النوع من العقال، الشاعر الحسيني المرحوم محمد علي شحاتة.

ب ـ العقال المقصب: وهو كالعقال البصري متواصل الطرفين، إلّا أنه أدق وأقل سمكاً، وأقسامه لا تزيد عن أربعة سنتمترات، وطول الخيوط التي تلف عليها، ضعف ذلك أو أكثر منه وكان بعض شيوخ العشائر يجعل خيوطها من الذهب أو الفضة، وهي أنيقة جميلة

ومن طريف ما جرى لأحد صناع العقال هو:

كان رجل يدعى بـ “عبد الله الشمرتي” وهو أبو إبراهيم الشمرتي الرادود، وكان أمياً يجلس إلى جانب الجدار على الأرض، ويصنع العقل، وهو ساذج طاهر القلب، سليم الذات وكان العهد عهد الزعيم عبد الكريم قاسم, وكانت الأحزاب اليسارية آنذاك تنادي بالإتحاد الفدرالي ضد القوميين العرب الذين كانوا ينادون بالوحدة الشاملة مع مصر، وكانت كلمة (فدرالي) تتردد كثيراً في المظاهرات، وربما يرددها الكثير ولا يعرف معناها. وكان لعبد الله الشمرتي ـ رحمه الله ـ صديق من أهل التاجية، والتاجية من ضواحي الكوفة صاحب بستان ومزرعة، اسمه السيد جعفر شبر، كان هو الآخر شريفاً متديناً طاهر الضمير والذات.

وكان يسمع المتظاهرين ينادون دائماً: “فدرالي رايد، فدرالي رايد” ولم يعرف ما الفدرالي!! فسأل ذات يوم من صديقه عبد الله طبعاً بلهجته وقال: ما معنى الفدرالي؟ فانتصب عبد الله في جلسته، كأنه العالم بالأمور، وتنحنح ثم قال بلهجته: إن العراق يملك فدرالياً واحداً، وبريطانيا أخذته من العراق واغتصبته، وهؤلاء المتظاهرين يريدونه من بريطانيا، ويطالبون به، فقال السيد جعفر مستغرباً: نعم، ولكن ما هو الفدرالي؟! فضحك عبد الله وأخذ يفر يده مستهزئاً وهو يقول: إذاً كيف أعرّفك بالفدرالي، وسكت، وانصرف إلى عمله وظل السيد جعفر حائراً لا يعرف هذا اللغز الكبير!!

والعقال واليشماغ زي غالبية النجفيين من تجار وصناعيين وكسبة وعمال وفلاحين، حتى أن الفارسي والأفغاني منهم كان يتزيا به.

4ـ السترة والبنطلون:

والسترة، ستر يغطي الظهر وجانبي الصدر والذراعين، والبنطلون سروال يرتديه جميع الموظفين والإداريين والطلاب والمعلمين، وبعض التجار والكسبة، وأما الرأس فهو حاسر.

وهو لباس ابتدعه الأجانب، وشاع في الأوساط الإسلامية

5 ـ السترة والدشداشة:

وهو زي أكثر الشباب والعمال، ولا يلزم هذا الزي ولا الذي قبله العباءة، وأكثر ما يحتذي المتزيون به، النعال النجفية، حاسري الرأس .

6 ـ الصدارة:

وهو طربوش غير اسطواني، وإنما هو بيضوي الشكل ذو زاويتين من الأمام والخلف قد قلبت حافته السفلى بعرض حوالي ستة سنتيمترات إلى الأعلى، وأما قاعدتها العليا قد انثنت إلى الأسفل عرضاً بحيث اختفت القاعدة في باطن الثنية التي تبدو وكأنها شق.

وكان يلبس الصدارة المثقفون مع السترة والبنطلون, وكان بعض أصحاب الصداير عندما يأتي الزمان على صدارته، وتقع من الاستعمال، يأتي بها إلى الإسكافي، المعروف في اللهجة النجفية بـ (القندرجي) وهي كلمة تركيبية، تعني عامل الحذاء، ليصنع منها حذاء له, ومن الطريف ما وقع في الموضوع هو:

إن الحاج مرهون الصفار وكان كاتب المحكمة الشرعية في النجف، وكان شاعراً ينظم الشعر الحسيني المعروف حاملاً معه صدارته القديمة ليصنع له حذاء منها، وكان الشيخ إبراهيم الخليل أبو شبع أستاذنا وهو من فحول شعراء اللهجة حاضراً، فقال مرتجلاً:

إن الصدارة تشكو لذعة الألم               أودى بها الدهر من قرن إلى قدم

7 ـ الفينة:

وهي طربوش اسطواني قاعدته العليا أصغر من محيط السفلى المفتوحة، لونه أحمر قاتم، وتقع في مركز قاعدته العليا من الخارج أنبوبة من جنس قماش الفينة، بقطر سنتيمتر واحد وبطول ثلاثة سانتيمترات تربط بها خصلة من الخيوط الحريرية المبرمة السوداء التي تصف إلى قسم من محيط القاعدة، وتثبت على حافة المحيط، بينما يتدلى ما تبقى منها إلى مستوى حافة القاعدة السفلى المفرعة، وغالباً تكون إلى الوراء أو اليمين وهي زي الأتراك العثمانيين والبلدان المستعمرة لها، ولاسيما مصر، وقد انحسر ظلها عن البلدان التي تخلصت من الاستعمار العثماني، وكنت بطفولتي أشاهد بعض النجفيين يلبسونها، ومنهم ابن عمتي حسن ترجمان، وقد استبدلها أخيراً بالكشيدة.

وكان يضرب المثل بلونها في الاحمرار، وكان أحد باعة الخضروات في سوق المشراق في النجف السيد ناصر المحنك وهو أبو السيد حسين المحنك، وكان يغني ببضاعته، كدعاية لها، وغالباً ما يسجع بما يقول، وعلى ذكر الفينة، كان عندما يبيع الرقي: يطوح بصوته الرخيم ـ وهو معمم ملتح ـ:

أحمر يا ركينة، أحمر مثل الفينة.

هذا ما تذكرناه وذكرنا من الأزياء النجفية، والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.

المصدر : مجلة آفاق نجفية العدد – 22 –

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.